يبدأ العلماء والفقهاء في تآليفهم بأحكام العبادات، ثم بعد ذلك يثنون بأحكام المعاملات، والمعاملات تشتمل على أحكام المعاوضات والتبرعات, ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الأنكحة, ثم يربعون بعد أحكام الأنكحة بأحكام الحدود والقصاص، ثم يختمون بأحكام القضاء.
وإنما يبدأ العلماء رحمهم الله بأحكام العبادات لأمور, منها:
أن العبادات مبناها على التوقيف, والأصل فيها المنع والحظر، فلا يتعبد لمسلم بعبادة من العبادات إلا بعبادة جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فالأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم الدليل على شرعية هذه العبادة.
وأيضاً حاجة الإنسان إلى العبادة أشد من حاجته إلى المعاملة, إذ إن الإنسان تصح منه العبادة إذا بلغ التمييز إلا الحج والعمرة, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز, فالوضوء يصح من الصبي إذا ميز وفهم الخطاب ورد الجواب, يصح منه الوضوء، ويصح منه العسل، ويصح منه التيمم، وتصح صلاته وصيامه, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز؛ ولهذا بدأ العلماء بأحكام العبادات.
ويبدءون من أحكام العبادات بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة, وإنما قدموا أحكام الطهارة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة, كما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )؛ لأن التخلي قبل التحلي, فالإنسان يتخلى من الحدث، ومن الخبث ثم بعد ذلك يتحلى بالوقوف بين يدي الله عز وجل.
ويبدءون بالصلاة؛ لأن الصلاة أهم العبادات, فهي الركن الثاني من أركان الإسلام.
وأيضاً اتباعاً لترتيب أركان الإسلام كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت ).
فيبدءون بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة ثم بعد ذلك يثنون بالزكاة؛ لأن الزكاة حولية؛ ولأنها قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل فيما يقرب من ثلاثة وثمانين موضعاً.
ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الصيام، ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحج؛ لأن الحج عمري، وأما الصيام فهو حولي.
ثم بعد أحكام العبادات يشرعون بأحكام المعاملات, ويبدءون من أحكام المعاملات بأحكام المعاوضات كالبيع وشروط البيع والشروط في البيع وأحكام الخيارات، وما يتعلق أيضاً بأحكام التوثقات أو عقود التوثقات, كعقد الرهن وعقد الضمان وعقد الكفالة, وأيضاً أحكام الشركات وما يتعلق بذلك, أو ما يلحق بذلك من أحكام المعاوضات، ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاوضات يتكلمون عن أحكام التبرعات.
وإنما قدموا أحكام المعاوضات على أحكام التبرعات؛ لأن أحكام المعاوضات يحتاج إليها الإنسان أكثر من أحكام التبرعات, فلا يمر على الإنسان يوم إلا وهو يحتاج إلى البيع والشراء، فهو محتاج إلى السلع التي بيد الآخرين, والآخرون محتاجون إلى ما بيده من الأثمان.
وبعد أن يتكلموا على أحكام المعاوضات يشرعون في أحكام التبرعات كأحكام الهبة والعطية وأحكام الوصايا وأحكام العتق، وأيضاً أحكام الوقف وما يلحق بذلك من أحكام الإرث.
ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاملات سواء كان ما يتعلق بأحكام المعاوضات أو أحكام التبرعات يشرعون بأحكام الأنكحة, وإنما أخروا أحكام الأنكحة بعد أحكام المعوضات؛ لأن النكاح لا يحتاج إليه الإنسان إلا في زمن معين, وهو ما بعد البلوغ بخلاف أحكام المعاوضات والتبرعات، فيحتاج إليها الإنسان قبل البلوغ, فيشرعون في أحكام الأنكحة، وما يتعلق بحكم النكاح وأركانه وشروطه وأحكام الصداق، وأيضاً ما يتعلق بذلك أو ما يلحق به من أحكام الشروط في النكاح, وأحكام العيوب وأحكام وليمة العرس.. إلخ.
ثم بعد ذلك يشرعون بأحكام الفسوخات: ما يتعلق بفسخ النكاح وإبطاله كأحكام الطلاق وأحكام الخلع.. إلخ.
ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحدود والقصاص, وإنما أخروا أحكام الحدود والقصاص لأمرين:
الأمر الأول: أن الإنسان إذا حصلت له شهوة البطن، وحصلت له شهوة الفرج قد يحمله ذلك على الأشر والبطر فيعتدي, فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص؛ لأن الإنسان إذا باع واشترى فإنه سيحصل له شهوة البطن, وإذا نكح ستحصل له شهوة الفرج، فقد يحمله ذلك على شيء من الأشر والبطر والتعدي والظلم فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص.
الأمر الثاني: الأصل في هذه الأشياء ألا تقع من المسلم, يعني: ما يتعلق بأحكام القصاص والحدود الأصل أن المسلم لا تقع منه هذه الأشياء, فأخر الكلام عليها.
ويبدءون بأحكام القصاص -فيما يتعلق بالجناية على النفس، وفيما يتعلق على ما دون النفس- قبل أحكام الحدود؛ لأن أحكام القصاص متعلقة بحق الآدمي وأما أحكام الحدود فهي متعلقة بحق الله عز وجل.
ثم بعد ذلك يختمون بأحكام القضاء؛ لأن أحكام القضاء لا يحتاج إليه في الغالب إلا شخص واحد وهو القاضي.
وأما في الاصطلاح: فهو عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر. والأصل في النكاح من حيث الدليل الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فالآيات في ذلك كثيرة من ذلك قوله سبحانه وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].
وأما السنة أيضاً فالأحاديث في ذلك كثيرة، وسيأتي إن شاء الله طرف منها, فمن ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم, في حديث أنس وفي حديث معقل رضي الله تعالى عنهما: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).
والإجماع قائم على شرعية النكاح.
واختلف العلماء رحمهم الله في أصل النكاح, هل الأصل في النكاح الوجوب يعني: يجب على الإنسان أن يتزوج, أو الأصل في ذلك السنية وقد يخرج إلى الوجوب؟
اختلفوا في ذلك على رأيين:
الرأي الأول: وهو ما يفيده كلام المؤلف رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول جمهور أهل العلم: أن الأصل في النكاح السنية, وأنه ليس واجباً، لكن قد يخرج ذلك إلى الوجوب كما سنشير إلى ذلك إن شاء الله تعالى.
والرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الأصل في النكاح الوجوب.
ولكل من هذين القولين دليل:
أما الذين قالوا: بأن الأصل في النكاح السنية وليس واجباً لكن قد يخرج إلى الوجوب استدلوا على ذلك بأدلة، منها: قول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]. قالوا: بأن الله عز وجل علق النكاح على الاستطابة، ولو كان واجباً لم يعلق على استطابة الإنسان.
وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم )، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الصوم بديلاً عن النكاح, والإجماع قائم على أن الصوم غير واجب في غير شهر رمضان, فكذلك أيضاً المبدل منه الذي هو النكاح من باب أولى أن لا يكون واجباً.
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم )، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض ما يتعلق بالنكاح.
وكذلك أيضاً ما ثبت في الصحيح من حديث أنس وحديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام، فذكر له النبي عليه الصلاة والسلام فرائض الإسلام، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفرائض النكاح، وإنما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة، الزكاة..الخ, ولم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام النكاح.
أما الذين قالوا: الأصل في النكاح الوجوب، استدلوا على ذلك بأدلة، منها:
الأوامر الواردة في النكاح كقول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] .
وأيضاً حديث ابن مسعود : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )، قالوا: هذه الأوامر تدل على الوجوب.
والأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو أن الأصل في النكاح السنية, وأنه سنة وليس واجباً، بمعنى: لو أن الإنسان ترك هذا النكاح ولم يتزوج فإننا لا نقول بتأثيمه، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه أنه ألزم أحداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالنكاح.
فالأقرب في ذلك أنه سنة، لكن يخرج عن هذه السنة إلى الوجوب إذا خاف الزنا بتركه, قال العلماء رحمهم الله: إذا خاف الإنسان على نفسه الزنا إذا ترك النكاح فإنه يكون واجباً؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقال ابن قدامة رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، وعنده القدرة على النكاح فإنه يجب عليه أن يتزوج, فقوله رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، هذا أشمل وأعم من قول من قال: إذا خاف على نفسه الزنا, مثل: الاستمناء إذا خاف على نفسه أنه إذا لم يتزوج يؤدي به ذلك إلى فعل المحرم كالاستمناء أو النظر إلى النساء الأجنبيات, فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يتزوج.
فأصبح عندنا النكاح سنة، ويجب قيل: إذا خاف على نفسه الزنا بتركه, والرأي الثاني أعم من ذلك: أنه إذا خاف على نفسه فعل المحظور فإنه يجب عليه أن يتزوج.
وهذا ظاهر، النكاح من سنن المرسلين، وقد دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما القرآن فقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] .
وأما السنة فحديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).
قال المؤلف رحمه الله: [وهو أفضل من التخلي منه لنفل العبادة].
يعني: إذا كان الإنسان بين أمرين: إما أن يتزوج ويشتغل بأمر الزوجة وأمر الأولاد, وإما أن يخلي نفسه للعبادة, لقراءة القرآن والصيام وقيام الليل؟ هل الأفضل أن يخلي نفسه للعبادة فيما يتعلق بقراءة القرآن والصيام وقيام الليل والجهاد ونحو ذلك أو أن نقول: أن الأفضل له أن يتزوج ولو شغله هذا الزواج عن نوافل العبادات؟
يقول المؤلف رحمه الله: الأفضل أن يتزوج، وأن هذا الزواج أفضل من أن يخلي نفسه ويفرغها من الزواج لنوافل العبادات, وهذا ما ذكره المؤلف رحمه الله ظاهر؛ لأن الزواج يترتب عليه مصالح كثيرة, فمن ذلك:
الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك أيضاً ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : غض الأبصار وحفظ الفروج.
ومن ذلك أيضاً تكثير نسل هذه الأمة وفي ذلك عزتها.
ومن ذلك أيضاً تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم, فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).
ومن ذلك أيضاً القيام على المرأة وكفايتها وغض بصرها، والإنفاق عليها، وحفظ فرجها وغير ذلك.
فالصواب ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أن النكاح أفضل من نوافل العبادات, فكون الإنسان يتزوج أفضل له من أن يخلي نفسه من الزواج لكي يشتغل بنوافل العبادات لما يترتب على هذا النكاح من مصالح عظيمة.
يعني: هل السنية تكفي في زواج امرأة واحدة أو أن الإنسان كلما تزوج فهذا هو أفضل؟
في ذلك رأيين لأهل العلم:
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الأصل في النكاح عدم التعدد، وأن السنة أن الإنسان يقتصر على زوجة واحدة, ويباح له أن يتزوج أكثر من ذلك.
والرأي الثاني: أن الأصل هو التعدد، وأن الإنسان كلما عدد من الزوجات -إذا كان عنده القدرة المالية والبدنية- فإن هذا هو الأفضل لما يترتب على ذلك من مصالح النكاح العظيمة, فكلما أكثر الإنسان من الزوج حصل إكثار لهذه المصالح العظيمة، حصل الإكثار من غض الأبصار، وحصل الإكثار من تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً من تكثير نسل الأمة، ومن القيام على النساء وكفايتهن وكفالتهن.. الخ, ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خير هذه الأمة أكثرها نساءً.
وهذا القول: هو الصواب, وأن الأصل في ذلك التعدد، وأن الإنسان كلما أكثر من الزواج فإن هذا هو الأفضل, لكن بشرط أن يكون عنده القدرة المالية والبدينة على الزواج، وأيضاً يعرف من نفسه العدل؛ لأن الله عز وجل قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، فنقول: الأفضل هو التعدد بهذين الشرطين: القدرة وأيضاً أن يعرف من نفسه العدل.
قال المؤلف رحمه الله: [لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل].
التبتل: هو عدم النكاح.
هنا شرع المؤلف رحمه الله في مسألة النظر إلى المخطوبة, والنظر إلى المخطوبة هذا يترتب عليه أحكام:
المسألة الأولى فيما يتعلق بالنظر إلى المخطوبة: حكم النظر إلى المخطوبة, هل النظر إلى المخطوبة مباح أو سنة؟
في ذلك رأيان لأهل العلم رحمهم الله:
الرأي الأول: وهو ما أفاده كلام المؤلف رحمه الله أن ذلك مباح؛ ولهذا قال: (ومن أراد خطبة امرأة فله النظر), اللام للإباحة، فأفاد أن النظر إلى المخطوبة مباح، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
واستدلوا على ذلك بحديث محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئٍ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها )، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا بأس أن ينظر إليها )، هذا يدل على الإباحة.
وكذلك أيضاً ورد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها )، فقوله: ( فلا جناح عليه أن ينظر إليها ) هذا يدل على الإباحة.
الرأي الثاني: أن النظر إلى المخطوبة سنة ومستحب, وليس مباحاً فقط لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث المغيرة بن شعبة : ( انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما )، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( انظر ) هذا أمر، وأيضاً قوله: ( أحرى أن يؤدم بينكما ) هذا يدل على أن هذا الأمر للاستحباب؛ لأن النظر ما دام أنه يترتب عليه هذه المصلحة العظيمة أنه يؤدم بين الزوجين, يعني: يؤلف بين قلبيهما, وأن هذا داع إلى بقاء النكاح واستمراره وعدم انقطاعه, لا شك أن هذه مصلحة عظيمة لا يقال بمجرد الإباحة، وإنما هو مستحب, وهذا القول: هو الأظهر.
نقول: النظر إلى المخطوبة الصواب أنه مستحب, وأنه لا يكتفى فيه بمجرد القول بالإباحة؛ لأن النبي علية الصلاة والسلام قال: ( انظر إليها؛ فإنها أحرى أن يؤدم ). يعني: يؤلف بين قلبيكما.
المسألة الثانية ما يشترط للنظر إلى المخطوبة: أشار المؤلف رحمه الله إلى الشرط الأول: وهو أن ينظر إلى ما يظهر عادة, هذا الشرط الأول, ينظر الخاطب من مخطوبته إلى ما يظهر عادة، وما هو الذي يظهر عادة؟
الذي يظهر عادة هو القدمان والكفان والوجه والرقبة والرأس, هذه هي التي ينظر الإنسان إلى محرمه منها, يعني: كأمه وابنته وأخته..الخ, فلا بأس أن الإنسان ينظر إلى قدمي المخطوبة، وينظر أيضاً إلى كفيها، وينظر أيضاً إلى وجهها وإلى رقبتها وإلى رأسها, هذا هو الشرط الأول: أن ينظر إلى ما يظهر عادة.
الشرط الثاني: أن لا يكون هناك خلوة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية, وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ).
الشرط الثالث: أن يكون النظر بقدر الحاجة؛ لأن الأصل في ذلك التحريم, وأن هذه المرأة أجنبية من هذا الشخص, وأبيح له أن ينظر فيكون النظر مقدر بمقدار الحاجة, فإذا احتاج أن يكرر النظر ويعيده مرة أخرى فلا بأس, فإذا نظر إليها ووقعت في قلبه فلا يجوز له أن يكرر النظر مرة أحرى, فنقول: ينظر إليها حتى يعرف من نفسه إما أنه سيقبلها وإما أنه لا يريدها ولا يقبلها.
الشرط الرابع: أن لا يكون هذا النظر بشهوة؛ لأن هذه المرأة أجنبية منه, ما دام أنه لم يحصل عقد النكاح فهذه المرأة أجنبية منه, فينظر إليها ولكن لا يكون نظره بشهوة؛ لأنه إذا نظر بشهوة فإنه يكون تلذذ بامرأة لا تحل له, لكن يرد على ذلك أن الإنسان إذا نظر لا يملك الشهوة وستتطرق إليه حين النظر, فنقول: مع ذلك يقوم بمدافعتها, فإذا دافعها فإنها لا تضره.
الشرط الخامس: أن تكون المرأة بهيئتها العادية, بحيث إنها لا تخرج عن هيئتها العادية، فلا تتطيب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن تتطيب المرأة بحضرة الرجال، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيما امرأة مست بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة )، وأيضاً لا تستعمل ما يتعلق بالتحمير والتصفير.. ونحو ذلك, وليس المعنى: أن المرأة تأتي شعثة متبذلة، لكن تكون بهيئتها العادية، تلبس ثياباً نظيفة ولا بأس أن تسكن شعرها ونحو ذلك، أما أن تختضب وأن تحمر وأن تصفر ونحو ذلك فإن هذا لا يجوز؛ لأنها لا تزال امرأة أجنبية.
الشرط السادس: أن يكون النظر مباشرة لهذه المرأة, فإن كان النظر عن طريق الصور فهذا منع منه بعض العلماء المتأخرين, وممن منع منه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، فإن النظر إلى الصورة لا يحكي الواقع, فقد يرى الإنسان الصورة ثم بعد ذلك عندما يتزوج ويدخل يختلف عليه الحال, فقد يحصل في هذه الصورة شيء من التدليس أو شيء من عدم الحقيقة فيتغير عليه الحال.
وهل له أن يسمع كلامها؟ هل يطلب منها أن تتكلم؟
هذا لا بأس به، رخص فيه أهل العلم, يعني: لو أراد أن ينظر إلى منطقها أو إلى حديثها، وما يتعلق بكلامها هل عليها شيء، يلحظ لسانها أو يريد أن ينظر إلى ما يتعلق برأيها وعقلها، فإن هذا لا بأس به ورخص فيه أهل العلم رحمهم الله, أما الحديث عن طريق الهاتف ونحو ذلك فإن هذا ممنوع؛ لأنه كما سلف هذه المرأة أجنبية من هذا الشخص, وهذه الأشياء إنما تباح بقدر الحاجة.
اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على رأيين:
الرأي الأول: النظر يكون بعد الخطبة يعني: يخطب ثم بعد ذلك ينظر, لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أنه خطب امرأة من الأنصار فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً ).
الرأي الثاني: النظر يكون قبل الخطبة، ينظر أولاً ثم بعد ذلك يخطب ثانياً, واستدلوا على ذلك بما تقدم من حديث محمد بن مسلمة وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئٍ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها ).
والأقرب في ذلك أن النظر يكون حسب الحاجة, فقد يحتاج الإنسان أن يخطب ثم ينظر, وقد يحتاج أن ينظر ثم بعد ذلك يخطب, فالنظر: راجع إلى الحاجة وإلى أعراف الناس.
لا يخطب الرجل على خطبة أخيه, يحرم على الرجل أن يخطب على خطبة أخيه, ودليل ذلك حديث أبي هريرة في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ).
فيحرم على المسلم أن يخطب على خطبة أخيه, وقول المؤلف رحمه الله: (على خطبة أخيه)، يفيد أنه لا بأس أن يخطب الرجل على خطبة غير أخيه, يعني: يخطب المسلم على خطبة الكافر, لا بأس أن تخطب على خطبة اليهودي، ولا بأس أن تخطب على خطبة النصراني, يعني: يفيد كلام المؤلف رحمه الله أنه يحرم عليك أن تخطب على خطبة المسلم، لكن لا بأس عليك أن تخطب على خطبة النصراني أو على خطبة اليهودي, فالمسلم يباح له أن ينكح النصرانية ويباح له أن ينكح اليهودية كما سيأتينا إن شاء الله ذلك وبيان شروط ذلك, ودليل ذلك قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فقال الله عز وجل: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فأفادت هذه الآية أنه لا بأس للمسلم أن يتزوج النصرانية, فلو كان هناك نصراني خطب نصرانية فلا بأس للمسلم -على كلام المؤلف رحمه الله- أن يخطب على خطبة هذا النصراني، أو أن يهودياً خطب يهودية فلا بأس للمسلم أن يخطب على خطبة هذا اليهودي, واستدلوا على ذلك بما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ), والأخوة إنما هي أخوة الإسلام فيفهم من ذلك أنه لا بأس أن يخطب الرجل على خطبة الكافر؛ لأن الكافر ليس أخاً للمسلم, فلا بأس أن يخطب على خطبة النصراني أو خطبة اليهودي, ومن باب أولى غير اليهودي وغير النصراني، لا بأس أن يخطب على خطبته, هذا هو المشهور من المذهب.
والرأي الثاني: أنه لا يجوز، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ). خرج مخرج الغالب, والقاعدة عند الأصوليين: أن ما كان قيداً أغلبياً فإنه لا مفهوم له.
وهذا القول هو الصواب: وأنه لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة الخاطب مطلقاً لعموم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل )، وهذا حديث عام, وأيضاً لما في الخطبة على خطبة الرجل -حتى وإن كان يهودياً أو كان نصرانياً- من الظلم والاعتداء، والظلم حرمه الله على نفسه وحرمه الله عز وجل على عباده, ففي حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ). فالصواب في ذلك ما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة الرجل )، وهذا يشمل اليهودي والنصراني, ولما في ذلك من الاعتداء والظلم, والظلم محرم ولا يجوز.
الجواب: هذا صحيح؛ لأن صلاة الجماعة واجبة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فكون الإنسان لا يستيقظ إلا بمنبه أو بموقظ يوقظه لصلاة الفجر فاستخدام مثل هذه الأشياء واجب لوجوب صلاة الجماعة, ويجب من صلاة الجماعة إدراك ركعة، فإذا كان هذا الشخص لا يستيقظ إلا بعد الإقامة ويفوت الركعة الأولى فهذا فاته خير كثير, لكنه إذا كان يستيقظ بدون منبه ويدرك ركعة واحدة فاستخدام المنبه هنا غير واجب، وإنما هو مشروع وسنة مؤكدة لكي يدرك الصلاة من أولها.
المهم أن استخدام المنبه لإدراك ركعة من صلاة الجماعة واجب؛ لأن الجماعة واجبة ويجب من الجماعة أدراك ركعة؛ لأنه إذا أدرك ركعة فقد أدرك الجماعة لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).
الجواب: تكلمنا عن الكلام مع المخطوبة وقلنا: بأن هذا راجع إلى المصلحة، وأنه إذا احتاج إلى ذلك فلا بأس, وأما الجلوس وإطالة الجلوس مع المخطوبة فإن هذا محرم ولا يجوز؛ لأن الأصل في ذلك التحريم، وإنما هو ينظر إليها بقدر الحاجة، ولا بأس أن يكرر النظر حتى يعرف من قلبه أنه يريد نكاح هذه المرأة أو أنه لا يريد نكاح هذه المرأة.
الجواب: إذا خطب على خطبة أخيه هل يصلح العقد أو لا يصح العقد؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم, يعني: لو أن رجلاً خطب على خطبة أخيه المسلم ثم عقد للثاني فهل يصح العقد أو لا يصح العقد؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله سيأتي بيانه بإذن الله، ففيه رأيان:
جمهور أهل العلم أن العقد صحيح.
والرأي الثاني قول الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه، وهو قول الظاهرية: أن عقد النكاح باطل ولا يجوز.
الجواب: الأصل في الطلاق أنه مكروه لقول الله عز وجل: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، فقال الله عز وجل في الطلاق: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] وفي هذا نوع من التهديد، فالأصل في الطلاق أنه مكروه، ولما يترتب على ذلك من تفويت تلك المصالح العظيمة المتعلقة بالنكاح, لكن إذا احتاج الزوج إلى ذلك فإنه لا بأس كما إذا نشزت المرأة وامتنعت مما يجب عليها من حق الزوج فيما يتعلق بالاستمتاع، فإنه لا بأس له أن يطلقها.
الجواب: هذا تكلمنا عليه وقلنا: هذا جائز, يجوز للخاطب أن ينظر إلى شعر المخطوبة، يجوز له أن ينظر إلى رأسها, حتى ولو كانت حاسرة لا بأس؛ لأن الشعر مما يقصد في النكاح، وأيضاً مما يرغّب الأزواج في نكاح هذه المرأة.
الجواب: الوجأ في اللغة هو القطع، فالصوم يقطع الشهوة ويخفف غلمة الرجل، هذا قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإنه له وجاء ).
الجواب: نقول: لا، نحن نقول: أصلاً قوله: ( على أخيه ) قيد أغلبي ليس مقصوداً للشارع, فأصلاً قوله ليس مقصوداً حتى نقول: بأن الخاص يقضي على العام.
الجواب: الظاهرية مذهب من المذهب الفقهية التي تأخذ بظواهر النصوص, يعني: ما دل عليه الظاهر دون النظر إلى المعنى، فهم يأخذون بظاهر النص ويجمدون على ظاهر النص دون النظر إلى معاني الشريعة, ولهم كتب ومؤلفات وعلماء، ومن أشهر كتبهم الموجودة الآن كتاب المحلى لـابن حزم رحمه الله تعالى، ومن أئمتهم داود الظاهري رحمه الله.
فهم سموا الظاهرية نسبة إلى أهل الظاهر الذين يأخذون بظواهر النصوص دون النظر إلى المعاني، وأيضاً ينكرون القياس فلا يستدلون به.
الجواب: نعم، تكلمنا على هذا وقلنا: لا بأس أن ينظر إلى يديها وكفيها ووجهها ورقبتها ورأسها.
الجواب: تارك الصلاة لا يصح تزوجه كما سيأتينا إن شاء الله في الكفاءة, وإذا كان لا يصح تزوجه لا بأس أن تخطب على خطبته, إذا كان فعلاً تاركاً للصلاة فإنه لا يصح تزويجه كما سيأتي إن شاء الله في أحكام الكفاءة, وإذا كان كذلك فلا بأس أن يخطب على خطبته.
الجواب: الدليل على ذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له جابر أنه خطب امرأة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( انظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً )، قال العلماء: في أعين الأنصار شيء من الصغر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر