[ومنها اجتناب النجاسات، فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته، وإن طين أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت، وإن كانت بطرف مصلى متصلٍ صحت إن لم ينجر بمشيه، ومن رأى عليه نجاسةً بعد صلاته وجهل كونها فيها لم يعد، وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد، ومن جبر عظمه بنجس لم يجب قلعه مع الضرر، وما سقط منه من عضو أو سن فطاهر، ولا تصح الصلاة في مقبرة، وحُشٍ، وحمام، وأعطان إبلٍ، ومغصوب، وأسطحتها، وتصح إليها، ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخصٍ منها.
ومنها استقبال القبلة، فلا تصح بدونه إلا لعاجز ومنتفل راكب سائر في سفر، ويلزمه افتتاح الصلاة إليها وماشٍ، ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها].
تكلمنا في الدرس السابق عن بقية أحكام ستر العورة، أو أخذ الزينة في الصلاة، وذكرنا من ذلك ما يتعلق ببعض الألبسة في الصلاة كالسدل، واشتمال الصماء، ولبس المعصفر، والمزعفر، والأحمر الخالص، وكذلك أيضاً: ما يتعلق بلبس الذهب، ولبس الفضة، ولبس الحرير، فأحكام الألبسة هذه يتكلم عليها العلماء رحمهم الله تعالى، في باب شروط الصلاة.
سبق أن تكلمنا عليها، وعرفنا النجاسة في كتاب الطهارة في باب: إزالة الخبث.
وكلام المؤلف رحمه الله تعالى على أن اجتناب النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة، وهذا يذهب إليه كثير من العلماء رحمهم الله تعالى، وذهب بعض العلماء إلى أنه واجب، وليس شرطاً من شروط صحة الصلاة؛ لأن الشرط لا يعفى فيه بالنسيان والجهل، فلو نسي الحدث أو أخطأ في رفع الحدث ونحو ذلك فإن صلاته لا تصح، ولا يعفى له عن ذلك، بخلاف اجتناب النجاسة كما سيأتينا إن شاء الله، فإنه لو نسي النجاسة أو جهلها كانت صلاته صحيحة؛ لأنها من باب التروك، وليست من باب الأوامر.
وعلى كل حال، سواء قلنا: بأنها شرط كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أو أنه واجب، فإن الصواب: أن الجهل بالنجاسة أو نسيان النجاسة أو الخطأ ونحو ذلك أنه معفوٌ عنه؛ لأنها كما أسلفنا من باب التروك، وليست من باب الأوامر.
والدليل على هذا الشرط: القرآن، والسنة، والإجماع.
أما القرآن: فقول الله عزّ وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، على ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن المراد بتطهير الثياب: هو إزالة الخبث عنها.
الرأي الثاني: في قول الله عز وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، أن المقصود بذلك: هو تطهير الأعمال من الشرك.
وعلى كل حال سواءٌ دلت هذه الآية أو لم تدل، فالإجماع قائم على إزالة النجاسة.
وأما السنة: فالأحاديث في هذا كثيرة، وسيأتي إن شاء الله شيء من ذلك أثناء البحث في هذا الشرط، وسائر أدلة الاستجمار والاستنجاء تدل لذلك؛ لأن أدلة الاستجمار والاستنجاء: هي إزالة للخبث، والإجماع قائم على ذلك.
قوله: (لا يعفى عنها) يُخرج النجاسة التي يعفى عنها، وقد تقدم لنا في باب تطهير النجاسات وباب إزالة النجاسة ما هي النجاسة التي يعفى عنها، وما هي النجاسة التي لا يعفى عنها، وأنهم يقولون: إن النجاسة التي يعفى عنها هي: يسير الدم في غير المطعون، وأيضاً يقولون: إن أثر الاستجمار في محله هذا من النجاسة التي يعفى عنها.. إلى آخره.
المهم قول المؤلف رحمه الله: (فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها) يخرج النجاسة التي يعفى عنها، كأثر الاستجمار في محله، فإذا حمل نجاسة كأن حمل بولاً في قارورة، أو غائطاً في قارورة، أو نحو ذلك فإن صلاته لا تصح.
لكن لو كانت النجاسة يعفى عنها، كما لو حمل مستجمراً، فإن صلاته صحيحة.
واعلم أن اجتناب النجاسة يكون في بدن المصلي، وفي ثوبه، وفي البقعة التي يصلي عليها:
أما بدن المصلي فدليل ذلك ما سلف من أدلة الاستنجاء والاستجمار.
وأما البقعة التي يصلي عليها فدليل ذلك: ما تقدم من حديث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي بال في طائفةٍ من المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوبٍ من ماء فأريق عليه.
وأما الثوب فحديث أسماء رضي الله تعالى عنها في الصحيحين: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ).
لاقى النجاسة بمعني: باشر النجاسة بثوبه، أو باشرها ببدنه، فإن صلاته لا تصح، كمن اعتمد على النجاسة، أو سجد عليها بثوبه، أو بدنه، فنقول: بأن صلاته لا تصح؛ لكن لو مس ثوبه شيئاً نجساً فإن صلاته صحيحة؛ لكونه لم يعتمد على هذه النجاسة.
المقصود بملاقاة النجاسة أن يسجد عليها، أو أن يجلس عليها، أو أن يعتمد عليها، أما لو مس ثوبه شيئًا نجسًا، كحائط نجس مثلاً، أو ثوبًا نجساً... إلى آخره، فإن صلاته صحيحة.
قال: (وإن طين أرضاً نجسةً، أو فرشها طاهراً كُره وصحت).
يقول: إذا طين أرضًا نجسة، يعني: عندنا أرضٌ نجسة، ثم جاء بالطين ووضعه عليها، أو جاء بالأسمنت مثلاً ووضعه عليها، أو أرضٌ نجسة أصابها بول فأتى بفراش طاهر ووضعه على هذه الأرض النجسة وصلى، فيقول المؤلف رحمه الله: صلاته صحيحة؛ لكن يُكره ذلك؛ لأنه اعتمد على هذه النجاسة، وهذا الفراش لا يخلو من أمرين:
إما أن يكون صفيقًا: فالصلاة حينئذ صحيحة، يعني: إذا كان هذا الفراش سميكاً، نقول: الصلاة صحيحة.
وإما أن يكون خفيفاً: فنقول: الصلاة لا تصح؛ لأنه صلى على هذه النجاسة، ومثل ذلك اليوم: إذا كان هناك مجاري، أو بيارات للصرف الصحي، ثم بعد ذلك وضع الأسمنت على هذه المجاري، أو على هذه البيارة، ثم صلى، ما حكم الصلاة هنا؟
نقول: الصلاة صحيحة؛ لكنها تُكره، ودليل الكراهة كما تقدم أنه اعتمد على هذه النجاسة، اعتمد على شيءٍ لا تصح الصلاة عليه، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة صحيحة بلا كراهة؛ لأنه وُجد الحائل، فهو صلى على طاهر، واعتمد على هذا الطاهر، والكراهة تفتقر إلى دليل شرعي، وهذا القول هو الصواب.
ومثل ذلك الآن: ما يوجد ببعض الحدائق حيث تسقى بماء الصرف الصحي، وتكون الأرض متنجسة؛ لأنها تسقى بهذا الماء، وسبق أن تكلمنا في دروس سابقة في نوازل الطهارة عن الصرف الصحي، ومتى يطهر، ومتى لا يطهر... إلى آخره.
المهم إذا لم يصل إلى مرحلة الطهارة، وسقيت به بعض الحدائق، فإذا صليت في هذه الحديقة، وفرشت السجادة، وكانت السجادة سميكة ليست خفيفة، فنقول: الصلاة صحيحة، وهل تكره الصلاة أو لا تكره الصلاة؟
الصواب في ذلك: أن الصلاة غير مكروهة، لما تقدم من وجود الحائل الطاهر؛ ولأن الكراهة حكم شرعي فيفتقر إلى الدليل الشرعي.
يعني: عندك سجادة، السجادة طرفها أصابه بول، نقول: الصلاة على هذه السجادة صحيحة ما دمت أنك لا تباشر النجاسة في السجود بثوبك ولا بدنك ولا تعتمد عليها، حتى ذكر العلماء رحمهم الله: لو كانت النجاسة بين يديه، مقابلة لصدره؛ لكنه لا يعتمد عليها، ولا يباشرها، يعنى: مكان أعضاء السجود التي يباشرها المصلي أثناء السجود هذه طاهرة، ماعدا ذلك الذي لا يباشره من هذا المصلى، ولا يسجد عليه... إلى آخره، نقول: بأنه لا يضر، والصلاة حينئذ تكون صحيحة.
ولهذا قال المؤلف: (وإن كان بطرف مصلى متصلٍ به صح) إذا كان بطرف المصلى صحت، هنا مسألة أخرى وهي: إذا كان المصلى متصل به صحت.
قال: (إن لم ينجر بمشيه).
صورة المسألة: إذا كان المصلي يستتبع النجاسة، أو نقول: إذا كان المصلي اتصل بالنجاسة، فإنه لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون مستتبعاً للنجاسة، بمعنى: أن النجاسة إذا تحركت فإنه يتحرك معها، فيقول المؤلف رحمه الله: لا تصح؛ لأنه مادام أنه مستتبع للنجاسة فهو كحامل النجاسة، مثال ذلك: رجلٌ معه حبل، وقد ربطه برقبة كلب، هذا الكلب لو تحرك، فإن المصلي سيمشى معه، فهو الآن مستتبع للنجاسة كحامل النجاسة، فيقول لك المؤلف رحمه الله: الصلاة هنا لا تصح.
الحالة الثانية: ألا يكون مستتبعاً للنجاسة، كما لو كانت النجاسة حجراً صغيراً، ربط هذا الحجر بحبل، وأمسك بطرف الحبل، فهل تصح صلاته، أو لا تصح صلاته؟
نقول: صلاته تصح؛ لأنه لو تحرك هذا الحجر، فإن المصلي لا يكون مستتبعًا للنجاسة، فليس بحامل لها، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
والرأي الثاني: اختيار الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أن الصلاة في الحالتين صحيحة، يعني: إذا كان ينجر لمشي الشيء النجس، أو كان لا ينجر لمشي الشيء النجس؛ لأنه لم يباشر النجاسة ويعتمد عليها، ولم يحملها، ولم يتلبس بها في بدنه، ولا في ثوبه، ولا في بقعته، فنقول: صلاته صحيحة.
هذا شخص بعد أن انتهى من الصلاة رأى في ثوبه نجاسة، لا يدري هل حصلت قبل الصلاة، أو بعدها أو أثناءها؟
فنقول: الأصل في ذلك صحة الصلاة، ولا يجب عليه أن يعيد؛ لأن الأصل أن الصلاة وقعت صحيحة، فيحتمل أن هذه النجاسة حصلت في بدنه، أو في ثوبه بعد نهاية الصلاة.
قال رحمه الله: (وإن علم أنها كانت فيها؛ لكن نسيها، أو جهلها أعاد).
هذا رجلٌ يعلم أن في ثوبه نجاسة؛ لكن نسي وذهب وصلى، ولم يتذكر إلا بعد نهاية الصلاة، أو علم أن في ثوبه نجاسة، وجهل هذه النجاسة، يقول لك المؤلف رحمه الله تعالى بأن صلاته لا تصح.
الصورة الثانية: علم أن النجاسة حصلت في أثناء الصلاة؛ لكنه جهلها، يعني: وهو يصلي، أو قبل الصلاة أصابه شيء، ولا يدري هل هذا الشيء طاهر، أو أنه نجس، ثم صلى وبعد أن انتهى من الصلاة علم أنه شيء نجس، فيقول المؤلف رحمه الله: يجب عليه أن يعيد.
ففي هاتين الصورتين إذا نسي، أو جهل مادام أنه يعلم أنها حصلت في الصلاة يجب عليه أن يعيد، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
والرأي الثاني: رأي الإمام مالك ، وهو رواية عن الإمام أحمد : أنه لا يجب عليه أن يعيد، لا في مسألة النسيان، ولا في مسالة الجهل، لأن هذا من باب التروك، وباب النواهي، وباب النواهي أوسع من باب الأوامر، ولهذا يعذر فيه بالجهل والنسيان.
وأيضًا يدل لذلك: حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وفي نعليه أذى، ثم جاء جبريل وأخبره، فخلع نعليه في الصلاة، ولم يستأنف النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما بني على صلاته.
فالصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه مالك ، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهم يقولون: يعيد إلحاقًا لإزالة الخبث برفع الحدث؛ لكن كما قلنا: هناك فرق بين رفع الحدث وزوال الخبث؛ لأن رفع الحدث من باب الأوامر هذا لا يعذر فيه بالنسيان والخطأ بخلاف إزالة الخبث فهو من باب التروك وهذا يعذر فيه بالجهل والنسيان.
جُبر عظمه بنجس، هذا رجلٌ انكسر عظمه، انكسر مثلاً: ساعده، وسقط شيءٌ من عظامه، فجاء الطبيب وأخذ شيئاً من عظام الكلب، أو أخذ شيئاً من عظام الخنزير، وجبره، وهذا -يعني: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله- ما يسمى الآن بنقل الأعضاء، فالعلماء رحمهم الله تكلموا على هذه المسائل، يعني: لو نقل العضو من حيوان إلى آدمي، أو من آدمي إلى آدميٍ آخر.. إلى آخره، سبق أن تكلمنا على هذه المسألة في النوادر الطبية، وأشرنا إلى كلام الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة.
على كل حال؛ من جُبر عظمه بعظمٍ نجس قال المؤلف رحمه الله: (لم يجب قلعه مع الضرر)، هل يجب أن يُقلع هذا الجزء من الخنزير، أو من الكلب، أو لا يجب أن يُقلع؟ يقول المؤلف: ما دام أن هناك ضرراً لا يجب أن يقلع، ويُفهم من كلامه أنه إذا لم يكن ضرر فإنه يجب أن يقلع، أما مع الضرر فلا يقلع؛ لقاعدة: لا ضرر ولا ضرار.
وبالنسبة للطهارة يقول المؤلف رحمه الله: (لم يجب قلعه مع الضرر)، وعلى هذا حمله للنجاسة هنا معفو عنه، وصلاته حينئذ تكون صحيحة.
لكن هل يجب عليه أن يتيمم، أو لا يجب عليه أن يتيمم؟
هم يفصلون في هذه المسألة، يقولون: إن غطاه اللحم، لا يجب عليه أن يتيمم، وإن لم يغطه اللحم -يعني: العظم لا يزال ظاهراً- فإنه يجب عليه أن يتيمم، وهذا مبني على المذهب، وعلى مسألة تقدمت لنا في باب التيمم، وهي التيمم عن النجاسة، وسبق أن أشرنا أن الحنابلة ينفردون بهذه المسألة، وأنها من مفردات المذهب.
والصواب: أن الذي ورد التيمم عنه هو ما يتعلق برفع الحدث، أما النجاسة فإنه لا يتيمم عنها، وحينئذ نقول: مادام أنه يضطر إلى هذا العظم النجس، فنقول: صلاته صحيحة، ولا يجب عليه أن يتيمم.
لأن ما أبين من حيٍ فهو كميتته، فإذا سقط من الإنسان سنٌ، أو سقط منه عضوٌ، كأن انقطعت يده، أو انقطع إصبعه في حادث ونحو ذلك، فنقول: بأنه طاهر لما تقدم، وهذا سبق لنا في باب الآنية: أن ما أُبين من حيٍ فهو كميتته، وذكرنا دليل ذلك، وهو حديث أبي واقد الليثي الذي رواه الترمذي بإسناد حسن.
الموضع الأول الذي لا تصح الصلاة فيه: المقبرة، والمقبرة: هي مدفن الموتى.
ويدل لذلك: حديث أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، وهذا الحديث رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وجوده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وأيضاً يدل لذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، يحذر ما صنعوا، هذا يدلك على أن المقبرة لا تصح الصلاة فيها.
وأيضاً حديث أبي مرثد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلوا إلى القبور )، فإذا كان الإنسان منهي أن يصلي إلى القبر فمن باب أولى أن يصلي في نفس المقبرة.
يستثنى من ذلك الصلاة على القبر، وكذلك أيضاً الصلاة على الجنازة، ودليل ذلك:
أولاً: لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على القبر.
وثانياً: أن الصلاة على الجنازة شفاعة ودعاء لهذا للميت بالمغفرة والرحمة؛ ولهذا ليس فيها ركوع، ولا سجود، ولا استفتاح... إلى آخره.
كذلك أيضاً مما يستثنى: سجود التلاوة وسجود الشكر، إذا قلنا: بأنهما ليسا صلاةً كما سيأتينا -إن شاء الله- أن سجدة التلاوة وسجدة الشكر ليست صلاة، وإنما هي سجدتان مجردتان.
والمقبرة لا تصح الصلاة فيها، ولو قُبِر فيها قَبْر واحد، يعني قول بعض العلماء: لا يضر قبر ولا قبران، هذا فيه نظر.
وما هي العلة من النهي عن الصلاة في المقبرة؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم؛ لكن الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن العلة هي سد ذريعة الشرك؛ لأن كون الإنسان يصلي في المقبرة هذا يخشى عليه من أن يفتتن بالقبور، وأن يُعظمها، فسداً لذريعة الشرك مُنع من الصلاة على المقبرة، خلافاً لما ذهب إليه بعض العلماء وغلطه شيخ الإسلام من أن العلة هي مظنة النجاسة.
هذا الموضع الثاني: وهو مكان قضاء الحاجة، وتقدم حديث أبي سعيد : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، فالحش يقول لك المؤلف رحمه الله تعالى: لا تصح الصلاة فيه؛ لأنه موضع قضاء الحاجة، ولا يليق أن الإنسان يتعبد لله سبحانه وتعالى في هذا المكان، وما هي العلة في ذلك؟
الحنابلة يقولون: العلة تعبدية، النهي عن الصلاة في المقبرة والحش تعبدي؛ لكن هذا ضعيف، والصحيح أنه معلل، والعلة في النهي عن الصلاة في الحش أنها مأوى الشياطين.
هذا الموضع الثالث: الحمام هذا مكان الاغتسال، الحش المكان الذي تقضى فيه الحاجة، وتقدم لذلك حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، والعلة في ذلك: أن هذه الأشياء هي مأوى الشياطين، خلافاً للمذهب أنها تعبدية.
هذا الموضع الرابع: أعطان الإبل، ويدل لذلك: حديث جابر بن سمرة ، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصلي في مرابط الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل، قال: لا ) رواه مسلم في صحيحه.
وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلوا في مرابط الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل ).
وما هي معاطن الإبل؟ للعلماء رحمهم الله تفسيران:
التفسير الأول: أن معاطن الإبل: هي المواضع التي تقيم فيها وتأوي إليها.
الرأي الثاني: أنها الأماكن التي تردها بعد صدورها من الماء، يعني: بعد أن تشرب، ترد إلى هذه الأماكن، قالوا: هذه هي معاطن الإبل، والصواب في ذلك: أنه شامل للتفسيرين، والعلة في ذلك: أن معاطن الإبل هي مأوى للشياطين، ولما قد يخشى من هذه الإبل من النفور والجموح الذي يشوش على المصلي، وكما تقدم أنه جاء في حديث أبي داود : (أنها من الشياطين).
هذا الموضع الخامس: المكان المغصوب، يقول المؤلف رحمه الله: لا تصح الصلاة فيه، وهذا هو المشهور من المذهب.
والرأي الثاني: رأي جمهور العلماء رحمهم الله: أن الصلاة فيه صحيحة مع الكراهة، وهذا هو الصواب؛ لأن النهي -كما تقدم لنا- هنا يعود إلى شرط العبادة على وجه لا يختص؛ لأن الغصب ليس خاصاً بالصلاة، بل النهي عنه شامل للصلاة وخارج الصلاة.
وعلى هذا؛ تكون المواضع التي نُهي عنها: المقبرة، والحُش، والحمام، وأعطان الإبل، بقي موضع خامس: وهو المكان النجس، نقول: هذا لا تصح الصلاة لما تقدم من أدلة إزالة النجاسة.
يعني: أسطحة هذه الأشياء، وعلى هذا لا تصح الصلاة على سطح المقبرة، ولا سطح الحُش، أو الحمام، أو أعطان الإبل، أو سطح البيت المغصوب... إلى آخره، لا تصح الصلاة على أسطحة هذه الأشياء، وهذا هو المشهور من المذهب.
والرأي الثاني: أنها تصح على أسطح هذه الأشياء، إلا المقبرة؛ لأن العلة موجودة، وهي: أن الصلاة في المقبرة تكون ذريعة إلى الشرك.
الصواب في ذلك: أنها تصح في أسطحة هذه المواضع؛ لأن الأصل هو صحة الصلاة في كل بقعة.
على هذا؛ لو كانت الإبل تأوي، إلى بيت مثلاً، وهذا البيت قد وضع له سقف يصح الصلاة على هذا السقف، كذلك الحمام تصح أن تصلي على سقفه، وكذلك أيضاً الحُش... إلى آخره؛ لأن الإنسان هنا صلى على شيءٍ طاهر، والأصل في ذلك الصحة.
قال: (وتصح إليها).
يعني: لو صليت إلى أعطان الإبل، كما جعلت أعطان الإبل أمامك صح، جعلت الحمام أمامك، الحُش أمامك، نقول: بأن هذا صحيح؛ لكنهم يقولون: إن ذلك مع الكراهة.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أنه تصح الصلاة إليها حتى المقبرة، والذي ذهب إليه ابن قدامة رحمه الله تعالى، والمجد: أنه لا تصح الصلاة إلى المقبرة إذا كانت أمامك، وهذا هو الصواب لحديث أبي مرثد الغنوي رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها ) رواه مسلم في صحيحه؛ لكن إذا كان بينك وبين المقبرة حائط، يعني: المسجد له حائط، أو المقبرة لها حائط، فالصلاة هنا صحيحة مادام أنه يوجد حائط، أو أن المقبرة تكون بعيدة بحيث لا يقال عرفاً إذا صليت إليها بأنك صليت إلى المقبرة فيظهر والله أعلم: أن هذا جائز ولا بأس به، كما لو كان هنا حائط المقبرة.
وإذا تباعد المسلم فإن هذا أحسن وأولى، لكن إذا وجد الحائط انتفت العلة؛ لأن العلة هي سد ذريعة الشرك، فإذا كان الإنسان بعيداً، بحيث من يراه لا يقول: إنه صلى إلى هذه القبور، فنقول: إن الصلاة هنا صحيحة إن شاء الله.
فأصبح عندنا المواضع التي لا تصح الصلاة فيها هي على الصحيح: المقبرة، والحُش، والحمام، وأعطان الإبل، والمكان النجس، وسطح المقبرة، والصلاة إلى القبور، ما عدا ذلك فالأصل صحة الصلاة فيه.
يقول المؤلف: لا تصح الفريضة في الكعبة، وهذا هو المشهور من المذهب، وعند أبي حنيفة والشافعي أن الفريضة تصح في الكعبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر : ( وجُعلت ليّ الأرض مسجداً وطهوراً )، أما المذهب يقولون: لا تصح الفريضة في الكعبة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] ، يعني: جهة البيت، وإذا كنت في البيت ما صليت إلى جهة البيت.
وأيضًا حديث ابن عمر ، وأبي داود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن، وذكر من ذلك: ( وفوق ظهر بيت الله ).
الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة والشافعي وهو الصواب: أن الصلاة تصح في الكعبة، وتصح على سطح الكعبة، ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة لما فتح مكة، وصلى فيها، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، وأيضاً العمومات تدل لذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (وتصح النافلة باستقبال شاخص منها).
يقول المؤلف رحمه الله: الفريضة لا تصح كما تقدم، بقينا في النافلة ، هل تصح النافلة في الكعبة، أو لا تصح؟
قال بأن النافلة تصح في الكعبة؛ لكن يشترط أن يستقبل المصلي شاخصاً منها، يعني: يستقبل شيئاً مرتفعاً، وعلى هذا لو صلى في الكعبة والباب مفتوح، وليس هناك عتبة للباب، يعني: لم يستقبل شيئاً مرتفعاً، هل تصح صلاته، أو لا تصح؟ المؤلف رحمه الله يقول: الصلاة هنا لا تصح؛ لأنه لابد أن يستقبل شيئاً مرتفعاً.
الرأي الثاني: ذهب إليه أكثر الحنابلة أن النافلة تصح حتى وإن لم يستقبل شيئاً مرتفعاً؛ لأن الواجب هو أن يستقبل الموضع والهواء دون الحيطان، وعلى هذا لو ارتفع بأن سكن في بيت قريب من الحرم وصلى إلى هواء الكعبة كانت صلاته صحيحة.
والصواب في ذلك: أنه لا يشترط إذا صلى النافلة أن يستقبل شيئاً منها، كحوائطها، نعم لو صلى إلى الباب، والباب كان مفتوحاً ولم يكن هناك عتبة، فنقول: الصلاة هنا صحيحة.
أيضًا من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة، ودليل ذلك: قول الله عزّ وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] ، وأيضاً حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ) في الصحيحين، والإجماع قائم على ذلك.
وقول المؤلف رحمه الله: (استقبال القبلة) أي الكعبة، يعني: عين الكعبة، أو جهة الكعبة، كما سيأتينا إن شاء الله، فالمراد بالقبلة هنا عين الكعبة، أو جهة الكعبة.
قال: (فلا تصح بدون).
يعني: بدون استقبال.
قال: (إلا لعاجز).
نقول: يسقط الاستقبال في مواضع:
الموضع الأول: إذا كان عاجزاً عن الاستقبال، كما لو كان مربوطاً لغير القبلة، فنقول هنا: يسقط عنه الاستقبال.
الموضع الثاني: في حال الضرورة والمشقة:
الضرورة مثل: شدة الحرب، فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال ابن عمر : مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، يصلي على حسب حاله، يعني مثلاً: هرب من نار أو هرب من عدو يصلي على حسب حاله.
أو المشقة مثل المريض، الذي على السرير لو أنه انحرف للقبلة لحقه حرج ومشقة، فنقول هنا: يسقط عنه الاستقبال، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] هذان موضعان.
قال المؤلف رحمه الله: (ومتنفلٍ راكبٍ سائرٍ في سفر).
هذا الموضع الثالث: النافلة في السفر، إذا تطوع في السفر، ويدل لذلك: حديث ابن عمر ، وحديث عامر بن ربيعة ، وحديث أنس ... إلى آخره، فالأحاديث في هذا كثيرة.
والمتنفل في السفر لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولي: أن يكون راكباً.
الحالة الثانية: أن يكون راجلاً، يعني: يمشي على رجليه.
إذا كان راكباً، قال المؤلف: (يلزمه افتتاح الصلاة إليها)، يعني: مثلاً: راكب على السيارة، فهنا يلزمه وجوباً أن يفتتح الصلاة إلى القبلة، يعني: يتوجه إلى القبلة ويفتتح إليها، ثم يسير، مثلاً: إذا كان يسير إلى جهة الجنوب انحرف إلى جهة الجنوب؛ لكن أولاً يستقبل القبلة ويكبر، ثم بعد ذلك ينحرف إلى جهة قصده، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
ودليل ذلك: حديث أنس في سنن أبي داود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته فكبر.
الرأي الثاني: ذهب إليه كثير من العلماء رحمهم الله: أنه لا يجب عليه أن يستقبل القبلة، وإنما يُكبِر إلى جهة قصده، فإذا كان متوجهاً -مثلاً- إلى جهة الجنوب، أو جهة الشمال، يكبر جهة الجنوب أو الشمال، ويواصل مسيره، وهذا القول هو الصواب؛ لأن أكثر الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر لم يذكروا أنه كان يفتتح الصلاة إلى جهة القبلة.
ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أنه يسجد جهة سيره، يعني: عندنا الراكب يقول لك المؤلف: يفتتح الصلاة إلى جهة القبلة، وفي الركوع والسجود هل ينحرف إذا أراد أن يركع أو يسجد إلى القبلة، أو نقول: إلى جهة سيره؟
نقول: إلى جهة سيره، إلا إذا كان المكان واسعًا، فمثلاً يريد أن يصلي في الطائرة، بعض الطائرات فيها مكان للصلاة يستطيع أن يتوجه، أو مثلاً: في سفينة يستطيع أن يتوجه ويركع ويسجد إلى جهة القبلة، فنقول: إذا كان واسعاً، وتمكن أن يركع ويسجد فهذا يجب عليه أن يركع ويسجد إلى جهة القبلة.
قال رحمه الله: (وماشٍ، ويلزمه الافتتاح، والركوع، والسجود إليها).
القسم الثاني: الذي يمشي على رجليه، يفارق الراكب، قال لك: الراكب يلزمه فقط التكبيرة، أما الركوع والسجود فإلى جهة قصده، أما الذي يمشى على رجليه، فيقول لك المؤلف: يجب عليه أن يفتتح الصلاة إلى جهة القبلة، وأيضاً يركع ويسجد إلى جهة القبلة، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
الرأي الثاني: أن الماشي لا يجب عليه أن يستقبل القبلة، لا في تكبيرة الإحرام، ولا في الركوع، ولا في السجود، بل يصلي جهة قصده، وهذا القول هو الصواب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر