-
ما يحتاجه المسافر في طريق الحياة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، جعل الله الذُّل والصَّغار على من خالف أمره، وسدَّ إلى الجنة كل الطرق، فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، صلوات الله وسلامه على خاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستمسك بهديه وسنته.
اللهم إنا نسألك الثبات والهداية، ونعوذ بك من الخذْلان والغِوَاية، اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا.
اللهم من كان سببًا في هذا اللقاء فأجزل مثوبته، وارفع درجته، إنك سميع الدعاء: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102] سلام لكم. وسلام عليكم.
دعوتموني فأجبت ملبيًا فرحًا، وما حالي إلا كذلك القائل يوم قال:
أُشْهِد الله على حب الصالحين، ولا أحسبكم إلا أولئك الصالحين، حشرنا الله في زُمرَة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وهو ولي المؤمنين:
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: أنفع الناس لك من مكَّنك من نفسه لتزرع فيها خيرًا.
فأَسْأل الله أن يجعلكم من أنفع الناس للناس، الذين هم أحب الخلق إلى الله، وأسأله أن يجعلني أهلاً لزرع الخير في قلوب الخلق ابتغاء مرضاة الله.
وإنَّي أرجو أن يُبارك الله في القليل.
أحبتي في الله: قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض ؟ فقال:
لا زلنا -إخوتي- على الطريق الذي سبق؛ هُتِف عليه من قبل أن: "اقصد البحر وخلِّ القنوات"، ثم هُمِس عليه من بعد ذلك أن: "تأمل". واليوم مع "إشارات على ذاك الطريق"، تتراوح بين الإغراء والتحـذير، جمعتها من كتب أهل العلم، ثم صغتها ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة، وحَدا حَادِيه كقول الحادي يوم قال:
إنها كلمات في إشارات، هي جهد المقل المعترف بالتقصير دوماً وأبداً والحال معها:
ومن جهلت نفسه قدره، رأى غيره منه ما لا يرى، أرجو الله أن تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأن يُخَلِصها لقائلها ومُستمعها وسامعها، وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرًا به عملوا، وبالأجر للقائل دعوا، وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين، الذين إن رأوا هفوة صرخوا وصاحوا كشيطان العقبة ، وطاروا بها وفرحوا.
وعلى الله وحده اعتمادي، وإليه وِجْهَتي واستنادي، فهو المستعان وعليه التُكْلان، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
يقول ابن القيم رحمه الله: لم يزل الناس مُذْ خُلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم.
والعاقل يعلم بطبعه أن السفر مَبْنِيٌّ على المشقة والأخطار، بل هو قطعة من العذاب واللأواء، ومن المحال عادة أن يُطلب في السفر النعيم والراحة، واللذة والهناء، فكلُّ وَطْأَةِ قدم أو أَنَّة من أنات المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة، والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المَفَاوِزِ والقِفَار، السفر مِضْمار السباق، وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في المضمار هذا بين فارس وبين راجل، وبين أصحاب حُمُرٍ معقرة:
هَلْكَى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى.
لا تعجب لهالك كيف هلك، ولكن اعجب لناج كيف نجا.
البعض في هذا السفر كإبلٍ سائِبَة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبلٍ نَجِيْبَة صابرة نادرة، وأَنْعِم بها من راحلة، النجائب في المقدمة، وحاملات الزاد في المُؤَخِرة.
لا بد للمسافر من رِفقةٍ ومن عُدةٍ وعتادٍ، ودليلٍ ومِنْهاجٍ واستعدادٍ بِزَاد، وهَدَفٍ وَوِجْهة، ومحطات استراحة ووسائل مثبِّتَة، وإشارات مرشدة.
دليل المسافر ومنهاجه
عدة المسافر وزاده
-
محطات المسافر وهدفه ووجهته
أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يَكل ويَنْصَب ويَتْعَبُ ويَمل، وراحته وأمنه وسكينته في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
من لا يعرفها فحاله كقول القائل:
هدف المسافر ووجهته
أما هدف المسافر وَوِجْهته: فللمسافر وِجْهَة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور -أكرمكم الله- يدور في الساقية ويدور ويدور ويلف، ثم ينتهي من حيث بدأ، أو كالسَّفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها.
فما وجهتنا عباد الله؟ إنها جنةٌ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
حُفَّت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقًّا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منُوطة بالمكاره، ومن تأمَّل نَيل الدر من البحر، وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمَّل دوام البقاء في نعيم الجنة، علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنًا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة، منها خمس عشرة سنة صَبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين -إن حصلت-عجز وضعف، والتوسط نوم، ونصف زمانك أكل وشرب وكَسب، وللعبادات منه زمن يسير.
أفلا يُشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟!
خاب -والله- وغُبِن وتَعِس وانتَكَس من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؛ غَبْن فاحش وخلل، وهوان، تالله ما العَيش إلا عَيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يُؤذِي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم .
مَن جدَّ وَجَد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوَثْبة أسد، تالله ما هَزُلت فيَستَامها المفلسون، ولا كَسَدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.
لقد أقيمت للعرض في سوق (مَن يزيد؟) فلم يُرض لها بثمن دون بذل النفوس.
تأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنًا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعزَّةٍ على الكافرين.
عرفوا عظمة المُشترَى، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، فرأوا من الغَبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بَيعة الرضوان والتراضي، فربح البيع! لا إقالة ولا استقالة:
إنها سلعة الله وكفى، سلعة الله غالية جِدُّ غالية، تحتاج إلى مثابرة، إلى جهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة.
الدعوة إلى الله وسيلة تثبيت واتزان
وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان؛ إنها الدعوة إلى الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق بالباطل، فإنْ لم تدعُهم إلى الحق الذي تحمله، دعوك إلى الباطل، إنْ لم تَغزُهم بالحق، غزوك بالباطل، إن لم تَعرض عليهم الحق، عَرضُوا عليك الباطل في صورة الحق، فارفع على الطريق:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ [يوسف:108].
فارفع على الطريق هذا الشعار، واعلم أن العمل الدَّعويَّ -كما هو معلوم- ميدان واسع، ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له، إطاره الأرض -مُطلق الأرض- وميدانه الإنسان، من غير حد للون ولا لجنس ولا للغة، إنَّها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل.
والعمل لهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة.. إلى دراسات متأنية.. إلى نَبذٍ للفَوضَوية ولو بحسن نية؛ فالارتجال والفوضى خلل ووهن وجهل واضطراب في التصور؛ لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ، يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، ويحتكم إلى حقائق الكتاب والسُّنّة، لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنَّه واقف على الأرض؛ فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البَر، ولا يحرُث في البحر، ولا يبذُر في الصخر، كما يقول صاحب: جيل النصر لا ينسج خيوطًا من الخيال، ولا يبني قصورًا في الرمال، ولا ييئس من رَوح الله، ولا يقنَط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يُقدِم على الأحداث.
ولسنا بِدعًا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة- لما هاجر إلى المدينة ، خرج بطريقة مدروسة، منظمة، عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكِّلا على ربه.
ويظهر ذلك من خلال ما يلي:
أولاً: الاتصال بالأنصار الذي تمت من خلاله بيعة العقبة الأولى.
ثانيًا: َبعْث النبي صلى الله عليه وسلم لـمصعب بن عمير إلى الأنصار، ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله.
ثالثًا : بيعة العقبة الثانية، التي هي شدٌّ للوثاق والعهد على النصرة في المَنشَط والمَكرَه والعُسر واليُسر، بعد أن استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك.
رابعًا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة، حتى لم يبق بـمكة إلا محبوس أو مفتون.
خامسًا: استبقاء عليٍّ رضي الله عنه في مكة ؛ لحاجته إليه في تأدية الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمهمَّة تأتي فيما بعد.
سادسًا: اتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
سابعًا: انتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه.
ثامنًا : إعداد الرواحل ودفعها إلى خريت من قِبل أبي بكر ومُواعدته الغَار بعد ثلاث ليال.
تاسعًا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه، وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده، ليخبره بإذن الخروج؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه قد أُذِن له بالهجرة.
عاشرًا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في فراشه صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوه تَعْمِية عليهم.
حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة ، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثهم في الغار ثلاثًا.
ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر لـأسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها.
ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولاً بأول.
رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساءً على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس آثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد إلى الغار.
إنَّ الهجرة -أيها الأحبة- أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفىصلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرو، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}.
كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للانضباط في جميع شئون الحياة؛ من سفر وإقامة، مع نبذٍ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معه النية، والله عز وجل يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
الثانية: وهي تابعة (خليج صاف أنفع من بحر كَدِر)؛ بمعنى آخر: النوع الثمين لا الكم المهين؛ بمعنى ثالث: من لا يخلص فلا يتعب؛ فهو كالذي يحشو جراب العمل رملاً يثقله ولا ينفعه.
إن من سلك الطريق بلا إخلاص، كالذي يريد كسر الجَوز بالعِهن، أو كمن يحدو وما له بعير، يمد القوس وما لها وتر، يتجشأ من غير شِبع، كالوحشيِّ بلا جبل، لا شك أنه لهدفه لن يصل.
العمل صورة والإخلاص روح، عمل المُرائي بصلة كلها قشور، لباس المرائي نظيف لكن قلبه نجس، الإخلاص مسك والرياء جِيفة.
لما أخذ دود القزِّ ينسج الحرير، أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج، ثم نسجت وقالت: يا دودة القز! لي نسج ولك نسج، فلا فرق بين النسيجين، قالت دودة القز: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق.
لَيسَ التَّكحُّلُ في العَينينِ كالكَحَلِ، ومَا كُلُّ دَامٍ جَبِينُهُ عَابِدُ، وفِي عُنُقِ الحسناء يُستَحسَنُ العِقْدُ، والنَّفيسُ نَفِيسٌ أينَما كَان.
جماع هذه الإشارة: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].
الثالثة: العلم الشرعي والعمل به ضرورة للمسافر، به يعرف السهل من الطريق والوعر، به يميز إشارات الطريق وعوائقه، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد، به يعرف الحلال من الحرام، به توصل الأرحام؛ فهو أساس السفر ولابد، بل هو أشرف مطلوب، وأفضل مرغوب، وأنفع زاد يقتنى لمسافر مكدود:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الزمر:9] كلا!
من تدرع بالعلم حفظ ومنع، وحاز قصب السبق، وارتفع وبرع، ولما كان المجاهد لا يَنْكأُ عدوًا إلا بسلاح وعُدة، فكذلك المعلم والمتعلم والعالم لا يصنع أمة، ولا يكشف غمة، ولا يزيل ظلمة إلا بعلم وعمل، من أثر أو سنة، لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.
العلم وسيلة، والعمل ثمرة، العلم أساس البناء، والعمل ثمرة الغراس، والبناء من غير أسس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى، فاعلم أخي ولا تنس:
العمل أبلغ من القول
العمل أبلغ من القول:
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] والناس أبناء ما يُحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحًا بليغًا مؤثرًا بارعًا؛ فإن كلامه وعلمه لا يتجاوز الآذان، ما لم يعمل به، حتى إذا ما عمل به دبت فيه الحياة، دبت في كل كلمةٍ ينطق بها، واتجهت كل جملةٍ كأنها قذيفة؛ ترهف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجًا عمليًا يتقبله الناس راضين به، عاملين مذعنين، فلا يغني العلم شيئاً لوحده؛ لأن العلم لا يعْلِّم وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه.
والذين يعلمون ثم لا يعملون، أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون، بئس ما يصنعون، إنما هم أوعيةٌ للعلم، يسيرون ثم لا ينفعون، بل قد يضرون.
جلسوا على باب الجنة -كما يقول ابن القيم- يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افْرَنْقعوا لا تسمعوا، لو كان حقًا ما يدعون إليه لكانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هُداة مُرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق، أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمْ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ [الجمعة:5].
ما يغني عن الأعمى نور الشمس لا يُبْصرها، وما يُغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنَّما هو كالسراج يُضيءُ البيت ويحرق نفسه، عليه بُوره، ولغيره نوره، يَحق عليه قول القائل:
خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله:
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ [النساء:66] أي: عملوا بمقتضى ما علموا: لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُم من لدُنا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا [النساء:66-68]
وكم من قدوات ظاهرًا لم تعمل بمقتضى ما علمت فسقطت، وتكشفت على الطريق، فيما بين غَمْضَة عينٍ وانْتِبَاهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله كان يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكونوا كالمُنْخل يخرج الدقيق الطيب، ويُمسك النُخَالة؛ تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يَخُوض النهر لابد أن يصيب ثوبه، وإن اجتهد ألا يصيبه؛ فويْحَكم ثم ويْحَكم ثم ويحكم.
الاهتمام بأجل العلوم
أيها المسافر على علم: لا تشغل نفسك بأدنى العلوم دون أسماها وأعلاها، وأنت قادر عليها، فإنِّي لأَرْبَأُ بك أن تكون كزارع الذُّرة في الأرض التي يجود فيها البُر، أو كغارس الشَعْراء حيث يَزُكو النخل والزيتون، فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ثم أَصِخْ سمعك
للشوكاني رحمه الله وهو يخاطبك فيقول: اسْتَكثِر من العلم الشرعي زادًا لك ما شئت، وتبحَّر في الدقائق مخلصًا ما استطعت، وأجب من عَذلك أو خالفك بقول من صدقك.
الدعوة قرينة العلم والعمل
نماذج من الصحابة في علو الهمة تشحذ العزائم على العلم والعمل والدعوة
في
مؤتة خرج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه
زيد و
جعفر و
ابن رواحة رضي الله عن الجميع؛ هدفهم إنْ هي إلا إحدى الحسنييْن؛ إما النصر أو الشهادة في سبيل الله؛ فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقام
عبد الله بن رواحة وقال:
ولما رأى المسلمون جموع الروم جموعًا كبيرة نظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام ابن رواحة فقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا؛ إنْ هي إلا إحدى الحسنيين.
فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل، حتى شاط في رماح القوم، وخرَّ صريعًا رضي الله عنه وأرضاه.
أخذ الراية جعفر فقاتل بها، حتى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل، وهو يقول:
فقُطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت، فاحتضن الراية، حتى قتل كالأسد؛ رحمة الله على ذاك الجسد.
ثم أخذها ابن رواحة كالليث، ونالته الجراح، وأي جراح؛ فحاله:
ثم قام ثابتًا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديْه.
أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الاقتحام، وكانت الشهادة، وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنًا إلا الجنة.
الطريق شاق وتكاليفه عوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إرادته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه؛ فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته:
ويذكر الذهبي في سيره أن نور الدين الشهيد ، لما نزل الصليبيون دمياط ، بقي عشرين يوماً صائمًا لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما الْتقى العدو، وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش، ومرَّغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! من نور الدين ؟! الدين دينك، والجند جندك، وافعل يا رب ما يليق بكرمك، فنصره الله نصرًا مؤزرًا.
كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب، قام في حلب بعمل منبر عظيم، لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه، وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك، فلم يلتفت إليهم، وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ سخروا منه، كان يريد بذلك المنبر بث الروح وبعث الهمم وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفُتح بيت المقدس ونُصب فيها منبره بعد وفاته، نصب على يديْ تلميذه صلاح الدين ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة.
خذ العبرة من همم أهل الدنيا
إن لم يحرك فيك الوقوف على سير أصحاب الأهداف السامية ساكناً -إذ صرت جلمودًا عمودًا صخرًا- فانظر إلى أهل الدنيا في دنياهم، وخذ منهم حافزًا لذلك، كيف يكدحون ليلهم ونهارهم في تعاملهم مع الدرهم والدينار؟
أفلا حياء من الله أن يكون هؤلاء أعظم تجلدًا منك، وأنت تتعامل مع الله الكبير المتعال، ثم تتقاعس؟!
صلى الله وسلم على نبينا محمد.
انظر إلى جد الكافرين واجتهادهم وهم على باطل
فإن لم يحرك فيك أهل الدنيا وكدحهم في دنياهم شيئًا، فانظر إلى الكفار، إلى حطب جهنم، كيف يلهثون وراء أهدافهم المؤقتة، ويتفانون لها مع أنه لا عقبى لها!
هاهو مخترع الكهرباء يترك المدرسة بعد أن وصفه معلمه بأنه ليس مؤهلاً للاستمرار في المدرسة، وتذهب أمه إلى المدرسة متألمة لمواجهة معلمه، لتقول له: إنك لا تعرف معنى ما تقول، وكل المشكلة أن ابني أذكى منك.
ثم أخذته وعلمته في بيتها، حتى أعطته من علوم الدنيا وعلوم المادة ما يستطيع أن يستمر به؛ فلم يُفَلَّ عزمه مع طرده من المدرسة؛ بل تراه يثابر ويكافح ويبدأ في تجاربه، ليخترع المصباح الكهربائي بعد تسعة آلاف تجربة، بعمل يتراوح ما بين ثمان عشرة ساعة وعشرين ساعة في اليوم، في جَلَد عجيب، ثم لم يتوقف بعدها؛ فالنجاح -دائماً- يجر إلى النجاح، فينطلق في عشر سنوات أخرى من البحث والجهد في تجارب بلغت خمسين ألف تجربة، بتكلفة ثلاثة ملايين دولار، ليخترع بطارية السيارات وأجهزة الإشارة في السكك الحديد والإضاءة في الغواصات، ويُسأل: متى الإجازة يا أديسون ؟
قال: في اليوم الذي يسبق جنازتي.
فهل استفاد أديسون من إضاءة المصباح واختراع البطارية؟
هل استفاد فائدة؟
نعم. إنه استفاد شهرة ومالاً، لكنها مؤقتة تزول وتنتهي، لا تنفعه عند الله؛ لأنه لم يقل يومًا من الأيام: ( رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ).. وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] أفلا حياء من الله أن يكون كافر مثل هذا أشد تجلُّدًا لأهدافه المؤقتة الوضيعة من مؤمن يؤمن بالله والدار الآخرة؟! خيبة وخسارة وخذلان!
فإن كنت مع هذا كله لم تتحرك -إذ أنك زمن الهمة، مقعد العزيمة، بليد الذهن- فيحق عليك قول القائل:
لا تبرر قعودك
فإن لم يحرك فيك ما مضى ساكنًا، فلا تبرر قعودك، ولا تبرر ضعفك، ولا تبرر خَوَرَك؛ فإن ذلك أقبح من ضعفك، وأشنع من خورك وقعودك، لكن سلِ الله أن يرفع ما بك؛ فهو خير لك.
يجلس بعض المتخاذلين عن تبليغ دين الله ونَشْرِه شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه -ولو بكلمة- أو كُلِّف بأبسط مهمة لخدمة دينه، انبرى يتهرب من المسئولية، ويورد لك الأدلة الصحيحة التي تدل على أن واقع المسلمين سيكون ضعيفًا وسيئًا في المستقبل ولابد من العزلة، فيوقعها على حاله، فإذا به ينبري ويقول: في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن}، ويقول صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح البخاري -: {ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم}، وهكذا دواليك، يبرر قعوده ولا يعمل بمقتضى الحديث الذي لا ينطبق على زمانه حقًا، ولم يفهمه في ضوء النصوص الأخرى؛ فأول ما يجني عليه اجتهاده، تعود نقض العزائم فحيل بينه وبين الغنائم.
ويجلس الآخر شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما عاتبته في التخاذل عن تبليغ دين الله واستغراقه في اللهو والترف، انطلق كالقذيفة مرددًا: {يا حنظلة ! ساعة وساعة} وكأنه لا يعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غير هذا:
إن الذين لا تغلي دماؤهم، ولا تلتهب نفوسهم، ولا تهتز مشاعرهم لخدمة هذا الدين، لا يُعقد عليهم أمل، ولا يُناط بهم رجاء: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، والميت لا يحس بالأوجاع: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].
إن النائم يوقظ، والغافل يُذكَّر، ومن لم يُجْدِ فيه التذكير ولا التنبيه فهو ميْت، إنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبه: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ [غافر:13].
-
التعاون على الخير والاستفادة من الطاقات
الخامسة:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقَوَى [المائدة:2] المؤمنون جماعة واحدة، ويد واحدة، وجسم واحد، وبنيان واحد، والجميع مسئولون عن تبليغ دين الله على سبيل التعاون والتآزر والتضامن، مع السعي الجاد إلى تغيير واقع الأمة، ونقلها من مجرد الإحساس إلى الوعي بأسباب الواقع والطريق إلى إخراجها من ذلك الواقع.
التعاون من أجل تمكين منهج الله -عز وجل- في الأرض قاطبة مطلب وضرورة، تجعل كل فرد يضاف إلى الآخر، ثم تُستثمر كافة العقول والسواعد والدقائق: (والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وكل يستفيد من الآخر، وإذا عنَّ بحر لا يجوز التيمم، والخيط الواهي إذا انضم إليه مثله، أضحى حبلا متينًا يجر الأثقال.
تعاون فريد بين أعمى ومشلول
ذكر صاحب
مواقف إيمانية أنه في حج سنة خمسة وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة رأى آلاف الحجاج منظرًا يثير المشاعر، ويستجيش المدامع، شاهدوا حاجَّيْن؛ أحدهما أعمى قادر على المشي، والآخر مشلول بصير العين، أراد الأعمى أن يستفيد من بصر المشلول، وأراد المشلول أن يستفيد من حركة الأعمى، فاتفق الحاجَّان على أن يحمل الأعمى المشلول؛ فالحركة من الأعمى، والتوجيه من المشلول، وقاما بتأدية المناسك على مشقة وجهد يعلمه الله؛ فالأمر ليس هيِّنًا، وكلكم يعلم، عند الطواف زحام، وعند السعي زحام، وعند رمي الجمار زحام، وفي كل مكان زحام، لكن العزيمة الصادقة والثقة بالله العظيم ورجاء ما عنده ينسي المتاعب والمكاره والمشقة.
أدَّوا فريضتهم ضاربين أروع الأمثلة في التعاون والاستفادة من الطاقات، هذا كله في تعاون اثنين؛ فكيف لو تضافرت جهود أمة بطاقاتها ومواهبها وإمكاناتها في خدمة دينها؟! كيف يكون الأمر؟ لا شك أنه سيكون:
التعاون سنة من سنن الله في خلقه
تعاون الجم الغفير في صنع رغيف الخبز
يقول صاحب: "
شخصية المسلم ": رغيف الخبز على الرغم من صغر حجمه، لا يصل إلى الإنسان إلا بعد عمل عشرات بل مئات من البشر، تعاونت على تجهيزه وإعداده وتقديمه، ومن كان في شك من ذلك، فليسأل نفسه: من حرث الأرض؟ ومن بذر الحَب؟ ومن سقاه بالماء؟ ومن نظف الحشائش عنه؟ ومن حرثه؟ ومن حصده؟ ومن نقله إلى الجرن؟ ومن طحنه؟ ومن خبزه؟ ومن بالنار سواه؟ ومن إلينا حمله؟ ومن قدمه؟ ومن... ومن... أسئلة كثيرة، هذا الجهد في أمر رغيف خبز؛ فكيف بالأمر في خدمة دين الله، والتمكين له في بناء النفوس، وفي صنع الرجال، في كشف الظلم، في إنارة البصائر؟
إنه يحتاج إلى تضافر طاقات وقدرات، مع صبر ومصابرة وثبات: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ [التوبة:71] فهيا إلى التلاحم، وهيا إلى التعاون، وهيا إلى التآزر.
ولنترك اللوم والتوبيخ؛ فاللوم لا يحرك ولا يجمع، والتفتيش عن الثغرات التي يدخل منها الداء أولى، وعند كلٍ من الهموم ما يكفيه، وليس بحاجة إلى مُعكرٍ إضافي، فليحوِّل كل منا أخاه إلى داعية معه، يحمل هَمَّ الدعوة ويتبنى أفكارها، وحاله يهتف ويقول:
وما ذلك على الله بعزيز.
-
المداومة والاستمرار في العطاء
السادسة: إنما السيل اجتماع النقط؛ بمعنى داوِم ولو على القليل "قليل دائم خير من كثير منقطع"، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل -وإن كان ضئيلاً- أصيلاً مستطاعًا مذللاً، يُقام به في غير ما عَنَتٍ، ليس المهم قدر العمل بقدر الاستمرار في أدائه؛ فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.
ثمرات المداومة على الأعمال
نماذج من السلف في المثابرة على الخير
الثامنة: تمهَّل ولا تعجل في دعوةٍ أو حكم يوشك أن تصل، إن من سنن الله في النفس أنها لا تضحي ولا تبذل، إلا إذَا عُولِجت من داخلها، وتجردت من حظوظها، وأدركت فائدة التضحية والبذل، وذلك لا يتم إلا في وقت طويل وجهد
فليعلم.
إغفال المرحلية مصادمة للسنن الإلهية
ومن سنن الله مع العصاة والمكذبين والمجرمين والكافرين الإمهال:
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58].
إذا أغفل الداعية هذه السنن تعجل، ولربما فشل في دعوته وكبا.
إن من يريد تغيير الواقع في أقل من طرفة عين دون النظر إلى العواقب والسنن كمن يريد أن يزرع اليوم، ويحصد غدًا، بل يريد أن يغرس في الصباح ليجني الثمرة في المساء، وهذا محال؛ لابد من صبر وتروٍّ على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم يبادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سار على الطريق وصل.
إن شيوع المنكرات وإحاطتها بالمؤمن من كل جانب؛ مع العجز -أحيانًا- عن تحمل أعباء الطريق ومشاقِّه، مع واقع أعداء الله بالصد عن سبيل الله، مع الطاقة الضخمة التي يولدها الإيمان في النفس؛ قد يدفع هذا كله إلى العجلة، إذا لم تُضبط الأمور بضابط الشرع.
المرحلية والتدرج في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة قد بُعث والأصنام من حول الكعبة تحيط بها وتعلوها، ثم لم يقبل على إزالتها إلا يوم فتح
مكة في السنة الثامنة؛ أي بعد بعثته بواحد وعشرين عامًا؛ لتقديره صلى الله عليه وسلم أنه لو قام بتحطيمها في أول يوم قبل أن تُحطَّم في داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أعظم وأشنع، وعندها يتفاقم الأمر، ويعظم الضرر، ولذا تركها صلى الله عليه وسلم وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب، حتى إذا ما تم له ذلك أقبل بتلك القلوب ليفتح بها
مكة ، ويزيل الأصنام، فكان ما أراد:
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما ترويه عائشة أنه لولا أن قومها حديثو عهد بكفر لنقض الكعبة، وأعادها على قواعد إبراهيم، وهذا هو الثِّقب حقًّا؛ أعني: رفض المنكر بالقلب، ومقاطعته خوفًا من أن يؤدي إلى منكر أكبر، مع البحث عن سبل التغيير، والعزم على أنه حين تتاح الفرصة لتغييره، فلن يكون هناك تباطؤ أو توانٍ.
ليعد الواحد منا نفسه ما دامت الظروف غير ملائمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات قاصرة، حتى إذا ما لاءم الظرف كان حاله كحال القائل يوم قال:
تعلم المرحلية من شجرة الصنوبر
ثم انظر وتأمل واعتبر، هاهي شجرة الصنوبر تثمر بعد ثلاثين سنة، وشجرة الدباء -القرع- تثمر في أسبوعين؛ تسخر الدباء من الصنوبر، وتقول: إن الطريق التي تقطعينها في ثلاثين سنة أقطعها في أسبوعين، ويقال لك: شجرة، ولي: شجرة، فتقول شجرة الصنوبر: مهلاً إلى أن تهب رياح الخريف، وعندها يعرف المضمار، ويعرف السابق والخوار. فَتَصَبَّر لتصبر، وتحلَّم لتحلُم، ولا تعجل؛ فقد تُكفى بغيرك، ويُكتب لك بصدق نيتك ما لغيرك.
ورب عجلة أورثت ريثاً:
كن متمهلاً كالأحنف
ليكن حالك -أحياناً- حال
الأحنف بن قيس رحمه الله يوم جاءه رجل، فلطم وجهه، فقال: باسم الله يا بن أخي ما دعاك إلى هذا؟
قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم.
قال: فبِرّ بيمينك؛ فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة .
فذهب الرجل إلى حارثة ، فلطمه، فقام إليه، واخترط السيف، وقطع يمينه، ولسان حاله:
فلما بلغ الأحنف ما حصل لهذا الأحمق قال: أنا -والله- قطعتها.
العاقل لا يفعل أمرًا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصَّر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطى، ولا يستبق الأحداث، ولا يتسرع بالحكم على الأمور؛ بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، وينظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة والساعة الحاضرة، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متأنية تحسب كل حساب؛ فكن أفضل من أن تَخدع، وأعقل من أن تُخدع. لا خب ولا الخب يخدعك:
التاسعة: كن أحزم من قرلى؛ والقرلى: طائر مائي ذو حزم لا يُرى إلا حذراً على وجه الماء؛ عين في الماء طمعًا، وعين في السماء حذرًا، ولذلك تقول العرب في المثل: كن أحزم من قرلى؛ إن رأى خيرًا تدلى، وإن رأى شرًا تولى.
ومن الحزم ترويض النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها وعدم الرضا بالدون دون علاها وما يزكيها؛ فإن في النفس -كما يقول ابن القيم - من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشَرَه الكلب، ورعونة الطاوس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجاهدة يُذهب ذلك كله بإذن ربه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد.
إن من يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، إنما هو سفيه لا يعرف الحزم، ولا الحزم يعرفه، عينه عين هوى، وعين الهوى عين عمياء.
بعضنا أكبر همه ومبلغ علمه لقمة وشربة ولباس ومركب؛ مطعم شهي، وملبس دفي، ومركب وطي، قد رفع راية:
هوان لا يعرف الحزم، وذلة لا تعرف العز، عار ينكره الحر والأسد، ويألفه الحمار والوتد.
الحزم على قدر الاهتمامات
الحزم بقدر الاهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، والتجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والمنية خير من الدنية، ومن عزَّ بزَّ:
ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة؛ واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.
أبو مسلم الخولاني والحزم مع النفس
كان
أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازمًا مع نفسه، قد علق سوطًا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا إلى الله حتى يكون الكَلَل منك لا مني؛ فإذا فتر وكَلَّ وتعب تناول سوطه وضرب ساقه، ثم قال: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا! والله لنـزاحمنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً.
حالهم:
-
ترك التحسر على الماضي والاستفادة من المستقبل
العاشرة: عَوِّض ما فاتك، من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله؛ فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيَّعه في الحزن والتحسر.
إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا باجترار أحزان الماضي؛ إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة، وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة.
ابن عقيل الحنبلي رحمه الله، وهو في الثمانين يقول:
ألا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له، وليعوض؛ فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإمهال فائدة؛ فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة:
أنس بن النضر وموقفه في يوم أحد
عكرمة وتعويض ما سلف
عكرمة رضي الله عنه أسلم عام الفتح، وشعر بما قد فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: {
والذي نجَّاني يوم بدر -يا رسول الله- لا أدع نفقة أنفقتها بالصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتال قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله} ويبر بقسمه؛ فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان في طليعتهم، وفي يوم
اليرموك ، وما يوم
اليرموك ؟ أقبل
عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادره
خالد بن الوليد قائلاً: لا تفعل يا
عكرمة ! إن قتلك على المسلمين سيكون شديدًا، قال: إليك عني يا
خالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي
أبو جهل ، فقد كنا أشد الناس عداوة على رسول الله، دعني أُكَفِّر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم؟! والله لا يكون أبدًا.
ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، ولقي الله عكرمة مُثخنًا بجراحه، ولسان حاله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] فرضي الله عنه وأرضاه:
همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم؛ فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم، فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله على أنفسهم عقدًا؛ فما نكثوا، وما نقضوا؛ فبادر -أخي- قبل العوائق، واستدرك ما فات؛ فلعلك بالأخيار لاحق؛ إن كنت على طريقهم، فما أسرع اللحاق بهم!
الحادية عشرة والأخيرة: العدل العدل! فبه قامت السماوات والأرض، القلوب جُبلت على حب من يعدل فيها، ويحنو عليها، وتمنح ودَّها لكل من يعدل فيها، ويحسن إليها، ومن يحيف عليها، ثم يحاول إجبارها على حبه إنما يكلفها ضد طباعها.
إعطاء كل ذي حق حقه عين العدل، مدح من يستحق المدح في غير ما خشية الفتنة عليه عدل، تأنيب من يستحق التأنيب عدل، الاعتراف بجهود الآخرين عدل، الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه عدل، قبول النصح عدل، إسداء النصح عدل، التربية على العدل عدل، والله -تعالى وتقدس وتبارك- يأمر بالعدل: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
إنصاف عمر بن الخطاب
يذكر
الطبري في رواية مرفوعة إلى
إياس بن سلمة عن أبيه أنه قال: مرَّ
عمر رضي الله عنه بالسوق، ومعه الدرة، فخفقني بها خفقة لم تُصب إلا طرف ثوبي، وقال: أَمِطْ عن الطريق؛ أي: لا تزحم الطريق، قال: فلما كان العام القادم لقيني
عمر، فقال: يا
سلمة ! أتريد الحج؟ قلت: نعم، قال: فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى منزله، ثم أعطاني من ماله ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتكها بالعام الماضي، قلت: يا أمير المؤمنين! والله ما ذكرتها، قال: وأنا -والله- ما نسيتها.
من أراد العدل والإنصاف فليضع نفسه مكان أخيه، وليفعل ما يرضاه لنفسه.
بين علي وعمر في مجلس القضاء
شكا رجل
علياً رضي الله عنه إلى
عمر رضي الله عنه، فلما جلس
عمر لينظر في الدعوى، قال لـ
علي: ساوِ خصمك يا
أبا الحسن ، فتغير وجه
علي رضي الله عنه، ثم قضى
عمر في الدعوى، وذهب الخصم، فالْتفت
عمر إلى
علي ، وقال له: أأغضبتك -يا
أبا الحسن - إذ سويت بينك وبين خصمك؟
قال علي : كلا. قد غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه يا أمير المؤمنين، لقد أكرمتني، ودعوتني بكنيتي -يا أبا الحسن- ولم تنادِ خصمي بكنيته؛ فذلك الذي أغضبني، فقبَّل عمر رأس علي ، وقال: [[لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن]].
ونتجاوز بعض الإشارات وأحسب أني بذلت وسعي أن أخرج من هذا اللقاء بفائدة تنفع المسافر أو بإشارة توقظه، وقد تكاثرت الإشارات ولم نأتِ إلا على بعضها، وذا يؤكد أن الموضوع لا زال واسعاً قابلا للزيادة؛ يسَّرها الله بمنِّه وكرمه.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه الكلمات المسلمين والمسلمات، وأن يسلك بنا وبكم سبيل المؤمنين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همَّهم، اللهم نفِّس كربهم، اللهم ارفع درجتهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء! يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
-
الإكثار من ذكر الله وفضائل ذلك
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، مقدر الأمور كما يشاء ويختار، مُكَوِّر الليل على النهار، خلق الشَّمس والقمر بحسبان ومقدار، وجعلهما مواقيت في هذه الدار، حكمة بالغة من عليم ذي اقتدار، أحمده وأشكره، وفضله على من شكره مِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقَدِّرُ الأقدار، شهادة تبوئ قائلها دار القرار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البدر جبينه إذا سُرَّ استنار,واليمُّ يمينه إذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، الحَنِيفيَّة دينه الدين القَيِّم المختار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرق بشرعته بين المتقين والفجار، حتى امتاز أهل اليمين عن أهل اليسار، فتح الله به القلوب فانشرحت بالعلم والوقار، والآذان فزال عنها ثقل الأوقار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأخيار
معشر المؤمنين: أحييكم بأسمى وأجلِّ وأجمل تحية، تحية هذا الدين؛ الذي نظم الله به عقد أمتنا بعد انفراط، ووحدها بعد فرقة، وجمعها بعد شتات، صقل به نفوسها، وهذَّب طباعها، وشحذ عزائمها، وشذَّب أخلاقها، حتى جعلها خير أمة أخرجت للناس، مُتآلفة القلوب، مُتآخية الأرواح: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].
فسلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أهل وصحب وإخوان.
إنَّ من سوابغ نعم الله عليَّ أن ألتقي بمثل هذه الوجوه التي لا أحسبها إلا بالإيمان مشرقة، والبصائر التي لا أظنُّها إلا باليقين متفتحة، والقلوب التي لا أحجوها إلا بالصدق عامرة، والآذان التي لا أُراها إلا للخير سامعة واعية، فلله الحمد في الأولى والآخرة.
كل من تلقاه أو يحدِّثُك يأخذ منك ويعطيك، ويترك في نفسك أثراً حسناً أو سيئاً مؤقتاً أو باقياً، ومن تلتقي بهم في دروب الحياة على أصناف ثلاثة -كما يقول الحكيم- فمنهم من يمر مرور السَّيل العَرَمْرَم الدَّفَّاع يدمر العمران، ويقتل الحيوان، ويؤذي الإنسان، ومنهم من يمر مرور ماء النهر على الصخر لا يترك أثراً، فلا يُنبت زهراً، ولا يُخرج ثمراً، ومنهم من يمر مرور الماء على الأرض البِكر تكون قبله قاحلات مُمْحلات، وتصير بعده جنات وبساتين مُمْرعات، مبارك أينما كان.
أينما وَقَع نَفَع:
فأرجو الله بمَنِّه وكرمه أن نكون من هذا الصنف المبارك.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس في هذه الدار على جناح سفر، وكلٌ مسافر ظَاعِن إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره، ونازل عليه عند القدوم عليه.
معاشر الإخوة! لا زلنا على الطريق، نغري ونحذر، نرغب ونرهب، نشير ونصرح، نوري ونلمح.
إن تردد العقل بين حق وباطل كانت دعوتنا على الطريق إلى الحق، إن تردد الطبع بين فضيلة ورذيلة كانت دعوتنا على الطريق إلى الفضيلة، إن ترددت النفس بين الشهوة والواجب كانت دعوتنا على الطريق إلى الواجب، إنه طريق شاق ولا شك؛ لِمَ؟
لأن الانحدار مع الهوى سهل، والصعود إلى المثل الأعلى صعب وحزن، الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، لكنه لا يصعد إلى الأعلى إلا بالمضخات والجهد العاتي.
من الناس من شغلتهم على الطريق توافه الحياة عن مقصد الحياة، وألهتهم مناظر الطريق عن غاية السفر، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، يعملون ليومهم وحده كالسوائم، لا يرون إلا ما بين أقدامهم، صفوف معوجة منشقة، وقلوب خاوية حائرة، سجدة خامدة لا حرارة ولا شوق فيها جامدة، انطفأت من القلب شعلته، وخمدت في الفؤاد جمرته؛ لذا كان لابد على الطريق من إشارات تحدو من سلك، وتغري من قعد وتسمو به، تدعو إلى مد البصر إلى الأمام، والنظر إلى البعيد والعمل لليوم والغد ولليوم الآخر، في صفوف موحدة وقلوب عامرة.
وقد سبق عرض إحدى عشرة إشارة في محاضرة سابقة، واليوم نعرض للجزء الثاني منها، والذي ما هو إلا حصيلة جهد مقل؛ لك غنمه أيها المستمع وعلى القائل غرمه، لك ثمرته وعليه عائده، فإن عدم منك حمداً وشكراً فلا يعدم منك عذراً، فإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، والله المسئول أن يجعلها لوجهه خالصة وأن ينفع بها قائلها وسامعها ومستمعها في الدنيا والآخرة، هو حسبنا ونعم الوكيل.
الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتاً بلا سقف.
بمعنى: لا يزال لسانك رطباً على الطريق بذِكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيتاً بلا سقف حَرِيٌّ أن يكون مَرتعاً للغُبَار والقاذورات، ومأوى للهوَامِّ والحشرات، كذلك إن بيتاً لا يُذْكر الله فيه لا سَقْف له، خراب بَلْقَع لا داعي به ولا مجيب، و(مَثَلُ البيت الذي يُذْكر الله فيه والبيت الذي لا يُذْكر الله فيه مثل الحي والميت) كما في صحيح مسلم رحمه الله، إن إنسانا لا يَذكر الله لا سقف له، حَيٌ بعَظْم مَيْت.
و(مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحيِّ والمَيْت) كما ثبت عند البخاري رحمه الله.
إنَّ جَمعًا لا يُذكر الله فيه لا سقف له، مضطرِب أَرِق قَلِق.
(والدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكر الله وما وَالاه، وعالِماً أو متعلِّماً).
في الزهد لـابن المبارك رحمه الله: أنَّ أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجداً، فرأى فيه حلقة، ظنَّهم في ذِكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: سبحان الله! هل تدرون -يا هؤلاء- ما مثلي ومثلكم؟ مثلي ومثلكم كمثل رجل أصابه مطر غزير، فالتفَت فإذا هو بمِصرَاعين عظيمين، فقال: لو دخلتُ هذا البيت حتى يذهب عني المطر، فدخل فإذا هو ببيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذِكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا.
انتفاع القلوب بذكر الله
إنَّه ليس أنفع في جلاء القلوب واطمئنانها من ذكر الله ومناجاته، وليس هناك مَن هو أولى بملازمة ذِكر الله من الداعية إلى الله، وكلنا ذاك الرجل؛ الذي جعل مِحوَر حياته خدمة لدين الله، فهو أحرى بأن يذكر الله قائماً، وقاعداً، وعلى جَنب، وفي كل حين وآن، فذكر الله يُرَقّق المشاعر، ويُوقظ القلوب والضمائر، ويُرهِف الإحساس، ويشرح الصدور، ويسمو بالنفوس ويزكيها، ويترفع بها عن شهواتها، ويملك جِمَاحها، ويرفع الدرجات، ويكفِّر السيئات -ومع ذا- خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان، حبيب إلى الرحمن.
فمن الخطورة العظيمة- أيها الأحبة- أن نتحول إلى مُنظِّرِين مُخطِّطِين، ثم لا نكون الربانيِّين العابدين الأوَّابين المُفردين، الذاكرين الله كثيراً، المخبتين، فنصبح محرومين، أعوذ بالله رب العالمين.
المحروم من نعمة ملازمة ذِكر الله محروم من الإحساس المرهَف، والضمير اليقظ الحي، حياته جمود وعَطالة وبطالة وانحطاط، أنَّى له أن يصل إلى وجهته؟!
إنما يذكِّر الناس ويؤثر فيهم الذاكرون
إنَّ المسلم بصفة عامة، وطالب العلم بصفة خاصة، جدير بأن يُذكِّر الناس بالله، حتى إذا ما رُئِي ذكر الله تعالى، فكيف به إن كان غافلاً؟! أيكون جديراً بالتذكير؟! كلا والله! إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه.
كلا. إنَّ بحر الحياة الدعوية ليست السباحة فيه بالخَطْب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة الغرق، ألا وهي سفينة الإيمان والاطمئنان بذكر الرحمن، كثير ممن يحسنون السباحة غرقوا في هذا البحر، وما رأينا سفينة الإيمان وذكر الرحمن تغرق فيه أبداً.
وعلى الطريق سبق المفرِّدون، إنَّ القلب بذِكر الرحمن بلد عامر مأمون، وحصن مُحكَم محصون، وروضة مباركة لا يكاد ينفد نعيمها، ولا ينضب معينها، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، الذِكر مِسك، والغَفلة رماد، الذكر جواد، والغَفلة حمار، فليكن لسان الحال على الطريق: ما كنتُ لأتخطى المسك إلى الرماد، ولا أمتطي الحمار بعد الجواد.
وإنما يتيمَّم من لم يجد الماء، ويرعى الهشيم من عَدِم الجَمِيم، ويركب الصعب من لا ذَلول له، أمَّا لسان المقال:
-
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
الثالثة عشرة: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه:
قل خيراً تغنم، أو اسكتْ عن سوء تَسْلم، إنَّ من شأن الساعي إلى الكمال على الطريق أن يُقبِل على كل أمر ينفعه، وأن يسلك السُّبُل المُفضية إلى ما رامه وأمّله، ويجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبَّى بنفسه عن كل ما مِن شأنه أن يُنزِل قدره، ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، فتراه مترفِّعاً عن اللهو واللغو، قد شغل نفسه بما يفيدها في آخرتها ودنياها، في حدود ما أذن الله له به.
فإذا عَرَض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه، وأكرم نفسه عنه؛ إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو أو لهو مَهين.
من آثار السلف في الاشتغال بما يعني
مقارنة بين حالنا وحال السلف في الكلام فيما لا ينفع
إن واقعنا حديثٌ بلا فائدة، وأسئلةٌ بلا نهاية، وتفصيل لا يفيد متحدثاً، ولا ينفع مستمعاً، ولا يُزَكِّي نَفْساً؛ تضيع الطاقات والأعمار سُدَى، وتلك داهيةٌ والله، وأدهى من ذلك من لا يكتفي بتضييع وقته في اللغو واللهو، حتى يشتريه بماله ويُضِل به ويَضِل، إنَّها الفاقرة، ونسأل الله العافية!
لقد خلق الله هذه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تقف أبداً ولا تسكن، فلابد لها من شيء تطحنه -كما يقول ابن القيم رحمه الله- فإِنْ وُضِعَ فيها حب طحنته، وإن وُضِع فيها تراب أو حصى طحنته، ولن تَبقى الرحى معطلة أبداً، بل لابد لها من شيء يُوضَع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتِبْناً، فإذا جاء وقت العجين والخبز تبين له حقيقة طحنه.
ورحم الله ابن بشار يوم قال -متحدثًا بنعمة الله عليه-: منذ ثلاثين سنة ما تكلمتُ بكلمة أحتاج أن أَعْتَذر عنها.
واسمع أخي لأحد السلف رحمه الله يوم أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له: ما يسوءك منها؟
قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك، فقيل له: لِمَ طلَّقتها؟ قال: ما لي وللكلام عن امرأة صارت أجنبية عني: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
كيف لو خطر ببال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد؟!
إنه لا شك سيرى كمّاً هائلاً من الأوراق، ولو حاسب نفسه مُنْصفاً لوجد كثيراً من الزَّلات والسقطات، فنسأل الله الثبات والعفو والصفح عن الزلات.
إن نسيت فلا أنسى أن أنبه على أن مما يعنيك -بل يجب عليك- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -عز وجل- على بصيرة، ولو كَرِه ذلك الفُسَّاق والمجرمون، وقالوا: {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} فإن المقياس ليس هواهم، بل شرع ربنا ومولاهم.
دع أخي ما لا يعنيك ولو كان مباحاً؛ فإنه تضييع لزمانك، واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، وكم من كلمةٍ بُنِيَ بها قصر في الجنة، بل هي كنز من كنوز الجنة، وكم من أخرى باعدت بينك وبين السبل المفضية إلى الجنة، رزقنا الله وإياك الجنة بمنِّه.
-
الحكمة في التربية الدعوية
الرابعة عشر: كُن طبيبًا رفيقًا يضع دواه حيث ينفع؛ بمعنى: لا تضع العلم عند غير أهله فتُجهَّل، ولا تمنع العلم أهله فتَأْثم؛ من الناس من يطلب العلم لشرٍ كامن، ومكرٍ باطن، فيستعمله في شُبَهٍ دينية، وتَلْبِيس دنيء، وحيلٍ فِقهية، فلا يعان على إمضاء مكره، وإكمال شره، بل مُهان غيْرُ مُكَرم يُحْرم، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفِطنة، فلا يُحمل عليه بكثير العلم فيُظْلَم، ولا يُمنع من اليسير فيُحرم، وإنما يَنفع سَمعُ الآذان إذا قَوِيَ فهم القلوب في الأبدان، وقد صَدَق القائلُ ونصح يوم قال:
ويُمنع من كثيره -أيضاً- السُّفهاء، الذين إنْ سكتَّ لم يسألوك، وإنْ تكلمت لم يَعُوا عنك، وإنْ رأوا حَسَناً دفنُوه، وإنْ رأوا سيِّئاً أذاعوه.
وإنْ حاورتهم شتموا، جاهلون كحمار السوق، إنْ أشبعته رَمَحَ الناس، وإنْ جاع نهَق.
وهذا كله يحتاج إلى فِراسة ومُمارسة ومِران واختبار، من خلاله يُتوسَّم المتعلم حقاً من غيره، كفِراسة ابن عباس رضي الله عنهما يوم قال: [[ما سألني سائل إلا عرفت أفَقِيهٌ هو أم غير فَقِيه]].
أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدِّث قوماً يرى أنهم غير أهل للحديث، فقال: ويْحك يا شعبة ! تُعَلِّقُ اللؤلؤ على الخنازير!
فلا تحدِّث بالحكمة عند السُّفهاء فيكذبوك، ولا تحدِّث بالباطل عند الحكماء فيَمقتوك، إنَّ واضع العلم في غير أهله كمقلِّد الخنازير اللؤلؤ والجوهر، فلِكلِّ تربة غَرْس، ولِكلِّ بناء أُس.
تواصي العلماء بحرمان السفهاء من العلم
التعليم بحسب استعداد المتعلم
فعلى الطريق أخي: ضعْ العلم في أهله على تفاوت، فالذكي يحتاج إلى الزيادة، والبليد يكتفي بالقليل، والسفِيه يُمنع ويُزجر، وذو الشر يُذل ويُحرم، ولا يُعانُ ولا يُكرَّم، والجميع يُذكَّر ويُوعَظ، كِلْ على الطريق لكل سالك بمعيار عقله، وزِن له بميزان فهمه؛ حتى تَسلم منه وينتفع بك؛ وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، ولكل ثوب لابس، ولكل علم قابس.
وقفة جانبيه على الطريق: عَرِّضْ ولا تُصرِّحْ، فالحال ناطقة:
-
الحرص على الحكمة فهي ضالة المؤمن
الخامسة عشرة: كُلِ البَقْل، ولا تسَل عن المِبقَلة، بمعنى: خُذها مِن أي وعاء خرج: (
الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها) فلا تَحقِر على الطريق أحداً أن تأخذ منه الحكمة؛ فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأُسوة والقُدوة قد أقرَّ أبا هريرة رضي الله عنه على أن يأخذ ما فيه نفعه من أخبث مخلوق؛ ألا وهو إبليس، الذي كان يسرق من التمر الموكل بحفظه أبو هريرة ، ثم افتدى نفسه من أبي هريرة بتعليمه آية الكرسي كحافظ له من الشيطان حتى يصبح، فلما أَخبرَ أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (صَدَقَكَ وهو كَذُوب) فالحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا يَنتفِعُ بها، وتُؤخذ عنه ويُنتفع بها، والكذَّاب قد يَصدُق، فَاعلمْ وَحَقِّقْ.
-
احترام الحقيقة وتجنب المبالغة
السادسة عشرة: احترِم الحقيقة، وتجنَّب الإغراق في المبالغة؛ فهي قبيحة تشوِّه الحقيقة، تَقرِّب البعيد، وتُبعِد القريب، وتُظهِر غبشاً في الرؤية على الطريق، إنها سماجة واستخفاف بعقل السامع، وسخرية من وجدانه -كما يقول صاحب
زغل الدعاة - تهويل وتزييف للواقع، شَطَطٌ وتفخيم وتضخيم ضد الحقيقة، بل عجز عن رؤية الواقع على ما هو عليه، وضَعف في النفس مشين؛ حتَّى يُرَى سيئاً مَا لَيس بالسوء ويرى حَسَناً مَا لَيس بِالحَسَنِ.
الإغراق في المبالغة سلبية في حياة عامة الناس، وهي ظاهرة في سلوك المجتمع والأسرة والفرد، وقد تُعالَج بمثلها؛ داءٌ بداء فأين الدواء؟!
في كتاب: السلوك المثالي للطفل المسلم ما فحواه: يقول : جاء طفل مسرعاً نحو أمه قائلاً: لقد وجدت في الحمام فأراً يا أمَّاه مثل الفيل، فردَّت عليه الأم مؤنِّبة له: قلت لك مليون مرة: لا تُبالغ. فقل لي بالله: أيُّهم أكثر مبالغة؟ ألَيْس الطفل معذوراً فيما أخبر به أُمَّه؟! بلى، وحاله:
هذا على مستوى الأسرة والعامة، وتلك -والله- فاقرة، وقبيحة، وقاصمة، لكنها في حق طلاب العلم والأخيار ثَغرة كبيرة في جدران بنيانهم التربوي لا تكاد تُسدُّ.
إنها تظهر جليَّة مَشينة بالحكم على الآخرين؛ قَدحاً ومدحاً، فهذا يمدح ممدوحه حتى يوصِلَهُ ذرى الجبال، فلا تزال تَسمعُ ما يلي: فلان ابن تيمية عصره، وابن حَجَر زمانه، وبُخارِي أوانه، ليس له مثال، عَلاَّمة فَهَّامَة، حتى إذا ما حصل أمر أيُّ أمرٍ تغيَّر، وتبدَّل، وصار الأنف ذَنَبَاً، نُصِبت له المجانيق، وأُرسِلت الصواعق، وسُلَّت السيوف، ورُفِعت المَعَاول، ومن قمم الجبال إلى حضيض الإهمال، فإذا هو مارِد خرج من قُمقُمِه، فإيَّاك وإيَّاك! لا تتَّبِع أقواله؛ إنه غَاوٍ، مُضِل، مَارِق، مُعانِد، خَائِن، فاسِد العقيدة، أشر على الإسلام من اليهود والنصارى.
حَيْفٌ، وظلم، وشَطَط، وجور، وعدم اتِّزَان، وتدمير جَنَان.
رحم الله القائل-يوم قال-: والله إنَّ الأُمَّة لن تأخذ مَوضعها بين الأمم؛ حتى تضع الكلمة في موضعها.
خطر المبالغة
فهيا أخي: أقبل بقلبك وقالَبك، واسمع إلى صاحب
كيف تحاور وهو يخاطبك قائلاً: لتبتعد عن تهوين ما لا يعجبك، وتهويل ما يعجبك؛ فإنَّك إن اشتهرت بذلك، فسيضطر صاحبك لتفحُّص عينيك عند سماع جديد الأخبار منك.
إنَّ الحقيقة غالية عند أصحاب النفوس القويمة، والعقول المستقيمة، ولو كانت في غير صالحهم، فهي على مرارتها ثمينة، أمَّا غيرهم فيخدع نفسه، ويخدع غيره.
السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة:
من المبادئ المهمة في التعامل على الطريق بين المسلمين: إحسان الظن بهم، وخَلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم، فكيف بنيَّاتهم، والحكم على سرائرهم، التي علمها عند من لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر وعلانية؟
الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة، لكن من الناس من مِنظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمة، ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيراً كذَّبه، وكلما ذُكر عنده أحد بخير طَعَنَ فيه وجَرحه.
مُبدع، لكنه إبداع سلبي، مُبدع في تحطيم ما بيْنه وبين الناس من جسور الثقة، والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس؛ ليكسَب القلوب، فيزرع فيها خوف وحب علاَّم الغيوب.
العز بن عبد السلام وسلامة صدره
هاهو الشيخ
العز بن عبد السلام رحمه الله لقي من صنوف الأذَى على يدي
الأشرف موسى ما لقي، ثم رجع
الأشرف إلى الحق بعد ما تبيَّن له، وأحبَّ الشيخ حُباً جَمّاً، وقدَّمه على غيره، وعمل بفتاواه، ولمَّا مرض
الأشرف قال: يا
عز ؛ اجعلني في حِلٍّ، وَادْعُ لي، فقال الشيخ: أما مُحَالَلَتُك، فإنِّي كل ليلة أُحَالِلُ الخلق، وأَبِيتُ وليس عندي لأحد مَظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله، لا على عباد الله؛ عملاً بقول الله:
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40].
ثم أوصاه الشيخ بالصلح مع أخيه فتمَّ له ذلك، ثم ذَكَّره بمنع المنكرات، وإبطال ما يمارس العُمَّال من المُوبِقات مِن إباحة الفُروج وإدمان الخمور وارتكاب الفُجور، وقال له: إنَّ أفضل ما تَلقى الله به أن تُبطل ذلك في مملكتك، فأَمَر بإبطال ذلك كله، وقال للشيخ: جزاك الله خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمَنِّه وكرمه، ولَقي الله، فرحمه الله!
هكذا أخي يجب أن نكون من حسن الظن بالمسلمين، حتى نَصِل بدعوتنا إلى سُوَيْدَاء قلوب المدعوين.
وعلنا أنْ نَطَّرِحَ سوء الظن واتباع الهوى، فاتباع الهوى يُفرِّق ويشتت ويمزق؛ لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رءوس الخلق، ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله؟!
فخير لك -إن أردت النجاة على الطريق- أنْ تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين؛ لأنَّ حُسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها، ويُلبِّس عليك مثالبها، فترى المساوِئ محاسن، والعيوب كمالاً.
فلا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو أجهل الناس بنفسه.
الثامنة عشرة: من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟
ما مِنَّا أحد إلا وَلهُ زلَّة وخطأ وسَقطة، ورأي قد يكون فيه كَبوة، وزلَّة المسلم إمَّا أنْ تُعرف، وُتشاع، وتُذاع، فيستمرئها صاحبها وينسلخ عنه الحياء ويصعب عليه الرجوع -كما يقول صاحب ضوابط العمل - وإمَّا أنْ تكون زلته حبيسة في صدره، لا يعلمها إلا الله وحده، فهذا رجوعه أسرع بإذن الله وأقرب، فلا يكن أحدنا عوناً للشيطان على أخيه، فَلَيسَ الذِّئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئب.
ولا يجُوز الباب إلا عاقل مؤمن، يختار رضوان الله العلي الكبير، إنَّ العامل يتعرض لعَثرات، وقد يحصل منه هَفَوات، ثم ينبري له مَن سِلْمُه حَرْب، وذَلُولُه صعب، يشيع ويذيع، لا يَقرُّ له قرار، ولا ينعَم له بال، كأنما يتقلب على حَسَك السَّعْدَان، أو يَتَلَوَّى على جمر الغضا، ينحب وينبح ويلهث، يَنكَأ جروحاً، ويُثير أشجاناً، يرفع عقِيرته، لا يعجبه أحد، ولا يرتاح لبُرُوز أحد، إرضاؤه لا يُدرَك، أَطْيَش من ذُباب
جليد، بليد.
فمطالب بإعادة، ومطالب بزيادة، ومهلل، ومصفق
فالتعامل معه كالآتي: لا يُلتفت إلى ما في كلامه من طعن، ويُؤخذ ما فيه من حق -إنْ وُجد-فإنَّ الحق هو الحق، وللداعية خيرُه، وعلى الطَّاعِن شَرُّه.
التغاضي عن هفوات الكرام
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله: بعض الناس لا تراه إلا مُنتَقداً، ينسى حسنات الطوائف والأجناس، ويذكر مَثَالبهم، فهو مثل الذباب؛ يترك موضع البُرْء والسلامة، ويقع على الجرح والأَذَى، وهذا من رَداءة النفوس، وفساد المِزاج؛ فَارْبَأ بنفسك أن تكون كصغار الكلب أو شر الطَّبْل على حد قول القائل:
إنَّ الوقيعة -كاسمها- شر، وفساد، وفُرقة، وتمكين للعدو، وبهتان، نهايتها خصومة وتَدابُر، وقطيعة، وقعود، وقَرَارٌ لعين العدو، وهلاك على الطريق، وهكذا الذباب على الطعام يطير، والفراش على الشهاب يسّاقط.
فلا تُعره اهتماماً على الطريق، ولا تنتصر لنفسك، فإذا انتصرت لها فأنت كمن بغى طَفي الحريق بموقد النيران.
لا ينبغي الطعن في الآخرين بمجرد الاختلاف معهم
واعجباً لمسلم قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، ثم يريد أن ينجح ويفلح، متى يفلح؟
متى يفلح مَن يطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من سنين؟
متى يفلح من يشفي صدور قوم كافرين بالوقوع في إخوانه المسلمين؟!
فيا معاشِر الموحدين! إنَّ أي إنسان يستطيع أن يرمي غيره بكل نقيصة، لكنه لا يستطيع أن يُثبت دعواه إلا إذا كان صادقاً!
واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولو أنه كلما اختلف اثنان تهاجرا وتقاطعا ما بقي بين المسلمين أُخوَّة؛ فَلْيتَّقِ الله امرؤٌ في إخوانه، وليتسع صدره لوِجهات نظرهم، فلا تذهب معه المروءة والمحبة، والمؤمن يستر وينصح، لا يهتك ولا يفضح.
وقفة جانبية أخرى على الطريق: تقول: لا تسل لئيماً؛ فأذل من اللئيم سائله.
-
الاعتناء بالحقائق وعدم الاغترار بالمظاهر
العشرون: بقدر الصُعود يكون الهبوط؛ بمعنى: احذر العُجْب والتَّعالي والغرور؛ فهو دليل السَّفه، ونقص العقل، ودُنُوِّ النفس، لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار، فيقول له: أنت فعلت وفعلت، حتى يُلْقِي في روْعه أنَّه لا مثيل له ولا نظير، فيعجب بنفسه ويغتر، فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى؛ لأنَّ السعادة إنَّما تُدرك بالسعي والطلب، والمُعْجَب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي، فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه، لا يتقدم لِمَكْرُمةٍ، ولا يرْتَقِي لمنزلةٍ، ولولا السعي لم تكن المساعي.
عند ذلك يرفض الحق، ويحتقر الخَلْق، ويُدَاوم تَزْكية النَّفس أمام الخلق، ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق، ثم يَسْتعصي على النصح، ولا يعترف بجهود الآخرين، يُداوم الحديث عما ينجزه من أعمال، ويرفض الرجوع عن الخطأ، بل يُحاول تبرير الخطأ، يَسْتَبِد بِرأْيه؛ فرأيه صواب لا خطأ فيه، لا يستشير أهل التجارب العقلاء، ولا يستنير بآراء الأكياس الفُطَناء، يَهْتَم بشواذِّ المسائل وغريبها، ويُهمل العمل بأصول المسائل، ثم يرفض الجلوس للتَّعلم في حلقات العلم.
فحاله يا له من حال! كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح، تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة، أو كالبرغوث يحيا ما دام جائعاً، فإذا شبع مات، أو كراكب أراق ماءه لرؤية السَّراب، ثم ندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرة، أو كرجل في قمة جبل يرى الناس في السَّهل كالنمل، ويراه الناس في القمة كالذر وهو لا يشعر.
أو كالسُّنْبلة الفارغة من الحب بين السنابل المملوءة بالحب، تجدها رافعة رأسها تتعالى على صديقاتها وصُوَيْحباتها، مع أنها لا تصلح إلا علفاً للحيوان، والمملوءة حباً مثقلة بالخير، قد انحنت برأسها
العجب باختصار كلبٌ ينبح في قلب صاحبه، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة أو كلب.
مآل العجب
أسباب العجب وبواعثه
عـلاج العجب
-
الإيمان بأن المستقبل لهذا الدين
الحادية والعشرون: لا تكن يائساً.
فالمستقبل لدين الله، والعزة لأولياء الله، منا من رأى تَفَشِّي الشر والمُنْكر وانْتِشاره واستفحاله، رأى العدو تَبَجَّح وتَقَوَّى؛ وتحت ظِل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيئاً، ولن نَجْنِي سوى التعب والمشقة، فليس إذاً في السعي فائدة، فإذا بك تنظر إليه مُتَجَهِّم الوجه، عاقد الحاجبين، مُقَطِّب الجبين، رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر .
يحسب يوم الجمعة الخميس، مُردداً حين يُطْلب منه خدمة دينه ولو بكلمة: (أنت تُؤَذِّن في خرابة، لا أحد حولك، وتنفخ في قرب مقطوعة) وغيرها من العبارات.
هَلَك النَّاس في نظره، وقد هلك.
وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه النفسية وصفاً دقيقاً في قوله ما ثبت عند مسلم: ( إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم).
مبشرات بانتصار الدين
الأمة بين الانتصارات والهزائم
إن هذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرَّمِيم، دَمَّروا المُدن، وخَربَّوا العُمْران، وأسالوا الدِماء، وأسقطوا الخلافة، وعطَّلُوا الصلوات، وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حتى أصْبَحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة بهذا الغزو الوحشي، الذي لا يبقي ولا يذر، والذي يُذَكِّر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج، حتى أحجم بعض المعاصرين للحَدَث عن الكتابة فيه، ومنهم ابن الأثير يرحمه الله الذي يقول: ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً؛ مما رأى ومن هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين، ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِّسَت ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً، وأن أمة الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة، فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد.
ولم يمضِ سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام، فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام، فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين، تحت تأثير العقيدة الإسلامية، فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين، على خِلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب المنصور و لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4].. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [فاطر:44].
إنَّ قراءة متأنية في تاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير، فاسمع إلى ابن كثير، وغيره من أهل السير وهم يسردون لك ذلك الحدث.
في ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس ، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفاً، منهم الأئمة والعلماء والمُتَعبدون والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها، فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاسوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس ، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق ، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لـبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم:
وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تُعَجِّل له هذا الأمر، وهذه المَكْرُمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى:
فانتخى وصاح: وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك، وسارع في الإعداد، ولم يُقارف بعدها ما يُوجب الغُسل.
وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتصالح ملوك النصارى، وجاءوا بِحَدِّهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتَقَدَّم صلاح الدين إلى طبرية ، ففتحها بـ لا إله إلا الله، فصارت البحيرة إلى حوزته، ثم استدرجهم إلى الموضع الذي يريده هو، ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان عشية يوم الجمعة، واستمرت إلى السبت، الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طْلعت عليهم الشمس، واشْتَدَّ الحر، وقوي العطش، وأُضْرِمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش التي كان تحت سنابك خيل الكفار؛ فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح، وحر رشق النبال، وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان، ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويؤسر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفاً، حتى قِيْل: لم يَبْقَ أحد، ويؤسر منهم ثلاثون ألفاً، حتى قيل: لم يُقْتل أحد.
فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رئي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في طُنب خيمته، وباع بعضهم أسيراً بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له غنمه.
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس ، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيئس؟
الرءوس لم تُرفع من سجودها، والدموع لم تُمْسح من خدودها، يوم عادت البِيَعُ مساجد، والمكان الذي يُقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، صار يُشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من جهته الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس ، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان، وَوَحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون، وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين .
ورقي الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].
معاشر المؤمنين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجُمَع، ولم تعطل فيه الجماعة، ومع ذلك:
المؤمن واطمئنانه إلى نصر الله
المؤمن لا يعرف اليأس، ولا يفقد الرجاء؛ إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه، ثم واثق بوعد الله له، إن مرت به مِحْنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذى، وإنَّما يُضْرب ويُؤْذى المتحرك الحي، المُقَاوم كالحديد، يدخل النار فيستفيد، إذ يذهب خبثه، ويبقى طيبه.
إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات، ولسان حال كل واحد منا:
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم، لكن الأهم البقاء فيها، إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس -والله- الدواء في بكاء الأطلال، وندب الحظوظ، إنه في الترفع على الواقع بلا تجاهل له، الاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من أوهاقه ويأسه وخباله، بالإرادة الحرة القوية الأبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية.
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل؛ شُجَّ وجهه، وكُسِرت رباعيته، وانْخَذل عنه من انخذل، وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقاً منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين، ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين، وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
و أبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته، بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة فذة من واقع إلى واقع، في تأبٍّ على اليأس، وترفعٍ على الهزيمة، وحاله:
إنما يأتي النصر لمن يستحقه
إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج
أهل السنة والجماعة ، ووعد الله لن يتخلف، ولكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله.
هذا مجمل ما أردت قوله، وأرجو الله ألا أكون ممن تخدعه الشمس بطول ظله، أو تغره النفس بكثرة وقله، إن هي إلا إشارات؛ بعضها متمنى فات، وبعضها لا يزال في بطون المؤلفات، لم آت فيها على آخر فرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية في الإفادة، قد قلت بمقدار ما اجتهدت، وما شهدت إلا بما علمت، ومن جعل أنفه في قفاه؛ فإنما السوءة أن يفتح فاه، على أنني كنت قد عجزت، ووعدت بالكلام أكثر فما أنجزت، لكن لا ضير أن أصف النجم في سراه، وإن لم أستقر في ذراه، إن هي إلا لبنة على الطريق، وأرجو أن تكون بقدر الياقوت والعقيق، وما أُراني بعد قد شفيت غُلة النفس، وبلغت بها أمنيتها؛ فإنها تنظر إلى كثير وكثير، وأما أنا فإني أشد فقراً إلى عون الله وتثبيت وتوفيق.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفع بهذه الإشارات القليلة، وأن يتقبل منا ومنكم ويصلح السريرة، ويحسن الطوية؛ هو ولي ذلك والقادر عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.