الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يقول المصنف عليه رحمة الله: [ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً].
ذكر المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بدفن الميت؛ ثم شرع في بيان ما ينبغي أن يُفعل بظاهر القبر، فبين رحمه الله بهذه الجملة أن القبر يرفع شبراً، بمعنى: أن القبور لا ينبغي أن تكون مستوية بالأرض؛ لأن استواءها بالأرض يوجب الجهل بها، وعدم الرعاية لحرمتها، فكلما كانت معروفةً بينة كان ذلك أدعى لحفظها بعدم الوطء والجلوس عليها والصلاة إليها، وأما إذا كانت مستويةً بالأرض فالأمر على خلاف ذلك.
وقوله: (شبراً): الشبر: من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر، فهذا القدر يوصف في لغة العرب بكونه شبراً كما ذكر صاحب اللسان.
وقد يطلق (الشبر) بمعنى العطية والهِبة، ومنه: تسمى المرأة الكريمة (مشبورة).
وقوله: (يرفع شبراً) مأخوذٌ من السنة؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مرتفعاً عن الأرض، فلم يكن لاصقاً بالأرض ولا مبالغاً في رفعه؛ بل كان مرفوعاً قدر شبر كما ورد في بعض الروايات، وهذا القدر هو المأذون به: وهو ما يقارب الشبر؛ يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً؛ لأنه تتحقق به الحاجة من العلم بالقبر، فلا يصلى ولا يجلس ولا يوطأ عليه، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرناها.
ومما يدل على مشروعية رفع القبر: ما ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال لـأبي الهياج : (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورةً إلا طمستها، ولا تمثالاً إلا كسرته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل هذا الحديث على أن السنة: ألا يترك القبر مشرفاً، وهو: أن يبالغ في رفعه على الأرض، وكذلك أيضاً لا يترك مستوياً بالأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الإزالة بالمشرف، فدل على أن القبر غير المشرف، وهو الذي ارتفع ارتفاعاً معقولاً دون أن يكون فيه مبالغة؛ يترك على حاله.
وكذلك ورد في صحيح البخاري عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما كُشِف لبعض التابعين رحمهم الله، أنه كان مرتفعاً عن الأرض، لهذا كله نص العلماء على أن السنة في القبور أن ترفع عن الأرض، وذكروا هذا القدر -قدر شبر- كما ورد في بعض الروايات في قبره صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (مسنماً) تسنيم الشيء رفعه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:27-28] فقوله: (من تسنيم) قيل: إنها عين تأتي من أعلى الجنة، فلا يتكلف الإنسان في طلبها فأنهار الجنة تكون حاضرة للإنسان حتى إنها تصب عليه من علوٍ، فإذا اشتهاها وأرادها كانت أقرب ما تكون إليه، وهذا على أحد الأقوال في تفسيرها.
وسنم الشيء إذا رفعه وأعلاه، وقوله: (مسنماً) أي: غير مسطح، وقد عرف أهل اللغة كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: أن التسنيم ضد التسطيح، وكأنه رفع القبر، وذلك يكون باجتماع طرفيه، وقد ورد ذلك في حديث التمار بن التمار ،كما أشار إليه البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه لما كُشِفَ له عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رآه مسنماً، ورأى قبر صاحبيه على هذه الصفة، ثلاثة قبور غير لاصقة بالأرض ولا مرتفعة، وهي مسنمة، وهذه هي السنة: أن يكون القبر مسنماً خلافاً لمن قال من العلماء: إن السنة أن يكون مسطحاً.
فالتسنيم اجتماع الطرفين كسنام البعير.
الكراهة تطلق عند العلماء على معنيين:
الكراهة التحريمية، بمعنى: أنه لا يجوز فعل الشيء المكروه، ومن فعله أثم، ومن تركه أثيب.
والكراهة التنزيهية، وهي التي يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها.
فقوله: (ويكره) مترددٌ بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه، والأكثر في تعبيرات السلف الصالح رحمةُ الله عليهم حمل الكراهة على التحريم، فقد تجد الأئمة كالإمام أحمد ومالك رحمة الله على الجميع يقول: هذا شيءٌ أكرهه، ومراده: أنه حرام، وإنما اتقى ويتقي كل منهم التعبير بالحرمة ورعاً وخوفاً من الله سبحانه وتعالى من التصريح بالحرمة، فيقول: أكرهه، فعبر رحمه الله بكراهية البناء على القبر، والكراهة تحريمية.
وقوله: (ويكره تجصيصه) أي: تجصيص القبر، وهو وضع الجص فيه، وذلك يكون ببناء داخله، وهكذا يكون بتزويقه وتجميله ووضع الرخام ونحو ذلك في داخل القبر، فكل ذلك مكروهٌ كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر كما ثبت في حديث جابر وغيره، وهذا النهي الأصل أنه للتحريم حتى يدل الدليل على ما دون التحريم وهو الكراهة، ولا دليل يدل على أنه مكروهٌ كراهة تنزيه، فهو مكروهٌ كراهةً تحريمية.
وعلى هذا: فإنه يعتبر من المحرمات، فلا يجوز تزويق القبور ولا تبطين داخلها ولا تطيينه ولا تجصيصه، وإنما يكون على حال الأرض وعلى هيئتها؛ إلا في أحوال مستثناة يشد فيها القبر كما في المواضع التي فيها الرمال ونحوها، فقد رخص بأشياء قدر الحاجة والضرورة على سبيل أن يثبت القبر على المقبور فلا ينهدم عليه، وليس على سبيل البناء.
فقوله: (ويكره تجصيصه) شرع رحمه الله في الأمور التي لا يجوز فعلها بالقبر، فبعد أن بين ما هي السنة في القبر، وأنه يرفع ولا يترك مستوياً على الأرض، وأنه يسنم، فابتدأ بالتجصيص الذي يكون من الداخل، ثم سيذكر ما بعد ذلك من البناء والكتابة عليه، وهي تكون في الظاهر، وكل ذلك من ترتيب الأفكار وتتابعها على النسق المعروف، وابتدأ بالتجصيص؛ لأنه أول ما يكون بعد وضع الميت.
أي: أن البناء على القبر محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عتب على اليهود والنصارى بناء الكنائس على العبد الصالح إذا مات منهم، وقال: (أولئك شرار الخلق) فعدهم من شرار الخلق، والسبب في هذا: أن أعظم الأمور وأجلها عند الله سبحانه وتعالى، والتي أنزل من أجلها كتبه وأرسل رسله، هي التوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى.
والبناء على القبور مفضٍ إلى التعظيم، وإلى الاعتقاد فيها والتعلق بأهلها وأصحابها؛ ولذلك كان البناء من كبائر الذنوب المحرمة التي لا يجوز فعلها، ولا شك أن الحي أولى بالبناء من الميت؛ أما الميت فعمران داره بالعمل الصالح، وبما يكون منه من الخير وما قدم لآخرته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما البناء فإنه لا ينفعه بشيء.
ولذلك لما افتتن الناس بالبناء على القبور حصلت الأمور المحظورة، فكان الأولون يبنون، ثم خلف من بعدهم خلوف اعتقدوا تعظيم القبور، ثم خلف من بعدهم خلوف طافوا بها واستغاثوا بأهلها واستجاروا بهم، حتى صرفوا ما لله لعباد الله، وكل ذلك من أعظم الأمور وأشدها؛ لأنه يمس عقيدة الإنسان وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويفضي إلى الشرك بالله عز وجل.
وقد أجمع العلماء والفقهاء رحمهم الله على اختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على تحريم البناء على القبور، وأن هذا الفعل من كبائر الذنوب، وأنه لا يترك البناء على القبر لما فيه من فتنة الحي وصرفه إلى تعظيم المقبور، وهذا كما هو محل إجماعٍ بين العلماء رحمة الله عليهم، فالنص أيضاً ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم البناء على القبر.
أي: والكتابة على القبر، فقد ورد في الترمذي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة على القبر)، والكتابة على القبر نوعٌ من الإعلان، والكتابة تأتي على صور:
الصورة الأولى: الكتابة على القبر من باب المدح والثناء كما كان يفعله أهل الجاهلية، فيكتبون على قبور بعضهم بما فيه ثناء على صاحب القبر، وقد يكون ذماً له وتوبيخاً له، وقد تكون فيها شماتة، كأن يكتب أبياتاً على عظيمٍ لكي يشمت به بعد موته، وهذه الأحوال كلها محرمة؛ لأنه لا مصلحة في هذه الكتابة، بل الشماتة بالميت معتبرة، وكذلك مدحه لا يفيده، ولربما ضر كما في حديث الصحابي لما نُدِب، فلا خير في كتابتها مدحاً ولا ذماً.
الصورة الثانية: الكتابة للإعلام وهي: أن يكتب اسم الشخص، وللعلماء فيها وجهان:
من أهل العلم من يرى أن عموم النهي يشملها، وأنه لا يجوز كتابة اسم المقبور على قبره، وأنه يترك كسائر الخلق، حتى يكون ذلك أدعى للاتعاظ والاعتبار، وإذا زار الإنسان قريبه سلم عليه؛ فإن السلام يبلغه، فليس ثم حاجة لتخصيصه بالإعلام.
ورخص بعض أهل العلم رحمهم الله في الكتابة فقالوا: إن المنهي عنه إنما هو الكتابة من أجل الذم والمدح، فخصصوا النهي ولا مخصص، وإنما خصصوه بما عرف في عادة الجاهلية.
والذي يظهر أن المنع مطلقاً أولى، وأنه لا يشرع الكتابة على القبر لا إعلاماً ولا ندباً ولا مدحاً ولا ذماً، وإنما يفعل كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين من بعده، فتترك القبور دون حاجة إلى ذكر الأسماء أو الإعلام بعلامات.
الصورة الثانية: وضع علامة يتميز بها القبر لكي يزور الإنسان قريبة أو يدفن الأقارب بجانب هذا الميت، وقد ورد ما يدل على ذلك في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبره أمر بحجرٍ عليه حتى يُعلّم، قال: فأدفن إليه أهل بيته أو قرابته.
قال العلماء: في هذا دليل على مشروعية تعليم القبر للحاجة، حتى يدفن إليه القرابة، وفرقٌ بين التعليم وبين الكتابة، فالكتابة شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، ولا شك أن الكتابة فيها نوع من الإجلال والتمييز لهذا القبر عن بقية القبور، أما وضع العلامة التي لا تكلف فيها، فإنه لا حرج فيها إذا كانت على السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: حتى يدفن الإنسان إليه قرابته، كأن يكون والداً له أو ولداً، ويريد أن يدفن إليه قرابة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وفعله، فدل على أنه لا حرج أن يدفن الإنسان عنده قرابته بأن يضع علامةً على قبره.
ومن هنا قالوا: حديث عثمان رضي الله عنه فيه دليلٌ على مسائل:
المسألة الأولى: فضيلة عثمان وما له من منقبة؛ حيث خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة إذ أضاف إليه قبر قرابته.
والمسألة الثانية: أن فيه دليلاً على مشروعية إعلام القبر، وهي أن تضع علامةً عليه دون أن تكون شاخصةً بينة تصل إلى الحد الممنوع؛ بل تكون علامة واضحة بقدر، كالحجر الذي يوضع على رأس الرجل من باب الإعلام.
والمسألة الثالثة: مشروعية الدفن بجوار الخير والصالح، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ورود السنة به؛ فإن أبا بكر طلب أن يدفن إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر طلب أن يدفن إلى جوار صاحبيه، ومن هنا نص بعض العلماء على استحباب أن يكون الإنسان مقبوراً إلى جوار العلماء ونحوهم ممن عرف بالفضل والتمسك بالسنة والاستقامة على الطاعة، وهذا عُرِفَ من حال السلف رحمة الله عليهم، ونص شيخ الإسلام رحمةُ الله عليه على أنه درج على ذلك فعل السلف رحمهم الله، دون غلو ودون أن يعتقد أنهم ينفعوه أو يكون هناك غلو في الاعتقاد فيهم؛ وإنما يفعل هذا تأسياً بـعمر ؛ لأن عمر استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه؛ فإذا كان قصد الإنسان أن يصيب ذلك فإنه لا حرج فيه.
ولذلك قالوا: إنه لا حرج أن يطلب الدفن إلى جوار العالم ونحو ذلك ممن عُرِف بالتمسك بالسنة، وهكذا الشهداء من كانت خاتمته على الشهادة.
وهكذا الأرض المقدسة التي لها فضل؛ ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقربه إلى الأرض المقدسة؛ لأن القرب من الأرض المفضلة أولى من البعد منها، والدفن في المواضع المفضلة كبقيع الغرقد ونحوه من الأرض التي شُهِدَ بفضلها أولى من الدفن بغيرها، وهذا بالإجماع؛ فإن الدفن في البقيع أفضل لورود النصوص في تفضيله على غيره.
وأما بالنسبة لضم القرابة بعضهم إلى بعض: فحديث عثمان واضح في الدلالة على هذا؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (حتى أدفن إليه قرابتي).
أي: ويحرم الجلوس على القبر، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يجلس الرجل على جمرة من نار فتحرق ثيابه وتخلص إلى جسده، أهون من أن يجلس على قبر) وقال: (لا تؤذه )، كما في حديث عامر بن حزم لما اتكأ على القبر، (فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الاتكاء وقال: لا تؤذه) أي: لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك.
ومن هنا نص العلماء رحمهم الله على حرمة الجلوس على القبور، وحرمة الاتكاء عليها، وحرمة النوم عليها، وهذه من الحرمة التي تتعلق بالقبر، وألحقوا بذلك الامتهان: كالبول وقضاء الحاجة بين القبور، ووطئها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت)، وأما حديث: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فهو إخبار، وقد كانت القبور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليست محوطة ولا محسورة؛ ولذلك يسلكون الفجاج بعد دفنهم.
فقوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) فيه إشارة إلى السماع الخالي عن حكم القرع بالنعال على القبر، وفرقٌ بين الإشارة إلى حكم السماع وبين الحكم بجواز المشي بالنعال على القبور، فنهيه عليه الصلاة والسلام كما في السنن والمسند يدل على تحريم المشي على القبور بالنعال، إلا في أحوال مستثناه، ومن ذلك:
أن يكون الحر شديداً يؤذي الإنسان، أو تكون الأرض فيها ضرر من شوك ونحو ذلك؛ يضطر الإنسان معه إلى لبس حذاءٍ ونحو ذلك، فلا حرج في هذه الحالة أن يلبس حذاءه، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يشرع أن يمتهن القبر ولا أن يطأه بنعاله، وهذه من حرمة القبور وحرمة أهلها، فلا يشرع أن يسير بينها بالنعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انزع يا ذا السبتيتين فقد آذيت) فنص على وجوب نزع السبتية.
وقال بعض العلماء بتخصيص الحكم بالنعال السبتية التي لا شعر فيها، فيختص الحكم بهذا النوع من النعال.
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه بوصفها، لا أن الحكم مختص بالسبتية، لقوله: ( فقد آذيتَ )، فدل على أن العبرة بالمرور بالنعال بين القبور، لا أن الحكم متعلقٌ بنعلٍ مخصوص دون غيرهِ.
وعلى هذا فإنه يحرم المشي بالنعال على القبور، ووطؤها بالنعال أشد، وإنما ينصح بحمل نعاله معه أو خلعه قبل دخول المقبرة.
وأما الطرقات التي بين القبور: فإن كانت خالية من المقابر فيجوز أن يمشي بنعله فيها؛ لأن الحكم يختص بالقبور، وأما بالنسبة للتحريم فيختص في حالة ما إذا دخل بالجنازة بين القبور، أو أراد أن يقبرها بين قبرين، فإنه يشرع أن يخلع حذاءه قبل أن يدخل في هذا الموضع أو يمر عليه.
أي: على القبر، وهذه من الأمور السمعية الغيبية، التي لا يستطيع الإنسان أن يعرف حكمتها وعلتها، فما على الله إلا الأمر، وما على رسولنا صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم، والله أعلم بحقيقة الأمر.
فقد يقول قائل: هذا ميتٌ مقبور، كيف يتضرر ويتأذى بالوطء على قبره؟
فهذا أمرٌ لا يبحث فيه بالعقل، فالعقل يقف عند حدٍ معين، والله سبحانه وتعالى لم يكشف لنا حقيقة هذه الأذية ولا كيفيتها ولا صفتها، فيتوقف المؤمن عند الحكم، ونقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لا يزيد المؤمن على الامتثال؛ أما كيف يتأذى ويتضرر إذا وُطئ على قبره أو اتُكئَ عليه ونحو ذلك، فهذا أمرٌ لا يبحث فيه ولا يسأل عنه، وإنما يفوض علمه إلى الله علاّم الغيوب.
أي: ويحرم في القبر دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وهدي السلف الصالح؛ مضت على قبر المقبور في قبره دون أن يدخل عليه أحد أو يُجمع معه أحد، وهذا هو الأصل؛ فيكون القبر للمقبور وحده دون أن يُجعل معه آخر، ولو كان قريباً له.
أما الضرورة فتقع في حالة الحروب والقتال، كما وقع في غزوة أحد، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبر شهداء أحد الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، والسبب أنه كانت تفنى الأنفس في الحروب في القديم، ولربما وصل القتل في بعض الوقائع إلى مائة ألف، وفي هذه الحالة يصعب أن يحفر لكل شخصٍ قبر، ولربما جلسوا أياماً وهم لا يستطيعون أن يواروا هذه الأجساد، فيضطروا إلى جمع الاثنين والثلاثة في القبر، وحينئذٍ يشرع أن يوسع القبر من داخل؛ حتى يصلح لجمع هؤلاء ولا يضيق؛ بمعنى أن يُجعل القبر الذي للواحد للاثنين والذي للثلاثة للأربعة أو الخمسة، فإن للأموات حرمة، فيختص التوسيع بقدر الحاجة رفقاً بالأموات، فيجعل القبر للاثنين إذا وسعهما وللثلاثة إذا وسعهما، على حسب ما ذكرنا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع شهداء أحد رضي الله عنهم وأرضاهم الرجلين والثلاثة، وإذا جُعل الاثنان والثلاثة والأربعة في القبر فالسنة أن يبدأ بأحفظهم لكتاب الله عز وجل وأعلمهم، فيُجعل من جهة القبلة لشرف البداية وشرف الجهة، فيقدم على غيره، ويكون ظهره إلى غيره لا ظهر غيره إليه، فيشرّف لأن الله شرفه بالعلم، وهذا يدل على فضل العلم والعلماء، وأن الله سبحانه وتعالى يكرم أهل العلم حتى بعد موتهم؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كان إذا أراد أن يقبر الشهداء يوم أحد سأل عن أكثرهم قرآناً فقدمه في اللحد).
وهذا كما يدل على فضيلة أهل العلم، فهو يدل على أنه ينبغي للناس أن يأتسوا بهذا، فإذا اجتمع القوم وفيهم من هو أحفظ لكتاب الله قدم وشرف بشرف العلم؛ حتى يكون ذلك أدعى لتعظيم شعائر الله عز وجل.
وكذلك الحافظ للسنة، فلو كان أحفظ لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره فإنه يقدم، وكذا إذا كان أعلم بالأحكام الشرعية، أو كان أكثر بلاءً وجهاداً ودعوةً وتضحيةً، أو كان رجلاً معروفاً بالكرم والجود والإحسان إلى الناس وستر عورات المسلمين ونحو ذلك من الفضل؛ لأن تقديمه يدعو غيره إلى التأسي والاقتداء به؛ ولأنه تعظيمٌ لشعيرة الله عز وجل من جهة كون ما تخلق به واتصف عملاً صالحاً فإذا قُدّم قدم من أجله، فكأننا نعظم العمل الصالح وما كان منه من خير، وهذا أدعى لدعوة الناس إلى الائتساء والاقتداء به، مع ما فيه من الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
وإذا كان يحرم أن يُجمع الاثنان في قبرٍ واحد، فذلك يأتي على صورتين:
الأولى: إما أن يدخلهما معاً، أي: ندخل أحدهما ثم ندخل الآخر في نفس الوقت، فالحكم التحريم إلا من ضرورة وحاجة.
الثانية: أن تدخل الأول فتقبره اليوم، ثم بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث، أو يوم أو يومين أو ثلاثة، أو أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة، يؤتى ميت آخر فيفتح القبر الأول لدفنه.. فلا يجوز.
فالحكم يستوي فيه أن يدخلهما معاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد، فلا يجوز أن يجمع بين الاثنين على هذه الصورة، وكذلك فتحه ونبشه للقبر لكي يقبر ميتاً فيه.
وعلى هذا: لا يجوز إدخال ميتٍ على ميت، فلا يجوز إدخال الثاني على الأول، ولا الثالث على الثاني إلا بعد أن تبلى عظام المتقدم، وللعظام حُرمة، فما دام عظم الميت في القبر فإن الأرض موقوفة عليه مسدلة عليه محبوسة له، لا يجوز أن يقدم أحد على نقل عظامه ولا على إخراجها، إلا قبور المشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبورهم فنبشت، ثم بنى مسجده صلوات الله وسلامه عليه، كما في الصحيحين.
أما المسلم فلعظامه حرمة تدل على بقاء حرمة قبره، وحينئذٍ لا يجوز أن ينبش، ولا يجوز أن يدخل عليه غيره، ولا يجوز أن يبنى عليه وعظامه باقية، ولا يجوز أيضاً أن تتخذ الأرض مزرعة أو نحو ذلك ما دامت العظام ورمم الأموات باقية، فإنها دليل على تسبيل ذلك الموضع لهؤلاء الأموات، والميت أحق بقبره ما دام فيه، أي: ما دام ما يدل عليه باقٍ.
لكن لو استحال الميت تراباً وفنيت عظامه وبلي، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تذهب الحرمة، فيجوز أن ينبش وأن يدفن غيره في مكانه، وعلى ذلك درج عمل السلف الصالح رحمة الله عليهم، كما في قبور البقيع، فإنها نبشت، ومضى على ذلك هدي الصحابة رضوان الله عليهم، ودفن فيها الجديد من الموتى بعد أن بلي القديم.
والنبش يشرع إذا بلي الميت أو غلب على الظن أن العظام بليت، ويستثنى من هذا أن يكون المكان ضيقاً كما في قبور مكة فإذا بقي شيءٌ قليل من العظام، فإنهم اغتفروها لمكان الضرورة؛ فقد نص بعض العلماء على استثنائها لصعوبة الحفر فيها وتعذر ذلك في الغالب.
وإذا كان الموضع يشق كالمواضع السهلة التي بها الطمي والطين أكثر، ويصعب فيها وجود القبور، ويتعذر وجودها إلا بندرة، قالوا: إذا فنيت وبقي شيءٌ من العظام تغتفر، ويجوز قبر الثاني مع وجود بقيةٍ من عظام الأول إذا كانت يسيرة.
أما والعظام باقية فالدليل يقتضي تحريم قبر الثاني على الأول وإدخاله عليه، وكذلك يحرم التصرف في هذا القبر بالبناء عليه أو الزارعة فيه أو نحو ذلك من التصرفات، وما فيه من التصرف فإنه لاغٍ، فلو أنه زرع على قبورٍ لا زالت باقية، أو غلب على ظننا بقاء الجثث فيها، فإن إحياءه باطل؛ لأنه إحياءٌ لمسبلٍ وموقوف وملك للغير، وإحياء المملوك للغير ليس بإحياء شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح : (من أحيا أرضاً ميتةً فهي له) فنص على كونها ميتة، فإذا كان فيها الميت فإنها ليست بميتة؛ لأنها قبر، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم داراً، فقال: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) فهي حية بوجود الأجساد فيها، وإن كانت ميتة في الظاهر، لكنها في حكم الدور وكأنها معمورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف القبور بكونها دوراً.
قال: [ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب].
أي: فإذا وجدت الضرورة لقبر الاثنين، فيجعل بين كل اثنين حاجزاً؛ حتى يكون أشبه بالفصل، قالوا: درج على ذلك عمل السلف رحمة الله عليهم، فكأنه فصل الموضع الأول عن الموضع الثاني، وحينئذٍ كأنه تعدد القبر كما لو قبروا بجوار بعضهم مع وجود الحائل من التراب.
المراد بالقراءة: قراءة القرآن، وجمهور العلماء من السلف رحمة الله عليهم كالحنفية والمالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد -وهي الرواية الثانية عنه- على أنه لا تشرع القراءة على القبور؛ وأنها من الحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ على قبور أصحابه، ولا قرأ أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا من بعدهم من السلف الصالح من الأئمة ومن أُمرنا بالائتساء بهم، فحينئذٍ فإن هذا الفعل يعتبر من البدعة والحدث.
وجاءت رواية عند الإمام أحمد أنه رخص في ذلك، وفي ذلك ما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما.
والصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تشرع القراءة على القبر؛ فإن وقعت إجارةً كأن يستأجر مقرئاً يقرأ على القبر، فالإجماع قائم على المنع والتحريم، وإنما الخلاف في المحتسب، وهو الذي يقرأ على القبر تبرعاً، أما من استؤجر للقراءة فإن الإجماع منعقد على أنها إجارة باطلة، وفي ذلك حديث (يس)، أنه إذا قرئ على القبور (يس) أنه يخفف عنه ذلك اليوم، ويكون له من الحسنات والأجور على عدد الموتى، وهو حديثٌ ضعيف.
والصحيح الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن السنة إذا قُبِر الميت أن يقام على قبره، وأن يدعى له؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما انتهى من دفن الميت : (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) فدل على أن المشروع هو الدعاء، وهذا هو ظاهر التنزيل في قول الحق تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] فدل على أن المشروع هو الدعاء، والدعاء أنفع وأصلح للميت والحي:
أما للميت فلأنه رحمة جعلها الله للأموات عند الأحياء؛ ولما يكون بسبب هذا الدعاء من الخير له؛ فيفسح له في القبر وينور له فيه، خاصةًَ إذا كان الداعي مخلصاً لله عز وجل.
وفيه مصلحةٌ للحي؛ لأن الحي يكتب الله أجره بإحسانه لأخيه المسلم ودعائه وترحمه واستغفاره له؛ ولذلك وصف الله الأخيار بأنهم يترحمون على إخوانهم الأموات الذين سبقوهم بالإيمان، ومن حق المسلم على المسلم بعد موته أن يترحم عليه وأن يدعو له وأن يستغفر له.
أما بالنسبة للقراءة فقلنا: إن الصحيح أنها لا تشرع، لا تخصيصاً بسورةٍ معينة ولا تشرع عموماً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل لفعله صلوات الله وسلامه عليه وهديه يعلم علماً واضحاً بيناً أنه لا يشرع أن يقرأ على القبر؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله من بعده من الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم، فحيث لم يفعل ذلك لا من رسول صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين، فإنه يبقى على الحظر؛ لأن أمور العبادة توقيفية، ولا يجوز لأحدٍ أن يجتهد فيها ولو كان الأمر مستحسناً.
القربة: ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ويشمل ذلك الطاعات، سواء كانت قولية أو فعلية، ظاهرة أو باطنة، لأن العبد إذا فعلها فإنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى أحبه ووفقه وسدده، وأحسن له العاقبة في الأمور.
فكلما كان العبد أقرب لله كلما كان أقرب لرحمة الله وعفوه وتيسيره ولطفه له في الدنيا والآخرة؛ ولذلك فالوصف بالقربة وصفٌ شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله تعالى: (ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) فهذا يدل على أن العبد يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويزداد قرباً من الله عز وجل على حسب ما يكون منه من الخير والطاعة والبر.
النوع الأول: القربة البدنية المحضة.
النوع الثاني: القربة المالية المحضة.
والنوع الثالث: القربة الجامعة بين البدن والمال.
فأما القربة البدنية المحضة: فكالصلوات وكقراءة القرآن وكالصيام.
وأما القربة المالية المحضة: فالصدقات، كأن يتصدق ذو مال على فقير أو معسر أو نحو ذلك، أو يذبح شاةً ينويها صدقة على أمواته، أو يضحي أضحية ينويها عن والده أو والدته، فهذه قربةٌ ماليةٌ محضة.
والقربة الجامعة بين البدن والمال: الحج والعمرة؛ فإن الذي يحج يجمع في حجه بين عبادة البدن وعبادة المال:
أما عبادة البدن: فبفعل المناسك والشعائر.
وأما عبادة المال: فإنفاقه للوصول إلى هذهِ المناسك وبلوغ هذه المشاعر.
فأما ما كان من القرب البدنية المحضة فإن الجماهير على أنه لا يشرع فعل قربةٍ بدنيةٍ للميت إلا ما استثنى الشرع، فلا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي، ولا أحدٌ عن أحد؛ لأنها قربةٌ بدنية لا تصح إلا من المكلف نفسه، وعلى هذا فلو صلى عن والديه ما صلى فإنها لا تصح أن تكون قربة للغير.
وذهب إسحاق بن راهويه رحمه الله إلى القول بجواز أن يصلي الحي عن الميت، وينوي هذه الصلاة عن الميت سواء كانت فريضة أو نافلة، واحتج بدليلٍ دقيق وهو: مسألة الحج عن الميت، فإنه لما أنكر عليه: كيف تقول بجواز الصلاة عن الميت مع أنها قربة بدنية يكاد الإجماع يكون على منعها؟ قال: أرأيتم لو حج حيٌ عن ميت أيجوز ذلك؟ قالوا: نعم. قال: أرأيتم لو طاف أيصلي؟ قالوا: نعم. قال: أليست الصلاة عبادة بدنية؟ قالوا: بلى.
فكأنه يرى أن ركعتي الطواف لما أذن بها الشرع عن الميت، دل على مشروعية الصلاة عنه؛ لأنه سيصلي عنه ركعتي الطواف، وركعتي الطواف من العبادات البدنية.
والجواب عن هذا الدليل: بأن إجازة العبادة البدنية -أعني: ركعتي الطواف- جاء تبعاً ولم يأت أصلاً، وفرقٌ بين العبادة المقصودة وبين العبادة التبعية التي تقع تبعاً للشيء، ولهذا نظائر في الشرع، ولذلك يقولون: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلة قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، فجعلها للمبتاع بالشرط، مع أنها بعد التأبير لم يبد صلاحها، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه) ، قالوا:
ففي حديث ابن عمر : (من باع نخلة قد أبرت ...) وقعت الثمرة تبعاً للأصول، فجاز الشيء تبعاً ولم يجز أصلاً، فالصلاة أصلاً لا تصح، لكنها تبعاً تصح، هذا مع وجود الخلاف فيما إذا صلى ركعتي الطواف، هل يقصدها على الميت أو يقصدها عن نفسه أصالةً ويكون ثوابها للميت.
فهذا حاصل ما ذُكر؛ والصحيح أن العبادة البدنية لا تصح عن الميت، إلا ما استثناه الشرع من صيام النذر، قالت: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية عنها؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) فأجاز لها عليه الصلاة والسلام أن تفعل العبادة البدنية المحضة من الصيام عن أمها، وجعل ذلك بمثابة قضاء الدين، فدل على مشروعية فعل هذه العبادة البدنية عن الميت إذا مات ولم يفعلها.
وهل تلتحق بذلك الكفارات كصيام الكفارات وصيام رمضان أو لا يلتحق؟
وجهان للعلماء:
منهم من خصه بما ورد به النص.
ومنهم من قال: النص على النذر معللٌ بعلةٍ نصية، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ) وهذه العلة النصية يستوي فيها سائر الواجبات، وهو الصحيح؛ أعني أن سائر الصيام الواجب يشرع لك أن تصومه عن الميت.
هذا بالنسبة لما استثناه الشرع: استثنى ركعتي الطواف تبعاً من العبادات البدنية، واستثنى صيام الفريضة في النذر ورمضان والكفارات ونحو ذلك، وأما صيام النافلة عن الميت فلا؛ لأن الأصل الحظر في العبادة البدنية.
وأما بالنسبة للعبادة المالية المحضة: فالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشروعية ذلك كما في الصحيح من حديث سعد ، قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت)، والشيء الذي ينفلت زمامه من الإنسان لا يتداركه، بمعنى: أن الموت نزل بها قبل أن تدرك نفسها فتتصدق، وهذا أشبه بموت الفجأة، فموت الفجأة لا يستطيع الإنسان أن يتدارك فيه، قال: أفأتصدق عنها؟ فأذن له صلوات الله وسلامه عليه أن يتصدق عنها، فتصدق بحائطه المخراف، وكان من أفضل بساتينه رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه من البر؛ ولعظيم حق الأم، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد، وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد) ومعلوم أن الذين لم يضحوا من أمة محمد فيهم أموات، منهم من مات قبل أن يضحي صلوات الله وسلامه عليه، كأصحابه الذين ماتوا من قبل، فوقعت هذه الأضحية عن الميت.
فدل هذا الحديث كما نص العلماء والمحققون على مشروعية التضحية عن الميت، ولا حرج أن يضحي الإنسان عن والده ووالدته، وأن يتقرب إلى الله عز وجل في ذلك اليوم المفضل بالأضحية، فيريق الدم قربةً إلى الله عز وجل وصدقةً عن أمواته بالتشريك والإفراد؛ بالتشريك كأن تقول: هذه عن والدي وعن والد والدي إلى المنتهى مثلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين أمواتٍ عديدين، فقال: (عمن لم يضح من أمة محمد) صلى الله عليه وسلم.
وبالإفراد كأن يقول: هذه عن أبي، أو هذه عن أمي؛ فإنه إفراد.
فإن أوصى الميت فلا إشكال وتكون واجبة، وأما إذا لم يوص فإنه إذا أحب الإنسان أن يتنفل بالصدقة عنه فلا حرج، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اشتكى إليه صحابي أن أمه ماتت، وأنه يريد أن يتصدق فقال: (نعم، وعليك بالماء) ففضل له الصدقة بالماء، كسقي الظمآن، لما في ري الظمآن من الأجر، كما في الحديث الصحيح: (أن امرأةً زانية من بغايا بني إسرائيل مرت على كلبٍ يأكل الثرى، فنزلت فملأت موقها وسقته، فشكر اللهُ لها) أي: أن الله عظم منها هذه الحسنة والرفق بهذا الحيوان الضعيف؛ فشكر الله لها هذا الفعل فغفر لها زناها وذنوبها.
وفي رواية: (فشكر اللهَ لها) ، يعني: الكلب سأل الله أن يشكرها؛ لأنه لا يستطيع أن يوفي لها حسنةً أنقذته من الموت؛ فغفر الله لها ذنوبها، قالوا: فمن أفضل الأعمال سقي الظمآن، ففي ذلك إزالة لريه، فإطفاء حر الأكباد من شدة الظمأ والعطش، بحفر الآبار في البوادي والقرى والأماكن النائية التي يشق على أهلها جلب الماء إليهم؛ من أفضل القربات والطاعات، بل إن بعض العلماء قد يفضل هذا الأمر على بناء المسجد إذا كان إنقاذاً للأنفس، ويقولون: إن بهذا الأمر بقاء الصدقة والبر؛ لأنهم إذا شربوا تقووا على طاعة الله عز وجل، لأن البلاء بالعطش أعظم، فكان الرفق بعمل ما يدفعه أعظم في الأجر عند الله، فيفضلون مثل هذه القربات، فيقولون: لو تصدق عن الميت بماءٍ، كحفر بئرٍ وتسبيله فهو أعظم في المثوبة.
ولو برد الماء فيما يوجد في عصرنا هذا من البرادات ونحوها ففيه تفصيل:
إن كان قد اشتراه وبرده، فهو مأجورٌ على الاثنين: على الماء بعينه، وعلى تبريده وإطفاء ما في الأكباد من حر الظمأ بهذا الماء البارد.
وأما إذا كان الماء من غيره، وهو قائم على تبريده، فيكون له أجر التبريد، وعين الماء المتصدق به لصاحبه الأصلي إن رضي بذلك.
هذا بالنسبة للصدقة بالأموال، ويشمل ذلك الذبح، وإطعام الجائع، وغير ذلك من القربات المالية المحضة، وكذلك التصدق بالمال، فلو أخذ عشرة أو مائةً فنوى في قلبه أنها صدقةً عن أبيه، فهذا من البر الذي يبقى بعد الموت؛ ولذلك شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه حينما سأله الصحابي.
ومن هذا ما ورد النص فيه كالبساتين، فالتصدق بثمار البساتين يعتبر من القرب المالية المحضة؛ لأن البلح والرطب والتمر يعتبر مالاً، ومن هنا يقولون: لا حرج أن يتصدق بالأموال سواءً كانت عينية أو كانت أطعمة أو كانت أسقية.
وهكذا الكساء، فلو أنه جلب كساء لبردٍ أو حرٍ فجعله ليتيم أو أرملةٍ أو نحو ذلك، ونواه صدقةً عن ميته، فهذا من القربات، حتى ولو زاد عن حاجة الإنسان، كأن تكون عند الإنسان ثيابٌ فاضلة يتصدق بها عن أمواته؛ فإنها من الحسنات، وهي من البر، كأن ينويها عن أبيه أو عن أمه؛ لأن النص ورد بإجازة هذا النوع من الصدقات.
الأصل: أن الإنسان يتصدق عن نفسه، ويكون ذلك من باب الإيثار للنفس بالقرب والطاعات، أما بالنسبة للميت فقد يكون ذلك لعظيم حقه كالوالدين والقرابة، وقد يكون صديقاً بينك وبينه الود والمحبة، فتحب أن تحسن إليه بعد موته بالصدقة عنه، لعل الله أن يجعل في هذه الصدقة رحمةً تغشاه في قبره، أو تجعلها صدقةً عامةً للمسلمين، فكل ذلك مما لا حرج فيه.
وأما أن يكون من حي لحيٍ فهذا لا يحفظ فيه أصل، لكن بعض العلماء أجازه بالقياس، بإلحاق النظير بنظيره، وحكى بعضهم أنه لا خلاف فيه، ولكن لا أحفظ لهذا الإجماع مستنداً، فيتوقف في صدقة الحي عن الحي، بمعنى أن ينوي بأعماله الصالحة أن يكون ثوابها للحي.
وأما بالنسبة لنية الأعمال الصالحة عن الأموات إذا قلنا بمشروعيتها، فإنه يستثنى من ذلك هبة ثواب الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة منع منها العلماء رحمةُ الله عليهم، وبعض الناس يفعلها جهلاً، فيقول: إن هذه الصدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا باطل ولا أصل له، والسبب في ذلك أن حسنات الأمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء نويت أو لم تنو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدىً كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً) سواء كانت عبادات بدنية أو مالية أو جامعةً بينها، فأجور الأمة كلها في ميزان حسناته بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وهو ليس بحاجة إلى أن يتصدق أحدٌ أو ينوي صدقته عنه صلوات الله وسلامه عليه، فهو في مقام عظيم وفي منزلٍ كريم بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه.
أي: لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم، وهو محفوظٌ عنه في يوم موت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ففي السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد أتاهم ما يشغلهم) والسبب في ذلك: أن أهل الميت يفجعون بميتهم، فيشتغلون بالفاجعة والمصيبة عن تهيئة الطعام ونحو ذلك، فحينئذٍ كان من الرفق أن يصنع لهم الطعام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فقد أتاهم ما يشغلهم)، والمحزون والذي فجع بفاجعةٍ في ولده أو قريبه يذهل عن طعامه وشرابه، ولربما وضع الطعام بين يديه فلم يستسغه، وكذلك ربما وضع الشراب بين يديه فلا يستسيغه؛ مما يكون في كبده من ألم الفراق ولوعة الحزن وشدته عليه في نفسه، ولذلك يرفق به بصنع الطعام.
وينبغي أن يكون صنع هذا الطعام من باب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم لا من باب الرياء ولا المباهاة؛ وإنما يقصد به وجه الله تبارك وتعالى، حتى يثاب صاحبه ويؤجر.
قوله: (يصنع لهم) للعلماء فيه وجهان:
منهم من يقول: يصنع لهم يوماً واحداً، وهو يوم المصيبة والفاجعة، وأما اليوم الثاني والثالث فلا يصنع.
ومنهم من يقول: الثلاثة الأيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحداد ثلاثة أيام؛ فلما سوغ لأهل الميت أن يحدوا على ميتهم ثلاثة أيام، فمعناه أنهم مشغولون في الثلاثة الأيام أكثر من غيرها، فيشرع أن يصنع لهم الطعام في الثلاثة الأيام، والأمر محتمل، لكن الوارد عنه عليه الصلاة والسلام أنه أطلق، فقال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد آتاهم ما يشغلهم) فإن قيل باليوم فهو الأصل وهو الأقوى، وإن قيل بالثلاثة الأيام فله وجه؛ لأنه قال: (فقد أتاهم ما يشغلهم) فقد يكون شغلهم في الثاني والثالث كشغلهم في الأول، بل قد يشتد حزنهم أكثر في الثاني والثالث.
وعلى العموم: الأقوى أن يقتصر على اليوم الأول.
فلذلك: لا يشرع أن يصنع أهل الميت للناس طعاماً، وإنما يصنع الناس لهم طعاماً، إلا أن هنا مسألة عمت بها البلوى، وهي مسألة الضيف إذا نزل على آل الميت، فإذا كان هناك ضيف، خاصةً من القرابات: كأبناء عمٍ أو إخوانٍ نزلوا وجاءوا من سفر ونزلوا على الإنسان، وهم ضيوف لهم حق الضيافة، فذبح لهم لا لأجل الموت ولا صدقةً على الميت، بل إكراماً للضيف.. فلا حرج؛ لأن هذا منفكٌ عن أصل مسألتنا، فليس من العزاء ولا هو متعلق بالعزاء، وإنما هو من باب إكرام للضيف الذي أمر الله به ورسوله، فيكرم الضيف ولا حرج.
لكن الأولى ألا يكون في بيت الميت، وإنما ينتقل إلى بيوت الجيران أو نحو ذلك، والأولى أن يكون الجيران هم الذين يتولون شأن الضيوف، وهكذا القرابات كأبناء العم ونحوهم؛ لأن آل الميت مشغولون.
وضيافة الضيف تكون على المستطيع القادر، إذا كان أهل الميت في شغل فإن ضيافة الضيوف تكون على قرابتهم أو جيرانهم، وهذا هو المنبغي أدباً وعُرفاً.
ولو صنع أهل الميت الطعام لقرابتهم أو لضيوفهم الذين قدموا من سفر، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه لا يقصد به العزاء، ولا يقصد به إقامة المأتم، ولا يقصد به المحظور، وإنما هو مبني على أصلٍ شرعي، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات) فهذا قد نوى إكرام الضيف، ولم ينو به الصدقة عن الميت، ولم ينو به إحياء العزاء، فهو باقٍ تحت أصلٍ شرعي يوجب الحكم باعتباره حتى يدل الدليل على إلغائه، ولا يوجد دليل يلغيه.
فتبين أنه لا يشرع لهم أن يصنعوا للغير إلا في هذه الحالة، وما عداها فإنه ينص على أنه من البدعة والحدث، وفي حديث جرير أنهم كانوا يعدون الجلوس في بيت الميت وصنع الطعام فيه من النياحة، يعني: مما حظر الله من النياحة التي هي من كبائر الذنوب.
قوله: (يبعث به إليهم): أي فلا يجتمع الناس عند أهل الميت، فإذا بعثنا بالطعام إليهم فلا يُجمع الناس على هذا الطعام، إنما يختص بآل الميت؛ والناس اليوم يشقون على أنفسهم ويخرجون من سماحة الإسلام ويسره، إلى كلفة ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد أيام العزاء أثقل ما تكون على آل الميت، فهم ما بين داخل وخارجٍ في قيامهم على الضيوف الذين يتكرر توافدهم على البيت، ولربما يبقى الواحد منهم من الصباح إلى العشيّ ولا يفارق آل الميت، فيكون كلاً وعناءً عليهم، وهذا لا شك أنه لا يجوز؛ لما فيه من الضرر والأذية ولأن جلوسهم في بيت الميت عبء على أهل الميت؛ لأنهم سيضطرون إلى ضيافتهم.
ثم هذا الجلوس قد يصحبه المحظور من الكلام في فضول الدنيا، وشغل آل الميت عما هم فيه من الحزن على ميتهم، وقد أذن الشرع لهم بالحداد ثلاثاً؛ حتى يذهب ما في النفس من لوعة الفراق وحزنها، فيطفأ ما في الأكباد من حرارة الفراق وألمه ولوعته، فيأتي هذا لكي يتحدث في فضول الدنيا، وقد يقصد من ذلك تسلية أهل الميت، فيكون قصداً مخالفاً للشرع؛ لأن الإنسان إذا فجع بقريبه ربما تاب من ذنبه، واعتبر بفراق القريب، وأحس أنه لاحق به إما عاجلاً أو آجلاً؛ فدعاه ذلك إلى الإحسان وإلى إمعان النظر، لكن إذا جاء هذا وشغله بحديث الدنيا ألهاه عن التفكر والاعتبار، وعن الاشتغال بما هو مقصود وبما هو أهم؛ ولذلك لا يشرع مثل هذا من الجلوس في بيت الميت، إنما يأتي الإنسان ويعزي.
كان السلف يمنعون ذلك، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه يشدد في ذلك كثيراً ويمنع منه، وعلى ذلك درج فعل السلف، لكن أفتى المتأخرون من العلماء والفقهاء أنه لا حرج في هذه العصور المتأخرة.
والسبب في ذلك: أن العصور المتقدمة كان الناس قليلين، ويمكنك أن ترى آل الميت في المسجد، وأن تراهم في الطريق وأن تراهم في السابلة وتعزي، وكان الأمر رِفقاً، بل قل أن يموت ميت إلا وعلم أهل القرية كلهم وشهدوا دفنه، فكان العزاء يسيراً، لكن في هذه الأزمنة اتسع العمران، وصعُب عليك أن تذهب لكل قريب في بيته، ويحصل بذلك من المشقة ما الله به عليم، وفيه عناء؛ لذلك لو اجتمعوا في بيت قريبٍ منهم كان أرفق بالناس وأرفق بهم، وأدعى لحصول المقصود من تعزية الجميع والجبر بخواطر الجميع؛ ولذلك أفتوا بأنه لا حرج -في هذه الحالة- من جلوسهم، ولا يعتبر هذا من النياحة، بل إنه مشروع لوجود الحاجة له.
فإذا وجدت الحاجة والضرورة جاز استثناؤها من الأصل، وقد يكون الشيء محظوراً ويستثنى لوجود الضرورة والحاجة، فلو أن امرأةً أصابها ألم واضطرت للكشف عن ساقها أو عن ساعدها أو عن صدرها للطبيب، فإنه ليس عندنا دليل يدل على مشروعية كشفها عن ساقها أو ساعدها للطبيب، لكن لما وجدت الضرورة والحاجة أُذِنَ لها في ذلك، فهو ليس بنصٍ عيني على المسألة، لكنه أصلٌ شرعي يُطرد في هذه المسائل.
فإن وجدت ضرورة وحرج للناس فإن الله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] فلو قلنا للناس: عزوا كل إنسان في بيته، لتفرق الناس في ثلاثين بيتاً، ولربما حدث في المدن الكبيرة من ذلك فيه حرج ومشقة، ولربما لا تستطيع أن تستغرق عزاءهم خلال الثلاثة الأيام، وقد يكون بعضهم أحوج ما يكون أن تأتيه في اليوم الأول عند الصدمة الأولى، ولذلك لا شك أنه من الحرج أن نقول: إنهم لا يجلسون في مكانٍ معين، فلذلك رخص بعض المتأخرين في جواز جلوس آل الميت عند قريب منهم ويعزون؛ دفعاً للضرر عن الناس وعنهم.
لكن بشرط: ألا يشتمل هذا الجلوس على محظور مما ذكرناه من المباهاة، أو وضع علامات معينة على البيت أشبه ما تكون بعلامات الزواج، أو نحو ذلك من الأمور المحدثة التي لا أصل لها، وإنما يكون الجلوس على السنن، ويدخل إلى آل الميت يسلم عليهم ويجبر بخاطرهم، ثم ينصرف المعزي.
ولا يجلس أكثر من الحاجة، إنما يشرع له أن يدخل ويعزي، فإن كانوا بحاجة إلى كلمةٍ منه تسلي قلوبهم سلاهم، كالعالم وطالب العلم والحبيب والصديق المحب، الذي تعظم منه الكلمة ويكون لها أثر، ويكون لها قبول عند من يعزيه، فهذا لا حرج أن يجلس ليجبر بخاطر آل الميت، ولكن يعجل بالانصراف.
وكان العلماء والأجلاء لا يجلسون في هذه المجالس ولا يطيلون المكث فيها إلا من حاجة، مثال الحاجة: كأن يحتاج آل الميت أن يستفتوك عن بعض المسائل، فتطيل اللبث عندهم لبيان السنة والهدي، ولكي تنصحهم فيما يجوز لهم وما لا يجوز، وأن تبين لهم بعض الحقوق التي يحتاجونها بعد وفاة الميت، وتوصي كبيرهم بصغيرهم، وتوصيهم بالأيتام وبالوالدين ونحو ذلك من الضعفاء، كل هذا لا حرج فيه، ويرخص فيه بقدر الحاجة والضرورة كما ذكرنا.
أي: فعل الطعام للناس، وهذا يستثنى منه ما ذكرناه من ضيافة الضيف، فإنه لا حرج أن يدفعوا للضيف طعاماً، وينبغي على الضيوف أن يترفقوا بآل الميت، وألا يحملوا ما لا يطيقون، خاصةً وأنهم مشغولون بما هم فيه من العزاء وتحمل المصيبة وعنائها، لكنهم لو صنعوه للضيف فلا حرج، ويستثنى إذا كان بالمعروف.
وأما بالنسبة لصنع الطعام من أهل الميت صدقةً عن موتاهم أو نحو ذلك مما ابتلي به بعض الناس في هذا الزمان فهذا هو الذي قال عنه العلماء: إنه لا يشرع، وإذا كان من أموال اليتامى فإنه أشد حرمة، ويجب على الولي أن يضمن المال الذي أنفقه، فإذا أنفق من مال اليتيم في مثل هذه الأمور فإنه يجب عليه الضمان؛ لأن اليتيم غير مسئول عن هذا الطعام، ولا يجوز أن يحمّل ماله هذه النفقة التي لا وجه لها في الشرع، فيجب على المنفق ضمان المال وعزمه.
الجواب: الدعاء للميت له صورتان:
الصورة الأولى: أن يكون بعد دفنه مباشرة.
والصورة الثانية: عند زيارة المقابر.
أما إذا كان دعاؤه بعد دفنه مباشرة، فالسنة ألا ترفع اليد، كما نص على ذلك جمعٌ من العلماء رحمهم الله، وإنما يدعى له ويستغفر ويترحم عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ولم يرفع يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك درج عليه فعل السلف، إلا أنه أثر ذلك عن ابن عمر، لكن لم أطلع على من صحح الرواية عنه في ذلك.
أما بالنسبة لرفع اليدين عند الزيارة، كأن تزور القبور وتريد أن تدعو لأهلها، أو تزور قبراً معيناً كوالدٍ ووالدةٍ وقريب وصديق ونحو ذلك، فلا حرج أن ترفع يديك، بل هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه لما خرج بالليل قام على القبور قياماً طويلاً ورفع يديه واستغفر لهم ودعا لهم) وحينئذٍ يستقبل القبلة ويدعو للميت، ويترحم عليه، وعند السلام يستقبله من وجهه كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فيأتي للقريب من وجهه ويسلم عليه، ثم يتوجه إلى القبلة ويدعو ويترحم على ميته وأموات المسلمين، هذا هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من المواضع التي ورد فيها النص بمشروعية رفع اليدين في الدعاء.
وأما ما ذكرناه في حال الدفن فلا يُحفظ فيه نصٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.. والله تعالى أعلم.
الجواب: لا حرج أن يعزى أقارب الميت عند القبر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزّى عند القبر كما في الحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأةٍ وهي تبكي على قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اصبري. فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب. فلما ولى قيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءت تعتذر إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فكان عزاؤه عند الصدمة الأولى، أي: لما صدمت وفجعت وبكت على ميتها، فعزّاها صلوات الله وسلامه عليه فقال: (يا أمة الله! اصبري)، فلا حرج أن يعزى في القبر.
ولذلك أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على مشروعية التعزية عند القبر، وفيه رفقٌ بالناس؛ لأنهم يتكلفون الحضور إلى بيت الميت ثانياً، فالأولى أن يعزوا عند القبر؛ ولأن آل الميت أحوج ما يكونون إلى التعزية في مثل هذا الموضع الذي يشتد فيه حزنهم ويعظم فيهم مصابهم؛ لأنهم يرون أن الميت قد ووري وغاب عنهم، وحينئذٍ تكون الفاجعة به أشد، لكنه قبل دفنه يكون كأنه موجودٌ أمامهم يرونه فيتسلون برؤيته، ولربما تسلت الأم برؤية ابنها، وتسلى الأب برؤية ابنه، لكنه إذا دفنه وتحقق عندها موته؛ فإنه تكون الفاجعة به أشد.
ولذلك يعتري كثير من الناس من الحزن والفاجعة في مثل هذا الوقت ما لا يكون بعده، ففي هذه الحالة يشرع أن يعزوا في القبر لشدة ألمهم، وما يجدونه من الحزن والوجد على فراق أقاربهم.
ويعزى أهل الميت إذا عُرِفوا، وخفف بعض العلماء وتسامح في كونهم يقفون مصفوفين حتى يعلم الغريب أنهم قرابة للميت فيعزيهم، أما لو كانوا لا يتميزون؛ فإنه من الصعوبة بمكان أن يعرفهم الغريب؛ ولذلك رخص بعض المتأخرين من العلماء في هذا فقالوا: الأمر فيه واسع، لكن لا يعتقد أنه من السنة، إنما يقال: يفعل للحاجة، ولا يعتقد أنه لو تركه أحد أن يقال: إنه أساء؛ لأنه أمر فعل للحاجة، فلو تميز آل الميت وعُرِفوا فتركه أولى.
أما إذا وجدت قرابة من الميت وهم بحاجة إلى أن يواسوا ويعزوا فاصطفوا لذلك، فهذا درج عليه كثير من العلماء ولم ينكروه؛ لأنه يحتاج إليه خاصة في هذا الزمان عند اتساع المدن، وقد يشهد الجنازة من لا يعرف أهلها، ولا يعرف قرابتها، فلو قيل له: اذهب وتخيّرهم بين الناس لصعُب، خاصةً إذا كان الميت قد شهد جنازته كثير، وقد تعرف الصديق والقريب ويخفى عليك قرابته، ويخفى عليك أهله وجماعته؛ فحينئذٍ تحتاج إلى من يميزهم.
فمثل هذا ليس بعبادةٍ مقصودة، أعني: إذا اصطفوا ووقفوا، أنهم لا يفعلون ذلك بقصد العبادة، إنما بقصد أن يعرفوا ويميزوا، فخفف فيه بعض المشايخ رحمةُ الله عليهم ممن أدركناهم من أهل العلم من هذا الباب.
أما لو اعتقد أنه من السنة، أو أنه لا بد من الوقوف، وأنه يكون على حالة معينة أو مخصوصة.. فهذا من البدعة والحدث الذي لا أصل له.. والله تعالى أعلم.
الجواب: شد الرحال للبقع نُهي عنه لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فلا تشد للقبور ولا للمشاهد، لكن إذا كانت الأعمال الصالحة: كبر الوالدين، وطلب العلم، والحج والعمرة، فتشد لها الرحال؛ لأنها أعمال وليست بأماكن، وفرقٌ بين المكان وبين العمل، فإذا أراد أن يشد الرحل للعزاء فهذا فيه تفصيل:
إن كان الميت قوي القرابة من الإنسان كأبيه، فكان يريد أن يشد الرحل إلى أهله وإخوانه وأخواته ليكون معهم ويثبتهم ويواسيهم ويصبرهم، فهذا لا إشكال أنه من صلة الرحم، وأنه لا حرج عليه أن يسافر من أجل أن يصبر أمّه ويصبر إخوانه وأخواته وأقاربه.
أما أن يسافر لصديقه ويتكلف السفر لصديقه ونحو ذلك من المجاملات، فهذا لا أصل له، بل إنه قد يكون عبئاً وثقلاً عليه، والأحسن أن يعزيه بالاتصال هاتفي، خاصةً مع تيسر وسائل الاتصال الآن، أو يكتب له رسالة أو يبرق له، فيشعره بتأثره بما نزل به من بلية، وفي هذا الكفاية وفيه الخير.. والله تعالى أعلم.
الجواب: الجمع بين الاثنين في قبر لا يشرع إلا من حاجة، والأصل أن الأطفال الصغار يقبرون على حدة، فإن وجدت حاجة من كثرة عددهم وصعوبة دفنهم منفردين فلا حرج أن يجمعوا، سواء جُمِعوا مع كبيرٍ بالغ أو مع صغارٍ مثلهم، ففي هذه الحالة لا حرج أن يقبر مع أمه.
وأما ما يعتقده العامة من أن هذا الصغير يخفف العذاب عن الكبير فباطل ولا أصل له، والله تعالى لا يظلم عباده شيئاً، وهو سيتولى العبد بإحسانه إن كان محسناً، وبعدله إن كان مسيئاً، أو بفضله ورحمته وعفوه وكرمه إذا أحب أن يعفو عن إساءته.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يشملنا بواسع لطفه وحلمه، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر