قال المؤلف رحمه الله: [وينقسم إلى مرسل ومسند].
تقدم أن الخبر ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: باعتبار وصوله إلينا.
القسم الثاني: باعتبار انقطاعه واتصاله، فيقول المؤلف رحمه الله: (ينقسم إلى مرسل ومسند). المرسل ينقسم إلى أقسام، والمسند ينقسم إلى أقسام، وهذه سنتعرض لها إن شاء الله في الإجمال.
قال المؤلف رحمه الله: [فالمسند: ما اتصل إسناده، والمرسل: ما لم يتصل إسناده].
وفي الاصطلاح يقول المؤلف رحمه الله: (ما اتصل إسناده)، لكن تعريف المؤلف رحمه الله بقوله: (ما اتصل إسناده) هذا يشمل كل الإسناد، فمثلاً: المسند للتابعي إذا اتصل إسناده بالتابعي فهذا يسمى مسنداً، والمسند للصحابي إذا اتصل إسناده بالصحابي فهذا يسمى مسنداً، والمسند للنبي عليه الصلاة والسلام إذا اتصل إسناده بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن المراد هنا بالمسند: هو ما اتصل إسناده إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما في الاصطلاح فقال المؤلف رحمه الله في تعريفه: (ما لم يتصل إسناده)، وبهذا التعريف يشمل المرسل في اصطلاح المحدثين، ويشمل أيضاً المنقطع، ويشمل المعضل، ويشمل مرسل الصحابي وغير ذلك، فيقول المؤلف رحمه الله: (المرسل: ما لم يتصل إسناده)، وهذا عند أهل الأصول: أنه الذي لم يتصل إسناده، فيشمل ما سقط منه راوي سواء كان هذا الراوي الصحابي أو غيره، ويشمل أيضاً ما إذا سقط واحد أو أكثر من واحد.
وفي اصطلاح المحدثين المرسل: هو ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الأول: مراسيل الصحابة، فهذه حجة؛ وذلك بأن يسقط الصحابي صحابياً آخر؛ يعني: يرويها الصحابي عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا يذكر الواسطة، فهذا الصحابي لا يذكر الصحابي الآخر، فهو يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً، وهذا كثير جداً.
فـابن عباس رضي الله تعالى عنه من المكثرين برواية الحديث، ومع ذلك قيل: إنه لم يرو عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة إلا خمس عشرة أو نحو ذلك وأحاديثه بالآلاف، كلها يأخذها من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
فمرسل الصحابي هذا حجة عند جمهور أهل العلم من الأصوليين والمحدثين؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر؛ لأنهم وكلهم عدول بالاتفاق.
ومن أمثلته: حديث ابن عباس ، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة )، فـابن عباس في الأصل أخذه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه. وأيضاً من أمثلته: حديث عائشة : ( أول ما بدئ الوحي بالرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة )، فـعائشة رضي الله تعالى عنها لا شك أنها أخذته من الصحابة رضي الله تعالى عنها؛ لأنها في بدء الوحي كانت صغيرة.
فنقول: مرسل الصحابي: ما رواه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لم يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يشاهده من النبي عليه الصلاة والسلام إما لصغر سنه، أو لتأخر إسلامه، أو غير ذلك من الأمور، وهذا المرسل حجة بالاتفاق. فهذا مرسل عند الجمهور من المحدثين والأصوليين، وعليه العمل، يعني: الخلاف في ذلك ضعيف جداً، وإلا لأدى ذلك إلى إبطال كثير من السنة، إلا أنه كما ذكرنا أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم.
القسم الثاني: مرسل التابعي: وهو ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله هل هو حجة أو ليس بحجة؟ مثل: أن يقول سعيد بن المسيب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الحسن البصري ، أو مكحول ، أو سعيد بن جبير أو غير ذلك من التابعين رحمهم الله، يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام أو أمر أو فعل، فيرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فالمؤلف ذكر أن المرسل ليس حجة إلا أنه استثنى مراسيل سعيد بن المسيب ، قال: لأنها فتشت فوجد أنه لا يرسل إلا عن ثقة.
الرأي الأول: أنه ليس حجة، وهذا ما عليه الأئمة من المحدثين، وهذا اختيار البخاري رحمه الله، وكذلك أيضاً الإمام مسلم رحمه الله، ورجحه ابن عبد البر وابن الصلاح وابن حجر في شرح النخبة.
والعلة في ذلك أن التابعي يحتمل أنه أسقط الصحابي، ويحتمل أنه أسقط غير الصحابي، فهذا المسقط مجهول وهذا المسقط يحتمل أنه ثقة ويحتمل أنه ضعيف، وإذا قلنا: بأنه ثقة فيحتمل أن هذا الثقة قد رواه عن ضعيف، فهو محتمل بأن يكون صحابياً، ومحتمل أيضاً بأن يكون تابعياً، فإن كان تابعياً فهذا التابعي يحتمل أنه ضعيف، وإذا قلنا: بأنه ثقة فيحتمل أنه رواه عن ضعيف، فهذا الرأي الأول.
الرأي الثاني: أن المرسل حجة، وهذا منسوب للأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهذا نسب إليهم، وبعض العلماء رحمه الله يقول: إن في نسبته لهم نظر، فهم يذكرون من أصول مذهب الإمام أحمد الاحتجاج بالحديث المرسل، ولكن بعض العلماء يقول: إن في نسبته لهم نظر، وإنما احتجوا ببعض المراسيل فقط.
ودليل من قال: بأن المرسل حجة استدلوا على ذلك قالوا: بأن التابعي الثقة يستحيل أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا سمعه من ثقة، لكن هذا فيه نظر؛ يعني: وجدت بعض المراسيل ضعيفة.
الرأي الثالث: أن المرسل يقبل بشروط:
الشرط الأول: أن يكون المرسل من كبار التابعين.
الشرط الثاني: أنه إذا سمى من أرسل عنه سمى ثقةً.
الشرط الثالث: أنه إذا شاركه حفاظ مأمونون فلا يخالفونه.
الشرط الرابع: أنه لا بد أن ينضم إلى خبره ما يلي:
أولاً: أن يوافق قول الصحابة.
ثانياً: أن يفتي بمقتضاه أكثر أهل العلم.
ثالثاً: أن يروى من وجه آخر مسنداً.
رابعاً: أن يروى من وجه آخر مرسلاً أرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول.
فإذا توفرت هذه الشروط فعلى الرأي الثالث يكون حجة، وتقدم لنا أن المرسل في اصطلاح الأصوليين: هو الذي لم يتصل إسناده وهذا يشمل المنقطع والمعضل وأيضاً المرسل كمرسل الصحابي ومرسل التابعي، ولكن قلنا: بأن مرسل الصحابي حجة، أما مرسل التابعي فهذا فيه خلاف للجهالة من جهة الساقط، لا ندري من هذا الساقط, فيحتمل أنه تابعي، وهذا التابعي إذا قلنا: بأنه ثقة يحتمل أنه أخذ عن ضعيف.
فعند أهل الحديث المرسل: ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
أما المنقطع عند أهل الحديث: فهو ما سقط من وسط إسناده راو، أو سقط من إسناده راويان لا على سبيل التوالي.
والمعضل: ما سقط من وسط إسناده راويان على سبيل التوالي، فهذا بالنسبة عند أهل المصطلح.
أما الصحيح فهو عند أهل المصطلح: ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل عن مثله وخلا من الشذوذ والعلة في القدح، فهذا صحيح.
والحسن: ما رواه عدل خفيف الضبط؛ يعني أن يخف ضبطه فهذا يسمونه حسناً.
والضعيف: ما اختل فيه شرط من شروط الصحة، ويقسمون الصحيح إلى صحيح لغيره، وصحيح لذاته, والحسن كذلك أيضاً يقسمونه إلى حسن لذاته, وحسن لغيره.
الحديث له تحمل وله أداء، فالتحمل: أخذ الحديث عن الغير، والأداء: هو إبلاغ الحديث إلى الغير.
وقوله رحمه الله: (العنعنة تدخل على الأسانيد) فالعنعنة: هي رواية الحديث بلفظ عن، فمثلاً يقول: فلان عن فلان عن فلان إلى آخره.
ولكن العمل الآن على خلاف ذلك، ولو قلنا: بأن الأحاديث المعنعنة هذه لا بد فيها من التصريح بالسماع والرواية لأدى ذلك إلى إبطال كثير من السنة، فما عليه الآن هو استقرار العمل بالحديث المعنعن عند جمهور المحدثين والأصوليين، أي: أنه يصار إلى العمل بالحديث المعنعن.
الشرط الأول: سلامة المعنعن عن التدليس، فلا يحكم بالاتصال من مدلس إلا أن يصرح بالتحديث؛ يعني: إذا عرفنا أن الراوي هذا مدلس فإنه إذا عنعن فلا تقبل عنعنته.
الشرط الثاني: لقاء الراوي لمن روى عنه واجتماعهما ولو مرة واحدة؛ يعني: أن يكون هذا الراوي قد سمع من الشيخ الذي عنعن عنه، فلو سمع منه ولو حديثاً واحداً يكفي؛ يعني أنه قد التقى به واجتمع به ولو مرة واحدة، فالمهم أنه يكون سمع منه، وهذا ما ذهب إليه البخاري رحمه الله، وابن المديني ، وهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين مسلم والبخاري .
فـالبخاري يقول: لا بد أن يكون قد التقى به واجتمع به، ولا يشترط أن يكون سمع منه كل حديث، فهذا صعب ولكن لا بد أن يكون قد التقى به.
وهذا قول جمهور المحدثين على ما ذهب إليه إمام المحدثين البخاري رحمه الله. وهذا الرأي الأول.
الرأي الثاني: رأي الإمام مسلم رحمه الله يقول: هذا ليس بشرط, ولكن يكتفى بإمكان اللقاء والمعاصرة، ومسلم رحمه الله له وجهة نظر فيقول: كوننا نقول: بأنه يشترط أن يكون سمع منه, فإما أن نشترط السماع في كل حديث، وإلا لا نحتاج أن نشترط فيه سماعه هو ولا في بعض الأحاديث، فهذه وجهة نظر مسلم رحمه الله، ومسلم رحمه الله يقول: كوننا نقول: سمع منه والتقى به وأخذ منه بعض الأحاديث إما أن نقول ذلك في كل حديث، كما قال يحيى بن سعيد القطان : كل حديث ليس فيه حدثنا أخبرنا فهو خل وبقل، أو نقول: بأنه يكتفى بإمكان اللقاء والمعاصرة، فإذا كان يمكن أنه لقيه وعاصره -وإن لم يكن سمع منه، وإن لم يكن التقى به أو اجتمع به- فإن هذا في حكم الاتصال.
فالمهم أن العمل الآن على ما ذهب إليه البخاري رحمه الله، فلا بد أن يكون التلميذ سمع من الشيخ ولو بعض الأحاديث والتقى به واجتمع به، فإذا عرفنا أنه سمع منه حملنا هذه العنعنة على الاتصال، أما إذا كنا عرفنا أن هذا لم يسمع من هذا فنحمله على الانقطاع.
الطريقة الأولى: السماع من لفظ الشيخ.
والطريقة الثانية: القراءة على الشيخ وتسمى العرض، وهذه هي المعروفة عند أئمة المحدثين.
فهاتان الطريقتان لتحمل الحديث هما المعروفة عند الأئمة المتقدمين، والمستعملة في عصر الرواية.
فالطريقة الأولى: أن يقرأ الشيخ على الطالب سواء قرأ من حفظه أو قرأ من كتابه فإنه يقول: حدثني وأخبرني، فإذا قرأ الشيخ على التلميذ؛ يعني: إذا سمع التلميذ من لفظ الشيخ، فإنه يقول: حدثني وأخبرني.
والطريقة الثانية: قراءة التلميذ على الشيخ وتسمى العرض، فهذه يقول: أخبرني أو حدثني قراءةً عليه، وهل يسوغ أن يترك قول: قراءةً عليه؟ وهل هو جائز أو ليس بجائز؟
فيه رأيان:
الرأي الأول: أن هذا جائز.
والرأي الثاني: أن هذا ليس بجائز.
فالرأي الأول: قال به البخاري.
والقول الثاني: أنه ليس بجائز وهذا قال به مسلم رحمه الله.
فأصبح المعروف من صيغ التحمل عند الأئمة هي أن يسمع من لفظ الشيخ فيقول: حدثني وأخبرني، أو أنه يقرأ على الشيخ, والشيخ يسمع, ويسمى العرض، فيقول: حدثني وأخبرني قراءةً عليه، وهل يجوز أن يترك لفظ القراءة؛ قول: وقراءةً عليه؟ فيه رأيان.
هناك طرق أخرى من طرق التحمل ليست معروفة في عصر الرواية وهي: الإجازة والكتابة والوصية والوجادة والمناولة والإعلام؛ فهذه ست طرق ليست معروفة في عصر الرواية عند المتقدمين، وإنما حدثت بعد عصر الرواية، وكل طريق لها حكمها وسنتعرض لها باختصار.
فنقول: الطريق الأول: الإجازة: والإجازة هي: أن يأذن الشيخ للتلميذ أن يروي عنه ما روى، كأن يقول: أجزت لك أن تروي عني صحيح البخاري، أجزت لك أن تروي عني صحيح مسلم، فيقول التلميذ: أجاز لي، أو أخبرني إجازةً عند الرواية، وفي اصطلاح المتأخرين يقولون: أنبأنا.
والإجازة هذه لها صور:
الصورة الأولى: أن يجيز معيناً لمعين، كأن يقول: أجزتك صحيح البخاري أو صحيح مسلم ونحو ذلك.
الصورة الثانية: أن يجيز معيناً لغير معين، كأن يجيز صحيح البخاري مثلاً فيقول: لأهل زمانه؛ هو الآن أجاز معيناً وهو صحيح البخاري لغير معين؛ وهو لأهل زمانه.
الصورة الثالثة: أن يجيز غير معين لمعين، كأن يقول: أجزت لك مسموعاتي.
الصورة الرابعة: أن يجيز غير معين لغير معين؛ يعني: يجيز مجهولاً لمجهول، فيقول: أجزت كتاب السنن -وهو يروي عدة كتب من كتب السنن- لأهل زماني أو لفلان, وهذا الاسم يشترك فيه عدة أشخاص.
الصورة الخامسة: أن يجيز للمعدوم إما تبعاً أو استقلالاً، فيقول: أجزت لفلان ولمن يولد لفلان أن يروي عني البخاري، فهذا تبع أو استقلال، فيقول: أجزت لمن يولد لفلان أن يروي عني صحيح البخاري ، ويصح من هذه عند الجمهور القسم الأول، أما بقية الأقسام فهذه ضعيفة وفيها خلاف، فهذا ما يتعلق بالإجازة.
الطريق الثاني: المناولة، والمناولة نوعان:
النوع الأول: مناولة مقرونة بالإجازة، وصورتها: أن يدفع الشيخ كتابه إلى الطالب ويقول: هذا روايتي عن فلان فاروه عني، ثم يبقيه معه تمليكاً أو إعارةً لكي ينسخه ونحو ذلك.
النوع الثاني: أن تكون المناولة مجردة عن الإجازة، وصورتها أن الشيخ يدفع الكتاب إلى الطالب ويقول: هذا روايتي عن فلان وهذا سماعي.
فالنوع الأول تجوز الرواية فيها، وأما النوع الثاني فلا تجوز الرواية فيها.
الطريق الثالث من طرق صيغ التحديث: الكتابة: وهي أن يكتب الشيخ مسموعاته لحاضر أو غائب، وهذه أيضاً تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مقرونة بالإجازة؛ يعني: أن يكتب له ويقول: أجزت لك أن ترويها عني.
والقسم الثاني: مجردة عن الإجازة، كأن يكتب له بعض الأحاديث أو بعض المرويات ويرسلها إليه، ولا يجيزه بالرواية، فالأولى صحيحة, والثانية ليست بصحيحة.
الطريق الرابع: الإعلام: والإعلام أن يخبر الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب أنه سماعه أو روايته، يخبره فقط، وهذه اختلف فيها, والصحيح أنه لا تجوز الرواية بها؛ لأنه قد يخبره أن هذه سماعه ولكن فيها خلل.
الطريق الخامس: الوصية: وهي أن يوصي عند موته أو عند سفره لشخص بكتاب من كتبه يرويه، وهذه أيضاً لا تصح الرواية بها؛ يعني: أن يوصي الشيخ بكتاب من كتبه عند موته أو عند سفره لشخص من الأشخاص يروي هذا الكتاب، فهذه لا تصح الرواية بها.
الطريق السادس: الوجادة: والوجادة أن يجد التلميذ أحاديث بخط شيخه، وليس للتلميذ سماع منه ولا رواية، فهذه لا تصح الرواية بها. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر