الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، رواه البخاري والنسائي .
باب قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وقوله: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله ).
وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. رواه عبد الرزاق ].
تقدم لنا ما يتعلق بالتوكل، وذكرنا تعريف التوكل، ومناسبة هذا الباب لما قبله، ومناسبته لكتاب التوحيد، وأيضاً تقدم لنا شيء من الأدلة المتعلقة بالتوكل.
قال: وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
(مَنْ) شرطية.
قوله: (فَهُوَ حَسْبُهُ) الفاء واقعة في جواب الشرط، وتقدم لنا تعريف التوكل وأنه الاعتماد على الله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر مع فعل الأسباب.
وقوله: (فَهُوَ حَسْبُهُ) يعني: أنه سبحانه وتعالى كافيه.
وفي هذا دليل لما ترجم له المؤلف رحمه الله تعالى، وأن المسلم يتوكل على الله عز وجل دون ما سواه؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي سيكفيك كل أمورك وجميع ما أهمك فإنه يتوكل عليه وحده دون ما سواه.
ففي هذا وجوب التوكل عليه سبحانه.
(الله ونعم الوكيل) الوكيل: الكافي الذي توكل إليه أمور العباد.
قال: (قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]) قالها إبراهيم عليه السلام لما جمع له قومه الحطب لكي يلقوه في النار فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأيضاً قالها النبي صلى الله عليه وسلم حينما أرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تتوعده، وأنها ستسير إليه، وذلك بعد غزوة أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( حسبنا الله ونعم الوكيل ).
الشاهد من هذا الحديث لما ترجم له المؤلف رحمه الله: أن المتوكل عليه وحده دون ما سواه والذي يجب أن تفوض إليه جميع أمور العباد هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الكافي، هذا من وجه.
ومن وجه آخر: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (حسبنا الله ونعم والوكيل): أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالها، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قالها.
تقدم لنا أنه إذا أثني على أحد بخير في القرآن أو في السنة فإنه يطلب منا محبته واتباعه. والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قالوا هذه الكلمة العظيمة: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فالله عز وجل أثنى عليهم بهذا الذكر.
القسم الأول: التوكل التعبدي، وهذا من أجل العبادات وأفضل القربات، كما تقدم لنا أن التوكل من العبادات القلبية، فيجب أن يكون لله عز وجل دون ما سواه.
القسم الثاني: التوكل الذي يكون شركاً أكبر، وهذا له صورتان:
الصورة الأولى: التوكل على الأموات والأضرحة والأصنام في جلب النفع ودفع الضر.. إلى آخره، نقول بأن هذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لوجود تسوية غير الله بالله.
الصورة الثانية: أن يتوكل على المخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، يتوكل على الحي في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كما لو توكل على الحي في هبة الولد ونحو ذلك، فنقول بأن هذا شرك أكبر.
فأصبح عندنا شرك أكبر له صورتان:
الصورة الأولى: أن يتوكل على الأموات والأضرحة والأصنام، هذا شرك أكبر.
الصورة الثانية: أن يتوكل على المخلوق الحي في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كهبة الولد، وإجراء السحاب، وإنزال المطر.. ونحو ذلك، فنقول بأن هذا شرك أكبر مخرج من الملة.
القسم الثالث: التوكل الذي يكون شركاً أصغر، وهو أن يتوكل على المخلوق في ما يقدر عليه، نقول: بأن هذا شرك أصغر، فمثلاً يتوكل على الطبيب في ما يقدر عليه من العلاج، هذا شرك أصغر، يتوكل على صاحب الرزق في ما عنده من العطاء، نقول: بأن هذا شرك أصغر؛ لأن التوكل عبادة، ولا يجوز أن تصرف لغير الله عز وجل مطلقاً، ومعنى ذلك: أن يعتمد القلب على هذا المخلوق، وينسى المسبب الذي هو الله سبحانه وتعالى، فنقول: بأن هذا شرك أصغر.
مناسبة هذا الباب للكتاب أن الأمن من مكر الله عز وجل فيه سوء ظن بالله عز وجل، وكذلك القنوط من رحمة الله عز وجل فيه سوء ظن بالله عز وجل، وهذا ينافي التوحيد، فما دام أنه ينافي التوحيد -فالواجب عدم القنوط من رحمة الله، وأيضاً عدم الأمن من مكر الله- فناسب أن يأتي به المؤلف رحمه الله تعالى.
والله سبحانه وتعالى يمكر بمن يمكر به، يعني: الله سبحانه وتعالى يوصف بالمكر على سبيل المقابلة.
قال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، القوم الخاسرون: الهالكون.
في هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى أنكر على من يأمن المكر منه سبحانه وتعالى، ووصفهم بالخسران، فدل ذلك على تحريم الأمن من مكر الله.
وتقدم لنا من أقسام الخوف الخوف البدعي، وهو أن يخاف من الله عز وجل حتى يحمله ذلك إلى استبعاد الفرج والقنوط من رحمة الله عز وجل، فهذا خوف بدعي.
قال: إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، الضلال: هو الخطأ في طريق الصواب، يعني: المخطئون طريق الصواب.
وفي هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى ذم الذي يقنط من رحمة الله عز وجل، ووصفه الله عز وجل بالضلال، مما يدل على أن القنوط من رحمة الله عز وجل محرم ولا يجوز.
واختلف العلماء رحمهم الله في الضابط، وأقرب شيء أن الكبيرة: هي كل ما رتب عليه عقوبة خاصة.
والكبائر تختلف، منها ما هو أكبر الكبائر، ومنها ما دون ذلك.. إلى آخره، المهم أنها تختلف.
قال: ( الشرك بالله )، تقدم لنا تعريف الإشراك والشرك، وأن الشرك تسوية غير الله بالله في ما هو من خصائص الله.
قال: ( واليأس من روح الله ) يعني: قطع الرجاء والأمل من روح الله.. من رحمة الله.
قال: ( والأمن من مكر الله )، تقدم.
والشاهد من هذا: قوله: (اليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله)، وتقدم الكلام على ذلك.
قال: (وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، رواه عبد الرزاق).
(أكبر الكبائر) وهذا فيه دليل على أن الكبائر تختلف، وأن أكبرها: الإشراك بالله تقدم، (والأمن من مكر الله) أيضاً تقدم، (والقنوط من رحمة الله) أيضاً تقدم، (واليأس من روح الله عز وجل) أيضاً تقدم، رواه عبد الرزاق .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر