الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، فإن نكسه أو فرق بينه بسكوت طويل أو كلام كثير أو محرم لم يعتد به ].
قوله: (ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً)، أي: في صفته؛ لأنه لا يعتد به إلا إذا كان على صفة الشريعة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم غير واحد من أصحابه، وهو عبادة من العبادات، ولما كان الأذان عبادة فإن العبادة موقوفة على الشريعة، فلا يصح التغيير في صفتها، ولو كان ذلك بترك الترتيب أو ترك الموالاة، فإنه إذا ترك الترتيب أو ترك الموالاة لم تكن الصفة على صفة الشريعة، وهذا معنى قول المصنف: (ولا يصح الأذان إلا مرتباً)، أي: في جمله، (متوالياً)، فلا يفصلها بفاصل طويل أو كلام.
قال: (فإن نكسه)، أي: لم يكن مرتباً، فقدم أشهد أن لا إله إلا الله مثلاً على التكبير في أوله، أو فرق بين جمله بسكوت طويل، أما السكوت اليسير فهذا مشروع بقدر ما يعتاده الإنسان في ترسله في الأذان؛ لأن الأذان شرع ترسلاً، فيكون بين جمله بقدر ما هو من عادة الإنسان إذا ترسل، فلا يزيد في السكوت، ولكنه لو زاد عن ذلك إلى قدر لا يكون فاحشاً لم يكن مشروعاً ولكنه لا يبطل الأذان.
أما إذا كان السكوت فاحشاً وهو ما أراده المصنف بقوله: (بسكوت طويل)، أي: فحش سكوته من حيث القدر والزمن، (أو كلاماً)، أي: إذا تكلم كذلك أو بفعل محرم، أو قول محرم، قال: (لم يعتد به).
قوله: [ ولا يجوز إلا بعد دخول الوقت إلا الفجر، فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل ].
قال: (ولا يجوز إلا بعد دخول الوقت)، وكذلك لا يشرع إلا بعد دخول الوقت؛ لأن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة، وهذا الذي مضت به السنة، فإنه لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أو غيره أن يؤذن قبل دخول وقت الصلاة إلا ما كان في الفجر خاصة, أما ما عدا الفجر فحكى غير واحد الاتفاق عليه أنه لا يشرع الأذان قبل ذلك، وإنما كان ذلك في أذان الفجر، فهذا الذي جاءت به السنة.
ولهذا قال المصنف: (إلا الفجر فإنه يؤذن لها بعد نصف الليل)، وهو الأذان الأول، وهذا تذكير, وليس الأذان الذي يكون بين يدي الصلاة.
والجمهور من الفقهاء على استحباب الأذان الأول في صلاة الفجر، ويكون بعد نصف الليل كما قال المصنف وقبل الفجر يكون ليلاً، فالأذان الأول يكون قبل دخول الفجر، وهذا استحبه الجمهور، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب مالك ، وجمهور الفقهاء على هذا.
وذهبت طائفة وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وكثير من الكوفيين إلى أنه لا يشرع للفجر إلا الأذان الذي يكون إعلاماً بدخول وقت الصلاة كغيرها من الصلوات، فلا يشرع أن يتقدمها أذان.
والراجح هو الأول؛ لما جاء في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )، فهذا صريح، وهذا لم يقع عارضاً فيما يظهر، بل كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا استحبه الجمهور من أهل العلم, وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما هو ظاهر.
والقول الثاني: هو مذهب أبي حنيفة و الثوري وطائفة من الكوفيين وغيرهم أنهم لا يستحبونه, واستدلوا على هذا منه بما جاء في قوله: ( إن بلالاً أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي: ألا إن العبد قد نام ) لكن هذا حديث لا يقوم بمثله حجة، فقد ضعفه الإمام أحمد وطائفة من المتقدمين، وكثير من الحفاظ المتأخرين.
وما جاء في الصحيحين على خلافه، وقد دل عليه غير هذا الحديث, فأذان قبل الفجر سنة مضت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب أن يجلس بعد أذان المغرب جلسة خفيفة ثم يقيم ].
أي: أدنى الفرائض الخمس يكون ما بين الأذان والإقامة يسيراً هي المغرب، والمستحب ألا يطيل ما بين الأذان والإقامة.
ونص الإمام أحمد رحمه الله على أن ذلك بقدر ركعتين, فإن عجل عن ذلك فهذا في ظاهر المذهب خلاف السنة, كما لو أذن وأقام ولم يدع قدر ركعتين، فهذا خلاف السنة، واستدل الإمام أحمد على استحباب أن يبقى يسيراً بقدر ما يصلي الناس ركعتين بما جاء في حديث أنس، ولهذا لما دخل الإمام أحمد رحمه الله أحد المساجد، فقال للمؤذن: دع الناس يصلون ركعتين، فقيل: من أين؟ فاستدل بحديث أنس أن الصحابة كانوا يبتدرون السواري إذا أذن المؤذن.
ويستدل له بما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! قالها ثلاثاً، ثم قال في الثالثة: لمن شاء ).
ومعلوم أن ما قبل الأذان حتى لمن تقدم إلى المسجد قبل غروب الشمس هو من أوقات النهي التي لا يشرع فيها الصلاة حتى تحية المسجد على الصحيح، وسيأتينا -إن شاء الله- عن الجمهور خلافاً للشافعي أنه لا يشرع حتى تحية المسجد فضلاً عن ما زاد عليها.
فالمقصود: أن ما قبل الأذان هو وقت نهي.
إذاً قوله: ( صلوا قبل المغرب )، المقصود به ما بعد الأذان، وهو بين الأذان والإقامة، فهذا صريح في أن المغرب يصلى فيها بين الأذان والإقامة، وأنه لا يشرع تعجيلها كأن يقيم بعد الأذان مباشرة، أو لا يدع الناس يصلون، أو يقطع على من يصلي صلاته، أو يقطع بما يشوش فيضطره للعجلة، وسيأتينا في هذه المسألة أن المشروع في حق من ابتدأ في صلاة قبل إقامة الصلاة ألا يقطعها وإنما يتمها خفيفة.
وهذه المسألة فيها أقوال، وقد أوصلها بعضهم إلى ثمانية أقوال، فبعضهم يرى قطعها مطلقاً، وبعضهم يرى قطعها إن كان قبل ركوعه .. إلى آخره.
والأظهر فيها أنه يتمها خفيفة في سائر أمره؛ لأنه لم يثبت ما يدل من السنة، ولا هو من ترتيب الشريعة في مشروعية قطع العبادة، ولم يأت في السنة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بهذا، أو أن الصحابة فعلوه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والأصل أنه إذا أحرم بعبادة فهو يتمها على الصفة الشرعية حتى لو أقيمت الفريضة.
فإن قيل: أليست الفريضة أقوى؟ قيل: بلى، ولكنه هو في عبادة لها صفة في الشريعة تم عليها، ولهذا لا يتمها ركعة، ولا يشرع له أن يسلم بعد ركوعه؛ لأن هذه ليست صفة شرعية للصلاة.
ولا يصليها واحدة! مع أن الواحدة صفة شرعية في الوتر؛ لأن الصلاة مثنى مثنى إلا الوتر.
فإذاً دخل فيها على الصفة الشريعة فلا ينزع عنها بقطع إلا لضرورة، كما لو كان يريد أن ينقذ غريقاً أو نحو ذلك، أما أن يقطعها من غير سبب فهذا لا يشرع.
وليس البحث في الإثم من عدمه، إنما يقولون: يفعل ذلك، وهذا فيما يظهر هو الأرجح، وسيأتينا -إن شاء الله- في مذهب الإمام أحمد.
وعلى كل حال هذا قول المصنف رحمه الله.
ولو قيل: وحديث: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ).
يقال: هذا ثابت في الصحيح، ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، ومعناه: أنها إذا أقيمت الصلاة فلا يبتدئ بالصلاة، لكن لا يدل على أنه يقطع الصلاة؛ لأنه إذا كان المراد إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ترتب على ذلك القطع مطلقاً حتى في آخرها.
قال المصنف رحمه الله: [ ومن جمع بين صلاتين أو قضى فوائت أذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها ].
ودليل ذلك: أنه إذا كان بين يديه صلوات كما لو جمع صلاتين أو قضى فوائت، فإنه يؤذن أذاناً واحداً ثم يقيم لكل صلاة، والسنة في هذا ما جاء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، من حديث جابر بن عبد الله , و عبد الله بن عمر وغيرهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين )، وكذلك في عرفة: صلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، فهذا ثابت في النسك وهو السنة، وهو مذهب الجمهور من أهل العلم.
قال رحمه الله: [ وهل يجزئ أذان المميز للبالغين؟ على روايتين ].
المميز هو: الذي بلغ التمييز ولكنه دون البلوغ، وهو فوق الطفل الذي لم يميز، وعلى هذا فهل يجزئ أذان المميز للبالغين؟
والبحث في هذه المسألة هل المراد بالإجزاء ما تقوم به السنة فلا يشرع لهم إعادته؟ أو أن المراد بالإجزاء ما يسقط به فرض الكفاية؛ لأن الأذان عند الجمهور وهو المذهب فرض كفاية، فهل المقصود بالإجزاء أنه يسقط به فرض الكفاية؟ أو أن المقصود بالإجزاء أنه لا يشرع إعادته، فتثبت به سنة الأذان ويكون فرض الكفاية قد سقط، لأنه إذا سقط فرض الكفاية يكون الأذان مشروعاً، فهل إذا أذن المميز يجزئ أو لا يجزئ؟
فإن قيل: إنه يجزئ فلا تشرع إعادته، فلو قام شخص بالغ يعيد الأذان بدلاً عنه أو بعده لما شرع له ذلك. وإن قلنا: إنه لا يجزئ، فمعنى هذا أنه يشرع إعادته.
أما إسقاط فرض الكفاية فهذا محل خلاف بين الأصحاب، والأظهر أنه لا يسقط به فرض الكفاية؛ لأن فرض الكفاية على المكلفين، وهو غير مكلف فلا يسقط به فرض الكفاية.
كما لو قدر أن قرية صغيرة في مفازة من الأرض مثل بعض القرى النائية بين الرمال أو نحو ذلك، فهؤلاء يجب عليهم يؤذنوا؛ لأنهم قرية ظاهرة وبيوت مجتمعة، وكان لهم فيها مسجد واحد يكفيهم، فهنا لا يؤذن لهم المميز فضلاً عمن دونه؛ لأنه لا بد أن يكون بالغاً حتى يسقط فرض الكفاية.
أما إن كان فرض الكفاية قد سقط لوجود مؤذنين آخرين ومساجد أخرى فهل يجزئ أو لا يجزئ؟
هذا فيه خلاف، ولكن هل الخلاف في الإجزاء أو في سقوط فرض الكفاية؟ هذا محل خلاف بين الأصحاب، والأظهر أنه في الإجزاء، وليس في سقوط فرض الكفاية، ففرض الكفاية لا يسقط إلا ببالغ على كل الأحوال. وأما من حيث الإجزاء فالأظهر أنه يجزئ وإن كان خلاف السنة.
وأما إنه يفعل تعليماً، فلا تتجاوز السنن والهدي من أجل التعليم، بمعنى: أن الأذان والإمامة في الصلاة لا ينبغي أن يتقدم لها من دون البلوغ من باب التعليم، وإنما يعلم الأذان منفكاً عن أداء العبادة في وقتها، وإلا فلا شك أن تعليم أولاد المسلمين الأذان وأفعال الصلاة مشروع، ولكن لا يستغنى به عن فعل العبادة؛ لأن فعل العبادة يفعله المكلفون.
لأن هذا لم يكن في زمن النبوة فهذا ليس من السنة، وليس من حسن القيام على المسجد، لأن بعض المساجد خاصة في القرى التي يوجد بين أهلها ائتلاف وتعارف كقبيلة واحدة فالأب هو المؤذن وقد يؤذن الصبيان أحياناً وهم دون البلوغ وهنا يكون الإشكال، أما إذا كانوا بالغين وتجاوزوا عن كونهم صبياناً فيشرع، أما إذا كانوا دون البلوغ فهذا لا يشرع، والتعليم لهم لا يكون بهذه الطريقة.
وأبلغ من هذا في الإشكال هو الإمامة، فبعض الناس يقدم في الإمامة من ليس الأقرأ أو الأعلم.. إلى آخره، وقد يقدمون حديث العهد بالقراءة، أي: من حيث إتقان القراءة، أو حفظ شيء من القرآن، وخلفه الحافظ للقرآن، والمتمكن أو طالب العلم، فيقدم من باب التدريب والتعليم، وهذا منهج خطأ.
إنما الصواب كما جاء في الصحيح: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله, فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة )، إلى آخره, أما التدريب فهذا لا يدخل على السنن الشرعية فيخالفها.
إذاً: في أذان المميز روايتان، والأظهر أن أذان المميز صحيح؛ لأن صلاته صحيحة، كما أن وضوءه يؤمر به، ولكن لا يسقط به فرض الكفاية، ولا يشرع أن يكون الأذان من دون البالغ بل لابد أن يكون من بالغ.
والراجح في المذهب أن أذان المميز يجزئ.
قال المصنف رحمه الله: [ وهل يعتد بأذان الفاسق والأذان الملحن؟ على وجهين ].
الفاسق والملحن كما قال المصنف: على وجهين، والفرق بين الروايتين والوجهين، فالروايات عن الإمام، والأوجه عن الأصحاب.
فأذان الفاسق فيه وجهان في مذهب الإمام أحمد كما في إمامته أيضاً اختلاف في المذهب، وبين الأصحاب خلاف قوي في ذلك، ولهذا ينبغي أن يكون المؤذن ممن ظهر فيه الخير أو التقوى ولم يظهر فسقاً ظاهراً، أما ما بينه وبين الله فهذا من الأمور التي لا يعلمها ولا يحيط بما في قلوب العباد إلا الله جل وعلا، لكن لا يكون ممن ظهر فسقه بأفعال ظاهرة.
وكذلك الأذان الملحن, وسبق التنبيه إلى أن الأذان السنة فيه أن يكون بغير تلحين، كما أنه ليس بالحدر، بل يؤذن مترسلاً.
أما التلحين الذي يبالغ فيه فهذا قد اختلفوا في وقوع الإجزاء به مما يدل على أنه على خلاف الأصل، وفيه وجهان كما ذكر المصنف.
قال المصنف رحمه الله: [ ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول إلا في الحيعلتين، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ].
لما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )، وهذه الجملة متفق عليها، أخرجها البخاري و مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.
وجاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قوله: ( ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة )، هكذا رواه مسلم.
وقوله في أوله: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )، هذا فصله حديث عمر الذي رواه مسلم , وفيه إبانة أن الحيعلتين -كما قال المصنف- يقول فيهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، قال: الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة )، هكذا جاء في حديث عمر ، فدل على ما ذكر المصنف من أنه يستحب في الحيعلة أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو مذهب الإمام أحمد .
والقول الثاني: أنه يقول مثلما يقول المؤذن؛ عملاً بالمجمل الذي جاء في الصحيحين: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )، والراجح هو ما ذهب إليه الإمام أحمد في هذه المسألة؛ لأن السنن تجتمع به.
قال المصنف رحمه الله: [ ويقول بعد فراغه: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ].
أي: يستحب أن يقول ذلك كما جاء في حديث جابر، في البخاري : ( اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته )، والحديث رواه البخاري وغيره بألفاظ متقاربة.
ومن اختلاف الرواية: أنه جاء في صحيح البخاري بلفظ: ( وابعثه مقاماً محموداً )، وجاء في السنن بلفظ: ( وابعثه المقام المحمود )، وأما لفظ: ( إنك لا تخلف الميعاد )، فهي زيادة اختلف فيها، فبعضهم جعلها شاذة، وبعضهم جعلها من زيادة الثقة، وأمرها يسير، فإنها كلمة شرعية ثابتة في دلالتها ومقتضاها، أما أنها هل ثبتت أو لا؟ فهذا محل تردد واحتمال عند حفاظ الحديث.
ومما يشرع فيه ما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً دخل الجنة ) أو ( غفر له ذنبه ).
إذاً: شرع في الأذان سنن وهي:
السنة الأولى: أن يقول مثلما يقول المؤذن إلا في الحيعلة، فإن الراجح فيها أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله لما في حديث عمر , وقيل: يقول مثله، والقول الثالث: أنه يجمع بين ما جاء في حديث: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )، وما جاء في حديث عمر فيقول: حي على الصلاة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: حي على الفلاح ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكن الأكثر من الأصحاب وهو مذهب الإمام أحمد على الأول, أنه يستثني الحيعلة من ذكرها، وإنما يقول فقط: لا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً: شرع في الأذان متابعة المؤذن وأن يقول مثلما يقول.
السنة الثانية: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول ما جاء في حديث سعد : ( من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، غفر له ذنبه )، فيقول ذلك ليحصل على هذا الفضل، وهو قوله: ( غفر له ذنبه ). وهل هذا محله عند ذكر الشهادتين في الأذان أو عقب الأذان؟ هذا محل خلاف.
ثم يقول: ( اللهم رب هذه الدعوة التامة، إلى آخره ).
السنة الثالثة: أن يدعو الله سبحانه وتعالى، فإنه جاء في السنن ومسند الإمام أحمد وهو حديث صحيح ما يدل على أن ما بين الأذان والإقامة من مواطن الدعاء، وهذا فيه أحاديث من غير وجه بمجموعها تكون حجة أنه يشرع الدعاء بعد الأذان.
والدعاء في الشريعة قد شرع مطلقاً، ولهذا لو أن إنساناً مثلاً: لما انتهى المؤذن من الأذان تابعه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ( اللهم رب هذه الدعوى التامة )، إلى آخره, ثم رفع يديه ودعا، أو صلى نافلة كتحية مسجد ثم رفع يديه ودعا، فرفعه يديه بعد نافلة يدعو الله، لم يثبت به سنة تأمر به، فلم يرد ما يعينه من الشارع، ولكنه عمل مشروع وعلى السنة المطلقة في الدعاء، والأصل أن الدعاء مشروع في كل حال، إلا الأحوال التي لا يليق بها الدعاء كحال قضاء الحاجة ونحوها لأنه من ذكر الله.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، وكان يدعو كما في حديث أنس وغيره، فيقول: ( أستغفر الله )، فهذا دعاء ومسألة لله أن يغفر له سبحانه وتعالى.
فالدعاء جنسه مشروع في كل مقام، ويكون سنة إذا قام الدليل على تعيينه في هذا المقام، وأما ما عدا ذلك فيكون مشروعاً إلا في مواطن أمر الشريعة بتركه، كما سبق في بعض الأحوال التي لا تليق بذكر الله، وإلا فالأصل أنه مشروع، ولذلك لا ينبغي التضييق أو دعوى البدع في مثل هذه الأعمال, فإنها أبعد ما تكون عن تأصيل البدعة.
ولهذا توسع السلف رحمهم الله في بعض المسائل في الدعاء، ومن ذلك دعاء ختم القرآن، مع أنه لم يثبت فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، أو أمر أصحابه أنهم إذا ختموا القرآن في الصلاة في رمضان أن يلحقوا الدعاء بعد قراءة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فهذا لم تثبت به سنة، لكن بقي على الإذن العام في مسألة الدعاء، فلا يكون بدعة على تأصيل مسألة البدعة، وليس من باب البدعة، ولهذا رخص فيه، وحينما نقول: رخص فيه أو أقره أو فعله من فعله من السلف لا ليس على سبيل الاحتجاج بآراء الآحاد؛ لأن الحجة في الإجماع.
ولكن المقصود من حيث التأصيل: لأنه استفاض في فعل أئمتهم، ومن أجل من أقر ذلك كما جاء في رواية الفضل بن زياد وغيره الإمام أحمد رحمه الله لما أقر ذلك، وقال للفضل بن زياد : افعله وأخبرنا نصلي معك!
ولذلك: فإن أحمد و ابن عيينة وأمثال هؤلاء من أهل العراق وأهل مكة أو غيرهم كأئمة المدينة النبوية وأئمة مكة كانوا يفعلونه، وفي العراق فعله الإمام أحمد ومن قبله من الأئمة، وهؤلاء الأئمة محققون, وإن كانوا في الفروع يختلفون ويجتهدون ويصيبون، فهم من حيث فقه حد السنة من حد البدعة لهم علم محقق، وليس علماً يدخله الاضطراب.
فلا يقع لبس في فقه ابن عيينة أو في فقه الإمام أحمد في هذا التأصيل لأن هذا هو معيار السنن، وهذا هو معيار البدع، فهذا الأمر متميز؛ لأنه تأصيل على مسائل الأصول فلا يشتبه عليهم ذلك، ولكنهم لم يكونوا يندبون إليه كثيراً، ولكن لما فعله الناس أقروه، وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد أنه كان يحبه، ولهذا سأل الفضل بن زياد عن فعله، وكأنه كان يصلي بهم، وقال: أخبرنا نصلي معك! قال: ما أفعل يا أبا عبد الله ؟! قال: إذا قرأت: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فارفع يديك وادع الله، وهذا في شفع من الصلاة، وليس في وتر من الصلاة.
فهذا العمل هو مما يقر وهو فعل من الأفعال التي لم يقم الدليل من السنة على أنه من السنن المسماة في هدي النبي صلى الله عليه وسلم بعينها، ولكنه داخل ضمن العمل المقر، وهو من جنس الدعاء المشروع.
ولذلك فإن هذا ليس احتجاجاً بقول آحاد الرجال, وإنما هو احتجاج بأن هؤلاء الكبار هم فقهاء في فصل السنة ومعيار السنة من البدعة، وهذا لا يلتبس عليهم أبداً, وإن كانوا يجتهدون ويصيبون ويخطئون في آحاد فروع الشريعة، لكن في هذا التأصيل فهذا لا يمكن إدخاله عليهم.
ولهذا في بعض الأفعال التي يفعلها الناس كالتهنئة بالعيد تجد أنهم خففوا فيه، وهو لم يثبت به فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه من السلام ومن المباركة ومن الدعاء، فهو إذا تأملته ليس فيه مادة البدعة، فهذا يحتاج إلى فقه في التمييز.
فالإمام أحمد في مثل التهنئة بالعيد، قال: لا أفعله ومن بدأني أجبته، وكأن الإمام أحمد رحمه الله إنما قال: لا أفعله حتى لا يظن الناس أنها سنة مقصودة؛ لأن مثل هؤلاء الكبار يقتدى لهم؛ لأنهم أئمة في الدين والعلم، فقال: لا أفعله، ولكن قال: ومن بدأني أجبته، فلو كانت التهنئة بالعيد بدعة فإنه لا يجيبه، بل يجب أن ينكر عليه، وهو لا يمكن أن يداري العامة، فهذا لا يتصور.
وإنما يقول: إنه لم يأت به سنة فلا أظهره، كما أظهر التكبير في أيام التشريق الذي جاءت به السنة، فهذا كان فقههم -رحمهم الله- على هذا القدر من الموازنة.
وعلى هذا فالدعاء بعد الأذان هنا حسن، ولكن الالتزام المطلق به، أو الدعوة إلى السنن يحتاج إلى دليل، فإن التزمه بخاصة نفسه دخل في جنس المطلق من الدعاء، وأما الندب إليه بالتعيين فهذا يحتاج إلى دليل.
قال: [ والأذان أفضل من الإقامة، وعنه هي أفضل ]، هذا فيه روايتان عن الإمام أحمد أيهما أفضل؟ وفي المسألة سعة، والسنة أن من أذن يقيم, وإن كان هذا جاء في حديث زياد بن الحارث كما سبق، وفيه ضعف، وقد رواه أبو داود وغيره، ولكن هذا الذي مضى به الفعل أن بلالاً كان يؤذن ويقيم.
السؤال: ما ضابط البدعة فيما لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: أولاً: مما ينبغي التأكيد عليه في مسألة الضابط، هل الاعتماد على الضوابط التي هي أشبه ما تكون بالحدود والتعريفات أو الرسم، وهل هو معيار مقرب، أو أنه معيار محكم للمسألة المقصودة؟
في الحقيقة هو أنه معيار مقرب، وهذا الباب من فقه الاستقراء، فمتى فقه طالب العلم معيار السنة عن البدعة، فإنه يقول: هذا سنة وهذا بدعة، وهذا سنة بالمعنى العام، أو بالمعنى المطلق، وليس سنة مندوباً إليها بعينها، وقد يقول قائل: كيف تكون سنة ليس مندوباً إليها بعينها؟ ولهذا أضرب مثلاً: فلو أن شخصاً دعا الناس إلى أن يصوموا اليوم التاسع من ذي القعدة، وقال: صوموا يا عباد الله التاسع من ذي القعدة! وفي خطبة الجمعة يندبهم إلى صيام التاسع من ذي القعدة، فهذا الندب والتعيين ليوم معين بدعة؛ لأن الذي يعين هو الشارع وإن كان الصيام في جنسه ليس بدعة، فالصيام مشروع، ولكن تعيينه بيوم معين هذا من فعل الشارع. ولذلك فالصيام جنسه مشروع، فمنه ما يجب كرمضان، ومنه ما يجب بالنذر إلى آخره، ومنه يستحب في أيام سماها الشارع أو فعلها وأقام عليها كصيام الإثنين والخميس، أو صيام البيض، أو صيام الست من شوال كما عند الجمهور من أهل العلم، فهذه أيام معينة بالصيام، وأيام كره الشارع صومها بالإفراد بصفة، كالجمعة عند طائفة من أهل العلم، فأنه يكره إفراده بالصوم، وفيه خلاف, وقد جاء في الحديث كما في الصحيحين: ( لا تخصوا يوم الجمعة )، ومع ذلك ففيه خلاف.
وكذلك صيام يوم السبت، وقد جاء النهي عنه في حديث عبد الله بن بسر ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ) عند من اعتبر الحديث، ومنهم من ضعفه وأعله بالاضطراب، فمن يسلم بحديث عبد الله بن بسر لا يجعله ضعيفاً بالاضطراب أو غيره، ولا منسوخاً؛ لأن بعض أهل العلم يرى أنه منسوخ، يكون عنده من الأيام التي يكره صومها أو يحرم صومها كيوم العيد.
ومن الأيام ما يشرع صومه ولا يجب كالإثنين والخميس، ومن الأيام ما يجب صومه وهو رمضان، وبقيت أيام ليست من الحرام ولا من الواجب ولا من المندوب! كيوم الثلاثاء مثلاً: فلو أن إنساناً نادى أن يصام يوم الثلاثاء وخصه بالذكر لاحتاج إلى دليل مثلما في صوم الإثنين، لكن لو أن إنساناً صام الإثنين، أو صام يوم الثلاثاء منفرداً، أو صام أسبوعاً، أو صام أياماً، فهذا عمل مشروع، ولا يقال: لماذا صمت يوم الثلاثاء؟ وما الدليل على صيامك ليوم الثلاثاء؟
ومثله: إذا ندب الشارع العباد إلى فعل مشروع كما في عشر ذي الحجة، فقد جاء في حديث عبد الله بن عباس الذي رواه البخاري والإمام أحمد وغيرهما: ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله! إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ).
فالشارع هنا قال: ( ما من أيام العمل الصالح )، إذاً: يشرع في عشر ذي الحجة العمل الصالح، والعمل الصالح هو كل عمل شرعه الله ورسوله، وكل ما شرع فهو عمل صالح يشرع أن يعمل في ذي الحجة على ترتيب الشريعة.
فمن قرأ القرآن في عشر ذي الحجة فهذا عمل صالح، ومن اشتغل بالدعوة إلى الله فهذا عمل صالح، ومن اشتغل بطلب العلم فهذا عمل صالح، ومن اشتغل بالركوع والسجود والصلاة فهذا عمل صالح، ومن اشتغل بذكر الله فهذا عمل صالح، ومن اشتغل بالصدقة فهذا عمل صالح، ومن اشتغل بالصيام فهذا عمل صالح.
وهذه الأعمال الصالحة بعد أن قال الشارع: ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله )، لا تحتاج أن تقول: لا بد لكل معين من هذه الأعمال أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو أمر به، وإلا تكون بهذه الطريقة طردها عند التحقيق يستلزم منه تعطيل جمهور العمل الصالح.
حتى لو روى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صام هذه العشر، كما قالت عائشة : ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط ). مع نقل الآحاد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, النفي في بعض الفعل للذي هو الأصل فيه أن الشارع دعا له، ثم ينقلون تركه لمعنى ألا يفرض أو لا يشق على الناس أو ما إلى ذلك.
فهذا النقل ليس بالضرورة أن يكون محكماً، وليس هذا طعناً في حال الصحابي، فإن الصحابة عدول، وإنما لأن الصحابي قد لا يحيط بالنفي، أو قد لا يحيط بمحل النفي.
ولهذا فإن عائشة رضي الله عنها في ركعتي الضحى لها ثلاث روايات وكلها في صحيح مسلم فقالت مرة: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط )، فنفت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، وقالت مرة: ( كان لا يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه )، فاستثنت إذا جاء من مغيبه. وقالت مرة: ( كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله ).
ولم ترد عائشة في قولها (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى) أنها لا تفعل من بعده، ولهذا فإن في تمام الرواية قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، وإني لأسبحها ). ثم قالت الرواية الثانية أو الثالثة: أيها المقدم وأيها المؤخر؟ هذا بحث آخر.
ولذا فإن الصحابي قد يحكي الحال بالنفي مع عدالة الصحابة أجمعين، لكن يكون هذا من الحال الذي روى بعضهم ولم يروه البعض الآخر، فهذا لا يقطع به على كل حال، ولهذا روي في روايات أخرى وإن كانت من حيث الإسناد ليست بجودة النفي في حديث عائشة : ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط )، وفي حديث أم سلمة وغيرها.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صام منها، ولكن الذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم فيها كصيامه يوم عرفة في غير الحج، ولهذا ظن الصحابة أنه كان صائماً في الحج، أو ظن طائفة منهم ذلك حتى شرب اللبن كما هو ثابت، وندب إلى صيام يوم عرفة بالتخصيص لغير الحاج.
فعلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه صام فيترك، فإن هذا يعني أن الذي يجلس ليقرأ القرآن، أو يظهر صدقة، أو يفعل كذا، يحتاج إلى تعيين، وهذا سيعطل العمل بالحديث، وبمعنى آخر فالذي يقول: لا يشرع صيامها لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صامها، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سنة، وسنته تثبت بقوله: ( ما من أيام العمل الصالح فيها )، ولم ينهى عن صيامها، وآكدها أن يصوم يوم عرفة واليوم التاسع، فيلزم على هذا أن من جلس يقرأ القرآن نقول له: ما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يقرأ القرآن في هذه العشر وخصها بقراءة القرآن؟ ومن جلس يتصدق فيها، نقول له: ما الدليل على ذلك؟ ومن جلس يفعل العمل من الخير نقول: ما الدليل على ذلك؟
فيئول إلى تعطيل الأعمال الصالحة في هذه العشر، وهذا فقه غريب لما يقال: لا تصام العشر؛ ولهذا لم يشتبه هذا على كبار الفقهاء، لذا فإن المذاهب الأربعة بأئمتها وبأصحابهم يرون أن صيام هذه العشر مشروع، ومن يترك ذلك أحياناً كترك مالك رحمه الله لصيام الست من شوال يكون لعلة آخر غير الاستدلال بهذه الصفة.
ولهذا فإن ما ضابط البدعة فيه الإشكال لأن هذا الباب ينبغي أن يفقه؛ لأنه تأصيل في الشريعة وهذه الضوابط تقربه، أما أحكامه فهو فقه استقراء، ولهذا كان أئمة السلف وأولهم الصحابة وأئمة التابعين ومن بعدهم من الأئمة كانوا فقهاء في مسألة السنن والبدع، مع أنهم لم يستعملوا هذه الحدود والتعريفات التي صاحبت الاصطلاح وظهور الاصطلاح ومادة الاصطلاح؛ لأن فقههم كان أمتن في هذا الباب، فالسنة تفقه من خلال فقه القرآن، وفقه السنن التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الهدي، فإذا كان فقيهاً بالغ الفقه في هذا امتاز عنده ما يكون سنة وما يكون بدعة، أما إذا رتب طالب العلم ترتيباً مختصراً فأخذ حداً ذكره بعض أهل العلم الذين لهم تحقيق في بعض الأبواب كـــالشاطبي مثلاً في الاعتصام, وهو أن البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها التقرب إلى الله.
فيأتي لينزل هذا الفعل أو هذا التصرف من أحوال الناس، فيقول: هي طريقة وفي الدين وهو مخترع؛ لأنه ليس فيه سنة معينة، والبحث الأكثر إشكالاً هو متى تقول: هذه المسألة ليس فيها دليل؟ فمثلاً في بعض الراجح والمرجوح من مسائل الفقه، يأتي شخص ويقول: هذا القول لا دليل عليه، وهذا يكون في موضوع يجب فيه العمل أو لا يجب.
فمثلاً: الحائض إذا طهرت وقت العصر قبل غروب الشمس فإنها تصلي للعصر، لكن هل تصلي الظهر؟ الجماهير يقولون: إنها تصلي الظهر كما تصلي العصر، فإذا طهرت قبل غروب الشمس وجب عليها أن تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر فيجب عليها أن تصلي المغرب والعشاء. أما صلاة العشاء وصلاة العصر فظاهر؛ لأنه في وقتها، فما الدليل على لزوم المغرب ولزوم الظهر؟
وهنا تأتي مسألة فقه الدليل، فالذي يكون فقهه ضيقاً يقول: هذا قول لا دليل عليه؛ يقول هذا لأن العصر صلتها في وقتها، ولكن ما الدليل على صلاة الظهر؟ ثم يقول: لا دليل عليه، والأصل عدم الفعل إلا بدليل.
ولكن إذا رأيت فقه السابقين كالإمام أحمد في هذه المسألة، فإنه لما سئل الإمام أحمد هل تصلي الظهر والعصر؟ قال: نعم تصلي الظهر والعصر، قيل: فما وجهه يا أبا عبد الله ؟ قال: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن.
فلا يمكن أن قولاً في فقه الدليل يفوت على عامة علماء التابعين، وليس بالضرورة أنك تقول له: الراجح أنها تصلي، فهذه مسألة أخف، ولو أن طالب العلم أفتى بأنها تصلي العصر وحده، مع أن هذا خلاف الراجح فيما يظهر، وخلاف قول الجماهير فإن هذا أهون، ولكن الإشكال ليس في قول هذا الراجح، وإنما الإشكال حينما يقول: هذا الراجح والقول الآخر لا دليل عليه، فهذا تأصيل يغرر في فقه الدليل تغريراً علمياً وليس التغرير الأخلاقي، لأن طلبة العلم لا يقصدون إلا الخير إن شاء الله.
فتتوهم أن هذا هو التمسك بالدليل، ومذهب السلف اتباع الدليل، وهذا مذهب واجب ليس على السلفيين، لكن الواجب اتباع الدليل واتباع الكتاب والسنة، هذا ليس واجباً على السلفيين وحدهم، وإنما هذا واجب على كل مسلم ومسلمة، بل واجب على الخلق أن يتبعوا الدليل، بمعنى: يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم واجب على جميع الخلق، وهو بعث للثقلين.
فهذا الباب وما يتعلق بمسألة البدعة ودرئها، وحفظ السنة والهدي، وواجب على المسلمين، ولا سيما أهل العلم، ولذا فإنه يجب على أهل العلم وعلى عامة المسلمين الاستمساك بالسنن وترك البدع، والدعوة إلى السنة، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح من حديث جابر تأكيد هذا المعنى الفاضل الشريف المنيف من الشريعة، وهو العناية بالسنن وترك البدع، فيقول في خطبه: ( أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ).
وفي سنن أبي داود : ( وكل ضلالة في النار )، وفيها كلام.
ولهذا فإن العناية بهذا المقام من فاضل العبادة، وفاضل الديانة، وفاضل العلم، وله فقه ينبغي مراعاته، فدعوة الناس إليه مجملاً هذا يناسب حتى المبتدئ في العلم، فيدعو الناس إلى السنة بالمجمل، وآحاد الخطباء يدعو إلى ذلك ولو لم يكن متيناً في العلم، ومحققا ًفي العلم.
ولكن إذا جئنا للتفصيل والمعيارية وما إلى ذلك فهذا ينظر فيه إلى كلام أهل العلم -رحمهم الله- ويتحرى طالب العلم التحقيق في ذلك باستقراء السنن والآثار، واستقراء الهدي الذي جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وقواعد ذلك، وهدي السلف من أئمة الصحابة، وأئمة القرون الثلاثة الفاضلة، والذين استفاضت إمامتهم.
فهؤلاء هم من يفقه هذا الباب، ولهذا فهذا مما يقتدى به، وليس هو من المادة المتروكة في التقليد وهو تقديم قول الرجال على الدليل، فهذا ليس من تقديم قول الرجال على الدليل، فهذا لا يقول به أحد، ولهذا لم يقل هذا أحد من أهل العلم، ولا حتى من آحاد المسلمين، فإن الدليل هو المعتبر. وإنما الشاهد فقه الدليل، وما هو الدليل؟ ومتى يقال هذه المسألة: لا دليل عليها أو فيها دليل؟
وكما أنك تقول: إنه يجب اتباع الدليل وليس قول الرجال، فهذه القاعدة بقدر ما هي علمية فهي قاعدة إيمانية إذا قسمنا المعاني على سبيل الترتيب، وإن كانت في حقيقتها الشرعية متداخلة ومتضمن بعضها في بعض، فهذه قاعدة أن الواجب اتباع الدليل.
وأمثال الإمام أحمد و مالك ومن قبلهم إلى آخره هم من أكثر الناس قياماً بهذه القاعدة علماً وعملاً، فليس هذا من باب أنك إذا قلت: هذه أحياناً تختصر بها بعض الحقائق العلمية، حتى يكون السامع أحياناً لا يكثر التأمل في هذا القول؛ لأنه قيل له: إن هذا خلاف الدليل، وهذا تعبير في نظري لا ينبغي في الفقه، ولا في فروع الشريعة، ولا في موارد الاجتهاد.
وإنما يقال: لا دليل عليه إذا تكلمنا عن أقوال أهل البدع، كأن تقول: قول الخوارج لا دليل عليه، فهذا تعبير صحيح.
لكن إذا تكلمت في آراء الفقهاء ولا سيما الآراء التي ليست شاذة، وأما أن تقول في القول الشاذ: لا دليل عليه فهذا وجيه إذا تحقق شذوذه.
أما في الأقوال فقد سبق في أوائل شرح العمدة أن ذكرت أن الخلاف على مراتب، ففيه الخلاف المستفيض، وفيه الخلاف الذي على خلاف قول الجمهور، وفيه الخلاف الذي عليه قول العامة ولكنه محفوظ، وفيه الخلاف الشاذ، فهذا تعبير يناسب أقوال أهل البدع كالخوارج والمرجئة وأمثالها من الطوائف الضالة، أو يناسب الأقوال المقولة في الفروع ولكنها أقوال شاذة.
أما أن تأتي إلى قول عليه عامة أهل العلم، وهو فتوى أئمة المذاهب الأربعة، وسواد الفقهاء وأهل الحديث، ثم تقول: هذا قول لا دليل عليه، فهذا اختصار للعقل في حقيقة الأمر، فضلاً عن أنه اختصار للعلم.
فإن قيل: فالضوابط؟
قيل: الضوابط تقرب، ولهذا كان أوائل العلماء وهم الصحابة والقرون الأولى مستغنين عن هذه الحدود، وهذه الاصطلاحات بسعة فقههم في كتاب الله وسنة نبيه بما تتبعوه في هدي نبيهم ونقلوه إلى من بعدهم، وفقههم في كلام العرب، والفقه في كلام العرب شيء كثير، بمعنى: الفقه في فصاحة كلام العرب فهذا لا بد منه.
وسبق أن منه قدر يقبل الاكتساب كعلم الإعراب والنحو، لكن فيه قدر يحتاج إلى انطباع أكثر مما هو اكتساب، فيكون بالآلة المحضة كالعلم بالبيان ودلالات الكلمات، ولهذا نظم في علم الأصول قدر واسع من ذلك، لما قالوا: هذه صيغ العموم، وهذه صيغ الإطلاق والتقييد.. إلى آخره.
فالحدود تقرب ولكن لا يعتمد عليها طالب علم فيكون غايته أنه قرأ تعريفاً للشاطبي أو قرأ كتاب الشاطبي الاعتصام ثم صار يميز أحوال الناس، فيقول: هذه بدع، وهذه ضلالات، إلى آخره، فهذا يحتاج إلى تبصر، ولا يقع في إفراط ولا تفريط؛ لأنه لا شك أن كثيراً من البدع تسللت إلى نفوس العامة من المسلمين باسم السنن، وهذا شأن مشهود من قرون في كثير من أحوال المسلمين، فتوجد كثير من البدع تسللت إليهم يحسبونها سنة وعبادة وتقرباً لله صحيحاً وهي ليست كذلك، فهذا مما ينبغي، بل يجب على أهل العلم تصحيحه في نفوس العامة، وتصحيح ما هم عليه من الأحوال والأفعال.
فكما أن هذا يقع، ففي بعض الأحيان يقع ما يقابله وهو التشديد والزيادة فوق الشريعة بتسمية هذا بدعة وهو ليس كذلك، فيضيق الأمر فيه، أو قد يسمى صاحبه: مبتدعاً، فيكون أشكل من مجرد تسمية الفعل بدعة، فهذا يحتاج إلى تبصر، وفقه استقراء.
فإن قال قائل: إذا كان فقه استقراء ويحتاج إلى فقه للقرآن والسنة وكلام الأئمة.. إلى آخره، وأن الضوابط إنما هي تقرب ولا تحكم، فهذا يجعل آحاد الناس لا يحسن الضبط لهذا والطرد؟
نقول: هذا قدر مما قصد في الشريعة لما أمر الله -جل وعلا- بسؤال أهل العلم، أليس الآن في أحكام الصلاة يعرف العامة بعض الأحكام؟ لكن بعض الأحكام التي تقع نادرة، لا يعرفون حكمها مع أنهم يصلون ويقيمون الصلاة ويحافظون عليها، لكن يفوتهم بعض الأحكام التفصيلية التي تعرض وليست ثابتة في فعلهم.
ولهذا أمر بسؤال أهل العلم، ولا يلزم أن آحاد المبتدئين في طلب العلم أن يكونوا محققين في تمييز هذه المسائل، فهذا لا بد فيه من تحقيق، ولهذا حتى في العلم ذكروا المجتهد، ومراتب الاجتهاد، وأوصافه، ومن مادة الاجتهاد: حسن التحقيق في هذا الباب.
فهذا على كل حال باب من الاستقراء والحدود التي ذكرها بعض أهل العلم تقربه، لكن إذا لم يكن في نظرك العلمي إلا هذه الحدود، وفقه الاستقراء عندك ضعيف تواهمت.
فمثلاً: الإمام ابن تيمية رحمه الله وهو من أخص المحققين ولاسيما في المتأخرين لهذا الباب وفضله وتحقيقه رحمه الله مشهود ومعروف ومستفيض في كتبه، وفيما ذكره أهل العلم عنه، لما ذكر بعض المسائل في هذا جعل من بعضها ضابطاً كما يقال في تمييز البدعة، قال: إن كل ما قام سببه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعل بحضرته فإنه يكون بدعة.
وهذا المعنى بجملته يحتاج إلى فقه، فلو قلت مثلاً: التسبيح بالسبحة لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سبح بسبحة، لأن السبحة موجودة في الأمم منذ القدم ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، ولا فعلت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن السبحة معروفة، وكانوا يذهبون إلى الشام وإلى بعض البلاد وهي متداولة منذ القديم.
فـ شيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن التسبيح بالسبحة قال كما هو نص كلامه: (وأما التسبيح بالسبحة فحسن)، كلمة: حسن ليست بمعنى مشروع أو مندوب إليه، أو يدعى الناس إليه، ولكن مما يقر ويحتمل، وقيد ذلك بقيدين بعد كلمة (فحسن):
القيد الأول: ألا يكون هذا على وجه المباهاة والمراءاة كما يفعله بعض الصوفية الذي ربما يعلق السبحة في عنقه وتكون سبحة طويلة، أو يحملها في أردانه وفي أكمامه، فهذا فيه تكلف، والشريعة جاءت بدفع التكلف الذي قد يكون من مادة المراءاة، أو يفتح على القلب مادة المراءاة.
القيد الثاني: ألا يهجر ما جاءت به السنة، لأن الأصل أن يسبح بالأنامل أو بالأصابع مباشرة.
وهذا كإنسان يقول: أنا أمشي، أو أنا في العمل أتنقل من مكتب إلى مكتب، أو في السوق أضع السبحة في يدي وأسبح، أو في مجلس كثر فيه الكلام فأظهر السبحة وأسبح، فهذا الذي يقصده الشيخ أنه في مثل هذه الحال يكون حسن لا بأس به.
فلو أن شخصاً قال: لابد أن نطبق الضابط على هذا الأمر، فيقول: قام سببه ولم يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره، وعلى هذا فيكون بدعة.
فالشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله هو الذي قال هذا التقعيد، وهو الذي في تطبيق الفرع على الأصل فك هذا الفرع عن هذا الأصل بهذا التقييد، فيكون هذا الإشكال أحياناً ليس في القواعد.
فضابط الشاطبي لما قال: (البدعة طريقة في الدين مخترعة) إلى آخره، ليس الإشكال فيه، وإنما الإشكال في أن هذا حد مقرب، والحدود مقربة لا يكون الاستيعاب مثلما تقول في قواعد من القواعد الكلية: اليقين لا يزول بالشك، الضرر يزال، لا ضرر ولا ضرار، وفهمت معنى الضرر وأنه يزال بمعنى: يرفع، واليقين، ما لا شك فيه فلا يزول بالشك، الكلمات ظاهرة، ولكن من حيث التطبيق قد لا تطرد.
فلو جاءك عقد في معاملة مالية هل هذا من مادة الضرر الذي يزال، أم ليس هو من مادة الضرر الذي لا يزال؟ وهل هذا الضرر يوجب فسخاً أو لا يوجب فسخاً وإلحاقاً، ولهذا إنما كان الفقه فقهاً؛ لأن فيه القياس، وفيه الإلحاق.
ويقول به الأئمة في المسائل التي لا نص فيه، ويجعلونه دليلاً لأنه مأخوذ عندهم من الدليل، كما قال الإمام ابن شهاب رحمه الله: إنا نقول -أي: في المسائل- وليس كل شيء نجد فيه الإسناد.
والدليل على هذا: أنك إذا نظرت العلم الذي فيه نص وإسناد في كل مسائله وجدتها مسائل أصول الدين، أما إذا جئت إلى مسائل الفروع، ومسائل الإلحاق فهذه مسائل يدخلها الاجتهاد، ولهذا لما جاء ما اصطلح لتسميته بعلم أصول الفقه وجدت أنهم جعلوا الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع، ثم بدءوا يقولون القياس.
فاحتاجوا إلى أن يقولوا: القياس، وهل المعنى: أن الكتاب والسنة ما كفت الفقه؟ ليس كذلك فالدين كله أصولاً وفروعاً هو في الكتاب والسنة.
ودليل القياس إنما ميز كدليل؛ لأنه نظام للاستنباط، وإلا فحقيقته أنه متضمن في الكتاب والسنة، وهو تمييز لنظام الاستنباط؛ ولهذا ابن حزم لم يعتبر القياس؛ لأنه لم يره متضمناً في الكتاب والسنة، لأن له أركاناً، بينما الأصوليون يقولونه، ويسمونه أركان القياس. ومن أركانه العلة، فإذا عدم الركن لم يقم هذا الدليل.
فـ ابن حزم اعتراض على القياس وقال: إن من أركانه: العلة.
وهذا مبني على أن الشريعة معللة، وعلى أنا نعلم التعليل أي "تعليل الشريعة" فلم تثبت المقدمتان عند ابن حزم من أن الشريعة معللة ولذا لم يسلم بهذه المقدمة.
والنتيجة أن ابن حزم لما لم يقبل بدليل القياس لأنه لم يره دليلاً متصلاً بالكتاب والسنة، ولهذا جعله منفكاً عن الكتاب والسنة وصار يشنع على الفقهاء الذين يستعملونه ويقول: يتركون الآثار ويذهبون إلى الرأي. بعض المحدثين ما وصل إلى رأي ابن حزم لكنه كان مخففاً من مادة القياس.
ثم إن القياس كما تعرفون في الأصول أوجه، ولهذا ذكروا العلة المنصوصة، والعلة المستنبطة، وقياس الشبه وما فوقه إلى آخره.
والاستحسان لما قبله الحنفية هل قالوا: إنه دليل زائد على الكتاب والسنة؟ لم يقولوا ذلك، وإنما يرونه متصلاً بالكتاب والسنة.
وأصحاب الشافعي لما أظهروا تركه، وإن كانوا لا ينفكون عن ما هو من مادته، لكن تركوه كتسمية، وبينهم وبين أصحاب أبي حنيفة فرق لفظي وفرق معنوي في دليل الاستحسان، وكله من هذا التحقيق في الاتصال وعدم الاتصال.
فيجب طالب العلم أن يفقه عندما يقول: هذه مسألة ليس فيها دليل، يجب أن يفقه ما هو الدليل، وما هو الدليل المطلق، وما هو الدليل المقيد، وما الأصل الذي وضعته الشريعة فيه، وهل الأصل فيه المشروعية، وما الذي جعل الأصل فيه عدم المشروعية إلا بتعيين دليل؟
هذا كله تقعيد واسع الحدود تقربه ولا تجمعه وتحكمه، وما انغلق فيه فليسأل أهل العلم، أو ينظر في هدي السابقين من أئمة العلم والدين من أهل القرون الثلاثة الفاضلة، ومن تلاهم من أئمة العلم والدين -رحم الله الجميع- ورزقنا وإياكم من العلم النافع، والعمل الصالح. وبالله التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر