الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية. إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل. قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل ].
ما ذكره الرازي في القرن السادس الهجري أصبح الآن شيئاً مألوفاً، وأسبابه معروفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها ].
كانت العصي تتلوى بسبب الزئبق مع الشمس ومع التخييل، كما قال الله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، ولهذا قال بعض العلماء: إنه من سحر التخييل، وأنكر بعضهم حقيقة السحر، وقال: إن السحر كله تخييل، واستدل بهذه الآية، والصواب أن السحر منه ما هو تخييل ومنه ما هو حقيقة، قال الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من شر النفاثات في العقد.
فالسحر له حقيقة وتأثير في البدن بالمرض والقتل والتفريق بين المرء وزوجه، فالساحر يصور الرجل أمام زوجته بصورة قبيحة حتى تكرهه وتطلب الفراق، ويصور المرأة أمام زوجها بصورة قبيحة ذميمة حتى يكرهها ويفارقها، وهذا من السحر، كما قال سبحانه وتعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، والعكس كذلك، قد يحسنها في وجهه أو يحسنه في وجهها، وهذان هما الصرف والعطف، فالصرف: أن يصرف المرأة عن زوجها، أو يصرف الرجل عن زوجته، والعطف: أن يحبب كل واحد منهما إلى الآخر، وهما من أنواع السحر.
والخلاصة أن السحر نوعان: حقيقة وخيال، خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله الذي قال: إن السحر لا يكون إلا خيالاً، وخلافاً للمعتزلة الذين أنكروا وجود السحر، وكل هذا باطل، والصواب أن السحر واقع وموجود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الرازي : ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة ].
هذا واقع، ويسمونه الآن الألعاب البهلوانية، ومن هذا النوع: أن يظهر إنسان أنه يجر السيارة بشعرة من لحيته، أو يخيل لبعض الناس أنه يضرب بطنه بالسكين ويخرج منه دم، أو يخرج من فمه سكاكين أو مناديل، وكل هذا من السحر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وهذا -في الحقيقة- لا ينبغي أن يعد من السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها ].
ما نراه الآن هو أشياء خفية يعملونها قد تكون من باب الخيال، أو من باب خفة اليد، فهي غريبة عند من لم يعلمها، ومن تعود عليها صارت عنده مألوفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم ].
قوله: [ تروج على الطغام ]، أي: العامة، فالنصارى يوهمون العامة أن هذا من أنوار المسيح أو من أنوار مريم، وهي أشياء يعلمها خاصتهم، فهم يدخلون النار من طريق لا يعلمه عامة الناس، فيتعجب الناس ويقولون: من أين جاءت النار؟! ومن أين جاء القنديل؟! فيغرون الناس بعبادة المسيح.
وكذلك الأشياء التي هي من خفة اليد، فإنها ليست من السحر، ولكنها أشياء خفية لا يعلمها عامة الناس، ولا يعلمون كيفيتها، فتروج عليهم، فإذا كان المقصود منها الترويج للباطل ونشره، فلا شك في أنها حرام، كما أن عمل النصارى في الترويج على عامتهم محرم؛ لأنهم يغرون الناس بعبادة المسيح وعبادة مريم.
وكذلك ما يسمى الآن بالسيرك، وما يفعل في بعض الاحتفالات، كأن تمر سيارة على بطن شخص، فهذا ينظر فيه، والأقرب أنه من باب الخيال.
فإن قيل: قد يكون لهم تعامل مع الجن؟ قلنا: يختلفون، فقد يكون عمل بعضهم من باب خفة اليد، أو من باب التخييل، فينظر إلى أعمالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الخواص فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ].
هكذا يتأول النصارى أنهم يجمعون العوام على دينهم، حتى يوهمونهم أن هذا من أنوار المسيح ومن أنوار مريم، ويدخلون النار إلى الكنيسة من طريق آخر، ولا يعلم بهذا عامة الناس، وهذا من باطلهم ومن ترويجهم لدينهم ومن الشرك والباطل. نعوذ بالله من هذا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية ].
الأقرب إلى صحة المعنى أن الجملة هكذا: وفيهم شبه بالجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ].
هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، وقد بالغ بعضهم فقال: إن الحديث يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ونحن إنما نكذب له لا عليه! وهؤلاء هم متعبدة الكرامية الذين يتأولون في وضعهم الحديث أنه لترغيب الناس في الدين، فهم إذا رأوا الناس انصرفوا عن صلاة الفريضة مثلاً وضعوا أحاديث لترغيب الناس فيها، وإذا رأوا الناس انصرفوا عن صيام رمضان وضعوا أحاديث للترغيب، ويتأولون أنهم يحثون الناس على الدين، وهذا فيه شبه بالنصارى الذي يتأولون جمع شمل النصارى، ويلبسون عليهم حتى يجمعوهم على دينهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: (حدثوا عني ولا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار)، ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه ].
هذه حيلة من الراهب ليفتن النصارى، ويوهمهم أنها من الكرامات، وأنه على حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ].
يقصد بمن يدعي الفقر: الصوفية، ويسمون الفقراء، ويسمى الصوفي فقيراً، ويسمى السالك، ويعني بكلامه: ما يفعله بعض الصوفية من الحيل على الناس، ثم يدعي أن هذا حال له، وأنه تسلم له حاله ولا يعارض، ولو عمل منكراً، وهذا من دعاوى الصوفية الباطلة.
قال المؤلف وقوله: [ من مخالطة النيران ومسك الحيات، إلى غير ذلك من المحالات ].
هذا أيضاً من حيلهم، فبعضهم يدهن جسمه بدهن ضد النار، ثم يدخل النار أمام العامة ولا يصيبه شيء، فيقول الناس: هذا من الكرامات، وبعضهم يخدر الحيات بمخدر، ثم يأخذها ويمسكها ويمسك أسنانها ويعمل بها ما يشاء، فيظن بعض العامة أن هذا من الكرامات، وإنما هو من الحيل، وقد يكون من أعمال الشعوذة وبينه وبين الجن عهد.
قلت: هذا النمط يقال له: التنبلة، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم، وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره ].
الفراسة: حدة النظر والتأمل، قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] أي: للمتفرسين، وفي الحديث: (اتقوا المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، وهو حديث ضعيف، ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني ، وله شواهد.
والفراسة أنواع:
فراسة إيمانية، وفراسة رياضية صوفية، فالفراسة الإيمانية: نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن، وهي محمودة، ولا تكون إلا للمؤمنين الصالحين.
والثاني: فراسة رياضية صوفية، وهي التي يذكرها الأطباء والصوفية، ومن ذلك أن يروض نفسه ويقلل الطعام والنوم، ويقلل من مخالطة الناس، وقد يعصب عينيه، فيحصل له في ذلك أنوار شيطانية، وهذا مثل الذي ينظم أكله لكي يصح بدنه، وهو مثل ما يفعله بعض الناس ويسمونه (اترجيم)، فهو يقلل الطعام والشراب، وهذه مشتركة بين المؤمن والكافر، فقد تكون محمودة، وقد تكون مذمومة.
وهناك فراسة تسمى فراسة خلقية، وهي الاستدلال بالخَلقْ على الخُلقُ، وهذه -أيضاً- مشتركة بين المؤمن والكافر، وهي غير محمودة، فيستدلون -مثلاً- بطول الرقبة على الغباوة، وبالقصر على الحماقة، وبسعة الصدر على سعة الخلق، وبكلل النظر على جمود العينين، وهذه قد يصيبون فيها وقد يخطئون، فالفراسة الإيمانية خاصة بالمؤمنين، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن.
سميت النميمة سحراً لما لها من تأثير في الخفاء، فأصل السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، والنميمة لها تأثير في الخفاء، وهي داخلة في السحر من جهة اللغة؛ لأن السحر عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه البيان والفصاحة والبلاغة، فإنها تؤثر في الناس حتى تقنعهم، فصاحبها قد يقلب الحق باطلاً، وقد يقلب الباطل حقاً بسبب فصاحته وبلاغته وقوة تأثيره، وقدرة تصرفه بأنواع الكلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً).
وسمي السَّحَر سحراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، وهذا من جهة اللغة، فيدخل في السحر لغةً: النميمة والبيان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة؛ وذلك شائع في الناس ].
لعل الصواب (خفية)، فهي قد تخفى، فإنه يأتي إلى هذا ويكلمه ويقول: إن هذا يتكلم فيك، ثم يأتي إلى الآخر ويكلمه خفية، فالمقام يقتضي أن المراد أنها (خفية) لا (خفيفة)؛ لأن المقام ليس في ذكر الخفة والثقل، وإنما المراد ذكر الخفاء، ويؤيده قوله: لطيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: النميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس، وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث: (ليس بالكذاب من ينم خيراً)، أو تكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: (الحرب خدعة)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبني قريظة، جاء إلى هؤلاء فينمى إليهم عن هؤلاء كلاماً، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة، وبالله المستعان ].
تسمية هذا النوع نميمة فيه نظر، إلا من جهة أنه عمل خيراً في الخفاء، ويستدلون بالحديث، والمعروف أن النوع الأول هو الذي يسمى نميمة، وأما هذا النوع فهو إصلاح وخير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، قلت: وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً)، وسمي السَّحور لكونه يقع خفياً آخر الليل ].
سمي السحور -وهو أكلة السحر- لأنه يؤكل في آخر الليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والسحر: الرئة ]، ذكر في القاموس أنها ساكنة، ثم قال: وهي بالتحريك والضم. [ وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ].
قوله: [ محل الغذاء ] فيه نظر، وإنما هي لتصفية الدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما قال أبو جهل يوم بدر لـعتبة : انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري) ].
أي: متكئاً على صدرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف:116] أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم ].
قوله: [ حق ] أي: موجود وثابت، وليس المراد بالحق هنا ضد الباطل، بل هو باطل ومنكر، فقوله: (الحق) أي: له وجود وثبات، خلافاً لمن قال: إنه خيال، كـأبي حنيفة والمعتزلة، فهم يقولون: ليس له حقيقة، وعندنا له حقيقة وليس تخييلاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل ].
وقال بذلك أبو حنيفة أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس : وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية.
قال القرطبي : ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقىً من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك ].
وكل هذا يكون في السحر، فهو عزائم ورقى وعقد وأدوية وأدخنة تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه.
فصل: وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه: (الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر، فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده ].
انضم أبو حنيفة مع المعتزلة ومع أبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية، فهم يرون أنه لا حقيقة له، وقد نص الجصاص في كتابه:
(الأحكام) -وهو من الحنفية- على أنه خيال ليس له حقيقة، والصواب الذي عليه الجماهير أن منه حقيقة ومنه خيالاً.
هذا القول الثاني ضعيف، والصواب أنه يكفر بمجرد تعلم السحر؛ لقوله تعالى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102] أي: كفروا بتعليم الناس، وقوله: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:103]، فدل على أن السحر ضد الإيمان والتقوى، فإن تعلم السحر أو علمه كفر، فهذا هو الصواب إذا كان السحر يتصل صاحبه بالشياطين وعبادتها وعبادة الكواكب والتقرب إليها، وأما إذا كان سحره لا يتصل بالشياطين ولا بعبادتها، وإنما هو من باب أن يتعلم السحر ليأكل أموال الناس بالباطل؛ فهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم فقد كفر، وإن لم يستحلها فقد ارتكب محرماً وكبيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر -مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها- فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر ] أي: إن استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم فقد كفر، وإن كان لا يستحل ذلك لكن غلبه الهوى وطاعة الشيطان وحب المال فيكون مرتكباً لكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، فلذلك فصل هذا التفصيل فقال: السحر قد يكون صاحبه متصلاً بالشياطين وقد لا يتصل، فإن اتصل بالشياطين كفر، وإلا فلا يكفر.
وأما الجمهور فلم يدخلوا السحر اللغوي في مسماه، ولهذا قالوا: الساحر يكفر مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون هناك منافاةً بين قول الشافعي وبين الجمهور، فكل من الفريقين متفق على أن الساحر إذا اتصل بالشياطين فإنه يكفر، وأما إذا لم يتصل فـالشافعي يسميه سحراً، والجمهور لا يسمونه سحراً، فلهذا فصل الشافعي ، ولم يفصل الجمهور.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد : نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا، فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعي فإنه قال: يقتل -والحالة هذه- قصاصاً ].
هذه المسألة فيها اختلاف: هل يقتل الساحر أم لا يقتل؟ فقال أبو حنيفة وجماعة: يحبس حتى يموت ولا يقتل، والجمهور على أنه يقتل، ثم اختلف القائلون بقتله في صفة قتله، أي: هل قتله كفراً أو حداً؟ والأكثر على أنه يقتل كفراً، وهذا هو الصواب، وقال آخرون: يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً؛ لحديث جندب الصحيح: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ولأن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، ولأن حفصة رضي الله عنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت.
هذه المسألة فيها خلاف، وهي: هل تقبل توبة الساحر؟ فالمحققون على أنها لا تقبل، وكذلك -أيضاً- الزنديق، ومن سب الله، أو الرسول، أو سب الدين، أو استهزأ بالله وبرسوله وبكتابه، فلا تقبل توبته في الدنيا؛ زجراً له ولأمثاله عن هذا الكفر الغليظ، قالوا: فلو ادعى التوبة لا نقبل توبته، بل لا بد من قتله في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله، فإن كان صادقاً فالله يحب الصادقين، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين.
وقال آخرون من أهل العلم: يستتاب، فإن تاب -ولو كان ساحراً- فإنه يترك، والصواب أنه إن سلم نفسه قبل أن يقبض عليه فإنه تقبل توبته؛ لأن هذا دليل على أنه تاب، وأما إذا قبض عليه ثم ادعى التوبة فلا تقبل، ويكون حكمه حكم المحاربين، كما قال الله تعالى في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34].
والصواب أن ساحر أهل الكتاب لا يقتل؛ لأنه على الكفر قبل سحره، فأهل الكتاب يعبدون المسيح وعزيراً، ويعملون السحر، فهم على الكفر قبل ذلك، فلا يقتل إذا سحر، ولأن النبي منع من قتل لبيد بن الأعصم تركاً للفتنة وتحصيلاً للمصلحة، ولعدم تأثير السحر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قيل له: لماذا لم تدفن البئر؟ فقال: (أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً)، فالصواب أنه لا يقتل؛ لأنه من أهل الكتاب، فهو كافر قبل ذلك، بخلاف من كان مسلماً ثم سحر، فإنه يقتل.
قال الحافظ في (فتح الباري): وقال القرطبي : لا حجة لمالك من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله الفتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو مثل ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين، حيث قال: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ].
هذا ليس بجيد؛ لأن هناك فرقاً، فالمنافقون ينتسبون إلى الإسلام ويظهرون الإسلام، فلو قتلوا لتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وأما هذا فمعروف أنه كافر من أهل الكتاب.
الصواب أن حكم المرأة كحكم الرجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها ].
هذا ليس بصحيح؛ لأن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد ، وهو من اليهود، وأما اليهودية فهي التي وضعت له السم في الذراع، وعمر بن هارون هذا ضعيف، فلا يصح سنده.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد يعفو ولا ينتصر لنفسه، وكذلك -أيضاً- قد يعفو عمن سبه، وأما بعد وفاته فمن سبه فلا بد من قتله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل بسحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما: أنه يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم؛ لقوله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر [البقرة:102]، لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق ]. يعني: إذا قبض عليه قبل أن يسلم نفسه. [ فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه ] وهذا هو الأقرب، فهو كالمحارب، وقد قال تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33]، ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن قتل بسحره قتل، قال الشافعي : فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية ].
يحمل هذا على أنه قال: أنا لم أتعمد القتل، وإنما أعالج علاجاً، فله وجه من هذه الجهة، وهذا يكون قتله خطأ، لكن هذا سحر من جهة اللغة، فهو أدوية، وليس سحراً يتصل بالشياطين، وأما الذي يتصل بالشياطين فإنه يقتل صاحبه وليس هناك إشكال.
والنشرة: هي حل السحر عن المسحور، قيل لـسعيد بن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه، فظاهر هذا أنه لا بأس بحل السحر عن المسحور؛ لأنه سئل: رجل به طب -أي: سحر- أو يؤخذ عن امرأته -أي: يحبس عن امرأته، أي: لا يصل إليها- أيحل عنه أو ينشر؟ فقال: لا بأس به، أي: لا بأس بحل السحر، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! هلا تنشرت؟ فقال: أما الله فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على الناس شراً) هذا مثال للنشرة الجائزة، وقد فات الحافظ رحمه الله حديث أحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال هي من عمل الشيطان)، والحديث سنده جيد.
وحمل ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب كلام ابن المسيب : (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه) على النشرة الجائزة، فقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد (باب ما جاء في النشرة) وقسم النشرة إلى قسمين:
نشرة محرمة، وهي من عمل الشيطان، وهي حل السحر بسحر مثله، ونشرة جائزة، وهي حل السحر برقى وأدعية وتعاويذ شرعية، وهذا مباح، فيحمل كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة، ويحمل كلام الحسن : (لا يحل السحر إلا الساحر)، وحديث أحمد سئل عن النشرة قال: (هي من عمل الشيطان) على النشرة المحرمة، وهي حل السحر بسحر مثله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وحكى القرطبي عن وهب أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين، ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي، ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به ].
هذا مثال النشرة الجائزة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره -أيضاً- الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرح كتاب التوحيد، واعترض عليه محمد حامد الفقي وقال: إن هذا لا أصل له، والصواب أنه ليس فيه محذور شرعاً، فإنه يقرأ آيات من القرآن، فلا وجه لاعتراض الشيخ حامد الفقي رحمه الله.
فإن قيل: ما المقصود بقول عائشة : (هلا تنشرت؟) قيل: معناه: هلا حللت السحر، فقال: (أما أنا فشفاني الله).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته ].
أي: يحبس عن امرأته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث: (لم يتعوذ متعوذ بمثلهما)، وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشيطان ].
كل هذا من النشرة الجائزة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر