الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى في منظومته:
[الدين مبني على المصالح في جلبها والدرء للقبائح
فإن تزاحم عدد المصالح يقدم الأعلى من المصالح].
تقدم لنا ما يتعلق بقاعدة النية، وأخذنا جملةً من المسائل المتعلقة بها، وبقينا في مسألة أخيرة نختم بها الكلام على هذه القاعدة، وهي ما يتعلق بالتشريك في النية.
الأصل في العمل أن يكون خالصاً لله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] .
فالأصل أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل، لا يبتغي به العامل إلا وجهه سبحانه، وضابط الإخلاص: ألا يقصد بعمله إلا وجه الله عز وجل، والتشريك في النية أقسام:
القسم الأول: أن يحصل تشريك النية في أصل العمل -وهذا لا يكاد يصدر من مسلم- فهذا لا شك أن عمله حابط؛ لأنه ما عمل هذا العمل إلا لأجل الدنيا.
ويضيف بعض العلماء رحمهم الله: أن يكون التشريك في أصل الإسلام، يعني: أنه ما دخل الإسلام إلا لأجل الدنيا ونحو ذلك، فهذا نفاق أكبر.
القسم الثاني: أن يكون أمر الدنيا تابعاً وليس أصلاً، فهذا لا يضر، لكن لا يلتفت القلب إلى أمر الدنيا، فمثلاً: لو أن الإنسان عمل إماماً أو مؤذناً ونحو ذلك، ثم بعد ذلك جاءه من أمر الدنيا، أو دعا إلى الله عز وجل فجاءته الدنيا فهذا لا بأس عليه في ذلك، ويدل له قول الله عز وجل: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [نوح:10-12].
فرتب الله عز وجل هذه الحظوظ الدنيوية على أمور الآخرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ).
القسم الثالث: أن يكون التشريك طارئاً، بمعنى: أن يكون العمل في أصله لله عز وجل ثم طرأ التشريك، فهذا إن دافعه فإنه لا يضره، وإن استرسل معه، فإن كانت العبادة آخرها ينبني على أولها فإنها تبطل عليه، وإن كان أولها منفصلاً عن آخرها فما مضى صحيح، وما حصل فيه التشريك يبطل عليه.
مثال ما كان آخرها ليس مبنياً على أولها: تصدق بكذا وكذا، ثم بعد ذلك تابع الصدقة بصدقة أخرى يقصد بها التشريك، أي: يقصد بها غير وجه الله عز وجل، فالأولى صحيحة والثانية باطلة.
ومثال ما كان آخرها مبنياً على أولها: الصلاة والوضوء ونحو ذلك فنقول: ما حصل فيه إن دافعه لا يضره، وإن استمر معه إلى آخره واسترسل فإنه يبطل عليه.
القسم الرابع: أن يكون التشريك مقارناً للنية، فهذا إن غلّب إرادة وجه الله عز وجل فالعمل صحيح، لكنه ناقص الأجر، وإن غلب إرادة الدنيا فالعمل غير صحيح، وإن تساوى القصدان فهذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله.
(الدين مبني على المصالح في جلبها والدرء للقبائح).
هذه قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وسيأتينا تعريف المصالح، ويدل لهذه القاعدة قول الله عز وجل: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] ، فلا شك أن سب آلهة المشركين فيه مصلحة؛ لما يوقع في قلوبهم من الشك في دينهم، والوهن والضعف… إلى آخره، لكن إذا كان سيترتب عليه مفسدة، وهي أنهم يسبون الله عز وجل، فنقول: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذا في الجملة وإلا فإن المصلحة قد تكبر وتعظم فنقول حينئذ بأن جلب المصالح مقدم على درء المفاسد، وذلك لو عظمت المصلحة وتلاشت المفسدة كما أسلفنا.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة نافعة فقال: إذا أردت أن تعرف أن هذا الشيء مما أمر الله عز وجل به أو مما نهى عنه فانظر إلى ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، فإن كان يترتب عليه مفاسد فهو مما نهى الله عز وجل عنه، وإن كان تترتب عليه المصالح فهو مما أمر الله عز وجل به.
المصالح الضرورية هي: كل ما يعود بحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، وأنت إذا تأملت الشريعة تجد أنها جاءت بحفظ هذه الضرورات الخمس، فالدين جاءت الشريعة بحفظه، وصور حفظ الدين كثيرة منها: الدعوة إلى الله عز وجل، وتقوية الإيمان بكثرة العبادة، وتعلم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقتل المرتد.. إلى آخره.
وحفظ النفس وذلك بتحريم قتل النفس المعصومة، وإيجاب القصاص، وإيجاب الدية، وإيجاب الكفارة، بل مجرد الإشارة إلى المسلم بالسلاح محرم ولا يجوز، كل هذا من حفظ النفس.
وحفظ العقل بتحريم المسكرات والمفترات، وإيجاب الدية كاملة في الجناية على العقل، والأمر بالتدبر والتفكر مما ينمي العقل.
وحفظ العرض أو النسل، بتحريم الزنا، وتحريم القذف، وتحريم اللواط، والأمر بالنكاح، وتسهيل أمره.
وحفظ المال بالأمر بالمكاسب المباحة، وتحريم المكاسب المحرمة كالسرقة والرشوة والربا.. إلى آخره، وقطع يد السارق، وقتل المحارب في الحرابة.. إلى آخره، فنجد أن الشريعة ولله الحمد جاءت بحفظ هذه الضرورات الخمس التي اتفقت عليها الشرائع.
ذكر الناظم تزاحم المصالح، والمقصود بالمصالح: أوامر الشارع؛ لأن أوامر الشارع يقصد منها المصالح، فإذا تزاحمت أوامر الشارع، أو تزاحمت المفاسد، يعني: نواهي الشارع، فإن هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يتزاحم واجبان، فهنا نقدم أوكد الواجبين، مثال ذلك: عنده دراهم، إما أن يشتري طعاماً يأكله فيحفظ نفسه، وإما أن يقضي الدين الذي عليه، وكل منهما واجب، لكن حفظ النفس أوجب من قضاء الدين، فنقول: يقدم حفظ النفس.
القسم الثاني: أن يتزاحم واجب ومستحب، أي: سنة، فنقول: نقدم الواجب، فإذا تزاحم عنده في هذا المال إما أن يتصدق به، وإما أن يقضي الدين الذي عليه، فنقول: يقضي الدين؛ لأن الدين واجب.
القسم الثالث والأخير: أن يتزاحم مستحبان، فهنا نقدم أفضل السنتين وآكدهما، والتفضيل بين السنن هذا له صور نتكلم عليه إن شاء الله في الدرس القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر