إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! زينة الحياة الدنيا وعدة الزمان بعد الله هم الشباب الناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة، أو يعهد عليهم صبوة، يستبقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا ولهم الظل الظليل يوم القيامة، ولئن تطلعت الأسرة لإصلاح ناشئتها، ورغبت في أن تقر عينها بصلاحهم، فعليها أن تهتم بتربيتهم وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجد وقوة من العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا يفسد المجتمع ويهلك في الهالكين إلا حين يفسد أجياله، ولا ينال الأعداء من أمة إلا إذا نالوا من شبابها وصغارها، والله عز وجل ذكر عن أنبيائه أنهم توجهوا إلى ربهم بصلاح ذرياتهم قبل وجودهم ومن بعد وجودهم، فمن دعاء زكريا عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة، وقال إبراهيم عليه السلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40].
وقال الله عز وجل: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف:15] يدعو به كل مؤمن.
وقال سبحانه: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
من الشباب ينشأ العلماء العاملون والجنود المجاهدون، وفيهم الصناع والمحترفون، إذا صلحوا سعد بهم المجتمع، وقرت بهم أعين آبائهم وأمهاتهم، وامتد نفعهم وحسنت عاقبتهم، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طرق التربية بقوله لـابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، رواه أحمد والترمذي.
إن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة ورسوخ الإيمان، وصدق التعلق بالله وحده، والاعتماد عليه، وإن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها، والتوكل عليه، واليقين الجازم بأنه سبحانه بيده الضر والنفع، وغرس القناعات في الواجب والمحرم مما جاء به الإسلام.
إن قوي العزيمة من الشباب من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبداً لشهواته، فتعس عبد الدينار وعبد الدرهم، ومن صرامة العزيمة وعلو الهمة أن يفرغ الفؤاد عن الشهوات، والعواطف السريعة، هذا عبد الرحمن الداخل صقر قريش رحمه الله تعالى حين قدم الأندلس أهديت له جارية فنظر إليها، وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شغلت عنها بما أهم به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهم به ظلمت همتي، ألا فلا حاجة لي بها ثم ردها إلى صاحبها.
إن الشهوات والعواطف وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يسقط الهمم ويفتر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن وذكاء العقل وقوة البصيرة، ولكن قوي الإرادة فيهم وعالي الهمة ونافذ العزيمة هو الكاسب المتفوق، يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون، بل إن بعض الشباب قد يكون أقل إمكانيات وأضعف وسائل ولكنه يفوق غيره بقوة الإرادة وعلو الهمة والإصرار على الإقدام، وإنه لحقيق بالرجال القوامين على التربية أن يعطوا هذا الدرس مكانه، أعني: علو الهمة ومضي العزيمة، من أجل بناء صروح من العز شامخة، إن لم يكن كذلك فقد ظلم المجتمع نفسه، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12].
وإنك لتعجب من زهد كثير من المسلمين اليوم في القراءة، والاطلاع على ميراث النبوة، وتعلم العلم الشرعي، فلو سألت كثيراً من الشباب: كم ختم كتاب الله عز وجل في هذه السنة؟ لوجدت العجب من الإجابة، وهل قرأ في صحيح البخاري فضلاً من أن يقرأه كاملاً؟ لوجدت العجب أيضاً، بينما تدل الإحصاءات على أن غير المسلمين يقرءون ويمضون أوقاتهم في القراءة.
ويقول بعض الحكماء: إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة والمسموعة فجربها واعمل بها، فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها.
إن المعلومات النظرية التي لم ينقلها العمل من دائرة الذهن والأفكار المجردة إلى وقائع الحياة لا فائدة فيها، فالجندي لا تنفعه معلوماته إذا لم يمارسها في الميدان، وطالب الشريعة لا ينفعه علمه إذا لم يمارس في الدعوة إلى الله عز وجل وتطبيق ما تعلم، وماذا ينفع الطبيب علمه وكراريسه وأدواته إذا لم يمارسها طباً وعلاجاً.
أيها الشباب! احذروا الوقوف عند حدود الأماني، والاقتصار على الكلام والمقترحات المجردة، فذلك يفتح أبواباً مخوفةً من الجدل الطويل والثرثرة القاتلة للوقت والجهد والمواهب، وما الأماني إلا رءوس أموال المفاليس.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله أيها الشباب، واعلموا أن للعمر أجلاً، وأن الآمال عريضة في بحر لا ساحل له، فسارعوا إلى العمل الصالح، واحفظوا لحظات العمر، واشغلوا الوقت بما ينفع في العاجل والآجل.
إن ما سبق التنبيه عليه من بعض السلوكيات الخاطئة التي توجد في مثل أوقاتنا هذه، سببها هو عدم شغل أوقات الشباب بما يعود عليهم بالنافع.
إن الشاب إذا لم يشغل في مشاريع الخير والإنتاج المثمر نهبته الأفكار الطائشة، وعاش في دوامة من الترهات والمهازل، كما أن شغل الأوقات وشحنها بالأعمال والواجبات، والانتقال من عمل إلى عمل، ومن مهمة إلى مهمة ولو كانت خفيفة يحمي المرء من علل البطالة ولوثات الفراغ، والنفس كما قال الشافعي رحمه الله: إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وإن المجتمع إذا أراد أن يتخلص من مفاسد كثيرة وشرور عريضة عليه أن يتحكم بأوقات فراغ الشباب، وإذا تأملت الشريعة تجد أن التكاليف الشرعية في الإسلام منظور فيها إلى هذه الحقيقة، وأن الشريعة تدور على الجهاد ومجاهدة النفس ومجاهدة الناس، فالصلوات الخمس في ترتيبها وتوزيعها، والعبادات الأخرى في واجباتها ونوافلها بدنيةً ومالية، والأذكار بكرةً وعشياً، قياماً وقعوداً وعلى المضاجع، والحرف والمهن، والقيام بالحقوق للقريب والبعيد، كل ذلك جهادات ومجاهدات تستغرق العمر كله لحظةً لحظة، ولا تبقي فرصةً للغفلة والذهول.
وأنتم أيها المدرسون المربون عليكم كفل في تنوير الشباب، والعمل على قضاء فراغهم في مثل هذه الأيام بما يعود عليهم بالنافع عاجلاً وآجلاً، اجتمعوا وتدارسوا في مثل هذه السلوكيات الخاطئة، وقوموا بعلاجها، تؤدوا حق الله عز وجل وحق مجتمعكم.
نسأل الله عز وجل بمنه وكرمه التوفيق والسداد.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم لا تدع لنا في هذا اللحظات المباركة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مريداً للحق إلا وفقته، ولا مريداً للشر إلا هديته، يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر