الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب إحياء الموات, وهي الأرض الداثرة التي لا يعلم لها مالك، فمن أحياها بحائط أو حفر بئر, أو إجراء ماء إليها, أو منع ما لا تزرع معه, ملكها بجميع ما فيها إلا المعادن الظاهرة؛ لحديث ابن عمر : ( من أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها ), رواه البخاري.
وإذا تحجر مواتاً بأن أدار حولها أحجاراً، أو حفر بئراً لم يصل إلى مائها، أو أقطع أرضاً فهو أحق بها, ولا يملكها حتى يحييها بما تقدم ].
قول المؤلف: (باب إحياء الموات)، عرف المؤلف إحياء الموات على تعريف علماء اللغة, فقال: ( وهي الأرض الداثرة ), وفي نسخة: (وهي الأرض البائرة التي لا يعلم لها مالك).
ويعرفها الفقهاء بقولهم: هي الأرض المنفكة عن الاختصاص وعن ملك معصوم.
وقولهم: المنفكة عن الاختصاصات كمسيل الماء, فهذا مختص لعامة الناس, كذلك المكان الذي فيه مرعى, تعرفون الفيضة؟ الفيضة هذه لا يجوز أن يقوم شخص ويقول: أنا أحييت، لماذا؟ لأنها عامة للناس؛ ولأن فيها منفعة لعامة الناس, أو يحجرها, كل ذلك لا يجوز؛ لأن هذا أكل لأموال المسلمين بالباطل، وكذلك لا يجوز أن يحيي أرضاً فيها حطب؛ لأن هذا الحطب فيه منفعة لعامة الناس, فلا بد أن تكون الأرض مواتاً, وليس فيها بئر لأحد, فإذا كان فيها بئر لأحد وإن لم يعلم, فلا يجوز أن يحييها؛ لأنها لأناس, فيجوز أن يأتي أصحابها فيدعونها, فلا بد أن تكون هذه الأرض بائرة داثرة, ليس فيها أثر لملك أحد.
فإذا ثبت هذا فلا بد أيضاً -والمؤلف لم يشر إلى هذا- أن لا تكون هذه الأرض قريبة من العامرة؛ لأن ما كان قريباً من عامر القرية فسوف ينتفع فيه أهل البلد,؛ لأنها تتعلق بها مصالح الناس, كالطرق والمسيل, ومطرح القمامة, وملقى التراب, أو ملقى الآلات, فالقريب لا ينبغي إحياؤه كما أشار إلى ذلك المالكية, والواقع أن بعض الناس يقوم بإحياء الأراضي القريبة من البلد, وبمجرد مرور خمس سنوات تقريباً يصل الناس إلى هذه الأرض, وهذا لا ينبغي.
ثم إن الإحياء المقصود به في كل بلد على حسب عرفهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحيا أرضاً ), والإحياء يختلف من بلد لآخر, هذا الذي يظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.
منها قوله: (فمن أحياها بحائط)، ومعنى ذلك: أن يبني عليها حائطاً.
ومنها قوله: (أو حفر بئراً, فإنه يملكه), أي: يملك البئر وحريمه, وهو خمسون ذراعاً من اليمين وخمسون ذراعاً من اليسار, أما أن يملك ملايين الكيلو مترات؛ بدعوى أنه أحياها, فهذا ليس إحياء, والإحياء معروف, يكون في الأرض القريبة, مليون متر, خمسمائة ألف, أما أن يضع بئراً في مكان, ثم يحوط على ثمانية وثلاثين أو أربعين, أو خمسين أو ستين, أو عشرة مليون متر, فهذا لا يجوز؛ لأن الإحياء لا بد أن يكون إحياءً حقيقياً, بحيث ينتفع الناس من هذا البئر, أو تنتفع الأرض من هذا البئر.
ومنها قوله: (أو أجرى ماء إليها), ومثل, هذا لا يوجد عندنا في الرياض, لكن مثل بعض الأنهار الموجودة في بعض الأماكن, فتكون هناك أرض داثرة بائرة, فبشق من الجدول أو من البئر أو من النهر شقاً تصل إلى هذه الأرض, فهذا نوع من الإحياء؛ لأن فيه نفعاً لهذه الأرض.
فسواء حفر بئراً وخرج منه ماء, أو أجرى عليها ماءً, وكذلك لو كان في واد في الشتاء فأخرج قناة إلى أرضه من بعيد, فانتفعت به هذه الأرض, ولولاه بعد الله سبحانه وتعالى لما حصل لهذه الأرض إحياء, ففيه نوع من الإحياء؛ لأنه عمل.
ومنها قول المؤلف: (أو منع ما لا تزرع معه), يعني: لو أن هناك أشياء تزرع فيها فمنعها, بحيث تنتفع الأرض بذلك, فهذا أيضاً من الإحياء.
معادن ظاهرة, ومعادن باطنة, أما المعادن الظاهرة: فهي التي لا تفتقر إلى عمل, مثل الأرض السبخة الملحية, فإنها بمجرد أن تجف تأخذ منها الملح، فهي لا تفتقر إلى عمل, فلا يجوز إحياؤها؛ لأن فيها مصلحة للناس, ومن أمثلة ذلك: الجص, وهو الإسمنت الأبيض، فإنه أحياناً يكون طبقة على الأرض, ويعالج بطريقة بسيطة, فيستخدم للبناء, فمثل هذه تعتبر معادن ظاهرة, ليس فيها كلفة ولا عمل، فهذه لا يجوز إحياء الأراضي التي هي فيها.
وأما المعادن الباطنة: وهي التي لا تحصل إلا بعمل, مثل الذهب الذي تحت الأرض, والحديد، والنفط إن كان ينبع مثل البئر, فهو يعد من المعادن الظاهرة, وإن كان يتطلب خروجه عملاً, فإنه يكون من المعادن الباطنة, فلو أن شخصاً أحيا أرضاً بأن أجرى عليها الماء, وبدأ يحفر ويبني، أو وجد نحاساً أو يورانيوم فإنه يملكه كما قال المؤلف؛ لأنه قيد ذلك بالظاهرة؛ وهذه المعادن لا تكون معادن إلا بحفر وعمل, ثم إجراء الاختبارات عليها وغير ذلك, لكن إذا كان الذهب منجماً كبيراً، ورأى ولي الأمر أن هذا المنجم لمصلحة الناس فلا حرج, بشرط أن يعوض صاحب الأرض ويكون هذا من باب انتزاع الملكية الخاصة للمصلحة العامة, وفي هذا بحث لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى.
قول المؤلف رحمه الله: (لحديث ابن عمر : ( من أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها ), رواه البخاري هذا قاعدة هذا الباب, وهذا الحديث فيه أمور:
أولاً: لم يروه البخاري من حديث ابن عمر , وإنما رواه من حديث عائشة .
ثانياً: لم يروه البخاري بهذا اللفظ, وإنما رواه بلفظ: ( من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق ), قال: عروة الراوي عن عائشة : قضى به عمر في خلافته.
وفي حديث جابر : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له, وليس لعرق ظالم حق ), وهذا الحديث روي مرفوعاً ومرسلاً, والصواب إرساله كما أشار إلى ذلك الدارقطني و أبو عمر بن عبد البر , لكن الحديث ثابت بمجموع طرقه.
قول المؤلف: (وإذا تحجر مواتاً بأن أدار حوله أحجاراً, أو حفر بئراً لم يصل إلى مائها, أو أقطع أرضاً فهو أحق بها).
أما لو حفر بئراً ولم يخرج منها الماء ثم تركها, فجاء شخص فأراد أن يحييها فإننا نقول: صاحب الحفر الأول أحق بها, ولكنه لا يملكها, فلولي أمر المسلمين أن يقول له: أحيي هذه الأرض وإلا سوف نأخذها منك, فإن عجز صارت عامة لعامة الناس.
وكذلك إذا حجر أرضاً, يعني: مثل الذين يضعون عقم على هذه الأراضي, فإنه يكون أولى بها, لكنه لا يملكها, ولو جمع قبيلته في منع ذلك, وهذا أكل لأموال الناس, فلا بد أن يحييها الحياة الحقيقة, أما إذا لم يحيها فإن ذلك يعد أكلاً بالباطل وسوف يكون خصمه المسلمين جميعاً.
لا بأس في مثل الأراضي المنتزعة التي يسمونها: صكوك التعويض, كأن تكون أرض لشخص، فجاءت الدولة فرأت أن من المصلحة انتزاع ملكيتها إلى بيت المال, فنزعت فيخرج له صك على أنه يملك أرضاً مثل مساحة الأرض التي أخذت منه فيبحث على أرض ليست لأحد، فإذا بحث عن أرض ليست لأحد وأخذها فلا حرج؛ لأن هذا نوع من الإقطاع الذي يجوز لولي أمر المسلمين، وقد جاء في حديث أبيض بن حمال ، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً ), والحديث رواه أبو داود وبعضهم يضعفه, وليس لـأبيض الصحابي حديثاً إلا هذا الحديث والله أعلم.
قول المؤلف: (فهو أحق بها ولا يملكها حتى يحييها بما تقدم)؛ لحديث: ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ), وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الذي يبني في البر فلة أو دوراً أرضياً, فقد أحياه؛ لأنه إن بنى حائطاً فقد أحيى، فهذا من باب أولى.
وعلى هذا فالذين يذهبون من أصحاب القرى كأن يكونوا خمس عوائل أو عشر، ويضعون خيامهم ثم يبنون من الطين أماكن لهم, فإنهم يملكونها بهذا الإحياء, لأن هذا نوع من الإحياء.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر