إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [2]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • البدعة: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها المبالغة في التعبد إلى الله، أو يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية على اختلاف في تقرير الشاطبي لها، وقد أورد على هذين التعريفين إيرادات ومناقشات.

    1.   

    المعنى اللغوي والشرعي للبدعة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد سبق أن أشرت في المجلس الذي سلف إلى الأمور التي تتعلق بفقه الشريعة ومقاصدها، وهذا الباب الذي هو باب الاعتصام بالسنة والتجافي عن البدعة منها، فينبغي لطالب العلم ألا يقتصر في فقهه وتتبعه على أخذ الضوابط التي ينص عليها من ينص من أهل العلم بما يسمى: حداً أو رسماً أو تعريفاً ونحو ذلك من المصطلحات التي ظهرت في القرون المتأخرة، فإن طالب العلم إذا اعتبر هذه الحدود وألح على اعتبارها وارتكز عليها، فإنه في كثير من الحال لا يكون مسدداً في فقهه لهذا الباب؛ لأن هذا الباب كما أسلفت فقهه ليس بهذا وحده، وإن كان هذا مما يستأنس به ويستفاد منه؛ لأن الفقه في باب الاعتصام بالسنة والتجافي عن البدعة، والفرق بين ما يكون بدعة وما لا يكون بدعة، هذا فقهه يؤخذ من استقراء نصوص الكتاب والسنة، والهدي الذي كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، وإلا فإن من التزم الاعتبار بكتاب متأخر فإنه يقع في كثير من السقط والغلط، وليس بالضرورة أن هذا الغلط يكون موجبه هو هذا الكتاب الذي التزمه أو أي كتاب كان، وإنما لأن الحقيقة في مثل هذه الموضوعات الكلية أكبر من أن تختصر بمؤلف واحد أو بكتاب واحد .. وما إلى ذلك.

    ولهذا نقول: هذا الباب، أعني: الباب الأول تضمن خمس مسائل نشير إليها وإلى كلام المصنف فيها، ونعلق على ما قرره المصنف ببيان واستيضاح وتفسير وسؤال أحياناً؛ لأن المقصود من هذا الدرس هو بيان بعض معاني المصنف من جهة، وذكر بعض السؤالات على كلام المصنف من جهة أخرى.

    فالمسألة الأولى تتعلق بمادة الابتداع من جهة اللغة، أورد المصنف هنا أن مادة بدأ بمعنى الاختراع على غير مثال سابق، فمن اخترع على غير مثال سابق، فهذا ابتداع في لغة العرب، ويسمى هذا الفعل: بدعة، وعلى هذا المعنى جاء القرآن الذي نزل بلسان العرب في مثل قول الله تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ [البقرة:117]، وفي مثل قوله سبحانه وتعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9]، أي أنه ليس أول الرسل، بل سبقه رسل، وسبقه أنبياء عليهم الصلاة والسلام.

    إذاً: المعنى اللغوي في كلمة (البدعة) هي ما ليس على مثال سابق، فإذا كان الشيء ليس على مثال سابق سمته العرب بدعة أو بدعاً أو ابتداعاً بحسب أحوال اللسان والسياق.

    وهذا المعنى لا إشكال فيه، لكن ترى منه أن ثمة تناسباً بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، فإن البدعة في الشرع هي ما أحدث في دين الله سبحانه وتعالى على غير مثال سابق، بمعنى: أن الشارع ما جعل هذا العمل عبادة، أو ما جعل هذه الهيئة أو الفعل أو القول عبادة، فمن جعله عبادة فقد ابتدع في الدين.

    إذاً: ثمة تناسب بين المعنى الشرعي وبين المعنى اللغوي، والعلاقة بين الأسماء اللغوية والأسماء الشرعية -كما هو معروف- مما تكلم العلماء فيه، وكمثال مشهور: إذا جئت مثلاً إلى اسم الإيمان في اللغة، وما هو وسم الإيمان في الشرع، فإن الإيمان في الشرع هو: ما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهو قول وعمل كما اتفق على ذلك الصحابة والأئمة. وقول من قال من أهل اللغة وأهل الكلام والفقه: بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، فهل هذا على التسليم المطلق؟ ثم ما العلاقة بين التصديق في معناه اللغوي وبين الإيمان؟

    هناك جملة من المسالك العلمية لهذه الأمور، وممن تكلم عن هذه المسالك أبو محمد بن حزم في كتابه (الفصل)، فإنه ذكر أن ما جاءت به الشريعة من الأسماء قد جاءت به اللغة؛ لأن الصلة بين الاسم اللغوي والاسم الشرعي لأهل العلم والنظر فيه جملة من المسالك، فمنهم من يرى أن الشريعة تنقل نقلاً مطلقاً على الأسماء اللغوية، أي: أن أصل المعنى لغوي، ومنهم من يرى أن الشريعة تكمل المعنى اللغوي، ومنهم من يرى: أن الشريعة تقر المعنى اللغوي ولكن تنقله من الإجمال إلى التفصيل الذي لا يتحصل إلا بخطاب الوحي، وهناك جملة من التوجيهات بهذا المعنى، وكثير من هذه التوجيهات يكون نظرياً.

    وعلى كل حال: هذا هو معنى البدعة، ومنها ما سمى عمر رضي الله تعالى عنه ذلك الفعل الذي فعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لما اجتمعوا في صلاة التراويح فقال عمر كما ثبت في الصحيح: (نعمت البدعة هذه)، فهذا من باب السياق اللغوي، وليس من باب السياق الشرعي؛ لأنه لو كان من باب السياق الشرعي للزم أن عمر كأنه يقر ما هو بدعة في الشرع، والأمر بطبيعة الحال ليس كذلك، فهذا من السياق اللغوي المحض، ولهذا لا يمكن أن يتكأ على كلمة عمر هذه كما سيأتينا في أبواب أخرى فيمن قال من أهل العلم من المتأخرين: إن البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، فهذه الكلمة التي قالها عمر قالها كرجل ينطق بلسان العرب، لا تدل على أن الفعل الشرعي منه ما هو بدعة، وإنما أراد عمر رضي الله تعالى عنه أن هذا بدع، أي: أن هذه الحال لم تكن موجودة بهذه الصورة التي اجتمع الناس فيها في خلافة عمر ، وإلا فإن الناس صلوا صلاة الليل جماعة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، واقتدوا به غير ليلة كما في حديث عائشة و زيد بن ثابت وغيرهما، وهو مخرج في الصحيح، وإنما أراد عمر أمراً آخر كما سيأتي إن شاء الله التنبيه إليه في مسألة تقسيم البدعة.

    1.   

    الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وتعلق البدعة بها

    المسألة الثانية: أشار المصنف أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله إلى أنه ثبت في علم الأصول -كما عبر رحمه الله- أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم يقتضيه معنى الأمر سواء كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي سواء كان للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة.

    وهذه الأقسام التي ذكرها الشاطبي ليست مشهورة في الأصول إلا بهذا التقسيم الثلاثي، أو يجعلونها خمسة ويسمونها الأحكام التكليفية الخمسة: الوجوب، والاستحباب، والتحريم والكراهة، والإباحة. والاستحباب بمعنى الندب كما هو معروف، وإن كان البعض قد يفرق بين السنة وبين المندوب.

    وهذه المسألة لها تفصيل في كتب الأصول، لكن مقصود المؤلف هنا من الإشارة إليها؛ لأننا بعد ذلك سنبين أن البدعة قد تتعلق بأمر واجب، وقد تتعلق بأمر هو في أصل حكم الشارع على الاستحباب، وقد تتعلق بأمر هو في أصل حكم الشارع على التحريم، وقد تتعلق بأمر هو في أصل حكم الشارع على الكراهة، وقد تتعلق بأمر هو في أصل حكم الشارع على الإباحة، فهذا هو السبب الذي جعل المصنف بعد ذكر المعنى اللغوي للبدعة أن يذكر هذه المعاني الخمسة التي سماها الجمهور من أهل الأصول، ولا سيما من تأخر منهم سماها بالأحكام التكليفية.

    المأخذ على تسمية الأحكام الخمسة بالتكليفية

    وإن كان الفاضل أن لا تسمى الأحكام التكليفية، وإنما تسمى الأحكام الشرعية الخمسة؛ لأن كلمة الشرع أو التشريع هي الكلمة التي نزلت في كتاب الله في مثل قوله جل وعلا: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى:13]، إلى آخر الآية وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

    إذاً: الاسم المناسب فطرة وشرعاً وعقلاً هو أن تسمى الأسماء أو المعاني أو الأحكام: الشرعية أو التشريعية.

    أما كون هذا هو المراد بالفطرة: فلأن الإنسان بفطرته يميل إلى النظام، وإلى أن يكون له منهاج، وأن يكون له شرعة يسير عليها؛ لأنه يدرك أن هذه الحياة تختلف أحوالها، فهو يبحث عن الحقيقة الكاملة الصحيحة التي جوهرها وأصلها موجود، فطرة في نفسه؛ لأنه فطر على التوحيد، لكن ما تفاصيل هذا التوحيد؟ الإنسان بفطرته يبحث عنه، فهذه التفاصيل لا يجدها إلا في الوحي، ولهذا قال الله لنبيه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]، أي: تفاصيل الإيمان، هذا أنسب للفطرة.

    وأما أنه أنسب للشرع أو شرعاً: فلأن هذه هي الكلمة التي جاءت بها الآيات والأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    وأما أن هذا هو الأنسب عقلاً فلأن العقل يقبل التشريع في معنى المنهج والنظام والعدل وما إلى ذلك، لكن العقل ابتداءً لا يقبل أنه يقصد من هذا الدين هو تكليفه؛ لأن معنى التكليف في اللغة المشقة، بل يقول كثير من أهل اللغة هي: المشقة الشديدة.

    إذاً: هذا لا يتناسب مع متطلب الإدراك الفطري والعقلي لدى الإنسان، وما جعل الله الشريعة تكليفاً بمعنى: أنها شدة ومشقة في سائر مواردها، ألست ترى أن الله جل وعلا قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة : (إن هذا الدين يسر)، وفي وصيته لأصحابه عليه الصلاة والسلام قال: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا )، إلى غير ذلك.

    إذاً: ليس ثمة ضرورة علمية أن تسمى هذه الأحكام الخمسة بالأحكام التكليفية.

    بل يقال: الأحكام التشريعية الخمسة، وربما البعض يقول: إن الذي حرك أهل الاصطلاح من أهل الأصول حتى يفرقوا بينها وبين ما يسمى بالحكم الوضعي، فيقال: إن هذا جواب، وهو ليس بالضرورة أن يحافظ على هذا الاصطلاح، ولهذا نبه الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى أن تسمية الشريعة في سائر مواردها الخمسة بالتكليف نقول: هذه تسمية لم ترد في كتاب الله ولا في سنة نبيه، ولا كان الصحابة وكبار الأئمة يستعملونها على هذا الاطراد، وأما قول الله جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، فهذا في بعض الصور من التشريع، وليس في سائر الصور أو عامتها أو أغلبها.

    إذاً: الأولى أن تسمى أحكاماً تشريعية أو شرعية، ونحو ذلك، ويتباعد عن هذا المصطلح خاصة إذا حدث به السواد من الناس، أما إذا كان في دائرة الكتب وأهل التخصص، فهذا من باب ما درج عليه أهل الاصطلاح، وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح، وخاصة أن هذه الأحكام الخمسة إذا سميت تكليفاً، فإنه يرد سؤال أورده الأصوليون على أنفسهم، أعني: الذين نطقوا بهذا الاصطلاح في الإباحة، فإنك إذا قلت: التكليف جاءك المباح، وهو الحكم الخامس منه، فالمباح هو التخيير، ولهذا من أهل الكلام والأصول من يقول: هو مستوي الطرفين. إذاً: لا تكليف فيه في نفس الأمر، فلماذا دخل في الأحكام التكليفية وهو مخير بين فعله وتركه؟

    نجد هناك جملة من الأجوبة حتى أن بعض الأصوليين قال: إن المباح لا يعد من الأحكام التكليفية، فأخرجه، وهذا الإخراج ليس حلاً لهذا السؤال؛ لأن هذا إنما نشأ عن هذا الاصطلاح الذي هو التكليف، ولو سميت الأحكام التشريعية مثلاً، أو الشرعية الخمسة التي عليها مدار التعبد، أو مدار الأمر والنهي لما ورد هذا الإشكال، لأنه لا شك أن المباح حكم شرعي، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، فالإباحة هي حكم من الله سبحانه وتعالى، إما أن تكون الإباحة قصداً ابتدائياً بخبر الله أو بخبر رسوله، وإما أن تكون جاءت على وجه التخصيص لعين أو حال أو ما إلى ذلك.

    إذاً: هذه الأحكام ننبه إليها في هذا المصطلح الذي شاع في كتب الأصول المتأخرة، وإن كان المصنف إنما ذكرها بالمعنى الذي أسلفت ذكره ليبين أن البدعة قد تتعلق بواجب، وقد تتعلق بمستحب، وقد تتعلق بمحرم، وقد تتعلق بمكروه، وقد تتعلق بمباح.

    أما صور ذلك فستأتي في كلام المصنف، له جملة من التفاصيل يبين بها ما وجه هذا التعلق، فإنك إذا قلت مثلاً: الواجب من العبادات، فمن ترك هذا الواجب كسلاً فإن فعله هذا يسمى معصية وإثماً، أو كبيرة أو ما إلى ذلك، لكن من ترك هذا الواجب تديناً بتركه فهذا الترك يكون بدعة، وكذلك من فعل المحرم لهواً ولعباً، فهذا الفعل يعد إثماً ومعصية وما إلى ذلك، ومن فعل المحرم مدللاً بفعل المحرم، فإن هذا يعد بدعة، وهذا من المناسبة لكلام المصنف.

    1.   

    وقفات مع تعريف الشاطبي للبدعة في الاصطلاح

    ثم بعد ذلك ينتقل المصنف إلى المسألة الثالثة، وهي أهم مسألة في هذا الباب، ولربما في هذا الكتاب، وحين جاء الشاطبي رحمه الله إلى تعريف البدعة في الشرع، ونحن نعرف أن الشارع ذم البدعة وحذر منها، ولهذا الباب الثاني في ترتيب المصنف هو في ذم البدع وذم حالها، فساق في ذلك جملة من الآثار والروايات، وقبل ذلك من النصوص القرآنية والنبوية في ذم البدعة، فإذاً: البدعة مذمومة في الشرع.

    هذه المسألة هي أخص ما في هذا الكتاب، فما هي البدعة في الشرع؟

    المصنف هنا سلك في ضبطها المنهج المتأخر الذي يقوم على تلخيص ما تحصل للناظر بوضع حد فيما تحصل له، أي: ما تحصل للناظر من نظره في كلام أهل العلم، أو في النصوص، أو في سياقات الشريعة، فهذا الذي تحصل له ينظمه فيما يسمى في علم النظر بالحد، والحد في الاستعمال البسيط ما هو مقارب لمصطلح التعريف، حين تقول مثلاً: ما هو الصيام؟ فنقول: لغة: هو الإمساك، وشرعاً نقول: هو الإمساك عن كذا وكذا إلى آخره، أو تقول: ما هي الصلاة؟ فنقول لغة: هي الدعاء، وشرعاً كذا، وكذلك الحج وغيره، فهذا الذي سمي في علم النظر بالحد، وثمة مصطلح يشترك معه في كثير من الاستعمالات عند أهل النظر والأصول، وهو ما يسمى بالرسم.

    والمصنف رحمه الله جاء ليبين الحد، ودرج أهل الأصول والنظر على أنهم يقولون: إن الحد لا بد أن يكون جامعاً مانعاً، فهذه المطالبة هي كمطالبة نظرية لها ما يوجبها، وما يستدعيها، ولكن الإشكال في هذه الضوابط وهذه الحدود التي بنيت على كثير من المعاني؟ نقول: إذا كان المعنى متحققاً في الشرع تحققاً فعلياً للخاصة والعامة، فالنص عليه في كتب أهل العلم بما يسمى تعريفاً في الشرع أو في الاصطلاح، هذا لا يؤثر كثيراً، فمثلاً: هل رأيت فقيهاً من الفقهاء يستدعي تعريف الصلاة الذي ينظمه الفقهاء في أول كتاب الصلاة ليخرج عليه فروع المسائل المطلوبة في كتاب الصلاة؟ أم أنهم يجعلون مسألة تفاصيل أحكام الصلاة ترجع إلى مفصل الأدلة؛ لأن صفة الصلاة، وتعريف الصلاة معروف عند المسلمين ومتحقق؛ لأنهم يصلون الصلوات الخمس، وكذلك الصوم فلا أحد يجهل الصوم من المسلمين لأنه يعرف أنه الإمساك عن المفطرات، فهو يصوم بالفعل ويقوم بهذه العبادة، ولهذا لو سألت عامياً عن الصلاة لعرفها لك بأنها هذا الفعل الذي تشاهده، ولربما لا يعرف الحروف، فإذاً: هي ليست قضية منزلة في فقه العامة، كما يعبر الشافعي : العامة والخاصة.

    فنقول: مثل هذه التعاريف في الأمور المحكمة في الشرع من جهة بيانها وظهورها لا تؤثر بل هي بمثابة البيان العلمي، أو الترتيب العلمي الذي لا يقع تحته كثير من الالتزامات، لكن فيما يتعلق بتعريف البدعة هنا، لا بد من التأمل كثيراً؛ لأنه يقع بعده التزام علمي، ستجد أن الشخص يأتي بفرع يعرض من العلم أو من الفعل لأحد من المسلمين قولاً أو فعلاً أو هيئة أو ما إلى ذلك، فيقول: نطبق هذه القضية أو هذا المثال على تعريف الشاطبي للبدعة: طريقة في الدين، فعلك هذا طريقة، (في الدين) هو من الأمور الدينية، فستجد أن هذا التعريف يتحول بعد ذلك إلى ميزان يميز به ما هو بدعة عما ليس كذلك.

    إذاً هو أخذ بعداً ممتداً في الأحكام العلمية الشرعية.

    ولهذا سبق أن أشرت إلى أن الحدود والرسوم كما يعبر بعض أهل النظر، وإن كان ثمة فرق بين الحد والرسم، أو ما نسميه بالعبارات التي هي أقرب للتعاريف كما هو المصطلح اللغوي أكثر، أو الضوابط، فهذه الأمور ينبغي لطالب العلم أن يأخذها على أنها جزء من الحقيقة العلمية، مهما كانت جودتها، وأما الحقيقة العلمية الكاملة في أمر ما فهي بجمع الاستقراء الشرعي للآثار والنصوص وقبل ذلك القرآن وما إلى ذلك، فمن استقرأ الشريعة وصار عنده نفس شرعي متسع، فهذه التعاريف والضوابط التي يذكرها العلماء رحمهم الله لا شك أنها تكمل وتضبط هذه المعاني وتنتظم فيها، إلا أن طالب العلم حين يكون منطلقه في الحكم على ما تمتاز به السنة عن البدعة، وما هو سنة وما هو بدعة، هو ما له حد أو ضابط أو تعريف ذكره عالم من أهل العلم، فهذا لا ينتظم كثيراً.

    ولهذا ما اشتهر أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا الذين تقدموا من سلف هذه الأمة وأئمتها من الفقهاء والمحدثين، لم تشع عندهم هذه الحدود والرسوم والضوابط للمعاني الشرعية الكلية، وإنما كانوا يأخذون الدين فقهاً واستقراءً وتتبعاً وشمولاً وما إلى ذلك.

    فهذا معنى أحب أن أركز عليه كثيراً؛ لأن هذا الكتاب مع جلالة مؤلفه وجلالة مادته في الجملة إلا أنه صار ينزل على أنه ميزان لكثير من الأمور، وكأن هذا الميزان قد انضبط من كل وجه، وحتى لو قلت: إن هذا الحد صحيح ولا إشكال فيه، فإن الفقه لا يمكن أن يتحدد بحد، أو لا يمكن قول: إن هذا الحد لا إشكال فيه، فيبقى أن الفقه لا يمكن أن ينحصر بحد، هذا من جهة، ويمكن أن يقال: إن هذا الحد عليه بعض الأسئلة التي تشكل على اطراده، مع أن من شرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً.

    فإذا قرأنا في تعريف الشاطبي رحمه الله وجدناه يقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)، ثم يقول الشاطبي بعد ذلك كلاماً يقول: (وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة)، فهذا التعريف على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة (وإنما يخصها بالعبادات).

    إذاً: هذا التعريف هو لمن يرى أن البدع تنحصر في العبادات، ثم يقول: (وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة) فهذا هو التعريف الثاني لمن يرى دخول العادات في معنى البدعة، قال: (فيقول: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية) إلى هنا التعريف موافق للأول، لكن في الأخير يقول: (يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)، وفي الأول قال: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه).

    إذاً: ثمة تعريفان، والإشكال هنا أن الشاطبي رحمه الله يقول: إن التعريف الأول هو لمن لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، والثاني: هو لمن أدخل العادات في معنى البدعة.

    ثم يأتي بعد ذلك فيبين ما يسمى مخرجات هذا التعريف نأخذها وننتقل إلى معناها، وبعده نبين معنى التعريف عند الشاطبي في هذه المسألة، ثم نأتي بعد ذلك إلى ذكر بعض التعليقات والتنبيهات والإشارات على كلام الشاطبي في هذا التعريف.

    معنى قوله: (طريقة)

    ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد، قال: فالطريقة والطريق هو ما رسم للسلوك عليه.

    إذاً هو يقول: أول كلمة طريقة، ومعنى طريقة: ما رسم للسلوك عليه.

    فالبدعة هي طريقة، فقد تكون هذه الطريقة طريقة علمية، وقد تكون طريقة فعلية، وقد تكون طريقة قلبية إرادية.

    فهذا هو المقصود من كلمة طريقة.

    معنى قوله: (في الدين)

    ثم قال: [طريقة في الدين] في كلا التعريفين عند الذي يدخل العادات في البدعة، والذي لا يدخلها، كلاهما فيه أنها طريقة في الدين.

    يقول أبو إسحاق رحمه الله: [وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع، فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة، كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم]، كما يرى الشاطبي أنه على كلا التعريفين هذه الأمور لا تعد بدعة لأنها ليست في الدين.

    قال: [ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل، خص منها ما هو المقصود بالحد، وهو القسم المخترع]، يعني قال: طريقة في الدين مخترعة، فإذا كانت في الدين وليست مخترعة بل لها أصل شرعي، فهذه لا تسمى بدعة.

    إذاً: كلمة (في الدين) الشاطبي يقول: إنها تخرج ما كان من أمور الدنيا على الخصوص، وهذا سيولد سؤالاً: وهو كيف أن أصحاب الرأي الثاني أدخلوا العادات في البدعة مع أنهم يقولون: إنها طريقة في الدين، مع أن الشاطبي مثل للأمور الدنيوية بإصلاح الصنائع والبلدان، ثم لما أتى إلى العادات التي يقول: إن البعض يجعلها من البدع فمثل لها بأمثلة مطابقة، وهذا مما يوضح أن هذا التعريف فيه جملة من الدور على بعضه، فربما دار على بعضهم لعدم الانتظام.

    أيضاً من الأمور التي تحتاج إلى فقه و الشاطبي ما حسمها حسماً مفصلاً في هذا المقام؛ ونحن نلوم الشاطبي ، وهذا المنطق صحيح، أنه من الكتب ما تفترض في الأمور أكثر من حقها، وهذا الكتاب ما أراد المؤلف أن يجعله ميزاناً، لكن من أراد أن يجعله ميزاناً فهو الذي ترد عليه هذه الإشكالات، وإلا فعل الشاطبي هنا فعل حازم، كما عند غيره من العلماء في كتبهم، فإنهم يقولون: ما انتهى إليه جمعهم، وبالعكس نرى أن هذا الكتاب كتاب محقق لعالم محقق، لكنه لا يوجد كتاب أصلاً من كتب أهل العلم -لا من كتب الفقهاء، ولا المفسرين، ولا الأصوليين ولا غيرهم- أكمل فيه مؤلفه حقيقة علم من العلوم، أو قضية من القضايا الكلية، إنما حسبه أن يكون جمع مادة وأصلاً، ولا ينبغي أن يطالب بأكثر من ذلك، لكنا عندما نذكر هذه التعليقات لينتبه الطالب أو الناظر في هذا الكتاب إلى الاعتزام أخذ كلام أبي إسحاق رحمه الله.

    معنى قوله: (مخترعة)

    وهنا قال: (مخترعة)، بين بموجب هذه الكلمة فقال: لأن ما كان في الدين إما أن يكون له أصل، أو ليس له أصل، فما ليس له أصل هو البدعة، وما له أصل هو ما ليس بدعة قد تكون هي السنة.

    وهذا الكلام مجمل، وهذا هو الإشكال، ما ليس له أصل شرعي يكون بدعة، وما له أصل لا يكون بدعة، والإشكال ما المقصود بالأصل؟ هل المقصود أي طريق من طرق الاستدلال مثلاً؟ أم المقصود القواعد الكلية المستقرأة من الشريعة، فقد جاء في علم الأصول ما سمي بالأدلة المختلف فيها كالمصلحة المرسلة، والإمام الشاطبي سيتكئ على المصلحة المرسلة باعتباره أن تصنيف العلوم ليس بدعة، فنقول: إن هذا من باب ما له أصل شرعي، لأنه يورد إشكالاً لماذا لا يقال: إن علم أصول الفقه وبعض العلوم التي ما كانت موجودة زمن الصحابة بهذه الأسماء وما إلى ذلك، لماذا لا تكون بدعة؟

    فقال: هي موجودة في زمنهم، لكن بغير هذه الاصطلاحات، لكنها حقائق علمية موجودة، وهذا جواب صحيح.

    وأورد سؤالاً آخر رحمه الله قال: فإن قال قائل: سلمنا أنها موجودة كأصل لكنها ليست موجودة كنظم وترتيب، فنظمها حادث، فيقول الشاطبي: صحيح أن نظمها حادث، ولكن نظمها هو من مقتضى المصلحة المرسلة، والمصلحة المرسلة أصل، إذاً: هو خرج عن كون هذه الأمور بدعة إلى أنها من ضمن ما تقتضيه المصالح المرسلة.

    فإذاً: يبقى أن قوله رحمه الله: (مخترعة) كلمة صحيحة، وكلامه أيضاً أن ما له أصل لا يكون بدعة، وما ليس له أصل يكون بدعة أيضاً هو كلام صحيح لا إشكال فيه، لكن يبقى أننا ندرك أن هذا كلام مجمل، وأنك هنا إنما أخذته حقيقة مجملة، فإن قلت: أين تفصيلها؟ فيقال: تفصيلها هو الذي قصدنا بالقول أن التفصيل بفقه ما له أصل وما ليس له أصل لا بد لطالب العلم فيه إلى استقراء واسع لنصوص الكتاب والسنة والآثار.. إلى آخره، فإن قال قائل: هذا طريق يطول: قيل: هو كذلك؛ لأن الفتوى في ميزان السنة بالبدعة أشد من الفتوى بأن هذا الفعل مستحب، أو أن هذا الفعل واجب، أو أن هذه العبادة أو السجود سجود واجب، أو أنها مستحبة كسجود التلاوة أو ما إلى ذلك، لأن محصل الأحكام الفقهية الفرعية هي في كتب الفقهاء، فنجد أنهم اختلفوا في سجود التلاوة هل هو واجب أم مستحب على قول الجمهور، ومعروف نواقض الوضوء ما هي، وأحكام الزكاة، وكذلك فصل الحج، والمعاملات والعقود وما إلى ذلك.

    فإذا أخذت كتاباً مقارناً من كتب الفقه وجدت التفاصيل، وهذا قول مالك و الشافعي ، إذاً: المعرفة بهذه الفروع ودرجتها من الشريعة وقبولها أو عدم قبولها هل هو مجمع عليه أو مختلف فيه، هذا سهل مقارنة بالفقه الثاني.

    قد يقول قائل: هل السنة مغلقة إلى هذه الدرجة؟

    أقول: كلا، لا شك أن ثمة أحوالاً كثيرة من الأقوال والعقائد والأفعال يدرك عامة المسلمين فضلاً عن الخاصة أنها سنة، باستقرائها عند المسلمين، وثمة جملة كذلك من الأقوال والعقائد والأفعال يدرك السواد من المسلمين أنها بدعة لبيان منافاتها للشريعة، وخروجها عن آثار الهدي وآثار الرسالة.

    فإذاً: هذه الأمثلة بينة محكمة ولله الحمد، لكن الإشكال إذا جئنا فيما تتجاذبه بعض الأشياء، ويقع فيه قدر من التردد وقدر من الاشتباه، فهذا هو الذي لا ينبغي أن يقول فيه إلا من تأهل بدرجة متحققة للفتوى في مسائل الفروع، فهو أشد من الفتوى في مسائل الفروع التي نظمها الفقهاء في كتب الفروع، وهذا النوع الذي قد يدخله مادة من التردد أو الإشكال هل المصلحة المرسلة تقتضيه أو لا تقتضيه؟ وهلم جراً.

    إذاً: قوله: (مخترعة) كلمة في موردها وتناسب محلها، ولكنها باقية على أصل الإجمال.

    ثم قال المؤلف: [وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع] كعلم النحو ومفردات اللغة وأصول الفقه.

    لماذا يقول: إنها ليست بدعة؟ قال: [فأصولها موجودة في الشرع]، يعني: أنها كحقائق موجودة، ولكن في الاصطلاح هو الذي يسمى أسماء معينة وألقاباً معينة، وهذا أمر مناسب لكلام المصنف ولا إشكال فيه.

    قال: [فإن قيل: فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع]، فيجيب المصنف عن هذا الإشكال فيقول: قد يقول قائل: إن علم النحو وعلم أصول الفقه هو من الدين؛ فاللغة يفهم بها الدين؛ لأنه نزل بلسان العرب وما إلى ذلك، فيقول: هي من الدين، وليست مخترعة؛ لأنها كحقائق موجودة، قال: فإن قيل فنظمها؟ أي: ترتيبها على هذه التصانيف والنظم، هل هذا مما له أصل في الشرع؟ قال: فالجواب: أن له أصلاً في الشرع، وما هو الأصل عنده؟ قال: [وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة].

    إذاً: هو أدخل هذه العلوم في الدين، ولكنه قال: ليست مخترعة، لأن المخترع ما ليس له أصل، يقول: وهذه كحقائق موجودة كأصول، وأما نظمها فهو معتبر شرعاً بقاعدة المصالح، والشاطبي هنا التزم أن علم النحو من الدين ولكنه يخرج عن كونه بدعة لكونه معتبراً في هذا الدين، وله أصل حتى من جهة نظمه، وهذا التزام الذي أراده رحمه الله قد يكون لازماً وقد يكون الأصل ليس بلازم على تعريف البدعة ونحو ذلك.

    معنى قوله: (تضاهي الشرعية)

    ثم بعد ذلك قال: [وقوله في الحد يضاهي الشرعية]، المضاهاة كما هو معروف هي المشابهة، قال: إنها تشابه الطريقة الشرعية، أي: أنها لم تكن في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها، فيقول: البدعة تضاهي الشرعية.

    وأما في حقيقتها فهي ضد الشريعة، يعني: تنافي الشريعة، ولكنها تشابه الشريعة.

    هل أراد الشاطبي رحمه الله بالمشابهة هنا المشابهة في الصورة التي هي الهيئة الفعلية؟ أم أراد المشابهة بحسب درجات الأمر الشرعي؟ يعني: سواء كانت هذه المشابهة في فعل أو في قول؟ أو في باب الإرادات القلبية، فإذا كانت مخترعة في الدين وهي تشابه الشرعية، فإنها تكون على هذا الوصف.

    هل هذه الكلمة ما دام أننا فسرناها بالثاني، هل لها ضرورة في التعريف، أم أن هذا للبيان في الحد، وليس من الكلمات التي هي من مفاصل الحد؟

    الأظهر أنها ليست من مفاصل الحد، ولكن هذا هو شكلها المعتبر في تطبيق الناس، أنها تضاهي الشرعية، فهي طريقة في الدين مخترعة، وما دام أنها طريقة في الدين مخترعة، وسيقول في الأخير: يقصد، أي: يلحقها قصد في التدين، فكونها تضاهي الشرعية فهذه هي النتيجة اللازمة للبدعة، لا بد أن تكون البدعة تضاهي الشرعية؛ لأن هذا هو معنى وجودها، وهذا ليس من مقدمات التعريف بل هذا من النتائج التي يستلزمها التعريف ضرورة.

    وقد ضرب لذلك أمثلة.. [كالناذر للصيام قائماً]، فلا شك أن قيامه بدعة، ومن نذر أن يصوم في مكان معين مثلاً ليلة، أو يبيت فيه ليلة، فهذا لا شك أنه بدعة؛ لأنه يضاهي المبيت بمزدلفة، أو الوقوف بعرفة أو ما إلى ذلك، ومثل لذلك أمثلة في هيئات الذكر والاجتماع عليه، ونحو ذلك ولهذا قال: فإن البدعة تضاهي الشرعية، أي: تضاهي العمل الشرعي.

    معنى قوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة)

    ثم قال في آخر التعريف أو الحد: [يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة، وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك].

    والمصنف سابقاً قال: إن ثمة تعريفين للبدعة، الأول: أنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه، وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة.

    الثاني: أنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، وهذا على رأي من أدخل العادات.

    والإشكال في نظر الباحث وطالب العلم أنه ربما وقف أمام هذين التعريفين فدار اختياره بين واحد منهما، وكأن المعنى الأصل لا بد أن يكون في أحد هذين التعريفين.

    وهنا قضية معروفة في علم النظر وهي ما يسمى: بالسبر والتقسيم، أحياناً تسبر الأمور في أنواع الأشياء أو أقسامها أو حتى في تعريفها فيحصل سبر وتقسيم، ثم تأتي النتائج بعد هذا السبر والتقسيم المتمثلة بالسبر، وهو المقدمة ثم تأتي النتيجة لهذا السبر بمثل التقسيم، وربما يكون هذا التقسيم على اثنين أو على ثلاثة أو على أربعة .. إلى آخره، والإشكال أن الناظر في هذا السبر والتقسيم يدور اختياره في طلب واحد من هذه الثلاثة، أو طلب واحد من هذين الاثنين، أو طلب واحد من هذه الأربعة، مع أن الحقيقة ربما كانت ليست في واحد منها، ربما كان هذا السبر والتقسيم ناقصاً أو قاصراً عن سبر الحقيقة وتفصيلها.

    إذاً: السبر قد يدخله نقص، والتقسيم من هذا السبر قد يدخله نقص.

    فإذاً: في المسائل المبنية على السبر والتقسيم ينبغي ألا يفترضوا خاصة إذا كان الإنسان يقرأ لعالم معين، أو لناظر معين، فلا تفترض أن السبر هو تقسيم (ويكون شمولياً، إلا إذا كان هذا السبر والتقسيم توارد العلماء عليه، فهذا معناه يكون مقبولاً من جهة اضطرابه، لكن إذا عرض في كلام واحد من أهل علماء النظر أو علماء الأصول، أو الفقهاء وما إلى ذلك، فهذا كلام ليس بالضرورة أنه يكون مطرداً، بل لا بد أن تدرس الحقيقة دراسة متأنية.

    فيزاد التعريف الأول عن الثاني بكلمة (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد)، والثاني يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، هنا برر الشاطبي رحمه الله كلمة المبالغة يقول: لأن المبتدعين يحدثون بدعهم على سبيل الانقطاع للعبادة والزهد وما إلى ذلك كما يقول، يقول: وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك، وكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى .. إلى آخره، فهو يقول: لماذا قال في تعريفه المبالغة؟

    الحقيقة إذا أدمنت النظر في الأدلة، وجدت أنه ليس من شرط البدعة في الشرع أن تكون على جهة المبالغة، إلا إذا قلت: إن البدعة هي نوع من المبالغة فهذا صحيح، بمعنى الزيادة على حكم، وتشبيه الشارع، فهذا صحيح، كل البدع التي عرفت في الشريعة أنها بدع هي زيادة للمبالغة، لكن أن يكون قصد المبالغة بمعنى الانقطاع والامتياز عن الناس وكثرة الزهد والإقبال على العبادة، المعاني التي تنتاب جملة خاصة من الناس، ممن لهم قصد إلى مقام الولاية أو التشهر أو ما إلى ذلك، فهذا ليس شرطاً في حكم البدعة شرعاً، ولهذا قد تعرض البدعة لمن هو من فساق المسلمين، بفعل أو هيئة أو صفة يفعلها، وهو لا يقصد منها المبالغة، بمعنى: كمال التزهد أو كمال التدين، أو الإقبال على الولاية.

    و الشاطبي مثل لبعض الصور التي عرضت في زمن الصحابة فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها كمن حلف ألا ينام على فراش ولا يأكل اللحم، ولما استفتى من استفتى رسول الله عليه الصلاة والسلام في التبتل وفي الاختصاء، هذه لا شك صور قد تعرض لبعض المبتدعين الذين لم يقصدوا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكن البدعة ليست خاصة بأولئك، البدعة تقع حتى في محيط الفساق بأن يأتوا قولاً من الأقوال، أو فعلاً من الأفعال يكون بدعة.

    إذاً: ليس هناك ما يؤكد ضرورة هذه الكلمة (يقصد بها المبالغة في التعبد)، إلا إذا كان المراد عند المصنف -مع أن هذا ليس هو ظاهر السياق عنده- أن البدعة هي المبالغة هذا صحيح، لكن أنه يقصد بها المبالغة، كأن المفهوم أنه إذا لم يقصد المبالغة لا تكون بدعة، فهي مبالغة لحق ذلك القصد أو لم يلحق، فهي من حيث هي كما يقال: مبالغة أو زيادة؛ لأنها زادت على دين كامل، وصفه الله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].

    فإذاً: لو أن التعريف الأول اكتفى بكلمة: (يقصد بها التعبد لله سبحانه وتعالى) فليست أرى ضرورة لهذه الكلمة (مبالغة)، إلا إذا قيل: إنه أراد من البدعة من حيث هي مبالغة كما هي من حيث هي، ليس من حيث القصد، وهو يقول هنا: (يقصد بها المبالغة) هل من لازم كونها بدعة أن تلزم المبالغة، أم أنها بدعة قصد هذا أو لم يقصد؟ الجواب: هي بدعة قصد هذا أو لم يقصد، ولهذا قد تكون البدعة تقصيراً عن السنة، يعني: قد يفعل بعض الناس فعلاً السنة في هيئة الأكل منه، فيقال: إن فعله هذا بدعة، إذاً: هي مبالغة من حيث هي لا من حيث القصد، وفرق بين القول: إنها مبالغة من حيث هي؛ لأن هذا معنى البدعة أنها زيادة، وبين القول: إنها مبالغة من حيث القصد.

    فالبدعة ليس من شرطها أن تكون مبالغة من حيث القصد والإرادة.

    إذاً: ليس ثمة ما يلزم هذه الكلمة، فتبقى أنها يقصد بها التعبد لله سبحانه وتعالى.

    يقول الشاطبي رحمه الله: [وقد تبين بهذا القيد أن البدعة لا تدخل في العادات]، قال: [فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية]، الآن الشاطبي أسقط كلمة (مبالغة)، وكان هذا هو الأحسن في التعريف، قال: [فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع، ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية]، ومثل لذلك قال: [كالمغارم الملتزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة.. وكذلك اتخاذ المناخل، وغسل اليد بالأشنان، وما أشبه ذلك من الأمور، فإنها لا تسمى بدعاً على إحدى الطريقتين]، يعني: الآن الغسل بالأشنان واتخاذ المناخل يقول: على الطريقة الأولى لا تسمى بدعة، معناها أنها على الطريقة الثانية تعد بدعة.

    أيضاً الشاطبي هنا يقول: [فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد] جعل مثالاً له اتخاذ المناخل، وغسل اليد بالأشنان.

    هل غسل اليد بالأشنان، أو اتخاذ المناخل يمكن أن نصفه بأنه طريقة في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد؟

    هنا إشكال الشاطبي قال في الأول: طريقة في الدين، وقلنا كلمة (الدين) يخرج ما كان خاصاً في الدنيا، مثل إحداث المدائن والصنائع.

    يأتي بعد ذلك رحمه الله ليبين في كلام له ما يتعلق بالأمور التي هي من العادات فيجعلها على الطريقة الثانية بدعة، ولا تعد على الطريقة الأولى.

    فإذاً: يبقى أن هذا السياق من كلامه فيه قدر من الإشكال، وعليه جملة من السؤال العلمي، لأن غسل اليد بالأشنان واتخاذ المناخل ليست طريقة، والآن نقول: هي عبادة، ليس فقط أن تقول: طريقة في الدين تضاهي الشرعية، هي ليست طريقة في الدين، هذا مثل إحداث الصنائع وما يتعلق بها.

    ولهذا يقول بعد ذلك: وأما الحد على الطريقة الأخرى، التي تدخل في العادات بمعنى البدعة، فقد تبين معناها؛ لأن الكلمات الأولى طريقة في الدين إلى آخره، هي كلمات في الحد الأول، قال: إلا جملة (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية).

    ما الفرق بين كلمة (يقصد بها التعبد لله) التي تخص العبادات، وبين كلمة (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية)؟ قال: ومعناها أن الشريعة جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم، فهذا الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات، وإما أن تتعلق بالعبادات، أما العبادات فقد سبق أمرها، قال: [وأما العادات إنما وضعها لتأتي]، أي: وضعها المبتدع لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها، ثم مثل لذلك، قال: [فمن يجعل المناخل في قسم البدع، فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول]، المناخل التي ينخل بها الدقيق، ويصفى بها الدقيق، قال: [فمن يجعل المناخل في قسم البدع، فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أقل منه بغير المنخول]، يقول: من يأتي بالمناخل فإنما جاء لكمال مصلحته، ومصلحته أنه يتمتع بالدقيق المنخول أكثر من غير المنخول، قال: [وكذلك البناءات المشيدة المختلفة، التمتع بها أبلغ من التمتع بالخرب والحشوش] يعني: بالأبنية البسيطة أو الرديئة [ومثله المصادرات في الأموال] في الأموال له مناسبة لا بأس بها، قال: [وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك].

    إذا تأملت وجدت أنه قال: وكذلك البناءات المشيدة، كأنه على الطريقة الثانية تأتي مسألة البناءات المشيدة مع أنها في الأول لما قال كلمة: (الدين) أخرجها وهذا ليس تناقضاً، فإن له في النظر ما يبرره؛ لأنه في الأول يتكلم عن الشيء من حيث هو، فالبناء من حيث هو، بل يريد هنا أن يقول: إن من يقصد بها تمام المصالح يلحقه هذا الإشكال.

    فإذاً: إذا قلت على أصحاب الطريقة الثانية الذين يجعلون البدعة تأتي في معنى العادات والعبادات قالوا: البناءات من حيث هي ليست من الدين، إذاً تخرج؛ لأن البدعة طريقة في الدين، فتخرج، لكنهم يقولون: إذا كان يقصد بها أن مصلحته لا تتحقق إلا بهذه الطريقة يقولون: هذا القصد يدخلها في المعنى؛ لأن يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية، ما هو القصد بالطريقة الشرعية؟ يقول: مصالح العباد، وهذا الالتفاف على المعنى أرى أن فيه تكلفاً كثيراً في فرض معنى البدعة؛ لأن الإنسان بطبعه لا بد أن يفعل الفعل عن قصد، فلا شك أن من يتخذ البناءات المشيدة، أو المناصب أو ما إلى ذلك، لا بد أنه يقصد بها ما هو مصلحة عنده، أو عندما تقول: إن الشريعة جاءت برعاية كل مصالح العباد، ما نقصت الشريعة شيئاً؟ نقول: نعم ما نقصت الشريعة شيئاً، ومما جاءت به الشريعة أنها أباحت، والله يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، فكل ما تجدد للناس من أحوالهم فهذا مما جاءت به الشريعة، وهو هنا لم يقصد أمراً ينافي المعنى الشرعي.

    فإذاً: لا يمكن أن تتحول الأشياء العادية المحضة بمثل هذا المقصد الذي هو المصلحة، فلو قصد بها تعبداً أو ما إلى ذلك في بعض الأمور العادية فهذا جانب آخر، لكن كونه يرى أن مصلحته في الدقيق المنخول أكثر من مصلحته في غيره ما الإشكال في ذلك؟

    طبعاً الشاطبي رحمه الله لم يلتزم هذا الآن، فهو يذكر الرأيين ليس إلا، لكنه يقول في مناقشة الرأي الثاني الذين جعلوا البدعة في معنى العبادة والعادة، ومثلهما أن الإنسان يستحيل أن ينفك على القصد، فلا يمكن أن تقول هي من حيث هي من الدنيا، ولكن بقصد كونها مصلحة، لا بد من المصلحة، وإلا الإنسان ما يفعلها عادة ولهواً، لا بد أنه يفعلها لمصلحة في نفسه يراها، فإذاً: يبقى أن هذه الكلمة التي في آخر التعريف هي الكلمة الأهم في كلام المؤلف.

    معنى قوله: يقصد بها ما يقصد بالشرعية

    قال في الحد الأول: يقصد بها التعبد لله سبحانه.

    وقال في الثانية: يقصد بها ما يقصد بالشرعية، لو قال: ما هو المقصود بالشرعية؟ قد يقول قائل المقصود بالطريقة الشرعية التعبد لله، فيعود التعريف الثاني إلى الأول، لكنه رحمه الله قال في التعريف الثاني: يقصد به ما يقصد بالطريقة الشرعية، معناه: أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في الدارين، على هذا أدخل العادات في معنى البدعة؛ لأنها قصد إلى المصلحة، وما أعرف أن أحداً من أهل العلم يلتزم هذه الطريقة بهذه الصورة، أنه يجعل العادات إذا قصد بها المصلحة أنها تكون بدعة، إلا إذا افترضنا أنه قصد أن هذه المصلحة التي تحصلت له من عادته التي جاء بها أو ورثها، أن الشريعة ما جاءت بها، ولو جاءت بحكم هذه المصلحة أو إقرارها، أو تحصيلها وما إلى ذلك، فلا شك أنه إذا افترض في عادة ما أنها على مصلحة فاتت إذا عرض هذا في قلوب بعض الناس أن الشريعة قد فاتها ذكر هذه المصلحة فلا شك أن هذا يدخل في موضوع الضلال والبدع، وربما أكثر من ذلك أحياناً، لكن إذا كان مقصوده أن الدقيق المنخول أصلاً عنده خير من غيره، نظام بني آدم البسيط، ولا أحد من الناس يمارس هذه الأمور العادية ويفترض أن الشريعة ما حصلت له هذه القضية، إذا كان من البسطاء من الناس يقول لك: ما الدليل على كذا في الشرع مثلاً؟ لا. هو يعرف الشرع، ويعرف أن الشرع أباح الأشياء من حيث الأصل، الأصل في الأشياء الإباحة، ويعرف قواعد عامة في الشرع، كما أسلفت في قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [الأعراف:32]، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119].

    فإذاً: المحرم مفصل، ومعناه أن المباح هو المجمل بمعنى هو الأصل، وهلم جرا.

    تقييم تعريف الشاطبي للبدعة

    فإذاً: كنتيجة كما أرى مع نفاسة هذا الكتاب وجلالته أنبه في تعريفه إلى أن هذا الحد الذي ذكره الشاطبي يعد من الحدود العلمية الممكنة وليس من الحدود العلمية التي تعتبر حدوداً منضبطة منتهية، لأنه كما أسلفت لا يكون الحد منتهياً منضبطاً إلا إذا توارد العلماء على معناه على أقل الأحوال إن لم يكن على حروفه.

    وهنا ليس الأمر كذلك، أيضاً الحد فيه كثير من الإجمال، ولا سيما في كلمة الاختراع، لما قال: (مخترعة) وبين أن ما له أصل ليس مخترعاً، وما ليس له أصل يكون مخترعاً فيبقى أن هذا كلام صحيح ولكنه كثير الإجمال.

    وفي الأخير قال: (يقصد بها التعبد لله)، وفي الثانية تقول: (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية).

    المعيار في دخول العادات في البدع

    وهنا لو سألنا سؤالاً مجرداً كنتيجة لهذا البحث: هل البدعة شرعاً تختص بباب العبادات، أم أنها تكون في العبادات والعادات؟

    الجواب: الحرف الأول والحرف الثاني كلاهما من الحروف التي يدخلها إجمال، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله، وهذا من بعد نظره، يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة المجمل والقياس. وقالت الفلاسفة قبل ذلك كما قال ابن تيمية : وقال الحكماء من الفلاسفة: أكثر اختلاف العقلاء من جهة المشترك.

    الآن إذا سألت السؤال وقبل أن تجيب بالأول أو بالثاني، ينبغي أن تقول: ما المقصود بالعبادات؟ وما المقصود بالعادة التي قد تكون بدعة؟

    العادة من حيث هي مجردة ليست بدعة، هي أمر من إقرار الشارع العام، لكن العادات قد يختص بها من الأحوال ما يجعلها عبادة، يعني: قد يتعلق بها إما من الإرادات أو من الهيئات أو من الأمور التي تضيفها إلى الشريعة، فتكون من هذا الوجه بدعة.

    فالأصل أن البدعة شرعاً هي وجه من التعبد، فحيث وجد قصد التعبد في القلب سواءً كان هذا أمراً قلبياً محضاً، أو كان أمراً قلبياً وله فعل وحركة وصورة، فحيث وجد التعبد في القلب، فإن هذا التعبد القلبي إما أن يكون ثابتاً شرعياً أو ليس بثابت، فإن كان له أثر شرعي فهو من السنة، وإن لم يكن فليس بذاك.

    أما إذا كان الذي في القلب ليس تعبداً، سواء كان أمراً قلبياً محضاً أو كان أمراً فعلياً ليس تعبداً، فهذا لا يدخل في باب البدع، كما أنه لا يدخل في باب العبادات، ولا تسميه عبادة فلا تسميه بدعة، إلا إذا التحق القصد القلبي بهذا الفعل.

    المفهوم من هذا أن البدعة تقابل السنة، والسنة هي الإيمان، والإيمان في فهم سلف هذه الأمة هو قول وعمل، وأنتم تعرفون أنهم خالفوا المرجئة في إدخال العمل في مسمى الإيمان.

    وهنا سؤال على الاختصار: هل العمل الذي أدخله أهل السنة في الإيمان أرادوا به العمل المجرد من القلب؟ هل يوجد عمل مجرد من القلب مطلقاً فيكون عملاً إيماناً؟ الجواب: لا.

    ولهذا المرجئة يقولون: كيف يكون الإيمان تصديقاً، فكيف تكون الصلاة إيماناً وهي حركة؟

    نقول: لا. الصلاة حركة، ولكن هذه الحركة متضمنة أمور القلب، ولهذا من يأتي مثلاً بجوار الكعبة أو في محل الطواف بالبيت، فربما دار فيه يبحث عن صاحب له، لا يقصد أنه يطوف بالبيت، هل تقول: إنه أتى بشوط من الأشواط السبعة؟

    الجواب: لا. ولهذا ما يتعلق بالقصد القلبي لا بد أن يكون موجوداً.

    إذاً: البدعة لا صلة لها بالعادات من حيث هي، لكن قد يتعلق بالعادة اتصالاً من جهة القلب أو الإرادات أو الهيئات الفعلية، فتكون بدعة من هذا الوجه.

    وعليه إذا قيل: هل البدعة تكون في العادات أم في العبادات؟

    فيكون الأصل في الجواب من حيث الحكم الشرعي أن تقول: البدعة تتعلق بالعبادات، ممكن إن صحت العبارة تستطيع أن تفلسف في الموضوع، وتدخل البدعة حتى في العادات، لكن إذا تحققت وجدت أنك ما أدخلتها في العادات المحضة، أي: العادة المجردة من حيث هي، فالعادة دخل عليها اتصال آخر، هذا الاتصال هو الذي حركها لتكون بدعة، وليس من جهة كونها عادة مجردة، القضية أن المنطق الشرعي الصحيح أن تقول: إن البدعة تقابل السنة، فهي ما كان من باب التعبد، لكن ليس بالضرورة أن هذا التعبد يكون كما في بعض التعابير التي ذكرها الشاطبي رحمه الله: يقصد به المبالغة. لا، ما دام أن مادة التعبد القلبية موجودة أو الهيئة التعبدية الفعلية أو القولية موجودة فإنه يكون بدعة سواء قصد المبالغة أو لم يقصد، ربما قصد الاقتصار عن السنة بهذا الفعل.

    فإذاً: هذا هو الجواب عن هذين الرأيين.

    والشاطبي رحمه الله هكذا ساق الأمور أن ثمة رأيين ممن لم يدخلوا العادات كما أسلفت، فلا يوجد أحد من المتقدمين من سلف هذه الأمة جعل العادات في معنى البدع من حيث هي عادة مجردة، إلا إذا دخلتها شيء من الخصائص كالتزامها بمثل التزام العبادات الشرعية.

    مثال ذلك: التحية في العيد، التحية التي درج الناس عليها، يحيي بعضهم بعضاً في العيد، مثلاً: كل عام وأنتم بخير وما إلى ذلك، لم توجد في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنها وجدت في آخر عصر الصحابة كما ذكر بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: وجدت في زمن التابعين، والإمام أحمد لما سئل عنها قال: أنا لا أبدأ به أحداً، ومن بدأني أجبته.

    فهذا نعتبره من باب ما اعتاده الناس في تحيتهم.

    قد يقول قائل: لا، هو يثاب على هذا الكلام، حتى الأمور العادية يثاب عليها الإنسان، كما في الحديث الصحيح لما قال معاذ لـأبي موسى : (وإني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) وهذا الاحتساب وطلب الثواب من الله هذا مقصد آخر: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

    إذاً: ما يتعلق بالعادات المحضة المجردة لا أحد يقول: إنها من حيث هي تكون بدعة إلا إذا اتصل بها ما يحركها إلى ذلك.

    إذاً: أي التعريفين هو الأقرب: هل هو التعريف الذي يقول: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها المبالغة في التعبد لله سبحانه؟

    أم الثاني الذي يقول: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية؟

    يقال: الإشكال الآن أن الأول فرع عن رأي من لا يدخل العادات، والثاني فرع عن رأي آخر.

    إذاً: ليس الإشكال في الحروف فقط، إنما الإشكال أن هذا فرع عن مذهب يختلف عن المذهب الثاني، مع أنك ترى أن الحروف في حقائقها العلمية متقاربة، ولا يوجد هذا الفرق بين الرأيين على سبيل السعة المطلقة، فتكون النتيجة أنه ليس بالضرورة أن نلتزم التعريف الأول ولا التعريف الثاني.

    وكأن المناسب في تقريب الحد أن يقال كما قال المصنف: أنها طريقة في الدين مخترعة يقصد بها التعبد لله سبحانه وتعالى.

    وأما كلمة (المبالغة) في الأول فليست شرطاً، وأما كلمة (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية) فهي فيما أرى تعبير مناسب، لكن ليس بالضرورة أن يكون معنى هذا التعبير إدخال العادات، فمثلاً تقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية، فإذا قيل لك: إذاً أنت ممن يلتزم دخول العادات؟ قيل: هذا ليس بلازم؛ لأنه ما المقصود بالطريقة الشرعية في آخر التعريف؟

    المقصود بالطريقة الشرعية هي العبادة لله، أليس المصنف يقول: طريقة في الدين مخترعة، قال: لماذا أخرجنا (مخترعة)، قال: لنخرج ما ليس له أصل.

    فهذه العادات من حيث هي تحتاج إلى نظر؛ لأن العادات من حيث هي عادات مجردة حتى لو أن الذين يسألونها إنما يفعلونه لكونها مصالح لهم -وهذا هو أصل في الناس- هذا له أصل في الشرع، أليس المصنف يدخل موضوع تنظيم العلوم وما إلى ذلك في قضية المصالح المرسلة، فهذا يدخل في المصالح، ويدخل في قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ[الأعراف:32] ويدخل قواعد شرعية لا حصر لها، فإذا دخل على العادة متصل من التعبد فهذا انتقلت به من كونها عادة إلى كونها عبادة، فكأن هذا الفرض ليس له ذلك الأهمية.

    وأقول ذلك؛ لأني أخشى أن التعريف الأول يضيق المعنى، فيأتي من يقول: هذا ليس من باب المبالغة في التعبد، ونخشى من التعريف الثاني أنه يفتح التبديع والحكم على الأشياء حتى دخول كثير من العادات وتسميتها بالعادات الإباحية، فمن بنى بناءً مشيداً، وقال: إن هذا البناء المشيد مصلحته أتم وأجود إلخ من البناء الخرب، أين المشكلة في هذا؟

    قد يقول قائل: لا. سيأتي الإفراط. نقول: لا تدخل في النظريات المنفصلة، بل المتصلة بماهية الشيء، هذه أمور أخرى، لو فرض فارض أن الشريعة ما دلته على هذا، وإنما اخترعه بنفسه، أو أن هذا الإسلام كأنه أغلقه فجاءت الحضارة المعاصرة فهي التي عرفتنا به، وكان الإسلام ينهانا عنه، هذه أمور يرد عليها في موضوعنا، ويقال: إن من قال: إن الإسلام ينهى عنه أخطأ في فهمه للإسلام.

    لكن الذي نختصر الكلام به أن التعريف الأول بتمامه ولا سيما إذ تبينت كلمة مبالغة، فأرى أن فيه تضييقاً، وإغلاقاً للمسألة، والتعريف الثاني كأن فيه امتداداً لا مبرر له، كثير منه لفظي أكثر من كونه يحمل حقيقة علمية منتظمة.

    أفضل تعاريف البدعة

    فإذا قيل: بم يمكن أن نعرف البدعة؟ قيل: لو عرفتها بالأول، وأنا هنا ما أريد أن أقول: إن التعريف الأول ليس بصحيح، ممكن أن نقول: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، هذا التعريف صحيح بشرط أن يفهم على وجهه.

    ما معنى (يقصد بها المبالغة)؟ إذا فسرتها بأن البدعة من حيث هي مبالغة، ومن حيث هي زيادة، فقل بهذا التعريف، لكن أن تقول بهذا التعريف على أن معنى المبالغة شرط من جهة القصد، لا من جهة الحيثية المتعلقة بماهية الشيء، فهذا ليس كذلك.

    ويمكن أن نقول بالتعريف الثاني: أن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية، ونقول: هذا التعريف صحيح، لكن لما نفسر آخر التعريف: (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية) بأن المقصود به التعبد لله.

    ولا ندخل في فرضية العادات وما إلى ذلك، بحيث لا تطول بل فتنقلب من كونها عادة إلى كونها عبادة، كما أن الفعل إذا صاحبه قصد معين تحول من كونه سنة إلى كونه بدعة.

    إذاً: التعريف الأول لا بأس به كتعريف يفقه على وجهه.

    والثاني: لا بأس به كتعريف يفقه على وجهه، أما أنه يؤخذ كتعريف على معنى الرأي الأول كما عبر الشاطبي والثاني على معنى الرأي الثاني، فهذا لست أراه أن مما يكون وسطاً لهذا الباب.

    فالأول يكون فيه قدر من الإغلاق، والثاني يكون فيه قدر من الإطالة والزيادة فيما يسمى بدعة، ويكون المختصر من القول أن نأخذ أحد التعريفين على شكل مناسب، أو التعريف للبدعة بأنها طريقة في الدين يقصد بها التعبد لله، وإن قلت: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية فهذا نفس الكلام، وهو معنى التعبد لله سبحانه وتعالى.

    وهذا يدل على ما أشرت إليه أن هذه التي سماها أهل النظر والأصول في الفقه بالحد أو الرسم أو التعاريف كما يقول أهل اللغة، هذه أمور إن صحت العبارة أمور تقريبية للمعاني، وليس معناها أنها تشتمل على الحقيقة من كل وجه، أو أنها تتضمن الحقيقة من كل وجه، وإن قال قائل: حتى إذا قلنا بهذا التعريف الوسط بين التعريفين، أو أخذنا أحد التعريفين على تمييز في فقهه، إلى الآن لم نستوعب الفرق بين السنة والبدعة؟ أقول: نعم، هذا صحيح وهذا لا بد فيه من استقراء، وهذه الدروس فيها من هذا الاستقراء الذي نحاول أن نصل إليه، وأهم ما في هذا الاستقراء كلمة (مخترعة) ما معنى أن هذا له أصل، وأن هذا ليس له أصل، هذا يشكل في كثير من الأمور، متى تقول: إن هذا له أصل، وإن هذا ليس له أصل، هل الأصل هو النص الصريح بالحكم؟ أم أن الأصل قد يكون أوسع من ذلك إلى درجة الاستحسان والمصلحة المرسلة؟ وإذا دخلت في الاستحسان والمصلحة المرسلة انتقلت انتقالاً واسعاً في الفهم عن دلالة النص المعين على الشيء، فإذا كانت هذه القواعد العامة كالمصلحة المرسلة ونحوها تستعمل، فلا بد أن يكون ثمة فقه في استعمالها، وليس الحل في هذه الأمور كما أسلفت بفرض أحد الرأيين على الإطلاق، يعني: ليس من الحكمة أن تأتي وتقول: المصلحة المرسلة لا تعد أصلاً في تمييز السنة عن البدعة أو تقول إنها أصل من كل وجه؛ لأن ثمة أشياء قد لا ينضبط فيها هذا الأمر كما هو معروف، ولهذا يتأكد معك كثيراً أن هذا الباب باب الاعتصام بالسنة أصوله معروفة ومنضبطة، فأصول البدع بينة، كبدع الخوارج والقدرية والجهمية وما إلى ذلك، هذه الأصول البدعية المشهورة واضحة ما فيها إشكال، وكذلك السنن البينة كالصلوات والزكاة والصوم، السنن بمعنى الكليات من التشريع، كذلك السنن حتى المستحبة، لكن تأتي صور هي التي تدخل على هذه المادة من التردد أحياناً، وأحياناً يكون هذا التردد عند العامة، وأحياناً قد يدخل هذا التردد حتى في فقه الخاصة من أهل العلم.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767957638