الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فهذا هو المجلس الأخير في هذه المجالس، والمنعقد في اليوم الثالث من الشهر السادس من سنة سبع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جامع الشيخ عبد العزيز بن باز بمكة المكرمة.
كنا أتينا على جملة من التعليقات على هذا الكتاب، وهو كتاب الاعتصام لـأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله، وانتهينا إلى آخر الأبواب عند المصنف، وفي هذا المجلس باعتباره آخر المجالس نحاول أن نختصر، فإن المقصود من هذا الدرس ليس الوقوف على مفصل من كلامه رحمه الله، وإنما لذكر جملة من الإشارات والتنبيهات التي يستفيدها طالب العلم عند نظره في هذا الكتاب، فإن هذا الكتاب وإن كان فيه قدر من التحقيق، إلا أنه يرد في كلام المصنف ما ينبغي لطالب العلم أن يكون رفيقاً وهادئاً في أخذه، وربما التزم المصنف ببعض اللوازم العلمية التي لا يصح أن تكون على هذا الوجه من الالتزام، وهذا سبق التنبيه إليه في جملة من مسائل هذا الكتاب، فالكتاب فيه فقه وعلم كثير، ولكنه ليس على إطلاقه في سائر المسائل، فثمة مسائل تعرف برد هذا الكلام الذي ذكره الشاطبي رحمه الله إلى الأصول والقواعد، وإلى كلام السالفين من أهل العلم، ما يتبين به أن قدراً من هذا الكلام هو وجه من اجتهاد المؤلف رحمه الله، وليس بالضرورة أن يكون مناسباً الأخذ به، وربما ناسب أن يؤخذ به من جهة دون أختها، وهلم جرا.
قال: [ الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ] هذا الباب الثامن عقده المصنف لهذا المعنى، حيث أراد أن يفرق به بين البدعة وبين المصلحة المرسلة والاستحسان، والبدعة عُرف أنها مذمومة في الشريعة، ولما ذكر المصنف تعريف البدعة وأنها طريقة في الدين مخترعة، قال: وإنما ذكرنا هذا القيد وهو أنها مخترعة بمعنى أنه لا أصل لها، فإن ما له أصل لا يسمى بدعة، وإذا قيل: الأصل في هذه المسألة هو النص فهذا وجه بين، بمعنى أن ما فيه نص من نصوص الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن أن يتبادر فيه قدر من الإشكال ألبتة، ما دام أنه جاء فيه نص عن الشارع، وإنما الإشكال في ما يتعلق بالمصالح المرسلة وما يتعلق بالاستحسان، فهل ما كان من باب المصلحة المرسلة لا يعد بدعة؟ وما كان من باب الاستحسان لا يعد بدعة؟
الجواب المجمل أن نقول: نعم، إنه لا يكون كذلك، ولا سيما عند من يعتبرون الاستحسان في الاستدلال أكثر من غيرهم.
انطلق المصنف رحمه الله من هذا المبدأ أن ما كان من المصلحة المرسلة، وما كان من الاستحسان فإنه لا يكون بدعة؛ يقول: لأننا إذا رجعنا إلى معنى البدعة، وقد عرفها في الباب الأول أنها طريقة في الدين مخترعة، وقال: إن المخترع ما لا أصل له، فيقول: إن الاستحسان أصل على أقل تقدير عند قوم من أهل العلم كما هو معروف في حكاية الخلاف فيه، والمصلحة المرسلة هي أصل كذلك عند قوم من أهل العلم بمعنى أنه وجه من الاستدلال، فبهذا لا يسمى هذا الأمر الذي هو من المصلحة المرسلة أو من الاستحسان بدعة.
ما يتعلق بالمصلحة المرسلة وكلام الفقهاء وأهل الأصول في قدرها ورتبتها، المعروف أن المصلحة المرسلة والاستحسان تسجل في كتب أصول الفقه ضمن الأدلة المسماة بالأدلة المختلف فيها، فإذا تكلموا عن الاستحسان مثلاً فإنهم يذكرون ترك الشافعي له، ويذكرون اتخاذ أبي حنيفة و مالك له.
وأريد أن أنبه إلى أني لست بصدد تفصيل مسألة الاستحسان أو المصلحة المرسلة، ولكني أريد أن أنبه إلى أن المعنى الذي حصل فيه التنازع في باب المصلحة المرسلة أو حصل أكثر منه فيما يتعلق بالاستحسان قدر من هذا المعنى -فيما يظهر لي من كلام أهل العلم وتطبيقات المتقدمين منهم وخاصة تطبيقات الصحابة الموجودة في كتب المصنفات- لا نزاع فيه بين أهل العلم.
فإذاً: ما حكي في مذهب الشافعي رحمه الله من ترك الاستحسان، بحيث صارت تذكر على أنها خلافية بين الشافعي و أبي حنيفة و مالك ، فهذا الخلاف قدر منه يعود إلى صور انتظم اسمها باسم الاستحسان، فصار يحكى أن مادة الاستحسان كمعنى شمولي فيه هذا القدر من الخلاف، مع أننا إذا رجعنا إلى تحقيق المسألة وجدنا أن قدراً من معنى الاستحسان، وأن قدراً من معنى المصلحة المرسلة متفق على اعتباره وتطبيقه، وإن كان من يطبقه لا يسميه استحساناً، فأراد خلق من أهل العلم ألا يجعلوا ضمن الدليل ما يستحسنه المجتهد بنظره، فيكون هذا كالدليل الذي يطرد؛ ولهذا قال من قال: (من استحسن فقد شرع)، حتى لا ينتظم دليل، وكأنه دليل العقل ليحكم في هذه المسائل، لكن من المعلوم أن القياس هو وجه من استصحاب حكم العقل، فالعقل يحكم على الفرع بمساواته لحكم الأصل، فهذا استصحاب للحكم الذي العقل متضمن في ماهيته.
فإذاً: الذي أريد أن أصل إليه كنتيجة هنا أن ندرك أن قدراً من الاستحسان مطبق في سائر المذاهب الأربعة، وفي كلام عامة أهل العلم؛ لأنه مما أقرته الشريعة، ومما درج الصحابة على اعتباره، وتشهد له الأصول، ومن باب أولى ما يتعلق بالمصلحة المرسلة.
بقي بعد ذلك أن يتحول هذا التطبيق إلى ترتيب أصل له اختصاصه وله استقلاله يسمى بالاستحسان، ويطرد كثيراً، فهذا هو الذي وقع في حكايته الخلاف، فتكون النتيجة: ليس كل ما تضمنه الاستحسان من المعنى فيه خلاف، بل قدر منه معتبر في التطبيق، وإن كان من يطبقه قد لا يسميه استحساناً، وأنا أرى أن ما سمي بالأدلة المختلف فيها لك أن تقول: إن أكثرها حصل الجدل في اعتباره كدليل مختص، مثل القياس حصل فيه شيء من الخلاف، خاصة ما أظهره أصحاب الظاهرية كـداود بن علي ، ثم جاء ابن حزم من بعده، وبعض أهل الحديث قيدوا القياس.
إذاً: المسألة تعود إلى التقييد، يعني مثلما صار بين الكوفيين والمحدثين، الكوفيون كـأبي حنيفة يعتبرون القياس كثيراً، والمحدثون لا نقول: إنهم يبطلون دليل القياس، وإنما نقول: إنهم يقيدون مادة القياس؛ لميلهم إلى بناء الحكم على جمع الأثر فيه، لكن هل لأحد أن يقول: إن المحدثين كانوا يبطلون القياس مطلقاً؟ لا، ومن حكى هذا عن المحدثين فقد أخطأ في حكمه، حتى من صرحوا بجمل مفصحة بترك القياس كـأبي محمد بن حزم فإنه وإن صرح بترك القياس كمصطلح، وصرح بترك القياس كدليل يستصحبه وينص عليه على أنه هو الدليل، إلا أنك إذا قرأت في فقه ابن حزم رحمه الله وجدت أنه يجري بعض الأحكام على تطبيق في الفهم عنده، هو في تسمية آخرين من أهل العلم قياس، ولا سيما أن قياس الشمول تتداخل بعض معانيه مع قياس التمثيل، لكن هذا يرتب بطريقة وهذا بطريقة، والنتيجة واحدة.
فمثلما يتعلق بعمل أهل المدينة، فإن مالكاً عُرف عنه الأخذ بهذا المعتبر من الدليل، فهل معناه أن غيره يتركون عمل أهل المدينة؟ لا، ربما اعتبروا في بعض الأحكام الترجيح في هذه المسألة، أو العمل على هذه المسألة؛ لتوارد عمل أهل المدينة النبوية عليه، لكن لا تجد أنه أصل مطرد، فكذلك ما يتعلق بالاستحسان والمصلحة المرسلة لا تفصل إلى هذه الدرجة على أنها أدلة خلافية، وأن الخلاف فيها متناه؛ وحينما تقول: النص هل هو دليل أو ليس دليلاً؟ النص شيء معين ولا خلاف فيه، لكن لما تذكر القياس فالقياس له مفهوم شمولي، وله حد أصولي معروف، وهو إلحاق الفرع بالأصل لعلة بينهما. هذا المفهوم الشمولي لم ينفك عنه فقيه من الفقهاء، لكن هل يسميه قياساً أو لا يسميه؟ درجة التطبيقات عنده بهذا المفهوم متسعة في فقهه أو محدودة في الفقه؟
هذا هو الكلام الذي هو واقع، أما أن فقيهاً لا يوجد عنده مفهوم القياس، قد يمكنه التجرد من مصطلحه، لكنه من حيث مفهوم القياس ليس هناك فقيه يستطيع أن ينفك عن مفهوم القياس من كل جهة، حتى الظاهرية -كما أسلفت- وقعوا في تطبيقات هي من القياس ولكن لا يسمون ذلك قياساً، هذا يعود إلى باب الاصطلاح.
ومثله المصلحة المرسلة، ما حدود هذه المصلحة المرسلة؟ فقد يتنازع أهل العلم في قدر منها، هذا أمر متحقق، ولكن المعنى الذي تتضمنه المصلحة المرسلة موجود فقهه وتطبيقه في سائر المذاهب، فمن هنا تكون النتيجة: أن ما انضبط أنه مصلحة مرسلة فإنه لا يكون من باب البدعة.
والإمام أبو إسحاق رحمه الله كأنه أراد أن يقول: إن البدعة ما خالفت الدليل، سواء كان الدليل من الأدلة التي تسمى في كتب الأصول بالأدلة المجمع عليها، وهي النص والإجماع، أو كان مختلفاً فيها، فإذا وجد في المسألة دليل، سواء كان هذا الدليل من الأدلة المجمع عليها، أو كان من الأدلة المختلف فيها فإنه لا يسمى الفعل بدعة؛ لأن له دليلاً، فإذا كان دليله القياس أو المصلحة المرسلة أو ما إلى ذلك مما سمي بالأدلة المختلف فيها فإن هذا لا يسمى بدعة، فعنده نتيجة أن البدعة ما خالف الأدلة المجمع عليها والمختلف فيها.
هنا سؤال يطرأ وهو: أن الأدلة المختلف فيها عند من لا يعتبر الاستحسان مثلاً أو أوجهاً منه، هل يحق له أن يسمي هذا الفعل بدعة؟
فيما يظهر أن هذا ما دام أنه على مادة الاجتهاد من الكبار من أهل العلم فإن المخالفة فيه واسعة، بمعنى الترك لهذا العمل، أو عدم استحباب هذا العمل، أو ما إلى ذلك، وأما أن يقال: إنه بدعة؛ لأنه لم يخرَّج على أصل يعتبره هذا الفقيه، وغيره يعتبره، فهذا فيما يظهر أنه أمر لا يسوء؛ لأننا أشرنا سابقاً إلى أن البدعة هي ما خالف السنن البينة، فأما إذا كان للشيء وجه من الاستدلال معتبر فإن هذا لا يسمى بدعة، وإلا لو جاز ذلك لساغ للظاهرية مثلاً أن يسموا كل ما خالف مذهبهم من أوجه القياس والنتائج الحكمية المبنية على القياس بدعة، والأمر لا شك أنه غلط من هذا الاعتبار.
إذاً: إذا كان ثمة دليل وإن كان مختلفاً فيه فما ينتجه هذا الدليل من الحكم في نظر أهل الاجتهاد فإنه يسمى فقهاً يرد عليه الصواب والخطأ، لكن لا يرد عليه أن يسمى بدعة، ويكون مذموماً ذماً مستصحباً له في سائر أحواله؛ لأن البدعة مذمومة في سائر مواردها، وأما الاجتهاد المعتبر فإنه ليس مذموماً، بل صاحبه مأجور كما هو معروف.
إذاً: أهم ما في هذا الفصل: أن البدعة ما خالف الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، فإن قلت: إني على مذهب لا يعتبر هذا الدليل المختلف فيه كالاستحسان، فيقال: يترك الناظر هذا الحكم ولا يستحبه، ولكنه لا يحكم عليه بكونه بدعة، بل يقول: إن هذا لا يظهر له دليل مسبق، مثلما إذا تكلمت عن فرع فقهي ولم ترَ له دليلاً، ولكنك وجدت أن مذهباً آخر من المذاهب المعتبرة استحب هذا الأمر، ورأى له دليلاً، فلا يجوز أن تحكم على المذهب الثاني بأنه استحب أمراً بدعياً؛ لأنه في نظرك لا دليل عليه، فما دام أنه في ضمن الأدلة المستصحبة عند المجتهدين من فقهاء هذه الأمة السالفين فهذا ليس هو البدعة، وإنما البدعة مجالها مخالفة السنن البينة، فما لا أصل له في الشرع لا نصاً ولا ظاهراً، لا بدليل صريح ولا بدليل دون ذلك؛ فهذا الذي يسمى بدعة، وأما إذا كان مبنياً على أصل شرعي معتبر عند أهل الاجتهاد وأهل العلم فإن هذا لا يسمى بدعة، وإن كان يدخله الصواب والخطأ باعتباره من الاجتهاد الممكن.
ثم ضرب المؤلف رحمه الله أمثلة لما هو من المصلحة المرسلة، فقال: ومنه جمع الصحابة للمصحف، واتفاق الصحابة على جعل حد الخمر ثمانين، مع أن هذا العدد في مسألة الخمر فيه خلاف في كتب الفقهاء، وذكر بعد ذلك أمثلة أخرى.
ثم نبه المصنف على معنى في المصلحة المرسلة أرى أنه من المعاني المهمة، يقول: [ وتبين لك اعتبار أمور: الأمر الأول: الملاءمة لمقاصد الشرع ] فهذا شرطه فيها أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع، وأما إذا كان الشيء ليس ملائماً لمقاصد الشارع فلا يجوز أن يسمى مصلحة مرسلة، قال: [ الثاني: أن عامة النظر فيها - أي: في المصلحة المرسلة - إنما هو فيما عُقل معناه ] أي: إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول، وعليه فلا مدخل لها في باب التعبدات، قال: [ الثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين ] هذه هي شروط المصلحة المرسلة:
أولاً: أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع.
ثانياً: أن تكون في أمر يعقل معناه، فالعبادات المحضة لا يدخلها باب المصلحة المرسلة، فمثلاً: لماذا الشارع أمرنا بصفة معينة في الوضوء، وبصفة معينة في الصلاة؟
يقال: هذه أمور تعبدية محضة، والمصلحة المرسلة لا تدخل في هذا الباب؛ ولهذا من استحب صفة من الصلاة، أو صفة من الذكر، أو صفة من الطهارة غير ما جاءت به الشريعة، وقال: هذا من باب المصلحة المرسلة، يمكن أو لا يمكن؟ هذا لا يمكن، بل هذا يكون بدعة؛ لأن المصلحة المرسلة تكون في أمر يعقل معناه، بمعنى أن الناظر يستطيع أن يدرك وجه تخصيص هذه الصفة، فإنها ليست من باب التعبد المحض؛ ولهذا قال المصنف: [ فلا مدخل لها - أي: للمصلحة المرسلة - في التعبدات ] أي: في التعبدات المحضة كصفة الصلاة، وصفة الصيام، وصفة الوضوء، ونحو ذلك.
الثالث: أن حاصل المصلحة المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج في الدين؛ ولهذا جمع الصحابة المصحف لحفظ الدين، وكتب العلماء السنة ودواوينها؛ لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يدخل في باب المصالح المرسلة.
ثم أشار إلى معنى من الفاضل أن يستوعبه طالب العلم، قال: [ لأن موضوع المصلحة المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ] قال: [ والتعبدات - أي: المحضة - من حقيقتها ألا يعقل معناها على التفصيل ] ما مراده بذلك؟ نعم ما شرعه الله لنا من صفة الصلاة والصيام ونحوه هو معقول المعنى، ومدرك المعنى، يقبله العقل، وتقبله الفطرة، هذا أمر ليس هو محل الإشكال، هذا أمر معروف ومستقر أن الشريعة في سائر مواردها موافقة للعقل وللفطرة، وموافقة لطباع النفوس الفاضلة، ولكن أراد بذلك أن التخصيص بالهيئات المعينة هذا أمر موكول إلى الشارع، لا تتدخل فيه العقول؛ ولهذا فإن المصلحة المرسلة لا يصح أن تدخل في العبادات المحضة من هذا الوجه، فإن موضوعها كما أشار الشاطبي هو ما عقل معناه.
ثم يذكر بعد ذلك المصنف ما يتعلق بالاستحسان، ويحكي أن فيه خلافاً قال: فيراه معتبراً مالك و أبو حنيفة بخلاف الشافعي فإنه أنكره، وعُرف الاستحسان بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، واستدل من استدل له بمثل قوله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]، الحقيقة أن من مشكلة بعض الأصوليين رحمهم الله أنهم حدوا الاستحسان بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، مع أنك إذا تأملت هذا فليس هناك أحد من فقهاء المسلمين يقول: إن المجتهد إذا وصل رتبة الاجتهاد جاز له أن يحكم بعقله الأحكام التشريعية، فيصير مرجعية مطلقة، فله أن يحرم وله أن يبيح، وله أن يحل، هذا لا يوجد في فقهاء المسلمين أبداً، إنما المقصود بـ(ما يستحسنه المجتهد) أنه يرى أن هذا من مادة الشريعة، إما طرداً لعموم، أو استصحاباً لأصل، أو قياساً، أو ما إلى ذلك، فلا بد أن هذا المستحسن لهذا الحكم -سواء سميته استحساناً أو لم تسمه- لا بد أن يكون عنده دليل معتبر أخذ منه هذا الحكم، وأما أن الاستحسان هو ما استحسنه المجتهد بعقله -أي: بمجرد خاطره العقلي- فإن هذا لا وجود له عند أبي حنيفة و مالك ، وليس هو الأمر الذي ينبغي أن يحكى الخلاف فيه؛ ولهذا أقول: إن ثمة تفاوتاً بين الفقهاء في اعتبار الاستحسان مثلما تفاوتوا في اعتبار العمل بالقياس، فنقول: إن أهل الكوفة أكثر عملاً بالقياس من أهل الحديث، وفيما يتعلق بأقوال الصحابة، فإن المحدثين أكثر عملاً بآثار الصحابة من أهل الرأي لأسباب علمية معروفة، فمثله الاستحسان مادته موجودة، أما أن الاستحسان هو ما رآه المجتهد بمجرد العقل والخاطر، فهذا لا وجود له لا في مذهب مالك ولا في مذهب أبي حنيفة ؛ ولذلك فإن بعض الأصوليين يقولون: إن مالكاً يقول: هو تسعة أعشار العلم. لكن أولاً هل صحت هذه الكلمة عن مالك أو لم تصح عنه؟ وإن صحت فإن مالكاً رحمه الله وهو إمام في السنة والأثر لا يمكن أن يكون المقصود عنده المعنى الذي أشار إليه بعض المتأخرين من أهل الأصول.
فإذاً: كنتيجة التصنيف الأصولي المتأخر لبعض هذه المسائل هو فيه نظر من جهة طريقة ترتيب الخلاف، أن الشافعي ينكر الخلاف جداً، و مالك يقول: هو تسعة أعشار العلم. وإذا قيل لهم: فما حد هذا الاستحسان؟
قالوا: ما استحسنه المجتهد بعقله. هذا كلام عام ومجمل.
ما معنى استحسنه بعقله؟ هل المقصود أنه توسط العقل في علاقاته بين دلائل الشريعة فأنتج حكماً، والحكم يكون مأخوذاً من دلائل الشريعة، فمن المعلوم أن الإنسان إذا لم يكن عاقلاً ويتسم بدرجة أكثر تميزاً من العقل ما صار مجتهداً؛ ولهذا المجنون لا يتصور أنه مجتهد، حتى بليد الذهن لا يتصور أنه يرقى إلى درجة الاجتهاد، ومعلوم أن العقل والذكاء له وجود، لكن لم يكن فقيه من فقهاء السنة يعتبر العقل المجرد دليلاً مستقلاً.. لا في مسائل الأصول ولا في مسائل الفروع.. لا في العلميات ولا في العمليات.. هو دليل تابع.. هو دليل مصدق.. هو دليل شاهد.. هذا يقع.. هو دليل يتوسط في نقل حكم إلى حكم آخر، مثلما قالوا في القياس: هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما. هذا يحتاج إلى آلة، لكن المعنى نفسه هو تشريع الله سبحانه وتعالى، أو تشريع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذاً: الحكاية في بعض كتب الأصول لقضية الاستحسان فيها مبالغة، الشافعي يقول: من استحسن فقد شرع. إنكاراً منه وإغلاقاً لمادة الاستحسان، ويحكون عن مالك أنه يقول: هو تسعة أعشار العلم. مع أننا إذا رجعنا إلى كلام مالك و الشافعي لم نجد بينهما ذلك الانفصال الواسع في العلم، فكلاهما إمام من أئمة السنة، وكلاهما إمام من أئمة الأثر والحديث، وكلاهما إمام في الأخذ بالآثار، وكلاهما إمام في اعتبار فقه الآثار، فليس محدثاً مطبقاً على الحديث، أو منصرفاً إلى جمع الرواية ولم ينقل له فقه، كلاهما له فقه معروف، وله فقه متبوع أيضاً، فلا أظن أن المسألة بهذا القدر، وبعض المتكلمين من أهل الأصول لما حكوا الاختلاف فيما سموه الأدلة المختلف فيها بالغوا في فصل العلاقة بين هذه الأدلة عند الأئمة المتقدمين كـمالك و الشافعي ، صحيح أن مالكاً أكثر تحريراً لهذه المسألة، لكن لك أن تقول: إن الشافعي يدخل على معانٍ في اللغة - وانظر هذا في كتاب الأم - ويرى أن هذا الحكم منتج من هذا الدليل بفقهه للسان العرب، بطريقة لا نجد أن مالكاً يستعملها بهذه الكثرة، فيكون مالك رحمه الله أكثر ظاهرية مع النصوص من الشافعي ، و الشافعي يولد فقهاً بحسب أساليب العرب، ومالك رحمه الله يولد فقهاً بحسب دلالة القياس ودلالة العقل على مقتضى هذا الحكم من النص، أي: تستخرج الأحكام من النص بتأثير أو باستصحاب آلة القياس وآلة العقل، و الشافعي باستصحاب اللغة أكثر، وفي الأخير لا تقول: إن الشافعي يبني الحكم على لغة العرب، لأن اللغة ليست مصدر تشريع، وإنما هي اللسان والآلة التي يُفقه بها نص التشريع؛ لأن التشريع من كلام الله ورسوله نزل بلسان العرب، ومثله مالك رحمه الله إذا استعمل هذا وهو النظر في الأدلة، فهذا النظر ليس هو النظر العقلي المجرد، وكلام الأئمة رحمهم الله في ترك النظر العقلي المجرد معروف ومحفوظ.
إذاً: الحكاية لموضوع الاستحسان أرى أن فيها قدراً من المبالغة في صفتها أصلاً.
ننتقل إلى الباب الذي بعده، وهو الباب التاسع، يقول فيه المصنف: [ السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة أهل السنة ]، يتكلم عن الاختلاف في الدين، ولماذا حصل الافتراق في طوائف المسلمين، ويذكر الحديث المروي في هذا الباب، وهو حديث مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء من حديث أبي هريرة و أنس وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ) ، وهذا الحديث ليس مخرجاً في الصحاح المتفق عليها كصحيح البخاري أو صحيح مسلم ، يعني: ليس هو من الأحاديث المطبق على صحتها، لا من جهة استفاضة صحته عند الأئمة، ولا من جهة كونه مخرجاً في الصحيحين أو في أحدهما على أقل تقدير، بل هو حديث جاء في السنن، ومن حيث الرواية بعض الحفاظ قواه واعتبره وصححه، وهذا هو المشهور فيه، ولكن من باب الفهم العلمي والإشارة العلمية فإن بعض الحفاظ تكلم في صحة هذا الحديث.
جعل المصنف تحت هذا الحديث ستاً وعشرين مسألة، سأقرؤها على سبيل الاختصار، ولكن هذا الحديث سواء قيل بصحته، أو قيل: إنه ضعيف؛ لأنه ليس بمحفوظ، أو لأي سبب من أسباب الضعف، هل هذا الحديث أفاد حكماً مختصاً من جهة الأحكام الشرعية على مسألة افتراق الأمة؟
لو رجعنا إلى جمله ووقفنا معها لوجدنا أنه ما اختص بمعنى إلا معنى واحداً، وهو أن العدد في فرق هذه الأمة هو على هذا القدر، أنها ستفترق على ثلاث وسبعين، وأما قوله من أوله: ( افترقت اليهود ) فافتراق اليهود أمر معروف في القرآن، ومعروف في السنة، ومعروف حتى في كتب اليهود، ( وافترقت النصارى )، أيضاً افتراق النصارى أمر معروف ومشاهد وقائم، والشيء إذا كان مشاهداً لست بحاجة إلى أن تقول: ما الدليل على وجوده؛ لأنه أقل ما يستدل على وجوده بوجوده، هذا هو المنطق البسيط، فافتراق النصارى موجود في التاريخ، وظاهرة قائمة في التاريخ لا أحد ينكرها إلى الآن.
إذاً: (افترقت اليهود) (وستفترق هذه الأمة) أيضاً افتراق هذه الأمة المحمدية أمر موجود، هناك طوائف تقاتلت، وهناك طوائف كفر بعضها بعضاً، وهناك طوائف بدعية اشتغلت بمادة الافتراق والتكفير والتبديع وما إلى ذلك، هذا موجود، وتجد أن أئمة السنة والجماعة حكموا على بعض هذه الطوائف بالضلال والبدعة، هذا أمر معروف، فالخوارج خرجوا على علي بن أبي طالب ، والمعتزلة اعتزلت، والجهمية والقدرية إلى آخره، هذا أمر لا أحد يستطيع إنكاره؛ لأنه جزء من التاريخ القائم المشاهد، وأيضاً في الحديث المحفوظ والمنضبط صحة بل هو متواتر، حيث جاء من رواية بضعة عشر صحابياً قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم )، فهذه الأمة فيها هذه الطائفة، فهذا يدل على وجود هذا الاختلاف.
إذاً: هذا الاختلاف ليس هو تشريع بمعنى أننا نبحث عن هذا الاختلاف، أو نحاول أن نوجده، أو نتكلف في وجوده، ولكنه جزء من قدر الله سبحانه وتعالى، وأنا أشرت سابقاً لما ذكر المصنف في مقدمة الكتاب: ( بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ ) ، وهذا حديث ثابت في صحيح مسلم من غير وجه، وحديث: ( بدأ الإسلام غريباً ) وحديث افتراق الأمة، وأحاديث الفتن والملاحم في آخر الزمان، فيها فقه، ما هو هذا الفقه؟
أن هذا من باب الحقيقة القدرية، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ ) هذا ليس تشريعاً من النبي صلى الله عليه وسلم للغربة بحيث أن الإنسان هو الذي يصنع الغربة ويعتزل، ويكون عنده عزلة شعورية بالغربة، وما إلى ذلك من استصناع الشيء، لا. هو خبر قدري، ومثله لما قال: ( لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ) هذا خبر عن القدر الذي قدر الله عز وجل حكمة منه سبحانه أنه سيقع.
إذاً: ما هو المنهج مع هذا القدر عند وقوعه؟ بين لك الشارع هذا وهو الاستمساك بالسنة والهدي الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، فإذاً هذا الحديث من هذا المعنى.
نعم تضمن هذا الحديث العدد، وأما المعنى وهو الافتراق العام، فهو ذكر لحقيقة من حقائق القدر، وليس من باب التشريع؛ لأن الله أمرنا بالاجتماع والاتفاق، ونهانا من التفرق والشتات: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، فهذا هو الشرع، وهذا الافتراق في الحديث خبر قدري: ( وستفترق هذه الأمة ) هذا من أخبار القدر، لكن الشرع هو قول الله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
فإذاً: لا ينبغي لطالب العلم أن يتكلف في صناعة الافتراق، أو صناعة الغربة، أو صناعة هذه المعاني القدرية؛ لأنه إذا قدر الله وقوعها فستقع، وليست هي مما يستعجله آحاد الناس.
قد يقول قائل: إن الحديث في آخره: ( كلها في النار إلا واحدة ) يقال: أولاً: هذه الرواية فيها كلام معروف، ولو قيل بثبوتها فتكون من جمل الوعيد العامة التي لا تستلزم الحكم على الأعيان، مثل قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء:14]، ولا تقول الآن: إن كل من عصى الله فإنه يحكم عليه بهذا الوعيد، بل هذا تحت مشيئة الله؛ ولهذا نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن قوله: ( كلها في النار ) هي من جمل الوعيد العامة، كأي وعيد جاء في القرآن، فهو معلق بعلم الله وحكمته ومشيئته.
فالمصنف على كل حال يقول: [ الاختلاف في أصل النحلة كاليهود والنصارى والمجوس ] هو يقسم الخلاف إلى ثلاثة أوجه: الخلاف في أصل الدين والنحلة، أي: أصل الانتساب للإسلام من عدمه، كاليهود والنصارى والمجوس، ثم يقول: [ الوجه الثاني: الاختلاف في الظنيات ]، ويقصد بالاختلاف في الظنيات مثل اختلاف الفقهاء الأربعة في مسائل الفقه، ثم يذكر الثالث من أوجه الاختلاف فيقول: [ وهو وسط بين الرتبتين أن يقع الاتفاق في الأصل ] أي: في أصل دخول الإسلام [ ويقع الاختلاف في بعض قواعده أو أصوله الكلية ] وهذا هو الذي وقع بين طوائف المسلمين فيما هو معروف عند أهل السنة والجماعة ومن خالفهم في هذا الباب من طوائف أهل البدع.
ثم يذكر المصنف: أن الاختلاف له أسباب، إذاً الاختلاف الموجود عند المسلمين في الوجه الثاني والثالث، أما الأول فلا وجود له؛ لأنه يقول: الخلاف في أصل الدخول في الإسلام، فإذاً: الذي يوجد عند المسلمين إما اختلاف في أمور ظنية مقبولة الخلاف وواسعة الخلاف، كالمذاهب الفقهية فهذه أمرها واسع، وهذا الاختلاف في الجملة قدر من رحمة الله، وإن كان إذا قيل: الخلاف رحمة. فليس هو رحمة من حيث التشريع، بل هو رحمة من حيث الواقع القدري، الذي أصبح جزءاً من رحمة الله لعباده المسلمين؛ لأنهم ما اعتمدوا على رأي مجتهد واحد، لكن هو من حيث التشريع لا يشرع للمجتهدين أن يقصدوا الخلاف، فكل ما اتفق المجتهدون على رأي فإنه أضبط ديانة وأحكم علماً.
يقول: [ وهذا الاختلاف له أسباب ] يعني: الاختلاف الذي هو بين السنة والبدعة.
يقول: [ الأول: أن يعتقد الإنسان في نفسه، أو يُعتقد فيه من غيره أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين، فيعمل بذلك، ويكون له رأي، وهو ليس كذلك ] يتكلم المصنف الآن في موضوع من أخص الموضوعات أهمية، يقول: كيف نشأت البدعة عند المسلمين؟ وما أسبابها؟ فالبدعة تكلم بها الرجال، وتكلم بها الناس، فمثلاً هذه البدعة أصلها منسوب للجهم بن صفوان ، وهذه لـغيلان الدمشقي ، و معبد الجهني ، وفلان وفلان، لماذا تكلم الناس بالبدعة والقرآن موجود والسنة موجودة؟ يقول: هناك أسباب أخصها أربعة، قال: السبب الأول أن يعتقد المتكلم في نفسه أنه وصل رتبة الاجتهاد، أو يُعتقد فيه من الجمهور الذين حوله فيؤهلونه ويتعاملون معه كأنه وصل إلى رتبة الاجتهاد، فيجعلونه مرجعية علمية لهم، فتجد أنهم يرجعون إليه في الصغيرة والكبيرة من المسائل، فتنطبع نفسه بهذه الحال، فيكون مستقبلاً لهذا التوجه الذي ابتلاه به الجمهور المحيط به، إما من العامة، أو من جماعة له، أو من أي سبب من هذه الأسباب، فيبقى متكلماً ومفتياً في الكليات، وفي الفروع، وفي الأصول، وحقيقته العلمية أنه ما وصل رتبة الأهلية والكفاءة العلمية لأن يكون مجتهداً، يقول: فهذا هو من أكثر ما يسبب نشوء البدع؛ لأنه يبدأ يفتي أو يتكلم في مسائل هو ليس فيها بفقيه، وليس هو فيها بأهل، فيقول فيها، فيعتبرها الجمهور عنده فتكون بدعة في الدين، وتجري على اعتبار العامة، وكأنها من السنن ومن العلم المحكم، وهذا يحكمه قول الله جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] ، وذكرت فيما سبق أن ثمة أصلين شريفين في العلم: أن الله نهى عن كتمان العلم، ولكن مع هذا فقد نهانا عن القول بغير علم، فلا ينبغي لطالب العلم أن يتقدم ويقول الفتيا بغير علم حذراً من كتمان العلم، لا، فالله نهى عن كتمان البينات إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [البقرة:159] معناه: إذا كان الشيء بيناً وبيّن الهدى فهذا هو الذي لا يجوز كتمانه، بل وكتمانه من أشد الموبقات؛ لأن الله أخذ الميثاق على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه، ولكن ما ليس من البينات وإنما هو قدر من التخرص فإن كتمانه والسكوت عنه هو الأصل؛ لأن الله جل وعلا يقول في ذكر غير المسلمين: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23] ، فالعبرة هنا بهذه المادة.
إذاً: هذا سبب شريف، وينبغي لطالب العلم أن يعتبره، وينبغي للعاقل حتى من الشيوخ أن يكون مدركاً لهذه المعاني، وأن العامة لا ينبغي أن يعتبر قولهم في هذه الأمور وخاصة من أهل العلم؛ ولهذا الفقيه والعارف بمسائل العلم لا تطغى عليه نفوس العامة فيقول على الله جل وعلا بغير علم؛ ولهذا من العقل والحكمة أن الإنسان مهما علت رتبته إذا عرضت له مسألة لا يعرف فيها علماً بيناً فعليه أن يقف عن القول فيها، وأن يكل الأمر إلى الله جل وعلا، أو أن يرد الطالب أو السائل إلى غيره من أهل الاجتهاد وأهل العلم، فإن أهل العلم يتفاضلون، وهذا التفاضل لا يوجب نقص الأول؛ لأن غيره قد يفضله في هذه المسألة، وهو يفضل غيره في غيرها من المسائل.
قال: [ السبب الثاني: اتباع الهوى ] وهذا لا يخلِّص الإنسان منه إلا العناية بالإخلاص لله، فإن من اعتنى بحفظ مقام الإخلاص، والتدين لله جل وعلا، وسؤال الله سبحانه التوفيق والتسديد، فهذا وجه من التدين، وهذه ليست مقدمات علمية يحفظها الإنسان من كتاب أو غيره فإذا حفظها لم يكن متبعاً لهواه، لا. بل هذا دين في قلوب الناس؛ ولهذا تقواه سبحانه وتعالى والإخلاص له هو الذي يعصم من اتباع الهوى، ومن أخص ذلك المداومة على الاستعانة بالله؛ ولهذا شرع للمسلمين أجمعين أن يقولوا في صلاتهم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإن العبادة إذا لم يستصحب معها مقام الاستعانة صار فيها قدر من الضلال والخطأ، وهو أن يختص الإنسان بنفسه، وأن يتكبر بنفسه، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الدعاء المعروف في صلاة الليل: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ) إلى آخر الدعاء، ثم يقول: ( اهدني لما اختلف فيه من الحق؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) ، وقد سبق ذكر هذا الدعاء من رواية عائشة .
قال: [ الثالث: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت وإن كانت مخالفة للحق ] العوائد قد تكون عوائد مما يسمى في المصطلح المعاصر بالعوائد الاجتماعية، أحياناً تكون عوائد دينية موجودة عند بعض السالكين أو بعض العابدين، مثل بعض جماعات الصوفية، يقولون: هذا من عوائد الشيوخ، أو هذا من رسوم الشيوخ، أو ما إلى ذلك، فالاتخاذ للعوائد وتعظيم العوائد هذا نقص في التدين لله جل وعلا، صحيح أن العادة معتبرة في الشرع، والعرف معتبر في الشرع، ولكن غلبة العوائد على الشريعة، وهيمنة العوائد على فهم الشريعة، هذا لا شك أنه وجه من الضلال، فإن الشريعة لما جاءت ما أرادت من الناس أن ينسلخوا من عوائدهم وأعرافهم، ولكن الشريعة جاءت مهيمنة؛ ولهذا وصف الله القرآن بالهيمنة، أي: أنه هو الذي يهيمن على غيره، فهو الذي يبين به الحق؛ لأنه كتاب محفوظ ولم يدخله تحريف، فكذلك الشريعة إذا نظرت إليها، وأخذتها على أنها هي التي تهيمن على العوائد، بمعنى تصلح ما فسد منها، وتزيد الصالح صلاحاً، وتهذب هذه العوائد، فهنا يكون الجمع بين الشريعة والعوائد جمعاً ممكناً صحيحاً، وأما الذي يقع فيه الغلط فهو بأن تجعل العوائد هي التي تهيمن على النص، ومن صور هيمنة العوائد على النص: تفسير النص من خلال هذه العوائد الاجتماعية، وهذا لا يجوز، فالنص هو الذي يهيمن على المجتمع، وليس المجتمع هو الذي يهيمن على النص؛ لأن النص هو الحاكم، والمجتمع بعوائده محكوم، وهذه المسألة مهمة في الفقه؛ ولهذا نقول: العوائد معتبرة، والعرف معتبر، ومن الفقه في الدين اعتبار العرف كما قال جماعة من أهل العلم، ولكن الهيمنة والحكم هو لكلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ومما جاء في كلام الله ورسوله هو الرفق بالناس، والإقرار لما هم عليه من العوائد الحسنة، وإصلاح ما فسد من عوائدهم وتهذيبها، هذا هو الصحيح.
ثم قال: [ وهذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد؛ وهو الجهل بمقاصد الشريعة ].
ثم بعد ذلك يدخل المصنف في شرح حديث الافتراق، ويذكر فيه ستاً وعشرين مسألة، فيقول: ما حقيقة الافتراق؟ وهل أهل هذه الفرق خارجون عن الإسلام؟ وأجاب بأنهم ليسوا خارجين عن الإسلام في الجملة، وإنما هم من أهل الوعيد.
وعلى كل حال فلا يجوز أن يقال: إنهم خارجون عن الإسلام بمعنى أن يُكفر المبتدع، فإن إطلاق الكفر على أهل البدع كما قال شيخ الإسلام : لم يُعرف عن أحد من السلف، وإنما قاله بعض المتأخرين، وهناك طوائف غلت من أهل البدع، ووصلت إلى رتب من الغلو كغلاة القدرية ونحوهم، فهؤلاء هم الذين تُكلم فيهم بمادة أغلظ، لكن كنتيجة عامة هناك تقسيم ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله في شرح حديث الافتراق في المجلد الثالث من فتاويه سوف أشير إلى محله وممكن الرجوع إليه.
ثم يذكر المسألة التي بعدها: هل الوعيد في هذا الحديث يختص بالبدع العقدية، أم حتى البدع العلمية، ويرى الشاطبي أنه شامل لكلا النوعين، ثم يذكر المسألة الخامسة: متى يُطلق على جماعة أنها مخالفة للفرقة الناجية، وذكر أنه لا بد أن تخالف فيما هو كلي، وهذا المعنى في الجملة صحيح، وإن كان يحتاج إلى تفصيل، ثم يتكلم في المسألة السادسة عن تعيين هذه الفرق، فيقول: إن بعضاً من المتأخرين من العلماء عينوها، ثم يقول: والصواب أنه لا يُدخل في تعيينها، وهذا الذي قاله واختاره رحمه الله هو المنهج الصحيح، والحق أنه لا يجوز الاشتغال بأسماء هذه الطوائف حتى تنتهي إلى ثنتين وسبعين؛ لأننا إذا نظرنا في التاريخ الإسلامي الذي انصرم وجدنا أن وصول هذه البدع لا تصل إلى هذا العدد، وإذا اعتبرنا تفصيلها زاد عن العدد كثيراً، فمثلاً: من هذه الطوائف المرجئة هي طائفة واحدة فهذا معنى، ولكن المرجئة كما قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته: إنهم ثنتا عشرة طائفة أو فرقة، فهذا يدخله الإجمال فيقصر، أو التفصيل فيزيد، هذه من جهة.
ومن جهة ثانية أن الأئمة ما اشتغلوا بهذا السبر والجمع والحصر.
ومن جهة ثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة ستفترق، وهذا لا تناهي له، بمعنى أنه يمكن أن فرقاً ما لم تحدث بعد، ويمكن أن فرقاً مما هي مرادة في هذا الحديث لا تكون قد حدثت، وعليه فالاشتغال بهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هو من القول بغير علم. وإنما تعرف السنة ومن خالفها معرفة مجملة، وإذا نسبت الطوائف إلى أعيان معروفين فهذا أمر واسع، لكن الكلام هنا في سبر هذا العدد الذي جاء في الرواية.
قال: المسألة السابعة في علامات هذه الفرق، وذكر من علاماتهم أنهم متفرقون، والله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام أمرا المؤمنين بالاجتماع، كقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
يقول: ومن علاماتهم أنهم يتبعون المتشابه؛ ولهذا صاحب السنة يتبع المحكم، ويرد المتشابه إلى المحكم، ولا ينبغي القول بأنه يُترك المتشابه؛ لأنه ما من شيء من القرآن إلا وهو حق، ولكن الحكمة هنا أنه يرد المتشابه إلى المحكم، قال: والثالث: أنهم يتبعون الهوى، ثم يذكر بعدها المسألة فيقول: اختلاف الروايات في عددها، وأجاب بأن الروايات قد اختلفت في عدد هذه الفرق، أهي ثلاث وسبعون أو دون ذلك؟ وهذا أمر - كما أسلفت - لا نتيجة له ضرورية في العلم، فما يثبت منه يُحفظ، وما يكون في ثبوته نظر يترك.
يقول: هل في فرق اليهود والنصارى فرقة ناجية؟ هذا السؤال لا علاقة له بهذا الباب الذي نحن فيه، فقد بحثه الشاطبي وحاول أن يجيب عليه، مع أنه مما يُعرف أن التحريف قد دخل في كتبهم، وأن شريعتهم نسخت ببعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول: المسألة الحادية عشرة: هل الوعيد أبدي؟ وهذا أيضاً متعلق بالتكفير، وسبق أنه لا يطلق القول بالتكفير إلا فيما اختص بالأوجه الغالية التي انضبط عند عامة المسلمين أنها كفر، فهذا مقام آخر.
ننتهي بعده إلى الباب العاشر وهو آخر باب عند المصنف، وأراد منه المصنف بعدما ذكر الافتراق في الباب التاسع والفرق وما إلى ذلك، قال في الباب العاشر: [ في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه أهل البدع فضلت عن الهدى بعد البيان ]، أراد هنا التنبه على الصراط المستقيم.
وقال: إن البدعة في الدين حدثت بسبب النقص في أحد جهات أربع، يقول: الجهة الأولى: الجهل بلسان العرب، الجهة الثانية: الجهل بمقاصد الشريعة، الجهة الثالثة: تحسين الظن بالعقل، الجهة الرابعة: اتباع الهوى، فيرى أن الإحداث في الدين والبدعة في الدين تتولد عن هذه الجهات الأربع، إما الجهل بلسان العرب، وإما الجهل بمقاصد الشريعة، وإما تحسين الظن بالعقل، وإما اتباع الهوى، ولا شك أن هذه الجهات الأربع معتبرة، وإن كان ينبه في مسألة العقل إلى أنه يُعرف أنه لا تعارض عند التحقيق بين الشرع والعقل، ولا تعارض بين النقل والعقل؛ ولهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله لما أراد أن يجيب عن قانون المتكلمين في فرض التعارض بين العقل والنقل سمى كتابه: (درء تعارض العقل والنقل) أي: نمنع القول بتعارض العقل والنقل، وهذا هو الجواب الصحيح، أن يقال: لا تعارض بين العقل والنقل، وأي عقل عارض النقل فيُعرف أنه عقل يختص بصاحبه، لا يُعتبر عقلاً لكل الناس، أو عقلاً لسائر أهل العقل، أما العقل الذي يتوارد العقلاء عليه ويجتمعون عليه فهذا لا يمكن أن يفرض فيه صورة تُعارض النقل؛ ولهذا مثلاً عندما تجتمع المعتزلة على دليل من العقل، وتقول: إنه عارض النقل، فيقال: أول إشكال في هذا الدليل أنه ليس دليلاً عقلياً؛ لأنه لو كان دليلاً عقلياً لاشترك في قبوله سائر العقلاء، في حين أنك تجد أن أهل السنة والحديث يبطلونه، وتجد أن متكلمة الصفاتية يردونه، ويقولون: هذا ليس من دليل العقل.
إذاً: التعارض بين العقل والنقل إنما هو من حيث هل هذا دليل عقلي أو ليس بدليل عقلي، وأخص مثال لضبط الدليل العقلي هو الدليل الذي يسلم به حكماء العقلاء، فإذا كان الدليل يتفق عليه في الجملة حكماء أهل العقل، ونظار أهل العقل الذين يدركون لتراتيب العقل، فهذا يكون دليلاً عقلياً، أما أن تختص طائفة بدليل وتسميه دليلاً عقلياً وتجعله معارضاً للشرع، فهذا من باب التخرص في المقدمات العلمية.
فإذاً: مسألة العقل ينبغي التوسط فيها؛ لأن أهل السنة وسط بين منهجين: المنهج الأول الذي أسقط العقل، واطرحه اطراحاً كلياً، وبنى على الذوق والتخرصات والمنامات وأشياء من هذا القبيل، وبين منهج غلا فاعتبر دليل العقل وجعله معارضاً للنقل.
فأهل السنة وسط في اعتبار دليل العقل، وأن العقل ليس دليلاً مختصاً، وليس دليلاً مستقلاً، وإنما هو شاهد وأداة ووسيلة للاعتبار والفهم وما إلى ذلك؛ ولهذا تجد في فقههم القياس والاستحسان وما إلى ذلك من الأمور التي لها محل نظر باعتبار دليل العقل، وتجد في مسائل أصول الدين أنهم يحتجون بأوجه من النظر الشرعي والنظر العقلي الذي لا يبنى عليه ثبوت الديانة والأصول، وإنما يكون شاهداً مجامعاً لنصوص الكتاب والسنة، كما استدل الإمام أحمد على إثبات علو الله بالعقل، فإن علو الله جل وعلا معروف بدلائل الشريعة، ومعروف بالفطرة، ومعروف بدلالة العقل، وهلم جراً.
هذا قدر من هذه التلخيصات لهذه الأبواب في آخر كلام أبي إسحاق ، وبعد ذلك نقول إشارة مختصرة إلى أن هذا الكتاب (الاعتصام) لـأبي إسحاق الشاطبي يعد من أجود كتب أهل العلم وأفضلها، ومؤلفه رحمه الله اعتنى به، وأراد أن يجمع فيه مادة ونظاماً يكون لطالب العلم في فقه الاعتصام بالسنة، والفرق بين السنة والبدعة، وتضمن كلامه في جملة من الفقه وجملة من الإشارات العلمية الفاضلة، ولكن لا ينبغي أن يغلى في هذا الكتاب أكثر من هذا، فيجعل ميزاناً للفرق بين معاني السنة ومعاني البدعة، أو تطرد اختيارات المصنف فيه، أو يفرض على أنها منهج عام في كل موارده لسائر العلماء، أو لسائر أهل السنة ، فإن ما في هذا الكتاب قدر منه معروف محفوظ بالإجماع، وقدر منه هو رأي معروف لطائفة من الفقهاء، وقدر منه عند التحقيق من اجتهاد الشاطبي، فهذا فيما يظهر لي هو الوسط عند طالب العلم الفقيه في اعتبار أمر هذا الكتاب الذي اعتنى فيه المؤلف، وإلا فعليه مآخذ كما أسلفنا في بعض المسائل المتعلقة بالأصول كمسألة التحسين والتقبيح، وتأويل الصفات من حيث القول بالتفويض، هذه مسائل مما أُخذ على الشاطبي فيها أخذاً بيناً، لكن في المادة العامة على الكتاب وهي مسألة السنة والبدعة، والفرق بين أوجه السنن والبدع، وضابط البدعة، والعادات والعبادات، وهذه الأمور التي حاولنا أن نتعرف عليها، أو أن نتحدث معها في هذه المجالس العشرة، هذه المعاني ينضبط فيها أنها ثلاثة أقسام:
قسم منه من العلم المحكم المتفق عليه، أو متفق عليه في الجملة على أقل تقدير.
وقسم منه هو مما اختلف العلماء فيه.
وقسم منه هي من إشارات الشاطبي التي اختص بها.
بمعنى: أنه عني بالتنبيه عليها، والقسم الأول كما هو مستقر محل قبول واعتبار، والقسم الثاني محل اختيار ونظر، والقسم الثالث كذلك محل اختيار ونظر، فهذا هو المنهج الوسط؛ لأني أرى بعض طلاب العلم بالغوا في إسقاط رتبة هذا الكتاب، وأنه فيه بدع، وفيه غلط في الصفات، وفيه كذا، صحيح أن فيه غلطاً في موضوع الصفات، وفيه مسألة التحسين والتقبيح، والمصنف متأثر كثيراً بطريقة متكلمة الصفاتية من المتأخرين، هذا أمر معروف، ولكن المصنف حريص على السنة واعتنى بها، ولكنه أراد رحمه الله أن يعطينا نظرية -وهذا يبدو لي من إشكاليات الكتاب- أشبه ما تكون في التعبير بالنظرية الرياضية، التي بها تعرف أن هذا سنة وهذا بدعة، مثلما تقول في الرياضيات: واحد زائد واحد يساوي اثنين، هذا قانون رياضي لا يختلف، والموضوع ليس هو موضوع السنة ومعناها، والبدعة، والتفريق بين السنن والبدع، والتبديع، ومتى يبدع ومتى لا يبدع؟ الموضوع ليس موضوع نظرية حرفية، الموضوع موضوع فقهي، بمعنى أن صاحبه لا يفقه هذا الموضوع إلا إذا كان مستقرئاً للشريعة؛ ولهذا المصنف لما أشار لأسباب ظهور البدع، وقال: الجهل باللغة، والجهل بكذا، والجهل بالمقاصد.
أنا أقول أيضاً: مما كان ينبغي للمصنف أن يؤكد عليه: أن من أخص أسباب ظهور البدع هو الجهل بالسنن والآثار؛ ولهذا أئمة أهل البدع ليسوا أهل رواية وأهل حديث، ولا ممن عرفوا بجمع الرواية؛ لأن من جمع الرواية والآثار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم عن صحابته بان له مجمل القرآن، وبان له فقه القرآن؛ لأن هذا القرآن -كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه- حمال وجوه، فتفصيل كثير من مجمل القرآن هو موجود في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا المجمل من القرآن يفصله سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والهدي الذي سار عليه الخلفاء الراشدون، فالنتيجة أن هذا الموضوع أصلاً لا يقبل النظرية الرياضية الكاملة، حتى يكون الإنسان يقول: نمشي على هذا النظام، وعلى هذا المنهج، لا هو يعطينا تقريباً للموضوع، أما من أراد فقه موضوع السنة ومعناها، والبدعة ومعناها، ودرجات البدع، وما إلى ذلك، فهذا لا يفقهه إلا من استقرأ الشريعة، واستقرأ نصوص الكتاب ونصوص السنة، واستقرأ الآثار، واستقرأ كتب السلف والأئمة والفقهاء، وعرف قواعد الفقه، وما هو السائغ في الاستدلال، وما هو المنكر في الاستدلال، وما هو الممكن في الاستدلال، وهلم جرا، فهذا موضوع فقهي استقرائي مطول، وأما فرض نظرية فيه تكون ميزاناً فهذا لا يستطيعه أحد، ولا يمكن لأحد أن يتنبأ به أو يفترضه؛ لأن المسألة يدخلها أوجه من التردد والاجتهاد في كثير من مواردها، وإن كانت أصولها محفوظة منضبطة.
هذا ما يمكن أن نقف عليه في التعليق على هذا الكتاب، وهي كما تعرف ليست شرحاً للكتاب، وإنما يصح أن نسميها أخيراً: إشارات وتنبيهات على كلمات المؤلف، وبيان ما كان منها على قدر من الإحكام الفقهي، وما كان منها من موارد الاختلاف والاجتهاد، وهلم جرا.
السؤال: هل هذه الألفاظ التي يطلقها العلماء: لا أصل له، غير مشروع، مرادفة لكلمة البدعة؟
الجواب: كلا، وإن كان هذا له تأثير بطبيعة المتكلم ومنهجه، لكن في الأصل أن الأمر ليس مرادفاً.
السؤال: ما الضابط الصحيح في الفرق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؟
الجواب: مسائل الاجتهاد هي المسائل من حيث المقدمات، وأما مسائل الخلاف فهي المسائل من حيث النتائج، إذا اختلفوا فيها سميتها مسألة خلاف، وقبل ذلك تكون هي محل اجتهاد باعتبار النظر في مقدماتها.
السؤال: ما رأيكم في هذه القاعدة: أن كل نص عام لم يجر عمل عليه من السلف على جزء من جزئياته، فالعمل بهذا الجزء بدعة إضافية؟
الجواب: النص الذي ساقه: (أن كل نص عام لم يجر العمل به من السلف يكون بدعة)، هذا ليس على إطلاقه.
السؤال: ما سر الصعوبة التي يجدها القارئ في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهل ثمة طريقة لقراءة كتبه؟
الجواب: أنا لا أرى أن الأمر يصل إلى هذا التعبير أنها صعوبة في القراءة، ولكن ربما الأمور أحياناً تحتاج إلى شيء من التدريب، وعادة الإنسان يبحث عن الدرجات السهلة؛ ليصل بها إلى ما بعدها، فالقراءة في مختصرات كتبه ورسائله في الاعتقاد وفي الفقه وفي السلوك وغيرها يرتقي بها طالب العلم بعد ذلك إلى أن يقرأ في مفصل كتبه، كـ"درء تعارض العقل والنقل" ونحوها، وأنا أرى أن المجلدات الأولى إلى المجلد العاشر مجلدات واضحة، ربما نستثني التاسع بحكم ما فيه من المعاني الخاصة، لكن إلى المجلد العاشر هذه مجلدات في الغالب واضحة، (اقتضاء الصراط المستقيم) واضح، المجلدات الفقهية واضحة، يعني: أغلب مادة المجموع من فتاوى ابن تيمية مجلدات واضحة، وكثير من الكتب خارج ذلك أيضاً كذلك، فأنا أرى أن طالب العلم يبتدئ بهذا الواضح من كلامه، وينتقل به إلى ما بعده من الكلام الذي قد يكون أشكل من جهة التعبير.
هذا ونسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه وشرعه، وأن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر