الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191-192].
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13].
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: ( شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟! فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] ).
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً بعدما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] ) .
وفي رواية: ( يدعو على
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]. فقال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب ، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنكِ من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً ) ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191-192]).
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر في هذا الباب الأدلة الدالة على بطلان الشرك وبيان حال المدعوين من دون الله عز وجل، وفي المقابل في هذا إثبات للتوحيد وتقرير له.
ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن المؤلف رحمه الله تعالى في ما قبله من الأبواب ذكر أشياء من العبادة: الدعاء، والاستغاثة، والاستعاذة، وأن هذه العبادات صرفها لغير الله عز وجل شرك، ثم بعد ذلك ذكر في هذا الباب بطلان الشرك وبين حال المدعوين من دون الله، أنهم إما أن يكونوا أصناماً لا تسمع ولا تبصر، وإما أن يكونوا مخلوقين هم مشغولون بعبادة الله عز وجل، أو أنهم لا يسمعونهم ولا يبصرونهم.. إلى آخره.
قال رحمه الله تعالى: (وقول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]). الهمزة هنا: للاستفهام، والاستفهام هنا: استفهام إنكار وتوبيخ على من يساوي غير الله بالله في العبادة.
مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191] و(شَيْئًا). هذه نكرة في سياق النفي وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]. فهم لا يخلقون شيئاً، ومع ذلك أيضاً هم مخلوقون، فإذا كان كذلك دل على أنهم لا يستحقون العبادة، وأن الذي يستحق العبادة هو الخالق، وفي هذا استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، فإذا كان الله عز وجل هو الخالق فهو المستحق للعبادة، وإذا كانوا هم مخلوقين فهم لا يستحقون العبادة.
أيضاً قال: وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا [الأعراف:192]. يعني: هؤلاء المعبودون من دون الله عز وجل لا يستطيعون نصر عابديهم. والنصر: هو العون والمساعدة عند حصول الشدة والكربة، فهم لا يعينون عابديهم ولا يساعدونهم عند حصول شدتهم وكربتهم أو وقوع ظلم عليهم من أحد.
وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:192]. أيضاً لا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم لو أصابهم أحد بضر، إذا كان كذلك فهم لا يستحقون العبادة، وهذا كما تقدم أنه من باب الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، وفي هذا إبطال لعبادة هؤلاء، وفي المقابل: فيه إثبات التوحيد. وهنا الأدلة ظاهرة على إبطال الشرك وتقرير التوحيد.
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [فاطر:13]. يعني: من دون الله، سوى الله.
مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13] القطمير: هي اللفافة التي تكون على نواة التمر.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14]؛ لأنهم -هؤلاء المدعوين- إما أن يكونوا حجارة لا يسمعون، وإما أن يكونوا أمواتاً لا يسمعون، وإما أن يكونوا بعيدين عنكم، وإما أن يكونوا مشغولين بعبادة الله عز وجل لما خلقوا له.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14]. يعني: حتى ولو سمعوا فإنهم لا يقدرون على إجابة طلبكم وما سألتم.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14]. يعني: ينكرون هذا الشرك ويتبرؤون منه يوم القيامة وهو اليوم الآخر، وسمي بيوم القيامة لأن الناس يقومون فيه من قبورهم، وقيل: لأن العدل يقام فيه. وقيل: لأن الناس يقومون على أقدامهم، لا أحد يجلس في ذلك اليوم، ففي ذلك اليوم الشديد يكفرون بشرككم، ويتبرؤون منه، ويتبرؤون ممن أشرك بهم مع الله عز وجل وهم في أحوج ما يكونون إلى شفاعتهم.
قال: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]. ينبئك: يعني: يخبرك بعواقب الأمور ومآلها. مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]. يعني: عالم بها وهو الله عز وجل.
هنا في هذه الآية دلت على بطلان الشرك، وأن الذين يدعون من دون الله -سواء يسألونهم أو يصرفون لهم شيئاً من أنواع العبادة- ما يملكون من قطمير، وإذا كانوا كذلك -لا يملكون شيئاً- ففي هذا إبطال عبادتهم من دون الله عز وجل، إذ ما الفائدة من العبادة؟ وأيضاً: إبطال العبادة أنهم لا يسمعوا الدعاء، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وأيضاً ويوم القيامة يكفرون بشركهم، هذه ثلاثة براهين على إبطال عبادة هؤلاء المعبودين من دون الله عز وجل، وفيه إبطال الشرك وتقرير التوحيد.
(يوم أحد) أحد: جبل معروف في شمال المدينة.
( وكسرت رباعيته ). الرباعية: هي السن التي تكون بعد الثنية، الثنايا ثم بعد ذلك الرباعيات.
( فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟! ). الفلاح: هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
( فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] ). يعني: سبب نزول هذه الآية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف يفلح قوم؟) فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128].
في هذا الحديث الذي أورده المؤلف رحمه الله إبطال عبادة من دون الله عز وجل؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأعظمهم جاهاً عند الله عز وجل وأكرم الخلق عند الله ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى من بقية الأنبياء والرسل والمخلوقين، فكيف يصرف لهم شيء من أنواع العبادة؟ فغيره من باب أولى أنه لا يصرف له شيء من أنواع العبادة.
( بعدما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] ).
وفي رواية: ( يدعو على
وقوله: ( سمع الله لمن حمده ). يعني: استجاب الله عز وجل لمن حمده وتقبله، وحمد الله عز وجل: هو وصف الله عز وجل بصفات الكمال محبة وتعظيماً.
مناسبة الحديث للباب ظاهر، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأعظمهم جاهاً -كما تقدم- يقول الله عز وجل له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]. فهذا يدل على بطلان عبادة من سوى الله عز وجل، وفي هذا بطلان عبادة الأولياء والأنبياء وغيرهم؛ لأنهم لا يملكون شيئاً، وإذا كانوا لا يملكون شيئاً فصرف شيء من العبادة لهم من دون الله عز وجل جهل، والتعلق بهؤلاء الأولياء والأضرحة والقبور لقضاء الحاجات وتفريج الكربات هذا كله باطل؛ لأنهم لا يملكون شيئاً، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً فغيره من هؤلاء من باب أولى، فهؤلاء أصبحوا الآن جثثاً هامدة، حتى ولو كانوا أحياء لا يملكون شيئاً.
فيه يعني: في صحيح البخاري ، والعشيرة عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته.
( فقال: يا معشر قريش ). وقريش هذا اختلف فيه النسابون، فقيل: إنه النضر بن كنانة ، وقيل بأنه فهر بن مالك .
( يا معشر قريش أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم لا أغني ) المعشر: جماعة.
( اشتروا أنفسكم ) يعني: خلصوا أنفسكم من عذاب الله عز وجل وذلك بالتوحيد وعدم الشرك.
( لا أغني عنكم من الله شيئاً ). يعني: لا أدفع عنكم شيئاً من عذاب الله عز وجل.
( يا
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سليني من مالي ما شئتِ ). يعني: هذا الذي أقدر عليه، أما غيره فإني لا أقدر عليه.
ووجه الشاهد من هذا الحديث: إذا كان هذا في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أقرب الناس إليه فاطمة وهي أقرب الناس إليه، وصفية وهي عمته، والعباس وهو عمه أقرب الناس إليه؛ إذا كان لا يملك لهم شيئاً من الله سبحانه وتعالى ففي هذا بطلان عبادة من سوى الله عز وجل؛ لأنه إذا كان هذا في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أقرب الناس إليه وهو أعظم الناس جاهاً عند الله وهو أكرمهم عند الله لا يملك شيئاً فغيره من باب أولى أنه لا يملك شيئاً، وإذا كان كذلك فإنه لا يستحق أن يصرف له شيء من أنواع العبادة، فدل ذلك على ما ترجم له أو ما ذكره المؤلف رحمه الله من إبطال الشرك وتقرير التوحيد.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر