أما بعد:
فإن من الأهداف والمقاصد التي جاءت بها شريعتنا السمحة بناء الفرد وإقامة المجتمع الصالح، الذي تصل بين أفراده جسور المحبة والصفاء، وتنشأ بين أبنائه علاقات الأخوة والتعاون، القائمة على أسس التعاون المشترك والحب المتبادل، فلا مكان فيهم للأنانية، ولا الأثرة ولا الفردية، قلوب الأفراد مفعمة بالحب لإخوانهم، وألسنتهم سرت بذكر محاسنهم وفضيلتهم، سليمة من الوقوع في أعراضهم، لا يحملون حقداً، ولا ينشرون كذباً.
لقد طالب الإسلام أهله أن يرعوا حق الإيمان والأخوة، وأن يصلحوا ذات بينهم إن كانوا مؤمنين، وأن يقفوا سداً منيعاً أمام الأمراض الاجتماعية، التي تأتي على بنيان المجتمع من القواعد، وتحوله إلى مجتمع صراع، لقد دعا الإسلام إلى الحفاظ على سلامة المجتمع، وضمان أمنه واستقراره، وإنه لا يزال المجتمع بخير ما عرف فيه أفراده حقوق بعضهم تجاه بعض، وسادت بينهم الأخلاق الفاضلة التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث )، وروى مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع )، وفي رواية: ( كفى بالمرء إثماً ).
عباد الله! إن شأن المسلم ألا يقبل أي قول يصل إلى مسمعه دون التثبت والتحري، فقد يكون المخبر مغرضاً، أو يجر مغنماً، أو يدفع عنه مضرة، أو ينال مكانة، هناك من الناس من يوغرون الصدور، ويبعثون الشرور، فتحدث القطيعة والشحناء، والعداوة والبغضاء بين الأزواج والأقارب والجيران وسائر أفراد المجتمع.
وخطر هؤلاء في المجتمع كبير، أحدثوا فجوات بين المسلمين، كم جنوا على الأبرياء! وكم أشعلوا نار العداوة والبغضاء! وهذا يحتم على المسلمين أن يحذروهم فلا يصدقوهم، وذلك مبدأ عظيم تجب المحافظة عليه؛ سداً للباب أمام الوشاة والذين ينقلون الشائعات، روى البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت )، وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق )، وحينما تولى عبد الله بن أبي رأس المنافقين كبر الإفك بين الله عز وجل المنهج الذي ينبغي للمسلم أن يقفه، فقال سبحانه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12]، إلى أن قال الله عز وجل: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:16-17]، وهو منهج يجب أن يحتذى عند سماع كل شائعة؛ لئلا يحصل الندم بالإساءة إلى مسلم، وإشاعة ما ليس فيه، وهذا ضرب من السعي في الأرض بالفساد والله يقول: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، ونوع من الإيذاء للمؤمنين، والله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
وروى مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة نمام )، وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة قتات )، فقال بعض العلماء بأنهما بمعنى واحد، وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: الفرق بينهما أن النمام هو الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه، وحكى الذهبي في كتابه الكبائر الإجماع على تحريم النميمة وذكر أنها من كبائر الذنوب.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )، وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم ما العضه؟ )؛ وهي أشد البهتان، قال: ( هي النميمة القالة بين الناس ).
عباد الله! أبعد هذا الوعيد يرتضي أحد من المسلمين هذا المسلك المشين؟ أبعد هذا الوعيد ينقل أحد كلاماً وهو لا يتثبت منه؟ رب كلمة تموت في حينها ولا تبارح مكانها، ورب كلمة صارت شرارة فأضرمت ناراً عظيمة تقضي على الأخضر واليابس، وقد قيل: إن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة.
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه )، خرجاه في الصحيحين.
وإن تعجب فعجب شأن من يسلم عقله لهؤلاء النمامين، والذين ينقلون الشائعات، فيصدقهم في كل ما يقولون دون تثبت، قال الغزالي رحمه الله تعالى: من حملت إليه النميمة، وقيل له: إن فلاناً قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا وكذا، أو هو يدبر إفساد أمرك، فعليه بستة أمور:
الأول: أن لا يصدقه؛ لأن النمام فاسق، والفاسق مردود الشهادة.
الثاني: أن ينهاه عن ذلك.
الثالث: أن يبغضه في الله تعالى.
الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث، وتتبع العورات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضح ولو في جوف رحله ).
السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، ولا يحكي نميمته.
جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فذكر له عن رجل شيئاً، فقال عمر رضي الله عنه: يا هذا! إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وإن كنت صادقاً، فأنت من أهل هذه الآية: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك فلا تعود إليه، فقال: العفو يا أمير المؤمنين! ولا أعود إليه أبداً.
إننا لنشكو إلى الله تفشي هذه الظاهرة في صفوف كثير من المسلمين اليوم، ألا فلنتق الله عباد الله، ولنحذر من هذه المسالك المشينة، لتتق الله النساء، فإن سوق النميمة ونقل الأقوال من غير تثبت في صفوفهن رائجة، وليتق الله أصحاب الاستشارات، وحملة الأقلام والتقريرات فلا يتحاملوا على البرآء الغافلين، ولا يسيئوا الظن بالمسلمين، ولاسيما أهل الخير والفضل، وليتق الله طلبة العلم فلا يحملهم الخلاف فيما فيه سعة، ولا الانتصار لوجهات النظر على الوقيعة في إخوانهم وسوء الظن بهم.
وليتق الله أرباب هذه البضاعة الخاسرة، فيفكوا عن هذا المسلك الذي حرمه الله ورسوله، وليتوبوا إلى ربهم قبل أن يفجعهم الأجل ولات ساعة مندم.
اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، واهدنا سبل السلام، اللهم اكفنا شر كل حاسد ونمام، إنك خير مسؤول وأكرم مأمول، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اتقوا الله عباد الله! وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
عباد الله! من أسباب الوقوع في هذه الأخلاق المشينة: ضعف الإيمان وسوء التربية، ورفقة السوء، وانطواء القلوب على الحقد والحسد والكبر، إضافة إلى الفراغ والبطالة التي يعاني منها البعض.
ومن ذلك أيضاً: السعي إلى إرضاء الآخرين ومصانعتهم وإضحاكهم، ومن ذلك الهوى والجهل بعواقب هذا الداء الخطير.
أما طريق علاجه فإنه يكمن في تقوية الإيمان، وأن يتذكر من أراد أن يتكلم بما رتب على هذه الأخلاق المقبوحة من سوء عاقبة وعذاب، وعلى المسلم قبل أن ينطق بكلمة عليه أن يزنها، وقد ذكر النووي رحمه الله تعالى: أن ما يتكلم به العبد إما أن يكون محضاً خيراً فيقدم عليه، وإما أن يكون شراً محضاً فيمتنع منه، وإما أن يتردد بين ذلك فالسلامة أن لا يتكلم.
ومن طرق العلاج: التربية الحسنة من قبل الآباء والمربين والمعلمين، ومن ذلك: الرفقة الصالحة، وإعمار وقت الفراغ بالعلم النافع والعمل الصالح، ومن ذلك: سلامة الصدور، والانشغال بعيوب النفس عن عيوب الغير، وليتذكر من ابتلي بهذا الأمر مصرعه في قبره، فإن ذلك من أسباب عذاب القبر كما سلف في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وليتذكر موقفه يوم العرض على ربه، وليحافظ على لسانه، فإن الكلمة قبل أن ينطق بها هو ماسك لزمامها، وبعد أن ينطق بها لا يتمكن منها.
وليشغل لسانه بالخير، والدعوة والذكر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه أن يبلغه أحد عن أحد ما يسوءه، روى أبو داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر ).
فعلينا أن نسعى للإصلاح والتوفيق، لا للتباعد والتنافر والتخريب، روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة )، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ).
الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم، فإياكم وإرضاء الشيطان، وتحقيق مآربه.
ولنكن كحال الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً يوماً مع أصحابه، فقال: ( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )، ولم يكن رضي الله عنه كثير صوم ولا صلاة، وإنما هو كما قال عن نفسه رضي الله عنه: ( غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال
وقال الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
اللهم اغفر لنا وراحمنا وعافنا واعف عنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.
اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجلنا من القانطين، اللهم إنا نسألك سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر