بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
تقدم معنا الكلام في إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأنه أوتي حجة وبياناً، وقدرة على مناظرة من جحد بالله عز وجل وكفر به، يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ [البقرة:30]، أي: واذكر، وعرفنا أن تقدير الفعل "واذكر" باستقراء القرآن، فدائماً إذ يأتي قبلها الفعل "واذكر" كما في قول ربنا جل جلاله: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ [الأحقاف:21]، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:26]، فيكون المعنى: واذكر، يا محمد! لقومك: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، وآزر هو أبو إبراهيم عليه السلام، وليس كما قال بعض أهل التاريخ بأنه تارح وأن آزر هو اسم الصنم، بل آزر اسم أبي إبراهيم؛ لأن آيات القرآن دلت على أن الخطاب كان للوالد مباشرة، كقول الله عز وجل: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، وقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [الشعراء:69-70]، وقوله تعالى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:41-42]، فالخطاب لأبيه مباشرة، وليس لعمه، كما قال بعض أهل التفسير، ولا لجده، بل هو لأبيه، وأبوه آزر ، وآزر بدل من أبيه، أو عطف بيان، وفي قراءة شاذة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74] بضم الراء، أي: يا آزرُ ! أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً [الأنعام:74]، وهذا استفهام على سبيل الإنكار، ثم أعقب ذلك بقوله: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، أي: في بعد عن الحق، وانصراف عن الهدى، واضح بين.
قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، "ملكوت" بمعنى: ملك، والواو والتاء زائدتان؛ للمبالغة، كما قالت العرب في رهبة: رهبوت، وفي رغبة: رغبوت، وفي جبر: جبروت، وهاهنا أيضاً في الملك: ملكوت، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وقد أراه الله عز وجل آياته، في سماواته وأرضه، كما قال سبحانه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:6-7]، فهذا هو ملكوت السموات والأرض، وليس كما قال بعضهم: بأن الله تعالى أرى إبراهيم تخوم الأرض إلى الأرض السابعة، وأنه رفعه فوق السموات العلى إلى عرشه جل جلاله، وأطلعه على أعمال بني آدم، وأنه كان كلما رأى واحداً منهم على فاحشة دعا عليه فهلك، فنهاه ربه، فهذا كله لم يقم عليه دليل.
قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً [الأنعام:77] أي: طالعاً بيناً ظاهراً، قال: هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]، وكيف يقول إبراهيم عن نفسه ذلك؟ وجهان لأهل التفسير:
الوجه الأول: أنه قال ذلك تواضعاً، وعادة الأنبياء التواضع، كما قال عليه السلام هو وولده: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، وقد كانا مسلمين.
وكما قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وما عبد الأصنام قط، وكما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله فيقول: ( اللهم اجعلني لك ذكاراً )، وما عرفت الدنيا رجلاً أذكر من محمد صلى الله عليه وسلم، ( اللهم اجعلني لك ذكاراً، لك شكاراً، لك مطواعاً، لك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً )، وهو عليه الصلاة والسلام ذكار، شكار، مطواع، مخبت، أواه، منيب، على أكمل حال عليه الصلاة والسلام، فـإبراهيم قال ذلك تواضعاً لربه.
الوجه الثاني: أنه قال ذلك تعريضاً بقومه، أي: يعرض بقومه.. أنهم قوم ضالون.
قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً [الأنعام:78]، أي: طالعة ظاهرة، قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78]، والشمس بضيائها وحرارتها ووهجها، لا مناسبة بينها وبين القمر، ولا مناسبة بينها وبين الكوكب، فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78]، وهاهنا استبان الحق لقومه، قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78].
وتقدم معنا في أن كلمة القوم تطلق مراداً بها خصوص الرجال، ومنه قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، وقول القائل:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟!
لكن المرأة قد تدخل في كلمة القوم تبعاً، ومنه قول الله عز وجل: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]، إلى أن قال سبحانه: إِنَّهَا [النمل:43]، بلقيس كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:43]، فهنا أدخل المرأة في القوم.
قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78]، أي: تبرأ إلى الله عز وجل، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4]؛ ولذلك بحيرى الراهب لما أراد أن يختبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، قال له: ( يا غلام! سألتك باللات والعزى إلا أخبرتني عن ما أسألك عنه )، يعني: أنا عندي أسئلة أستحلفك باللات والعزى أن تجيبني عنها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحلف باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئاً مثل ما أبغضتهما )، يقول هذا الكلام وهو غلام صغير عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله فطره على التوحيد، فـإبراهيم عليه السلام قال لقومه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .
قال تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي [الأنعام:79]، أي: أخلصت عملي، وقصدي ونيتي، لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ [الأنعام:79]، فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]، والفاطر: هو الخالق والمبتدئ على غير مثال سابق.
ولذلك ذكر القرطبي في تفسيره: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما علمت حقيقة قوله تعالى: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]، إلا حين جاءني أعرابيان، يختصمان في بئر، كل يقول: أنا فطرتها، " أنا فطرتها" أي: أنا ابتدأتها.
فيكون المعنى: إني وجهت وجهي للذي ابتدأ خلق السموات والأرض على غير مثال سابق، حَنِيفاً [الأنعام:79]، والحنف هو الميل، ومنه قيل لمن في قدميه ميل: الأحنف، وأم الأحنف بن قيس كانت ترقصه وهو صغير، تقول: والله لولا حنف في رجله، ما كان في الحي غلام مثله، أي: لولا هذا العيب الذي فيه، فالحنيف: هو المائل عن الشرك إلى التوحيد، وعن الكفر إلى الإيمان.
قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80]، أي: جادلوه وخوفوه وأرهبوه. على عادة الكفار، مثلما قال قوم هود لهود: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، ومثلما قال فرعون لموسى: لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ومثلما قال فرعون لما قال له قومه: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، ومثلما قال قوم صالح: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]، ومثلما قال أبو جهل : واللات والعزى لئن رأيت محمداً ساجداً عند الكعبة، لأشدخن رأسه بحجر، وهذا دائماً دأب المشركين، يهددون.
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ، أي: بدءوا يجادلونه.
قال تعالى: قَالَ أَتُحَاجُّونِي [الأنعام:80]، أي: أتحاجونني، فأدعمت النون في النون، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ نافع رحمه الله: (أتحاجوني)، بغير تشديد، فزعم بعض أهل العربية أن هذه القراءة لحن، وليس كذلك، بل هي قراءة فصيحة، قرأ بها نافع في هذا الموضع، وفي قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي [الزمر:64]، هذه قراءة الجمهور بالتشديد، أي: تأمرونني، وقرأها نافع : (تأمروني) بغير تشديد.
وفي قول الله عز وجل: أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النحل:27]، قرأها نافع : (أين شركائي الذين كنتم تشاقوني فيهم) والقراءة صحيحة، واللغة فصيحة.
لأن المعلوم عند العرب أن نون الرفع في الأفعال الخمسة لها خمسة أحوال، ثلاثة أحوال تحذف فيها باطراد:
إذا سبقها ناصب، كقوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ [آل عمران:92]، أصلها: لن تنالون لكن حذفت النون؛ لأن (لن) ناصبة.
الثانية: إذا سبقها جازم، مثالها: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، أصلها: تفعلون لكن حذفت النون لسبق الجازم.
ثالثها: إذا اتصل بالفعل نون التوكيد الثقيلة، كقول الله عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186]، حذفت نون الرفع؛ لوجود نون التوكيد الثقيلة.
الحالة الرابعة: يصح إبقاء النون وحذفها إذا اتصل الفعل بنون الوقاية، كما في هذه الأمثلة: قول الله عز وجل: أَتُحَاجُّونِي [الأنعام:80]، وفي قراءة نافع : أتحاجوني، وكما في قوله: (تأمرونِّي)، مع العلم أن المحذوف عندنا نون الوقاية لا نون الرفع.
ثم في الحالة الخامسة: قد تحذف النون دون أن يسبقها ناصب ولا جازم، ولا اتصل الفعل بنون التوكيد الثقيلة ولا بنون الوقاية، وهذا في كلام العرب قليل جداً، لكنها لغة فصيحة.
قال: وَقَدْ هَدَانِ [الأنعام:80]، أي: أنا قد استبان لي الطريق، وعرفت السبيل، وأيقنت بأن الله واحد جل جلاله، أما أنتم ففي أي شيء تحاجون؟ وكان قومه يحاجونه مثلما حاج الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، ومثلما كانوا يحاجونه: أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]، أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]، أئذا متنا وآباؤنا أإنا لمبعوثون؟ هذه هي محاجتهم.
قال تعالى: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80]، أي: أنا لا أخاف أصنامكم، ولا أرهب تماثيلكم، ولا أعدها شيئاً، ولا تستحق أن يلتفت إليها، وهذا كما قال هود عليه السلام لقومه لما قالوا له: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]، يعني: الآن ولا تؤخروني فلا داعي للتهديد والوعيد، إن كان عندكم شيء فالآن.. الآن، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، أنتم وأصنامكم وأوثانكم وآلهتكم، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [هود:55-56]، وهكذا إبراهيم عليه السلام، وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80]، والاستثناء هاهنا استثناء منقطع، والمعنى: لا أخاف ما تشركون، لكن إن يشأ ربي جل جلاله أن يخوفني بشيء، فعل.
والأنبياء عليهم السلام قد يخافون، كما قال الله عن موسى عليه السلام: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، وكما قال: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67]، فهم قد يخافون الخوف الطبيعي.
إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80]، وهذا أيضاً من تواضعه عليه السلام، أنه يبرأ إلى الله من الحول والطول، فلم يقل للقوم: أنا الشجاع.. أنا البطل! هلموا إلي! لا، وإنما يكل الأمر إلى الله عز وجل.
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الأنعام:80]، "علماً" تمييز محول عن الفاعل، أي: وسع علم ربي كل شيء، والله جل جلاله لا تخفى عليه خافية، في الأرض ولا في السماء، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].
أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، أي: يا أيها الناس! ألا تعقلون؟! هذه أصنام، لا تأكل ولا تشرب، ولا تعطي ولا تمنع، ولا تضر ولا تنفع، ولا تنطق ولا تسمع، هذه الأصنام، وهذا حالها منذ عرفتموها، فكيف تتركون الرب القوي، القدير، العالم، الخبير جل جلاله، وتعكفون على هذه الحجارة الصماء، تعبدونها وتقيمون عندها؟
ثم قال عز وجل: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً [الأنعام:81]. والسلطان هنا العلم، كما قال الله سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، والمعنى: كيف أخاف من هذه الأصنام الصماء، والحجارة الجرداء، ولا تخافون أنتم أيها المجرمون من الرب القادر على أن يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، وعلى أن يميتكم جوعاً وعطشاً، وعلى أن يحبس أنفاسكم، وعلى أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم.
ثم قال لهم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، أي: فأي الفريقين أحق بأن يشعر بطمأنينة القلب وسكينة النفس، وراحة البال، ورغد العيش، الفريق الذي يوحد الله عز وجل ويعبده، ويعرفه ويمجده، أم الفريق الذي يشرك به، ويجحد ألوهيته، ويتخذ أرباباً آلهة من دون الله؟!
ثم تولى الجواب بنفسه عليه السلام، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، أي: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، هؤلاء هم المستحقون للأمن، وهم المستحقون للهداية، لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ .
روى البخاري في صحيحه: أنه لما نزلت هذه الآية، قال الصحابة: ( نزلت قاصمة الظهر، ثم قالوا: يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ -أي: فكل واحد منا قد يكون ظلم نفسه بالمعاصي، أو ظلم غيره- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنون، الظلم: الشرك، أما قرأتم قول الله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ )، فبين عليه الصلاة والسلام أنه ليس المراد عموم الظلم، بل المراد ظلم مخصوص وهو أظلم الظلم وهو (الشرك بالله عز وجل).
وقد قال الزمخشري في الكشاف: ليس المراد بالظلم هنا الشرك؛ لأن الإيمان لا يجتمع مع الشرك، ولا شك أن الزمخشري قد غفل في هذه الآية؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، فـأبو جهل و أبو لهب وأمثالهم كانوا مؤمنين بالله، ومؤمنين بوجوده جل جلاله، لكن في الوقت نفسه كانوا مشركين.
والنصارى لا يجحدون وجود الله، لكنهم مشركون، وكذلك اليهود، وكذلك كل من يعبد سوى الله عز وجل.
ويذكرون في تفسير هذه الآية: ( أن رجلاً أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! جئتك من بلادي وتلادي، أرجو أن تعلمني مما علمك الله، وأتابعك على دينك! فرحب به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه شيئاً من دينه، فأسلم الرجل، ثم بعد ذلك ركب على دابته فوقع ذراع البعير في جحر فاندقت عنق الرجل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )، وفي بعض الروايات: أنه قال صلى الله عليه وسلم: ( رأيت ملكاً يدس في فيه من ثمار الجنة؛ لأنه مات جائعاً )، فهذا الرجل أسلم قبل موته بلحظات، لكنه مات على التوحيد الخالص، فكان هذا جزاءه عند الله.
فنسأل الله عز وجل أن يتوفانا مؤمنين، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ).
ومعنى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ [الأنعام:82]، أي: لهم الأمن في الدنيا والآخرة، لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس، كما قال تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103].
قال عز وجل: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83].
والحجة ما مضى من المناظرة، وليست هذه فقط، بل ومناظرته مع النمرود بن كنعان الطاغية، آتاه الله الحجة، وهكذا سائر الأنبياء عليهم السلام، آتاهم الله عز وجل الذكاء الوقاد، والقريحة الصافية، والذكاء اللماح، واللسان الفصيح، والحجة الحاضرة، لا يتلجلجون ولا يترددون؛ ولذلك لما وقف موسى عليه السلام أمام الفرعون، الطاغية، الجبار، وقال له فرعون: لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ربما الواحد منا في تلك الحال يقول له: سأترك ما أنا فيه، أو سأكف عنك ما تكره ونحو ذلك، لكن موسى عليه السلام بثبات قلب، قال له: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء:30]، ذاك يهدد، وعنده جنوده وزبانيته، وموسى يقول له: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [الشعراء:30-31]، وأيضاً هذا كلام فيه تهديد، مباشرة: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء:32-33]، وكأنه يلوح بها لفرعون ويقول له: فكر في العواقب.
وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حجتهم حاضرة.
ثم قال الله عز وجل: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83]، وفي قراءة: (نرفع درجاتي من نشاء)، والدرجات: جمع درجة وهي المنزلة، وقد رفع الله منزلة إبراهيم فجعله خير عباده بعد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقرر عندنا معشر المسلمين أن أفضل البشر هم الأنبياء، وأفضل الأنبياء المرسلون، وأفضل المرسلين أولو العزم الخمسة، وأفضل الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يرفع ويخفض، ويعز ويذل.
قوله: إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، والحكيم: صيغة مبالغة من الحكمة، وأصل الحكمة المنع، ومنه قيل للشيء الذي يوضع في فم الدابة: الحكمة، فالحكمة وضع الشيء في موضعه، والله عز وجل حكيم؛ لأنه جل جلاله لا يندم على شيء، حاشاه! سبحانه وتعالى! لأنه عليم بعواقب الأمور.
أما الإنسان بحكم نقصه فيقول: لو كان كذا لكان كذا، لكن الله عز وجل يعلم ما كان وما يكون، ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وقال الله عز وجل: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه [الأنعام:28]، فهو جل جلاله، يعلم أنه لو رد أبا جهل و أبا لهب و أمية و عقبة وفلاناً إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر به، سبحانه وتعالى! وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، أي: في قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
ثم قال الله عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا [الأنعام:84].
وهنا الله عز وجل يتحدث عن نفسه بنون التعظيم، وَوَهَبْنَا ، فالواهب الله.. لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49].
والله عز وجل ذكر هذه الهبة المخصوصة؛ لأنها جاءته على صفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بعد أن بلغ إبراهيم من الكبر عتياً، وصارت امرأته سارة عليها السلام عجوزاً لا يرجى منها نسل.
وقد ذكر الله جل جلاله خبرهما في سورة هود: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ [هود:69-71]، المقصود بها سارة وكانت تخدم الأضياف، فَضَحِكَتْ [هود:71]؛ لأنها بشرت بهلاك قوم لوط، وهي مؤمنة، والمؤمن يكره الكفار، الفجار، فكيف إذا كان فجورهم بتلك الفاحشة القبيحة؛ لذلك هذه المؤمنة الطيبة كرهت أولئك القوم وتمنت هلاكهم؛ ولما سمعت كلام الملائكة: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ، يعني: للقضاء عليهم، فضحكت! قال الله عز وجل: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، قالوا: كان عمرها ستاً وثمانين سنة، وهل رأيتم امرأة تلد وعمرها ست وثمانون، قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً [هود:72]، يعني هناك علتان وليس واحدة.. أنا عجوز، وزوجي شيخ كبير إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:72-73]، فالله عز وجل قادر، رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73]؛ ولذلك خص الله عز وجل هاهنا هذين الموهوبين، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا [الأنعام:84].
وأقول: هذه الآية فيها دليل على أن الذبيح إسماعيل، واليهود يزعمون أن الذبيح إسحاق؛ لأن إسحاق جدهم، وإسماعيل عليه السلام هو جد المسلمين؛ لأنه جد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو رجعوا إلى التوراة المحرفة لوجدوا فيها: اذبح ولدك ووحيدك! ومعلوم بأن وحيده كان إسماعيل، أما إسحاق فليس وحيده؛ لأن إسحاق جاء بعد إسماعيل، وهاهنا تقول الملائكة لــسارة : فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، يعني الملائكة تقول لــسارة : سيكون لك ولد اسمه إسحاق، وسيعيش ويتزوج ويولد له ولد اسمه يعقوب، إذاً لو أمر إبراهيم بذبح إسحاق لما كان في هذا اختبار؛ وسيكون الأمر مجرد تمثيلية؛ لأنه سبق له العلم من الملائكة وهم لا يكذبون، بأن إسحاق سيعيش حتى يولد له يعقوب، هذا دليل.
والدليل الثاني في سورة الصافات: أن الله عز وجل قال: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] وإلى الآن النبي غير معروف هل هو إسماعيل أو إسحاق، فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا[الصافات:102-103] أي: استسلما، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، أي: كفأه على وجهه، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، أي: تم الاختبار إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات:105-112]، وإذا كان إسحاق موجوداً، فكيف يبشر به؟! فهذان موضعان من القرآن يدلان دلالة قاطعة على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام.
قال الله عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا [الأنعام:84]، أي: هداية تامة، وكلاهما نبي كريم؛ ولذلك ( لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس، قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله -ابن يعقوب- ابن نبي الله -إسحاق- ابن خليل الله )، إبراهيم.
ولا غرابة إذ ربي يعقوب في كنف إسحاق، وربي إسحاق في كنف إبراهيم، فلا ريب أنهم مهتدون.
قال الله عز وجل: وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84]، ودائماً القرآن يقرر أن دين الأنبياء واحد؛ ولذلك تقرأ في سورة الصافات أن الله عز وجل ذكر نوحاً عليه السلام إلى أن قال: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الصافات:82]، ثم قال: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، أي: من شيعة نوح، ومن أنصار نوح إبراهيم، مع أن بين نوح وإبراهيم سنوات، وقروناً، لكن الله عز وجل يدلل على أن الأنبياء دينهم واحد؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأنبياء إخوة لعلات -أي: ضرائر- أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى، ليس بيني وبينه نبي )، وفي القرآن: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [آل عمران:68]، أي: محمد صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، فالأنبياء دينهم واحد؛ ولذلك الله عز وجل بعدما ذكر ابن إبراهيم الصلبي إسحاق وابن ابنه يعقوب بعد ذلك مباشرة نقلنا نقلة تاريخية كبيرة إلى نوح، وَنُوحاً هَدَيْنَا [الأنعام:84]، ثم رجع فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، أي: من ذرية إبراهيم دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:84-86].
وهداية الله جل جلاله لهذه الذرية هي استجابة لدعاء الخليل عليه السلام حين قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، ولما قال الله له: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، وهذا من حرص الوالد على أن ينال الخير أولاده، والوالد الصالح يريد لأولاده أن يكونوا خيراً منه، فلذلك استجاب الله دعاء إبراهيم فأخرج من ذريته خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، فذكر هؤلاء الأنبياء الخمسة عشر، بعد أن ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوحاً فيكون مجموع الأنبياء المذكورين في هذا الموضع ثمانية عشر، أضف إليهم سبعة وهم آدم وهود وصالح وشعيب وإدريس وذو الكفل وبالمختار محمد صلى الله عليه وسلم قد ختموا، فيكون مجموع الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرين، وهؤلاء مقطوع بنبوتهم، لا نشك في نبوتهم.
وفي القرآن صالحون مذكورون، مشكوك في نبوتهم، كالعبد الصالح عند مجمع البحرين وهو الخضر عليه السلام، وذو القرنين عليه السلام، وكذلك لقمان، وإن كان جمهور العلماء على أنه ما كان نبياً بل كان عبداً آتاه الله الحكمة، وكذلك اختلف أهل العلم في عزير، الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ولعل غاية أمره أن يكون عبداً صالحاً، وهناك خلاف يسير في النساء المذكورات، كـأم موسى وأخت موسى ومريم عليهن جميعاً صلوات الله وسلامه.
فهؤلاء مشكوك في نبوتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم شك في رجل آخر وهو تُبَّع، وقد ذكر الله هؤلاء الثمانية في قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق:12-14]، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب وقوم تبع، وهل كان تبع نبياً؟ الله أعلم! لا نجزم ولا ننفي، لكننا نقطع ونؤمن إيماناً جازما بنبوة هؤلاء الخمسة والعشرين تفصيلاً، نؤمن بأسمائهم تفصيلاً، ثم بالباقين الذين لا نعلمهم إجمالاً، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، وقال: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، فمن لم يقصهم الله عز وجل نؤمن بهم وندعوا الله أن يتوفانا على ذلك، لا نفرق بين أحد من رسله.
قال الله عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84].
ذكر المفسرون رحمهم الله هاهنا قاعدة الجزاء من جنس العمل، قالوا: إبراهيم عليه السلام لما هجر أباه وقومه من أجل الله، حين قال لهم: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً [مريم:48]، وبعد أن خرج من النار سالماً معافى عليه السلام ترك تلك الديار وهاجر إلى أرض كنعان في الشام عوضه الله عز وجل وآنسه بهذه الذرية الصالحة الطيبة.
قالوا: فكل من ترك أهله ووطنه من أجل الله، وفي سبيل الله، فالله عز وجل يعوضه خيراً، وأوضح مثال على ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ترك مكة، وما تركها طائعاً مختاراً، وإنما تركها لأن قومها مكروا به، فخرج عليه السلام وقال: ( والله، إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت )، فكانت النتيجة أن أبدله الله عز وجل بأهل مكة أنصاراً هم خير أنصار، عليهم من الله الرضوان، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ( والله! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الأنصار شعباً وسلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار )، ودعا لهم صلى الله عليه وسلم، ولأبنائهم ولأبناء أبنائهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وإنما الأنبياء عليهم السلام يتفكرون في خلق السموات والأرض؛ لأنهم خير أولي الألباب. وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، أي: ممن سكن اليقين قلوبهم. يقول سبحانه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً [الأنعام:76]، فلما غشى الليل الكون بظلامه، رأى إبراهيم عليه السلام كوكباً، والكوكب هو النجم العظيم، قيل: هو الزهرة، والله أعلم! ولأن قومه كان لهم آلهة أرضية، وهي التماثيل التي يعبدونها من دون الله، ولهم آلهة سماوية وهي الكواكب السبعة السيارة، يظنون أن لها تصرفاً في ملكوت السموات والأرض.
فإبراهيم عليه السلام لما رأى كوكباً، قال: هذا ربي! على تأويلين:
التأويل الأول: أنه قال ذلك؛ تنزلاً، على سبيل الإفحام لقومه، كما تقول لمن يجادلك: سلمت بأن كلامك صحيح، ثم بعد ذلك تستدرجه في الكلام حتى تفحمه، وتبطل حجته.
الوجه الثاني: على تقدير همزة استفهام: أهذا ربي؟ كما عهد هذا في شعر العرب، كما في قول القائل:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
أي: أو ذو الشيب يلعب؟
وكما في قول الآخر:
بدا لي منها معصم حيث جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان!
أي: أبسبع رميت الجمر أم بثمان؟ على تقدير همزة استفهام!
وليس صحيحاً ما قاله البعض: بأن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً ثم بعد ذلك لما استبان له الحق، قال: إني وجهت وجهي.. لا، فهذا خطأ؛ لأن الله تعالى قبل ذلك قال: وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، فأثبت له اليقين.
ثانياً: أن الله نفى عنه الشرك بإطلاق، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، فما كان يوماً من الأيام من المشركين.
ثم في الحديث الصحيح ( أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات كلهن في ذات الله، فعد الكذبة الأولى قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، والكذبة الثانية: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، والكذبة الثالثة: أنه قال عن سارة أختي )، فلو كان إبراهيم قال عن الكوكب: هذا ربي معتقداً، لكان هذا أكذب الكذب، لأن أكذب الكذب الشرك، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، وفي آية أخرى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:17].
فـإبراهيم عليه السلام كان مناظراً، أهذا ربي؟! فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:76]، أي: غاب، قال: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، أي: هذه المخلوقات الحوادث التي يطرأ عليها التغير، تظهر ثم تغيب، وتبزغ ثم تأفل، لا أحبها، ولا تستحق عبادة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر