فصل: ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني, ويصح النكاح وسائر العقود, ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمراً, ولا سلاح في فتنة, ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه, وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه ولا تكفي مكاتبته, وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة ويقسط المعوض عليهما].
تقدم لنا شيء من الأحكام المتعلقة بالعقد، وذكرنا فيما تنعقد به العقود أن العلماء رحمهم الله ذكروا للعقود صيغتين: صيغة قولية، وصيغة فعلية.
وذكرنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنه يشترط لصحة العقد الرضا، وذكرنا أن الرضا يعتبر كالقاعدة في كل العقود، وأن من شروط العقد أيضاً أن يكون العاقد جائز التصرف، وذكرنا من هو جائز التصرف، وكذلك أيضاً من شروط العقد الإباحة في المعقود عليه، وذكرنا ضابطاً لذلك وهو: كل ما أبيح نفعه أبيح العقد عليه، إلا ما استثناه الشارع، وكذلك أيضاً من شروط العقد: أن يكون المعقود عليه مقدوراً على تسليمه، وكذلك أيضاً: أن يكون معلوماً.
ثم بعد ذلك قال رحمه الله تعال: (يصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان)
الرمان مأكوله في جوفه, والبطيخ مأكوله في جوفه، ومثل ذلك أيضاً البيض، فيصح بيع مثل هذه الأشياء وإن لم تفتح؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ ولأن القول بوجوب فتحها يؤدي إلى مفسدة، فمثلاً لو قلنا: إن البطيخ يجب أن تفتحه، وأن تكسره، والرمان يجب أن تكسره، والبيض كذلك لأدى ذلك إلى مفسدة، فالحاجة تدعو إلى مثل هذه الأشياء، فمن القواعد: أن المشقة تجلب التيسير
قال رحمه الله: (وبيع الباقلاء ونحوه).
في قشره مثل الحمص والجوز واللوز.. إلخ، فهذه الأشياء التي تكون مستترة في قشرها تأخذ حكم البطيخ والرمان؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك, ولو قلنا بأنه لا بد أن تفتح مثل هذه الأشياء لأدى ذلك إلى مفسدة.
قال رحمه الله: (والحب المشتد في سنبله)
الحب يكون مستتراً في السنابل, ويدل لهذا (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد)؛ فدل ذلك على أنه إذا اشتد فإنه يجوز أن يباع، ومعنى اشتداد الحب أن يقوى ويصلب، أي: الحبة تكون قوية صلبة بحيث إذا ضغطت لا تنضغط.
هذا الشرط السابع من شروط العقد، أن يكون الثمن معلوماً، ودليل ذلك ما تقدم من قول الله عزّ وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، في الميسر البائع يدخل وهو مخاطر، وكذلك أيضاً المشتري، فمثلا: لوقلت لبائع سيارة: أشتري منك السيارة بما في جيبي! فإن كان ما في جيبك أقل من ثمن السيارة فالبائع غارم, وإن كان أكثر فهو رابح، فهو يدخل في هذه المعاملة إما غانماً أو غارماً، ومثله أيضاً المشتري، إن كان الثمن الذي دفعه المشتري إلى البائع أقل من ثمن السيارة فهو غانم، وإن كان أكثر فهو غارم. فكل منهما يدخل في هذه المعاملة، وهو مغامر، وهذا ضرب من الميسر، وأيضاً من أدلة النهي عن هذا البيع حديث أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر).
أي إن باعه بثمنه المكتوب عليه؛ فلا يصح إذا كانا يجهلان هذا الثمن أو أحدهما يجهل هذا الثمن، أي مثلاً إن قال: بعتك هذا الكتاب بالثمن المكتوب عليه، أو هذا الثوب بالثمن المكتوب عليه، وكانا يجهلان، أو أحدهما يجهل هذا الثمن، فيقول المؤلف رحمه الله: لا يصح، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لأن من شروط صحة العقد: أن يكون الثمن معلوماً، والثمن هنا ليس معلوماً.
الرواية الثانية: عن الإمام أحمد رحمه الله، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن هذا صحيح؛ لأنهما يتمكنان من العلم، وعلى هذا نقول: يصح إذا باعه برقمه، أو بالثمن المكتوب عليه، ويكون له خيار الرؤية، وعند الحنفية يصح أن يبيعه السلعة وإن لم يذكر الثمن.
والعلة في النهي هنا هي: حصول الغرر، فإذا باعه واتفقا على ثمن مجهول وأنهما لا يتفاصلان؛ فهنا يحصل الغرر، لو قال مثلاً: بعتك الكتاب بما في جيبي، على أنهما ينتهيان على ذلك؛ فنقول: بأن هذا يحصل به الغرر، أما إن لم يكن هناك غرر, وباعه السلعة ولم يذكر الثمن، ثم بعد ذلك ضرب ثمن المثل؛ فإن هذا جائز ولا بأس به، هذا رأي الحنفية رحمهم الله, ويدل لهذا أن الله سبحانه وتعالى قال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، فيصح على الرجل أن يعقد على المرأة دون أن يذكر المهر، ويسمى عند العلماء رحمهم الله بالمفوضة، وسيأتينا إن شاء الله أحكام المفوضة في النكاح، أي التي تركت تسمية الصداق, فالعلماء رحمهم الله يقولون: يصح العقد مع المرأة، وإن لم يذكر المهر، وحينئذ يجب لها مهر المثل، وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه(سئل عن امرأة توفي عنها زوجها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقاً، فقال
أي: بعض هذا الألف ذهب وبعضه فضة, مثاله: لو باعه السيارة بعشرة آلاف ريال سعودية، ودينارات كويتية، فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟ يقول لك المؤلف رحمه الله: لا يصح، والصحيح أن هذا جائز ولا بأس به, وهذا هو الرأي الثاني في المذهب، وحينئذ يحمل على المناصفة، فنقول: ألف درهم من الفضة، نصفها دنانير، وهي تساوي مثلاً مائة دينار، فالخمسمائة الأولى تكون بمائة دينار، والخمسمائة الثانية تكون من الفضة.
مثله أيضاً لو قال: بعتك عشرة آلاف دينارات كويتية وريالات سعودية، فنقول: تحمل على المناصفة, فننظر: خمسة آلاف ريال سعودية كم تساوي من الدينار الكويتي؟ فنعطيه من الدينار الكويتي بمقدار خمسة آلاف ريال سعودية، والباقي هي الخمسة آلاف السعودية.
مثاله: يقول المشتري للبائع: اشتريت منك السيارة بما يتوقف عنده السعر, فخذ السيارة واعرضها في الحراج, وما يتوقف عليه السعر فأنا أشتري به، ومثل ذلك الأرض أو الكتاب، فما يتوقف عليه السعر أنا أشتري به.
يقول المؤلف رحمه الله: هذا لا يصح؛ للجهالة، فنحن لا ندري ما يتوقف عليه السعر، قد يتوقف السعر على عشرة آلاف، وقد يتوقف السعر على خمسة عشر ألفاً، فيقول: لا يصح، وهذا رأي الجمهور.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله، وأيضاً اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن العلة هي الغرر، وما دام أن السعر واصل إلى هذا الحد، فهذا ليس فيه غرر؛ لأن هذا سعرها عند الناس، فلم يغبن، بل يقول ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة.
مثاله: أن يقول: أنا أشتري السيارة بمثل ما تبيع به الوكالة الفلانية، أو بمثل ما يبيع به المعرض الفلاني، أو بمثل ما يبيع به زيد من الناس فيقول المؤلف رحمه الله: هذا لا يصح؛ بسبب الجهالة؛ لأنه لا يدري بما يبيع به صاحب المعرض الفلاني، أو ما تبيع به الوكالة الفلانية.
فيقول المؤلف: لا يصح، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة، والصحيح في ذلك: أنه إذا كان ما يبيع به زيد معروفاً عند الناس، وأنه ذو خبرة ومعرفة فإنه ينتفي الغرر، لأن العلة هي الغرر، فما دام أن الغرر قد انتفى صح العقد.
المقصود بالثوب هنا: القماش الذي يزرع, والمقصود بالصبرة: مجموعة الطعام، كالبر والشعير... إلخ, فلو باع صبرة الطعام كل مد بريال، أو باع الغنم كل واحدة بخمسمائة ريال, أو باع الثوب الذي يزرع كل متر بريالين، فيقول المؤلف رحمه الله: بأن هذا صحيح، لكن يشترط أن تكون هذه الأعيان من هذه السلع متساوية، أو متقاربة، أما إذا كان بعضها كبيراً وبعضها صغيراً أو مختلفة، بما يوقع في الغرر؛ فنقول: بأن هذا لا يجوز، وهذا فيما إذا اشتراها كل عين بكذا وكذا، فنشترط أن تكون متساوية، أو متقاربة، فإن كانت متساوية أو متقاربة، فنقول: بأن هذا صحيح.
ولو باعه السلع هكذا دون أن يكون كل سلعة بريال أو بريالين، فباعه الصبرة هكذا؛ فهذا جائز ولا بأس به، أو الدكان باعه هكذا، أو مثلاً هذه الكتب باعها هكذا بألف ريال، أو بألفي ريال؛ نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن المشتري يتمكن من النظر إلى هذه السلع، وحينئذ تنتفي الجهالة.
قال رحمه الله: (وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم)
لو قال: بعتك من هذا الجح كل حبة بريال، فتأخذ أنت عشراً أو عشرين، أو من الغنم كل شاة بكذا فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يصح للجهالة؛ لأن (مِن) للتبعيض، فالعلة في ذلك حصول الجهالة، فلا ندري كم سيأخذ! وهذا المشهور من المذهب.
والرأي الثاني: أن هذا جائز ولا بأس به، وهذا ذهب إليه ابن عقيل رحمه الله من الحنابلة؛ لأن القول بأن ما سيأخذه مجهولاً صحيح، لكن لا يترتب عليه غرر صحيح؛ لأن الثمن معلوم، فإذا أخذ عشراً فهي بثمنها، وإن أخذ عشرين فهي بثمنها، فالصواب في ذلك هو: ما ذهب إليه ابن عقيل رحمه الله تعالى، وأن هذا جائز ولا بأس به.
يقول المؤلف: لا يصح؛ لأنه قد يختلف الصرف, والصحيح أن هذا يصح إذا كان الصرف معلوماً، فمثلاً لو قال: بعتك بعشرة آلاف ريال إلا مائة دينار كويتي، فنقول: إذا كان الصرف معلوماً عندهم, وأن الدينار الكويتي يساوي مثلاً عشرة ريالات، إذاً المائة دينار تساوي ألف ريال, فكأنه باعه بتسعة آلاف؛ فهنا نظر.
هذه المسألة تسمى عند العلماء بمسائل تفريق الصفقة، ومسائل تفريق الصفقة هي: أن يجمع في صفقة واحدة بين ما يصح العقد عليه وبين ما لا يصح العقد عليه في عقد واحد بثمن واحد.
المسألة الأولى من مسائل تفريق الصفقة: قال المؤلف رحمه الله: (أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه، ولم يقل كل منهما بكذا لم يصح)
إذا جمع بين سلعة معلومة وسلعة مجهولة، فإنه لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يتعذر العلم بالمجهول؛ فنقول: لا يصح العقد، ولهذا قال المؤلف: (لا يصح) مثال ذلك: قال: بعتك هذا الكتاب، وحمل هذه الفرس بعشرة آلاف، فنقول: بعتك الكتاب هنا معلوم، لكن حمل الفرس مجهول يتعذر علمه، فلا ندري هل هو ذكر أو أنثى، حي أو ميت، متعدد أو غير متعدد, فهنا جمع بين معلوم ومجهول يتعذر علمه، فنقول: لا يصح العقد في المعلوم، أما المجهول فأمره ظاهر لا يصح فيه العقد، لكن حتى في المعلوم لا يصح العقد؛ لأننا لا نتمكن من تقدير ثمن المعلوم، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن لا يتعذر العلم بالمجهول؛ فنقول: يصح العقد في المعلوم بقسطه من الثمن، مثال ذلك: باعه هذا الكتاب والكتاب الذي في البيت بمائة ريال، فالكتاب الذي في البيت مجهول، لكن لا يتعذر علمه؛ لأنه يمكن أن نأتي بالكتاب حتى يكون معلوماً، فنقول هنا: يصح العقد في المعلوم بقسطه من الثمن، أما المجهول فلا يصح العقد عليه؛ لأنه تخلف شرط من شروط صحة العقد، وهو العلم بالمعقود عليه.
وكيف نخرج القسط؟ الجواب: نقول: هو الآن عقد على الكتابين بمائة ريال، فنسأل: هذا الكتاب المعلوم كم يساوي؟ فلو قالوا مثلاً: المعلوم هذا يساوي خمسين ريالاً، فنقول: أحضروا الكتاب المجهول، ثم نسأل: كم يساوي؟ فلو قالوا مثلاً: يساوي مائة ريال، والثمن الذي تم على الكتابين هو: مائة ريال، فنقول: يصح العقد على المعلوم بقسطه من الثمن، فننسب قيمة المعلوم إلى مجموع القيمتين، فنسبة الخمسين إلى المائة وخمسين هو: الثلث، فيكون إذاً ثمن الكتاب المعلوم: ثلث المائة، وهو: ثلاث وثلاثون ريالاً وثلث ريال, فنقول: يصح العقد على الكتاب المعلوم بثلاث وثلاثين ريالاً ولا بد أن نفرق بين الثمن وبين القيمة. فالثمن ما اتفق عليه المتعاقدان.
قال بعض العلماء: الثمن ما دخلت عليه باء العوض، وأما القيمة فهي: ما تساويه السلعة عند التجار، فقد يتفقان على خمسين ريالاً، لكن السلعة تساوي مائة ريال، فعندنا قيمة وعندنا ثمن، فقيمة المعلوم يقولون: تساوي خمسين، فننسب قيمة المعلوم إلى مجموع القيمتين، فخمسين إلى مائة وخمسين تساوي الثلث، فيكون ثمن المعلوم ثلث المائة، وهو ثلاثة وثلاثون ريالاً وثلث ريال، وهذه الطريقة تفيدك في كل صفقة جمع فيها بين ما يصح العقد عليه وبين ما لا يصح العقد عليه، فمثلاً: باع عصيراً وخمراً، أو كتباً وآلات لهو بمائة ألف ريال، فالكتب هذه يصح العقد عليها، لكن آلات اللهو نقول: لا يصح، لكن كيف نقدر ثمن هذه الكتب؟
نقول: كما تقدم، فالمهم إذا جمع بين ما يصح العقد عليه وما لا يصح العقد عليه نقول: يصح العقد على ما يصح العقد عليه بقسطه من الثمن، وكيف تعرف القسط؟ تنظر إلى قيمة السلعتين، ثم بعد ذلك ما صح العقد عليه تنسب قيمته إلى مجموع القيمتين، ثم تأخذه من الثمن بمقدار تلك النسبة, هذه هي الطريقة.
إذا باع مشاعاً بينه وبين غيره، كعبد مشترك بينهما، أو سيارة مشتركة بينهما يقول المؤلف رحمه الله: صح بقسطه, فلو كانت السيارة شركة بين زيد وعمرو، فزيد أخذ السيارة وباعها بعشرة آلاف ريال، دون أن يستأذن شريكه. نقول: يصح البيع إن أجاز الشريك فإذا لم يجز الشريك نقول: يصح في نصيب البائع؛ لأنه يصح العقد عليه، وأما نصيب الشريك فإنه لا يصح نصيب البائع بقسطه، فنقول يصح بيع نصف السيارة مثلا -الذي هو نصيب البائع- بنصف الثمن الذي جرى عليه العقد، فالعقد جرى على عشرة آلاف ريال، فيصح العقد هنا بخمسة آلاف ريال على نصف السلعة.
كذلك مثلاً: صاعان من البر لزيد وعمرو، فجاء زيد وباع الصاعين، نقول: يصح البيع في نصيب البائع الذي هو زيد، وما دام أنه يملك صاعاً فقط, وقد باع صاعين بمائة ريال، فنقول: يصح بيع صاعه بنصف الثمن وهو: خمسين ريالاً، وأما الصاع الآخر فإن أذن صاحبه صح البيع في هذا التصرف الفضولي، وإذا لم يأذن فإنه لا يصح.
هذا -كما ذكرنا- باع ملكه وملك غيره، ولنفرض أنه باع سيارته وسيارة زيد بعشرة آلاف ريال، فنقول: يصح البيع في سيارته بقسطها من الثمن، فننظر كم تساوي سيارة زيد؟ فإذا فرضنا أن سيارة زيد تساوي خمسة آلاف ريال، وسيارته تساوي عشرة آلاف ريال، فمجموع القيمتين تساوي خمسة عشر ألفاً، فننسب قيمة سيارته إلى مجموع القيمتين، فقيمة سيارته عشرة، فعشرة إلى خمسة عشر بتساوي الثلثين، فيكون إذاً ثمن سيارته التي يصح العقد عليها هو ثلثي العشرة ألف؛ الذي هو عشرة آلاف.
ومثل ذلك أيضاً قال: (أو عبداً وحراً) هذا رجل باع عبداً يملكه وحراً لا يملكه. فنقول: يصح في الرقيق الذي يملكه بقسطه من الثمن، (أو خلاً وخمراً) الخل يصح بيعه، والخمر لا يصح بيعه فنقول: يصح في الخل بقسطه من الثمن.
قوله: (ولمشترٍ الخيار إن جهل الحال).
لأن المشتري فاته بعض السلعة، فهو الآن اشترى السيارتين بعشرة آلاف ريال على أن البائع يملك هاتين السيارتين ثم بعد ذلك تبين له أن السيارة الأولى ليست ملكاً للبائع، وإنما هي ملكاً لغير البائع، ولم يأذن في البيع. فنقول: المشتري بالخيار، إن شاء فليفسخ البيع، وإن شاء فليمضه.
تقدم لنا في باب صلاة الجمعة أن من تلزمه الجمعة هو: البالغ العاقل الذكر الحر عند جمهور العلماء, المستوطن ببناء يشمله اسم واحد، فإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فإنه لا يصح البيع، ويدل لذلك قول الله عزّ وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، فنقول لا يصح البيع بعد نداء الجمعة.
قال رحمه الله: (ويصح النكاح وسائر العقود).
المؤلف رحمه الله في هذه المسألة تمسك بظاهر النص، وهذا هو المشهور من المذهب، أن عقد النكاح يصح بعد نداء الجمعة الثاني، وعقد القرض يصح بعد نداء الجمعة الثاني، وهكذا تصح العقود، وإنما الذي لا يصح هو البيع فقط؛ لأن النص إنما ورد في البيع.
والرأي الثاني: رأي الشافعية والحنفية، أن النهي يشمل كل ما يشغل عن الجمعة، وهذا هو الصواب، فأيهما أشد إشغالاً: كونه يشتري بريال عود أراك، أو أنه يعقد عقد نكاح؟! فالصحيح، في ذلك: أن كل ما يشغل عن الجمعة من العقود نقول: إنه لا يصح.
لهذه المسألة ضابط, لكن الفقهاء رحمهم الله تعالى تارة يذكرون بالمثال، فنقول: الضابط هنا هو: أن كل ما استعين به على محرم فإنه لا يصح العقد عليه، فلا يصح بيع العصير ممن يتخذه خمراً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، ومثل ذلك أيضاً: بيع الآلات التي تستخدم في أمور الشر، فإذا ظن أن هذا الشخص يستخدمها في أمور الشر فإنه لا يجوز أن يبيعها، كالأشرطة وسائر الآلات، إذا ظن أنه سيستخدمها في الأمور المحرمة، فإنه لا يجوز بيعها له، والعلماء يقولون: يكفي الظن، أما إذا ظن أنه سيستخدمها في أمور الخير فإن هذا جائز، أو لم يترجح له شيء؛ فالأصل في ذلك الحل، فالأقسام ثلاثة: القسم الأول: أن يظن أنه يستعملها في أمور الشر، أو في المحرم، فإنه لا يجوز. القسم الثاني: أن يظن أنه يستعملها في أمور الخير، فهذا جائز. القسم الثالث: أن لا يترجح عنده شيء؛ فنقول: الأصل في ذلك الحل.
أي بيع الرقيق المسلم للكافر، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يجوز؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه؛ ولأن الكافر إذا أسلم عنده الرقيق فإنه يجب عليه أن يخرجه عن ملكه، إما بإعتاق أو بيع أو نحو ذلك.
قال المؤلف: (إذا لم يعتق عليه) إذا كان يعتق عليه فإن هذا لا بأس به؛ لأنه يكون وسيلة إلى تحريره وإعتاقه، ومتى يعتق الرقيق على الشخص إذا ملكه؟ الجواب: إذا كان ذا رحم محرم منه، فإنه إذا ملكه فإنه يعتق عليه، والرحم المحرم: كل شخصين لو كان أحدهما ذكراً فإنه لا ينكح الآخر، فنقول: بإنه إذا ملكه عتق عليه، فمثلاً: لو أن الأخ اشترى أخاه؛ عتق عليه.
وعلى هذا؛ لو أن الكافر اشترى أخاه فنقول: يجوز لأنه وسيلة إلى أن يعتق عليه، فإن كان لا يعتق عليه مثل ابن العم مع ابن عمه نقول: ذلك لا يجوز؛ لأنه لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى؛ جاز أن يتزوج بالآخر، فإذا لم يعتق عليه, نقول: بإن هذا غير جائز.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن أسلم في يده، أجبر على إزالة ملكه)
لما تقدم أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] فيجب أن يزيل ملكه عنه، إما أن يعتقه، وإما أن يبيعه، وإما أن يهبه.
قال رحمه الله: (ولا تكفي مكاتبته).
الكتابة: هي أن يشتري الرقيقُ نفسَه من سيده، فلو قال: أنا أكاتبك. يقول المؤلف رحمه الله: (لا تكفي المكاتبة)، لأن المكاتب رقيق مادام أنه بقي عليه درهم، كما ورد ذلك عن الصحابة بأسانيد صحيحة، ولذلك قال المؤلف: (لا تكفي مكاتبته) بل يجب عليه أن يخرجه عن ملكه ببيع، أو هبة، أو إعتاق، أما لو قال: أنا أكاتبك، فاشتر نفسك مني بثمن مؤجل نقول: لا يجوز؛ لأن المكاتب لا يزال رقيقاً.
نعم! هنا جمع بين عقدين, لكن لا بد أن نفرق بين مسألتين: هذه المسألة وبين مسألة يذكرونها في شروط عقد البيع، فالجمع بين العقود في صفقة واحدة جائز، الذي لا يجوزونه هو: أن تشترط عقداً في عقد آخر، فإذا اشترطت عقداً في عقدٍ آخر؛ فالمشهور من المذهب أن هذا محرم، ولا يجوز، وهو شرط فاسد مفسد، وسيأتينا إن شاء الله, لكن هنا نحب أن ننبه أنه لا بأس أن تجمع عقدين، فمثلاً لو قلت: أجرتك البيت لمدة سنة، وبعتك السيارة في صفقة واحدة، جمعت بين عقدين صفقة واحدة، يقول المؤلف رحمه الله: هذا جائز، ولا بأس به، أو جمعت بين سلم وبين بيع، أيضاً هذا جائز، كأن تقول: بعتك السيارة وتعطيني سلماً مائة صاع من البر، وتأخذ مني الآن مائة ألف ريال قيمة السلم، يقول المؤلف رحمه الله: هذا جائز ولا بأس به، فالجمع بين عقدين صفقة واحدة لا بأس به، مثل أيضاً: زوجتك البنت وبعتك السيارة بمائة ألف، هذا جائز ولا بأس به، جمع بين عقد النكاح وعقد البيع صفقةً واحدة، هذا جائز ولا بأس به.
وقوله: (صح في غير الكتابة), يعني: لو قال لرقيقه: كاتبتك، وبعتك السيارة بعشرة آلاف ريال، يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح البيع، لكن الكتابة تصح؛ لا يصح البيع لأنه لا يزال رقيقاً، فكونه يقول: بعتك لرقيقه لا يصح؛ لأن المكاتب رقيق له، حتى وإن عتق لا يصح أن يبيعه، لكن ما الحل إن قال لرقيقه: بعتك السيارة وكاتبتك بعشرة آلاف ريال؟ قال: (يقسط العوض بينهما) والتقسيط -كما تقدم- بنظر كم قيمة الكتابة، وكم قيمة السيارة؟ فقالوا: قيمة السيارة: خمسة آلاف، وقيمة الكتابة لهذا الرقيق: عشرة آلاف، فمجموع القيمتين: خمسة عشر ألفاً، فالذي يصح هنا هو الكتابة، التي قيمتها عشرة آلاف ريال, كم نسبة العشرة في الخمسة عشر؟ ثلثان, فنقول: خذها من الثمن الذي جرى عليه العقد.
مثله أيضاً: لو أجره البيت لمدة سنة, وباعه السيارة بعشرة آلاف ريال، ففسخ العقد في السيارة كأن وجد فيها عيباً، وبقي عقد الإجارة فكيف نقسط الثمن؟ كما تقدم.
فمثلاً: الإجارة والبيع ثمنهما: مائة ألف، فالسيارة كم تساوي عند التجار؟ قالوا: تساوي مائة ألف، والإجارة؟ قالوا: تساوي خمسين ألفاً، فمجموع القيمتين: مائة وخمسون ألف ريال، والذي صح هو الإجارة، فقيمة الإجارة تساوي ثلث الثمن, فنقول: خذه من الثمن الذي جرى عليه العقد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر