تقدم لنا: هل للأب أن يتملك من مال ولده، أو ليس له ذلك؟ وذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله، وأن المشهور من المذهب: أن الأب له أن يتملك من مال ولده، وعند أكثر أهل العلم أنه ليس له ذلك، وأيضاً هل يجوز الرجوع في الوصية وفي الهبة؟
المؤلف رحمه الله ذكر بأنه لا يجوز الرجوع إلا للأب، وذكرنا أيضاً كلام أهل العلم رحمهم الله، وأيضاً ذكرنا شيئاً من الموانع التي تمنع من الرجوع، وتقدم لنا أيضاً ما يتعلق بالعطية وهي الهبة في مرض الموت، وذكرنا أن الأمراض تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المرض غير المخوف.
القسم الثاني : المرض المخوف.
والقسم الثالث: الأمراض الممتدة.
وذكرنا حكم كل قسمٍ من هذه الأقسام فيما يتعلق بالتبرعات، أما ما يتعلق بالتصرفات بالبيع والشراء، والإجارة، والشركة، والمساقاة، والمزارعة، وتحصيل المال، وتنميته ونحو ذلك فالمريض كالصحيح تماماً حتى ولو كان مرضه مخوفاً إلا أنه يمنع من التصرفات التي فيها المحاباة؛ لأن هذا نوع من التبرع.
فإن حصل محاباة في تصرفاته فهذه تحتسب من الثلث، فتصرفاته بالعقود غير التبرعات هذه كلها جائزة بشرط أن يكون عقله باقياً، فإذا كان عقله باقياً فإن تصرفاته هذه صحيحة.
وتقدم لنا: أن الوصية والهبة في مرض الموت يتفقان بأنهما يصحان في الثلث فأقل لغير الوارث، والمؤلف رحمه الله ذكر فروقاً لما كانا يتفقان في بعض الأحكام.
فذكر المؤلف رحمه الله شيئًا من الفروق التي تختلف فيها الوصية عن الابن، فالفرق الأول كما تقدم لنا: أن الهبة يُقدم الأول فالأول، وأما الوصية فإنه يسوى بين المتقدم والمتأخر، تكلمنا في هذه المسألة وضربنا مثالاً على ذلك.
الهبة في مرض الموت لا يملك الرجوع فيها إذا لزمت، لكن لو كانت وصية يملك الرجوع فيها، فالوصية كما سيأتينا تبرع بالمال بعد الموت، وتقع غير لازمة، وهذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسانيد صحيحة، وسيأتينا إن شاء الله، فيصح أن يرجع في الوصية، فله أن يبطل الوصية وله أن يرجع فيها، لكن بالنسبة للهبة إذا وقعت لازمة فإنه لا يملك الرجوع فيها.
الفرق الثالث: قوله رحمه الله تعالى: (يعتبر القبول) يعني: القبول للهبة، لكن متى يكون القبول في الهبة؟ ومتى يكون القبول في الوصية؟ القبول في الهبة عند الهبة في حال الحياة، وأما القبول في الوصية فإنما يكون بعد الموت، فلو قال: أوصيت لزيد بألف ريال، فقال زيد: قبلت، هذا القبول غير معتبر؛ لأننا لا ندري ربما يموت الموصى له قبل الموصي، وربما أنه أيضاً يفتقر ونحو ذلك.
فالقبول في الوصية يكون بعد الموت؛ لأنها تبرعٌ بالمال بعد الموت. وأما القبول في الهبة فإنما يكون عند وجود الهبة في حال الحياة.
الفرق الرابع: الملك في الهبة في مرض الموت يثبت عند القبول، فإذا قبل ملك، لكن يقول العلماء رحمهم الله: هذا الملك مراعى، إن كان الثلث فأقل نفذ كله، وإن كان أكثر من الثلث لم ينفذ منه إلا الثلث، فمثلاً: لو وهب زيداً وهو في مرض موته سيارة، وهذه السيارة تساوي مائة ألف فقال زيد: قبلت، هل يملك زيد السيارة أو لا يملك؟
نقول: يملك السيارة، لكن هذا الملك -كما يقول العلماء- مراعى، فننظر ما تكون عليه حاله عند الموت، فإن كانت تركته عند الموت تساوي ثلاث مائة فأكثر تنفذ، وإن كانت ما تساوي إلا مائة وخمسين، ينفذ منها قدر خمسين ألفاً، وهو النصف.
فالهبة تُملك عند وجود القبول، لكن هذا الملك كما يقول العلماء: إنه مراعى، ننظر ما تكون عليه حاله عند الموت وكم يملك؟ لأن الثلث معتبر عند الموت، كما سيأتينا في الوصايا وحينئذٍ ننظر، إن كانت هذه الهبة تساوي الثلث فأقل نفذت، وإن كانت تساوي أكثر من الثلث لا ينفذ إلا بقدر الثلث فقط.
أما بالنسبة للوصية فإنها لا تُملك إلا بعد الموت؛ لأن القبول إنما يكون بعد الموت إذ أنها تبرع للمال بعد الموت.
أيضاً من الفروق بين الوصية والعطية: أن الوصية تصح من السفيه -غير الرشيد- كما سيأتينا، وأما بالنسبة للعطية فإنها لا تصح من السفيه.
كذلك أيضاً من الفروق أن الوصية تستحب بقدر المعلوم فيستحب أن تكون الوصية على المشهور من المذهب بقدر الخمس كما سيأتي إن شاء الله.
وأما بالنسبة للهبة فإنه ليس لها قدر معلوم.
والوصية بالتصرفات هذه يسميها العلماء وصية وإيصاء، فالوصية تشمل التبرعات، وتشمل أيضاً التصرفات.
التبرعات مثلاً: وصى له بألف ريال، التصرفات، قال: يكفنني فلان، أو يغسلني فلان، فالوصية شاملة للتبرعات، وكذلك للتصرفات.
وأما بالنسبة للهبة فإنما هي في الأموال والمختصات كما تقدم لنا.
كذلك أيضاً الوصية تصح من الصبي المميز، وأما الهبة فلا تصح من الصبي المميز، إلا في الأمور اليسيرة كما تقدم لنا.
والعمرى: هي الهبة مدة العمر، كأن يقول: وهبتك هذا عمرك أو حياتك. ومثله أيضاً الرقبى.
القسم الأول: أن تكون مطلقة كما لو قال: أعمرتك هذا البيت ويطلق، فهذه للموهوب له ولذريته من بعده، يعني تكون هبةً مؤبدة، فنقول: القسم الأول أن تكون مطلقةً، فإذا كانت مطلقة لم تُقيد بما يدل على الرجوع، فهذه نقول: إنها للموهوب له: للمُعمر ولورثته من بعده.
ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر: ( لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو له حياته ومماته )، وحديث جابر في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى لمن وهبت له) وحديث ابن عمر رواه الإمام أحمد ، وكذلك أيضاً النسائي.
القسم الثاني من أقسام العمرى: أن يأتي بما يدل على التأبيد، فهذه أيضاً حكمها كحكم القسم الأول، تكون للمعمر ولورثته من بعده، حكمها أن تكون هبةً مؤبدة، مثال ذلك أن يقول: أعمرتكها أبداً، أو أن يقول: لك ولذريتك من بعدك، إذا أتى بما يُشعر بالتأبيد.
القسم الثالث: أن يشترط الرجوع فيها، يعني: لا تكون مطلقة ولا يأتي فيها بما يدل على التأبيد وإنما يشترط الرجوع فيها، كما لو قال: أعمرتك هذا البيت ثم يرجع لي، أي أعمرتك إياه مدة حياتك ثم يرجع لي، أو ما عشت ثم بعد ذلك يرجع لي.
فهنا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، هل هذا شرطٌ صحيح، أو أنه ليس شرطاً صحيحاً؟ المذهب ومذهب الشافعية أنها لا ترجع للواهب، وقالوا: بأنه شرط فاسد فيلغى هذا الشرط، واستدلوا على ذلك بحديث جابر : (أن رجلاً من الأنصار أعطى أمه حديقة نخلٍ حياتها، فماتت فجاء إخوته، فقالوا: نحن شرعٌ فيه سواء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أنها ميراث)، رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما.
الرأي الثاني: أنه شرطٌ صحيح، لما تقدم أن المسلمين على شروطهم، وتقدم لنا أن الشروط في العقود صحيحة، فإذا شرط أن ترجع إليه فنقول: بأنه شرطٌ صحيح؛ ولأن هذا الرجل لم يخرج هذه الهبة إلا بهذا الشرط، فنقول: بأنه شرط صحيح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر