باب الآنية:
كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتحاذه واستعماله, إلا آنية ذهب وفضة ومضبباً بهما فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى، وتصح الطهارة منها, إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة، وتكره مباشرتها لغير حاجة، وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم، وثيابهم إن جهل حالها، ولا يطهر جلد ميتة بدباغ ].
تقدم لنا بعض أحكام المياه، وأخذنا من هذه الأحكام ما يتعلق باستعمال الماء، وأن الماء المستعمل ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما استعمل في رفع حدث.
والقسم الثاني: ما استعمل في طهارة غير واجبة.
وذكرنا حكم كل قسم من هذين القسمين، وتكلم المؤلف رحمه الله عن حكم الماء الذي غمس فيه يد قائم من نوم الليل الناقض للوضوء، وأيضاً حكم الماء الذي خلت به امرأة مكلفة عن حدث لطهارة كاملة، وهل يرفع حدث الرجل أو لا يرفع حدث الرجل؟
وذكر المؤلف رحمه الله تعالى أيضاً الماء النجس، وأن الماء النجس على المشهور من المذهب يشتمل على ثلاثة أمور، وبينا مصطلح الماء القليل والماء الكثير، وذكرنا أيضاً كيف يطهر الماء إذا تنجس، وقلنا في خلاصة ذلك: إن النجاسة حكمها أنها مستقذرة شرعاً إذا زالت بأي مزيل طهر المحل؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا تنجس الماء فبأي طريق زال هذا الوصف الخبيث فإن الماء يطهر، وبقي علينا في بقية أحكام المياه مسألتان.
قال رحمه الله تعالى: (وإن شك في نجاسة ماء أو غيره أو طهارته بنى على اليقين).
نفهم من هذا قاعدة في المذهب وهي: البناء على اليقين عند الشك، يعني: إذا حصل للإنسان شك أو ظن غالب، أو ترجح لأحد الأمرين فإنه يبني على اليقين، وهذه قاعدة المذهب، وعلى هذا إذا شك في ركعات الصلاة هل صلى ثلاثاً أو أربعاً فإنه يجعلها ثلاثاً، ولو غلب على ظنه أنها أربع فإنه يبني على اليقين، وكذا لو شك في أشواط الطواف، هل طاف ثلاثة أشواط أو أربعة فيجعلها ثلاثة, وإن غلب على ظنه أنها أربعة فلا يعمل بغلبة الظن، ولو شك في حصيات الجمار كم رمى فكذلك.
وإذا شك في نجاسة ماء أو طهارته فيبني على اليقين، فإذا كان عندنا ماء حصل فيه شيء من الروث، وشككنا هل هو روث مأكول اللحم فيكون طاهراً أو روث غير مأكول اللحم فيكون نجساً؟ فالأصل في ذلك الطهارة، وكذلك لو كان الماء نجساً ثم شككنا في طهارته, هل تطهر أو لم يتطهر؟ فنقول: الأصل في ذلك النجاسة، ودليل ذلك حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه أحدث ولم يحدث؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ).
وإحدى القواعد الخمس الكلية قاعدة: اليقين لا يزول بالشك، فإذا (شك في نجاسة ماء أو غيره) يعني: نجاسة ثوب أو نجاسة البقعة التي يصلي عليها فالأصل في ذلك الطهارة، أو العكس كما لو شك في طهارة هذه الأشياء فالأصل في ذلك النجاسة، وسيأتينا -إن شاء الله- كلام على هذه المسألة، فيما إذا حصل شك هل يعمل بغلبة الظن إذا ترجح أحد الأمرين أو لا يعمل بغلبة الظن؟ وذلك في باب سجود السهو، وسيأتينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى إعمال غلبة الظن إذا وجد.
أي: إذا اشتبه ماء طهور بماء نجس، يعني: لو أن عندنا إناءين أحدهما فيه ماء نجس، والآخر فيه ماء طهور، واشتبه هذان الماءان فأصبحنا لا نميز بين الماء الطهور وبين الماء النجس، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: (حرم استعمالهما، ولم يتحر)، أي: لا ينظر إلى القرائن التي تدل على أن هذا هو الماء الطهور أو أن هذا هو الماء النجس، حتى ولو كان هناك قرائن تؤيد أن هذا هو الطهور أو أن هذا هو النجس.
قال رحمه الله: (ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما).
يعني: لا تستعمل هذين الماءين، ولا تخلطهما؛ لأنك إذا خلطت أحدهما بالآخر أصبح كل واحد منهما نجساً؛ لأن الطهور منهما يسير لاقى نجاسة, فيكون نجساً، وإذا كان نجساً أصبح في حكم العدم، فإذا أردت أن تتيمم فلا يشترط أن تخلطهما، ولا يشترط أيضاً أن تريقهما؛ لكي تكون عادماً للماء؛ لأنك وإن لم تكن عادماً للماء حقيقة فإنك عادم للماء حكماً؛ لأنك لا تستطيع أن تتوضأ بواحد منهما فلك أن تتيمم.
والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه إذا أمكن التحري فإن الإنسان يتحرى، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، يعني: إذا قامت قرائن تدل على أن هذا هو الماء الطهور، أو أن هذا هو الماء النجس بسبب رائحة أو لون أو نحو ذلك فإنه يتحرى، ويعمل الظن ويتوضأ بأحدهما، وهذا القول هو الصواب، ويدل له حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في البخاري في الشك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فليتحر الصواب، ثم ليبن عليه ).
يعني: اشتبه الطهور بماء طاهر، وهذا على رأي كثير من أهل العلم في إثبات الماء الطاهر، فلو كان عندنا ماء طهور وآخر غمس فيه يد قائم من نوم الليل الناقض للوضوء، وكان يسيراً (أقل من قلتين) فإنه يكون طاهراً كما تقدم، فاشتبه عندنا أي الماءين الذي غمست فيه هذه اليد، هل هو الماء الأول أو الثاني؟ فيتوضأ منهما وضوءاً واحداً، يعني: يتوضأ، فيأخذ غرفة من الأول ويتمضمض، ثم يأخذ غرفة من الثاني ويتمضمض ويستنشق، ثم يأخذ غرفة ويغسل وجهه، ثم يأخذ غرفة من الثاني ويغسل وجهه وهكذا، فيتوضأ من هذا ومن هذا وضوءاً واحداً، غرفة من هذا وغرفة من هذا، ويصلي صلاة واحدة.
وإنما قالوا: لا يتوضأ من هذا وضوءاً كاملاً، ولا من هذا وضوءاً كاملاً؛ لأنه يحصل عنده شك، ولا بد أن تكون النية جازمة، وهنا لا يحصل عنده جزم؛ لأنه أثناء الوضوء يشك أن هذا هو الماء الطاهر أو هذا، وإذا كان كذلك، فيتوضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة؛ لأنه لو توضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة وانتهى من وضوئه فإنه يجزم الآن أنه توضأ بماء طهور، بخلاف ما إذا توضأ من الأول فإنه يشك الآن: هل توضأ من ماء طهور أو لا؟ لكن إذا قلنا: بأن الماء ينقسم إلى قسمين، وأن الطاهر ليس له وجود لم ترد عندنا هذه المسألة.
يعني: لو اشتبهت ثياب طاهرة بثياب نجسة، وهذا كما تقدم: أن القاعدة على المذهب في الجملة أنهم يعملون اليقين إذا حصل الشك. فهذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله مبنية على هذه القاعدة عند الحنابلة رحمهم الله.
فمن عنده خمسة ثياب نجسة أصابها بول، وخمسة ثياب طاهرة واختلطت، فنقول: صل بعدد النجسة، وزد صلاة؛ لأنه إذا صلى ست صلوات فإنه يتيقن أنه صلى صلاة بثوب طاهر، وهنا لا بد أنه يبني صلاته على اليقين، وهنا الآن قد حصل له اليقين، ولو كانت الثياب النجسة عشرة فلا بد أن يصلي عشر صلوات ويزيد صلاة، أو كانت الثياب المحرمة -كالثياب المسروقة أو المغصوبة- عشرة فيزيد صلاة، وهذا هو المشهور من المذهب.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة والشافعي : أنه يتحرى ثوباً ويصلي فيه، يعني: ينظر ويعمل القرائن, فالذي يغلب على ظنه أنه ثوب طاهر يصلي فيه، والدليل على ذلك حديث ابن مسعود في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فليتحر الصواب، ثم ليبن عليه ).
وقول المؤلف رحمه الله: (أو المحرم) يعني: أن رأيهم في مسألة الثياب المحرمة أضعف من رأيهم في مسألة الثياب النجسة؛ لأنه لو تيقن أنه ثوب محرم وصلى به فصلاته صحيحة؛ لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات المنهي عنه، ولا إلى شرطه المختص بالعبادة، بل يعود إلى الشرط الذي لا يختص بالعبادة، كما ذكر ابن رجب رحمه الله في القواعد، وهي قاعدة أصولية كبيرة، ولها أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يعود النهي إلى ذات المنهي عنه، فنقول: بأنه يقتضي الفساد.
القسم الثاني: أن يعود النهي إلى أمر خارج, فنقول: لا يقتضي الفساد، كما لو صلى وعليه عمامة حرير، فالحرير محرم على الرجل في الصلاة وفي خارج الصلاة، وأيضاً: لا يتعلق بشرط الصلاة؛ لأن ستر الرأس ليس داخلاً في شروط الصلاة مما يجب ستره.
القسم الثالث: أن يعود النهي إلى شرط العبادة أو المعاملة على وجه يختص, فنقول: يقتضي الفساد، مثل: الصلاة بثوب نجس، فالصلاة بثوب نجس يعود إلى شرط العبادة على وجه يختص؛ لأن لبس الثوب النجس خاص بالصلاة، أما خارج الصلاة فلك أن تلبسه، لكن ليس لك في الصلاة أن تلبسه، فما دام أن النهي يختص بالصلاة أو العبادة أو المعاملة فنقول: يقتضي الفساد.
القسم الرابع: أن يعود النهي إلى شرط العبادة أو المعاملة لكنه لا يختص، مثل: الصلاة في الثوب المسروق، فاستعمال الثوب المسروق محرم في الصلاة وخارج الصلاة، وكذا استعمال الثوب الحرير محرم في الصلاة -للرجل- وخارج الصلاة، لكن لبس الثوب النجس هذا خاص بالصلاة فلا يجوز لك، أما خارج الصلاة لو لبست ثوباً نجساً فنقول: هذا جائز ولا بأس به.
فنفهم من هذا أن الإنسان لو صلى بثوب محرم كمسروق أو مغصوب أو منتهب فالتحريم هنا أو النهي يعود إلى شرط لا يختص بالعبادة، فنقول: بأنه لا يقتضي الفساد، وحينئذ تكون هذه المسألة -أعني: إذا صلى بالثوب المحرم- أضعف من مسألة إذا صلى في الثوب النجس.
الآنية هي: الوعاء، والأواني هي: الأوعية، ومناسبة هذا الباب لما قبله أن المؤلف رحمه الله تعالى لما ذكر الماء ذكر ظرفه؛ لأن الماء جوهر سيال, يحتاج إلى إناء يحفظ به، فلما ذكر المؤلف رحمه الله المياه ذكر ظرف الماء، والآنية لها مناسبتان عند العلماء رحمهم الله:
المناسبة الأولى: في كتاب الطهارة.
والمناسبة الثانية: في كتاب الأطعمة؛ لأن الطعام يحتاج إلى إناء يحفظ فيه، ويستعمل فيه، والعلماء رحمهم الله إذا كان الشيء له مناسبتان فإنهم يذكرونه في المناسبة الأولى؛ لئلا تضيع فائدة ذكره في المناسبة الأولى، فبعد أن ذكر المياه احتاج أن يذكر الأواني؛ لأن الماء كما ذكرنا جوهر سيال, يحتاج إلى إناء يحفظ فيه، فناسب أن يذكره.
الأصل في الأواني ولو كانت ثمينة: كالأواني من الماس أو من الأحجار الكريمة ونحو ذلك، الأصل فيها الحل، والأصل فيها الطهارة، ويدل لذلك قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، فالله سبحانه وتعالى ذكر ذلك على سبيل الامتنان, فيقتضي حل ما في الأرض، وكذلك أيضاً يقتضي طهارته. وقال سبحانه وتعالى: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10]، وفي صحيح البخاري : ( أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم ثم حرم من أجل مسألته ).
فنقول: الأصل في الأواني الحل والطهارة؛ وعلى هذا فمن ادعى تحريم إناء أو ادعى نجاسته فعليه أن يقوم بالدليل؛ لأنه يذكر خلاف الأصل.
قوله: (يباح اتخاذه واستعماله).
الفرق بين الاتخاذ والاستعمال أن الاتخاذ هو: مجرد الاقتناء. أما الاستعمال فهو: مباشرة هذا الإناء بالانتفاع، أي: أن تباشر الانتفاع به بالأكل أو بالشرب أو بالطهارة ونحو ذلك. أما الاتخاذ: فهو اقتناؤه، إما للزينة أو لاستعماله عند الحاجة، أو لغير ذلك من المقاصد.
استثنى المؤلف رحمه الله آنية الذهب والفضة، واعلم أن العلماء رحمهم الله تعالى يتحدثون عن الذهب والفضة في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في باب الآنية، يتكلمون عن أواني الذهب والفضة، والمضبب بالذهب والفضة والمطلي والمكفت والمطعم.
والموضع الثاني: في باب شروط الصلاة، عندما يتكلمون عن الألبسة، وحكم لبس الذهب والفضة، يعني: لبس الثياب التي فيها شيء من الذهب أو الفضة ونحو ذلك.
الموضع الثالث: في كتاب الزكاة، عندما يتكلمون عن زكاة الذهب والفضة فإنهم يتكلمون عن أحكام التحلي بالذهب والفضة.
فإذا أردت معرفة أحكام الذهب والفضة فعليك أن ترجع إلى هذه المواضع الثلاثة، وكذا في باب الربا وهو الموضع الرابع يتكلمون عن جريان الربا في الذهب والفضة، وعن علة الربا في الذهب والفضة, وبيع الذهب بالفضة.
المهم أن نفهم هنا أن المؤلف رحمه الله تعالى يتكلم عن آنية الذهب والفضة، أما بالنسبة لاستعمال الذهب والفضة في اللباس فهذا تجده باب شروط الصلاة، والتحلي واستعمال الذهب والفضة كتحل فهذا تجده في كتاب الزكاة.
قال رحمه الله: (إلا آنية ذهب وفضة ومضبباً بهما، فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى).
ودليل ذلك يعني: عندنا آنية الذهب والفضة يحرم اتخاذها واستعمالها, سواء كان مصمتة -أي: خالصة من الذهب والفضة- أو كان فيها شيء من الذهب والفضة؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (ومضبباً بهما)، والضبة هي: عبارة عن خيط من الفضة يربط به الإناء المنكسر، أو خيط من الذهب يربط به الإناء المنكسر، أو يكون في الإناء ثقب فتأتي بقطعة من الفضة وتضعها في هذا الثقب، أو ينكسر فينثلم الإناء, فتأتي بقطعة من الفضة وتجعلها على هذا الكسر المنثلم، فيقول المؤلف رحمه الله: استعمال آنية الذهب والفضة، أو اتخاذ آنية الذهب والفضة سواء كانت خالصة -أي: هذه الآنية- من الذهب والفضة، أو فيها شيء من الذهب والفضة كضبة، أو طلاء أو مطعمة أو مكفتة, فهذا محرم ولا يجوز.
والقاعدة في ذلك: أن الشارع إذا نهى عن شيء فإن النهي يتعلق بجميع أفراده، ومثال ذلك: الله عز وجل قال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، نهى الله سبحانه وتعالى أن يحلق المحرم جميع الرأس، قال العلماء: يحرم ولو شعرة واحدة؛ لأن الشارع إذا نهاك عن شيء تعلق النهي بجميع أفراده، وإذا نهاك عن غذاء فذاك يشمل القليل والكثير، وإذا نهاك عن شرب الخمر فذاك يشمل ولو نقطة واحدة، وإذا نهاك عن استعمال آنية الذهب والفضة فسواء كانت خالصة أو فيها ولو شعرة واحدة، أو شيئاً يسيراً من الذهب والفضة فهذا محرم ولا يجوز، ودليل ذلك حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ).
واعلم أن آنية الذهب والفضة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: استعمالها في الأكل والشرب، فنقول: استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب محرم, وقد حكي الإجماع على ذلك، وما يحكى من وجود خلاف فضعيف جداً.
و النووي رحمه الله شدد في شرح صحيح مسلم في وجود الخلاف في هذه المسألة، فنقول: يحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة سواء كانت خالصة، أو كان فيها شيء من الذهب والفضة؛ لما ذكرنا من القاعدة: أن الشارع إذا نهى عن شيء تعلق النهي بجميع أفراده.
القسم الثاني: استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، كاستعمالها مثلاً: في الطهارة أو في الوضوء أو في الغسل، أو في الطبخ، أو في حفظ الأشياء كمحبرة أو مكحلة، المهم في غير الأكل والشرب، فالرأي الأول: رأي جمهور العلماء على أن هذا غير جائز.
والرأي الثاني: أن استعمالها في غير الأكل والشرب جائز؛ لأن الشارع إنما نص على الأكل والشرب، وهذا قال به الشوكاني وكذلك أيضاً: الصنعاني ، لكن جمهور العلماء رحمهم الله يرون التحريم، وابن القيم رحمه الله يميل إلى ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله.
والذين قالوا: بأن الاستعمال محرم استدلوا بحديث حذيفة السابق، وألحقوا سائر الاستعمالات بالأكل والشرب، والشارع إنما نص على الأكل والشرب؛ لأن هذا هو الغالب، وما كان قيداً أغلبياً فإنه لا مفهوم له عند الأصوليين.
والذين قالوا: بالإباحة قالوا: بأن الشارع إنما نص على الأكل والشرب, والأصل في الآنية الحل، وثبت في البخاري (أن
القسم الثالث: اتخاذ آنية الذهب والفضة، يعني: دون المباشرة بالاستعمال، فالجمهور على أنه محرم، وذكروا لذلك ضابطاً, فقالوا: ما حرم استعماله حرم اتخاذه.
والرأي الثاني رأي الحنفية: أن الاتخاذ جائز، يعني: أن تتخذ آنية من الذهب أو الفضة فهذا جائز ولا بأس به، ويتمسكون كما سلف بما تمسك به من قال: بإباحة استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، فقالوا بالاقتصار على ما جاء في النص من تحريم الأكل والشرب, وأما الاتخاذ فلم يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: (فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى).
أما الأنثى فيما يتعلق بالذهب والفضة فبابها أوسع من الذكر، فلها أن تتحلى بالذهب والفضة بما جرت العادة أن تتحلى به النساء؛ ولهذا نص عليها المؤلف رحمه الله، فنقول: بالنسبة للأنثى حتى ولو كان يباح لها أن تلبس الذهب والفضة في يديها وفي رجليها وفي ثيابها، فإن حكم استعمالها للآنية يختلف، فنقول: لا يجوز أن تستعمل آنية الذهب والفضة، أما الأكل والشرب فهذا ظاهر، وأما الاستعمال في غير الأكل والشرب فهذا على رأي جمهور العلماء رحمهم الله، وكذلك أيضاً الاتخاذ كما سلف.
يعني: العلماء يقولون: الطهارة منها، والطهارة فيها، والطهارة إليها, هذا كله جائز، فأما الطهارة منها: فأن تغترف من هذه الآنية، وأما الطهارة فيها: فأن تنغمس، فلو كان عندك إناء من الفضة كبير ثم انغمست فيه لكي تغتسل من الجنابة فإن الطهارة صحيحة، وإن كان العمل محرماً، يعني: تأثم؛ لأنك استخدمت الذهب والفضة، لكن هنا النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه, ولا إلى شرطه المختص كما سلف، فنقول: استخدامها في الطهارة سواء كان منها أو فيها أو إليها، يعني: لو توضأ وتساقط الماء في نفس هذا الإناء فنقول: هذا العمل يأثم فيه؛ لأنه استخدم الذهب والفضة على رأي جمهور العلماء رحمهم الله، لكن بالنسبة للطهارة فهي صحيحة؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه، ولا إلى شرطه المختص.
لما ذكر المؤلف رحمه الله أن استعمال آنية الذهب والفضة في غير ذلك محرم، استثنى من ذلك الضبة، والضبة سبق أن ذكرنا تعريفها، وأنها عبارة عن خيط من الفضة يربط به الإناء المنكسر، أو أن ينثلم الإناء فتأتي بقطعة من الفضة وتضعها فيه، أو أن ينخرق فتأتي بقطعة من الفضة وتضعها فيه. فهذه الضبة جائزة بشروط:
أن تكون ضبة كما تقدم إذا حصل خرق في الإناء, فنأتي بقطعة من الفضة ونضعها فيه، أو انكسر وانثلم فنأتي بقطعة من الفضة ونضعها فيه.
وأن تكون من فضة, يعني: ليست من الذهب.
وأن تكون يسيرة, ليست كثيرة.
وأن تكون لحاجة.
فإذا توفرت هذه الشروط الأربعة فإن هذا جائز ولا بأس به، ويدل لهذا حديث أنس : ( أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة). فنقول: هذا جائز ولا بأس به.
قال رحمه الله تعالى: (وتكره مباشرتها لغير حاجة).
يقول المؤلف: تكره مباشرة هذه الضبة لغير حاجة، مثال ذلك: عندنا إناء انثلم, ووضعنا على هذه الثلمة شيئاً من الفضة، فيكره إذا أردت أن تشرب أن تضع شفتيك على هذه الفضة, بل اشرب من الجانب الآخر، لكن بالنسبة للفضة لا تشرب من جهتها؛ لئلا تباشر الذهب والفضة بالأكل والشرب, وكما تقدم في حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه.
وقوله: (لغير لحاجة), أي: إلا إذا احتجت إلى ذلك فهذا لا بأس، كما لو كان الجانب الآخر حاراً، وجانب الفضة بارد، فهذه حاجة، أو مثلاً: تدفق الشراب من جهة الفضة فتحتاج أن تشرب؛ لئلا يضيع الشراب, فهذه حاجة, فيقول المؤلف رحمه الله: هذا جائز ولا بأس به.
الكفار الذين تحل ذبائحهم هم أهل الكتاب، قال تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5]، وطعامهم: ذبائحهم، فالذين تباح ذبائحهم هم اليهود والنصارى، أما غير اليهود والنصارى فلا تباح ذبائحهم كالمجوس والوثنيين والشيوعيين والدهريين والبوذيين وغير ذلك؛ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة.
وبالنسبة للأواني فإنها تباح آنية الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو كانوا من غير أهل الكتاب، والدليل ما تقدم: أن الأصل في الآنية الحل والطهارة، وهذا يشمل حتى آنية الكفار، وثبت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من مزادة امرأة مشركة )، وهذا يدل على طهارة آنية الكفار.
لكن كيف الجواب عن حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها )؟ نقول: الجواب عن هذا من وجهين:
الجواب الأول: أن الأمر بالغسل كما جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه محمول على التنزه.
والجواب الثاني: أنه هذا محمول على آنية عرفت فيها النجاسة.
قال رحمه الله: (وثيابهم إن جهل حالها).
أي: أن الأصل في ثياب الكفار الطهارة. هذا الأصل؛ لما تقدم من قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]؛ وعلى هذا إذا جاءت ثياب من الكفار منسوجة أو مصنوعة ونحو ذلك فلا يجب على المسلم أن يغسلها؛ لأن الأصل في ذلك الطهارة، ودليل ذلك ما تقدم في أول الباب.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، والميتة هي: كل ما مات حتف أنفه, أو ذكي ذكاة غير شرعية، وبالنسبة لجلده هل يطهر بالدبغ، أو لا يطهر؟ المشهور من المذهب: أنه لا يطهر، فكل جلد ميتة لا يطهر بالدبغ سواء كان جلد مأكول اللحم أو كان جلد غير مأكول اللحم، وسواء كان جلد حيوان طاهر في حال الحياة أو حيوان غير طاهر، هذه الخلاصة في المذهب، ودليلهم على ذلك حديث عبد الله بن عكيم قال: ( جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ).
والرأي الثاني: أنه يطهر جلد ميتة مأكول اللحم، وهذا قول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والرأي الثالث: أنه يطهر جلد ميتة الحيوان الطاهر في حال الحياة، وهذا أيضاً قول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والرأي الرابع: أن كل جلد يطهر بالدبغ إلا جلد الخنزير والكلب، وهذا رأي الشافعي .
والرأي الخامس: أن كل جلد يطهر بالدبغ إلا جلد الإنسان والخنزير, وهذا رأي الحنفية.
والرأي الأخير: أن كل جلد يطهر بالدبغ, ولا يستثنى شيء، حتى جلد الكلب يطهر بالدبغ.
والذي يظهر -والله أعلم- أن أرجح الأقوال قولان: إما أن نقول: بأن كل جلد يطهر بالدبغ؛ لحديث مسلم : ( أيهما إهاب دبغ فقد طهر )، فهذا يشمل كل إهاب، أو نقول: الجلد الذي يطهر بالدبغ هو ما كان ميتة مأكول اللحم كالشاة والبقرة والإبل ونحو ذلك, وكل من القولين له قوة، والورع والاحتياط أن الإنسان يقتصر على جلد الميتة المأكول.
لكن القول الثاني: أن كل جلد ميتة يطهر بالدبغ، هذا يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، والقول: بأن الذي يطهر هو جلد الميتة التي يؤكل لحمها دليله ما جاء في مسند أحمد والنسائي، وإن كان الحديث فيه ضعف لكن المعنى صحيح: ( أن دباغها طهورها )، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الدبغ بمنزلة التطهير.
والمقصود بالحيوان الذي يؤكل: الذي تطهره الذكاة، فكما أنها تطهر بالذكاة فكذلك يطهر جلدها بالدبغ.
فالذكاة حكمتها: تطهير الحيوان المذكى بإخراج هذه الرطوبات، فإذا ذكيت طهرت، وإذا ماتت حتف أنفها أصبحت نجسة، وكذلك أيضاً جلدها إذا دبغ فإنه يطهر، ( دباغها طهورها )، فهذان القولان كل منهما له قوة كما سلف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر