يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام: مرحباً بصفوة الناس، مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب أهل العلم بشرف الدنيا والآخرة، فقد أعتق عبد أسود لم تكن له قيمة عند السادة، ولا قيمة عند البشر، فلما أعتق وليست بيده صنعة يعمل بها نظر فقال: ماذا أفعل؟ كيف أعمل في هذه الدنيا وقد أعتقت؟ أي: أنه لا بد أن يكون لي من الأهداف والأعمال ما أرتفع بها مكانة بين الناس، فقال: ليس لي إلا أن أنتحل العلم، فقد وجدت الأشراف يتعلمون العلم، فذهب فتعلم العلم، وأتقن هذا الباب الشريف العظيم.
ويتذكر أحدنا قول أحمد مع هذا العبد عندما سجن، فقيل له: لم أوديت بنفسك إلى الردى؟ قال: إن هذا العلم شريف، إن أردت به الدنيا أخذتها، وإن أردت به الآخرة أخذتها. فكأنه كان يتدبر هذه المقولة، فأتقن العلم، ثم جلس يعلم الناس، وكان الناس يأتونه من مشارق الأرض ومغاربها، حتى إن الخليفة أرسل إليه فقال: ائتنا ننهل من بحر علمك، فرد العبد الأسود للخليفة بقوله: مجالسنا مشهورة أو معلومة، فمن أرادنا فليأتنا.
فانظروا إلى شرف هذا العلم، وقد صدرت الباب: بصفوة الناس هم طلبة العلم، وقلت: إن أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء هم العلماء، فعضوا بالنواجذ على هذا الشرف؛ لعل الله جل في علاه أن يجعلنا جميعاً نسير على درب العلماء، ونصل كما وصلوا، ونرى أن الرجال يشتركون مع النساء في هذا الشرف العظيم، كما يشتركون مع النساء في معظم الأحكام، والأصل عندنا مستقى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في سنن أبي داود بسند صحيح قال: (النساء شقائق الرجال) أي: في الأحكام.
فالأصل في كل حكم أنه يجري على المرأة كما يجري على الرجل إلا ما فرق الدليل بينهما، وذلك في أمور تعد وتحسب، لكن بقية الأحكام بأسرها يشترك فيها الرجال والنساء معاً.
والقسم الثاني من أقسام التوحيد هو أهم ما يكون في علم التوحيد، فهو الذي من أجله أرسل الله الرسل، ومن أجله شرع الله القتال وأنزل الله السيف؛ ليفرق بين الصفين، فهذا العلم: علم القصد والطلب، أو توحيد الله جل وعلا بأفعال العباد، أو فعل العبد تجاه الرب، وهو توحيد الإلهية، وهو معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فمن أتقن القسم الأول وأتقن القسم الثاني من هذا الكتاب، وأتقن القسم الثاني بهذا الكتاب يصبح بارعاً في العقيدة، ولا أقول: مفتياً ولا رجلاً قوياً في العقيدة، لكن على الأقل سيكون طالباً للعلم، متقناً لمسائل كثيرة من مسائل العقيدة.
هذا الإمام العلم -بإيجاز- كان إماماً بارعاً في علم الحديث، وكان هو الغالب عليه، ولذلك له شروحات كثيرة في علم الحديث، أقواها وأرفعها هو: (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار)، وهو كتاب بديع جداً؛ ترى فيه قوة عارضة هذا العالم الرباني، وهذا الفقيه المحدث الأصولي، فتراه يأتي بالأقوال ويبين لك، لكنه كثيراً ما يتبع الحافظ ابن حجر ، وكثيراً ما ينقل عن الحافظ ابن حجر ؛ لأن بعضهم اتهم الشوكاني أن كل كتبه حجم مصغر من كتب الحافظ ابن حجر ، وهذا سوء أدب مع الشوكاني ، فإن الشوكاني كان مجتهداً بارعاً، بل كان اجتهاده اجتهاداً مطلقاً لا اجتهاد مذهب، لكنه كان كثيراً ما يعول في التصحيح والتضعيف على الحافظ ابن حجر وينقل كثيراً من أقواله.
المقصود: أن من أروع ما كتبه في فقه الحديث هو كتاب (نيل الأوطار)، وهو من أوسع الكتب، حتى إنه بعدما صنف هذا الكتاب اشتدت همته على أن يشرح كتاب صحيح البخاري ، فلما فتح (فتح الباري) ووجد البحر الذي لا ساحل له للحافظ ابن حجر قال الكلمة المشهورة: لا هجرة بعد الفتح. أي: لا أحد يستطيع أن يتقدم بين يدي الحافظ ابن حجر .
وله أيضاً كتاب ماتع في أصول الفقه، وهذا الكتاب وإن كان يعتبر كتاباً مقارناً في الأصول وليس أصول مذهب، لكنه من أمتع الكتب التي يمكن أن يطلع عليها طالب العلم في أصول الفقه، واسم هذا الكتاب: (إرشاد الفحول)، وقد سماه بذلك من أجل أن يبين أن هذا الكتاب من عظم تصنيفه أنه للفحول فقط.
وله كتب أخرى في الفقه منها كتاب: (السيل الجرار) وهذا الكتاب يتكون من أربعة أجزاء، وهو كتاب ماتع جداً، لكن أخذ على الشوكاني أنه كان فيه شيء من الميول لـعلي بن أبي طالب ، فكان يرجح ما رجحه أبو حنيفة وغيره، وكان يرى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفضل من عثمان ، وهذا مخالف لما أجمعت عليه كلمة المهاجرين والأنصار، وهو ترتيب الأربعة في الفضل بنفس ترتيب الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي .
قوله: (باسم الله الرحمن الرحيم) بينا كثيراً في كل الكتب أنها من روائع البيان، فما من مصنف إلا ويقتدي بكتاب الله ويقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأدب بين يدي الله، بأن يتقدم بين يدي أي مصنف بالبسملة.
وقوله: (باسم الله)، التقدير أستعين أو أصنف باسم الله، والاسم: إما مشتق من السمو وهو العلو، وهو في حق الله حق، أو مشتق من السمة وهي العلامة، وأيضاً أسماء الله جل في علاه أعلام على ذات الله وأوصاف لها كمالات.
(الله)، هو الاسم الأعظم لله جل في علاه، وقد بينا ذلك مراراً فلا عودة له.
قوله: (الرحمن الرحيم) هذه أسماء من أسماء الله جل في علاه، وكل اسم من أسماء الله يتضمن صفة كمال، فهما اسمان من أسمائه الحسنى؛ لأنهما علامة على ذات الله جل في علاه، فيدل على ذات الله ويتضمن صفة كمال وجلال، فالرحمن: يتضمن صفة الرحمة، والرحيم يتضمن صفة الرحمة، والله يتضمن: صفة الإلهية، والإله: هو الذي تألهه القلوب، فهو المألوه، أي: المعبود بحق.
والفرق بين: (الرحمن والرحيم) أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، والرحمن هو رحمان الدنيا، والرحيم هو رحيم الآخرة، فاسم (الرحمن) عام للمؤمنين والكافرين، وأما (الرحيم) فهو خاص بالمؤمنين، والدليل قوله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] ولم يقل: رحمان، وإنما قال: رَحِيمًا فخصها بالمؤمنين.
والاستغاثة في اللغة: مشتقة من الغوث، والغوث هو: الطلب من الله جل في علاه، أو نقول: طلب إزالة الضر ورفع الحرج، أو نقول: الاستغاثة: مصدر استغاث، والسين والتاء دائماً في اللغة تكون للطلب، فالاستعانة هي: طلب تفريج الكربات.
والاستغاثة شرعاً كما قال شيخ الإسلام : هي الطلب من الله لتفريج الكرب وإزالة الشدة، أو تفريج الكربة وإزالة الشدة.
قال الحليمي - وهو شيخ البيهقي - : إن المغيث من أسماء الله الحسنى، والمغيث معناه المجيب للملهوف. وفي هذا نظر؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، لابد لها من دليل من الكتاب أو السنة، ولم نجد دليلاً في الكتاب ولا في السنة بأن المغيث اسم من أسماء الله جل في علاه، وأما إذا احتج أحد بقول العامة: يا غياث المستغيثين! فنقول: هذا إما خبر عن الله، وإما صفة من صفات الله جل في علاه بتفريج الكربات ورفع الزلات، ونقول: إن المغيث ليس من أسماء الله جل في علاه.
إذاً: لو رسمت دائرة في الدعاء، فستجد أنه إما دفع مضرة أو جلب منفعة، ولا بد للدائرة الصغيرة أن تحتويها الدائرة الكبرى، فالاستغاثة جزء من الدعاء، فلك أن تقول: العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص، أو قل: الدعاء أعم من الاستغاثة؛ فكل مستغيث داع ولا عكس؛ لأن المستغيث يدعو بدفع الضر، لكن الداعي قد يدعو بجلب النفع ولا يدعو بدفع الضر.
وقال الله جل في علاه في بعض الأحاديث وبعض الآثار -وهذه الآثار ينظر في أسانيدها-: (عبدي خلقتك للعبادة فلا تلعب). وهذه الآثار قد يتسامح في أسانيدها، ويشهد لها كثير من الآثار والأحاديث الصحيحة، فالمهمة الجسيمة التي خلق الله الخلق من أجلها هي العبادة.
وللعبادة ركنان: الركن الأول: غاية الذل، والركن الثاني: غاية الحب، فإن انفك ركن من هذه الأركان، كأن يأتي أحد بالعبادة ولم يكن عابداً لله جل في علاه، فإنها لا تقبل منه، بل لا بد أن يأتي بالركنين تامين.
والاستغاثة من الركن الأول، بل هي قلب الركن الأول، بل هي أساس وأصل الركن الأول، فالاستغاثة هي الذل التام لله جل في علاه، فلما كانت هذه منزلة الاستغاثة من العبادة سارع إليها أخيار الناس وأفضل البشر على الإطلاق وهم الأنبياء، قال الله تعالى مبيناً تضرع وتذلل واستغاثة أنبيائه وأصفيائه من خلقه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء:83-84].
وقال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ [الأنبياء:87] متمسكناً متضرعاً مستغيثاً بالله جل في علاه: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] .
وإبراهيم عندما أضرموا النار وألقوه فيها استغاث بربه جل في علاه وقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل). فهذه من أجل العبادات، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم له الحظ الوافر والنصيب الأكبر في هذه العبادة، ففي كل المواقف ترى النبي صلى الله عليه وسلم يتذلل لربه جل في علاه، ففي غزوة بدر سقط الرداء من على كتف رسول الله وهو يتذلل ويستغيث بربه جل في علاه، ويقول: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت).
ولما اشتد الجدب على الناس، ودخل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بالناس، فقال له: (هلك العيال، أو قال: هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثاً بربه: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). فالعبد الكامل في العبودية هو الذي يضع خده على التراب متذللاً لربه جل في علاه، متضرعاً عندما تنزل به الملمات وتلتئم عليه الكربات، فيتذلل لربه جل في علاه مستغيثاً به لا مستغيثاً بغيره، وهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة، وأصل ركن العبادة التذلل، والاستغاثة هي أم التذلل، فهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة.
أما الدليل على أن الاستغاثة عبادة لله جل في علاه: فقد قال الله تعالى مادحاً عباده بأنهم يتقربون إليه بالوسيلة، وأيضاً قال ماناً عليهم بكرمه وبحوله سبحانه جل في علاه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9] لأنكم تضرعتم وتذللتم واستغثتم بربكم، فقد أتيتم بما عليكم من التذلل، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ منة وكرماً منه جل في علاه.
أما من السنة: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال -وهو يخطب بالناس-: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). وهذه سنة فعلية تبين أن الاستغاثة عبادة قولية وفعلية، فهي فعل من النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
فإذا ثبت أن الاستغاثة عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.
فالقسم الأول: استغاثة توحيدية، وهي أن تستغيث بالله جل في علاه إذا نزل بك الكرب، ونزلت بك الملمات، وتتذلل لربك جل في علاه، فهذه استغاثة توحيدية تصرفها لله جل في علاه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل إبراهيم وفعل داود وفعل أيوب وفعل أنبياء الله جل في علاه، فقد صرفوا الاستغاثة هذه لله وحده لا شريك له.
إذاً: فالاستغاثة الأولى هي: استغاثة توحيدية، وهي التي يصرفها العبد لله جل في علاه، فيتذلل لربه، ويطلب الحاجات من ربه جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا قيد مهم.
القسم الثاني: استغاثة شركية، وهي أن يطلب العبد من غير الله رفع الحرج، وإزالة الضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذه استغاثة شركية، وهذه تنبثق من قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي: كل من أنزل مخلوقاً منزلة الله جل في علاه فقد كفر، أو من أنزل الخالق منزلة المخلوق فقد كفر.
وعندما ننظر في هذه القاعدة وننظر في القسم الثاني من الاستغاثة الشركية نرى أنها طلب الغوث وطلب النصر وطلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه، فإذا قام عبد وقال: الغوث يا بدوي ! أو قال: الغوث يا عبد القادر الجيلاني ! أو أنقذني أو أغثنا أو أنزل المطر يا بدوي فهذا قد استغاث استغاثة شركية؛ لأن إنزال المطر لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك؛ لأنه صرف عبادة لا تكون إلا لله جل وعلا، فهذا نوع من أنواع الشرك، وهو شرك محض وحده، فإذا صرف الاستغاثة لغير الله بأن طلب من الميت أو طلب من الحي ما لا يقدر عليه إلا الله فقد صرف العبادة إلى غير الله، فوقع في الشرك.
وينضم إلى ذلك أنه إذا طلب الاستغاثة من غير الله جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله، فإذا قال للـبدوي : اشف مريضي! فقد صرف العبادة لغير الله، وأيضاً لا يمكن أن يذهب إلى القبر ويقول للـبدوي : اشف مريضي! إلا وهو يعتقد أن البدوي له القدرة على شفاء هذا المريض، وهذا شرك أيضاً في الربوبية، فيصير هذا الذي طلب أو صرف الاستغاثة لغير الله واقع في الشرك من وجهين: الوجه الأول: الشرك في الإلهية؛ لأنه صرف العبادة التي ثبتت بالشرع أنها عبادة لغير الله؛ فاستغاث بغير الله أو طلب أو دعا غير الله.
الوجه الثاني: الشرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله.
القسم الثالث: الاستغاثة المباحة، وقد جاء الشرع ليبين إباحتها، وهي الاستغاثة من البشر أو من الحي القادر الحاضر فيما يقدر عليه، فنجمعها في القاعدة الوجيزة (حي حاضر قادر)، فهذه جاءت جوازها من الكتاب ومن السنة:
أما من الكتاب: فقد قص الله علينا قصة موسى عليه السلام عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها: فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15]، فهذا دليل على الاستغاثة المباحة، فقد استغاث الرجل الذي من شيعة موسى بموسى، وأغاثه موسى، وهذا دليل يستدل به العلماء على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، ووجه ذلك من قوله: (فوكزه).
وعلى هذا فيباح للعبد أن يستغيث بغيره لينفعه، وهناك أدلة عامة وأدلة خاصة، فالأدلة العامة كقول الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه) . فإذا استغاث أحد بأخيه فأغاثه فله ذلك، وليس من الشرك بحال من الأحوال، بل يمكن أن يكون من التوحيد.
والاستدلال الخاص هو بقول الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى [القصص:15] ، فكيف استقى العلماء من هذا الدليل إباحة الاستغاثة بالحي الحاضر القادر؟
الجواب: وجه الدلالة من هذه الآية قوله: فَقَضَى عَلَيْهِ فقد استجاب موسى عليه السلام له، ولأن موسى عليه السلام أبو الموحدين، وهو الموحد الأكبر في عصره، ويدل على ذلك أن قومه قالوا له: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] فأنكر عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك قال: (الله أكبر قلتم مثلما قال قوم موسى). فكل نبي هو أبو الموحدين في عصره، فلو كانت الاستغاثة هذه من الشرك لأنكرها موسى، لكن موسى أقرها، بل من دواعي الإقرار أنه قضى على الآخر فأغاث المستغيث.
والله جل وعلا لا يقص قصة فيها إنكار إلا وينكرها، ولا يقص قصة وفيها إقرار إلا ويقر ذلك.
مثال ذلك: الإقرار بملكة سبأ، كما قال تعالى حاكياً عنها: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34] فمن الذي قال: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ؟ قاله الله، فأقرها على ذلك.
وكقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] فهذا إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم، وكقوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2] والإنكار على نوح واضح جداً في قوله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46].
إذاً: فالله جل وعلا لا يقر على باطل بحال من الأحوال، بل لابد أن ينكر، وإذا كان حقاً أقره الله، وهنا قص الله علينا قصة موسى وقصة المستغيث بموسى وأقره، فهذه الآية دلالة واضحة جداً على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه مباحة، والله جل وعلا أقرها.
أما من السنة: ففي السنن: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان قد تعب كثيراً من منافق فقال للناس: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم). وهذا الحديث فيه ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث، فالسند فيه ضعف لكنه مما يستأنس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه) . وهذا الحديث عجيب! لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أبي بكر فقال: (إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه). ومع ذلك يحتج المصنف بهذا الحديث على أنه يجوز أن يستغيث المرء بالحي الحاضر القادر، فما وجه ذلك؟ وجه ذلك: أنه علم أولاً من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستغاثة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه أنها مباحة، لكن توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يستغاث بي)، أن هذا فيه سد الذريعة، فهو يعلم الناس ألا يقولوا ذلك، كما أنكر على من قال: ما شاء الله وشئت، نعم فالمرء له مشيئة، والله جل وعلا جعل له مشيئة، لكن سداً للذريعة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك، أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله ثم شئت). فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الأصل في الاستغاثة أن تكون بالله جل في علاه.
أما بالنسبة للتي يقدر عليها الإنسان الحي الحاضر فله أن يستغيث به، فمثلاً: رجل كاد أن يغرق في وسط البحر فوجد سفينة وعليها الركبان، فقال لأحدهم: أغثني أغثني أغثني، فقوله جائز ولا شيء عليه.
كذلك رجل كان من القراء يعالج بالقرآن، ويأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أدراك أن الفاتحة رقية؟ اضربوا لي معكم بسهم). فكان ينفع الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) . فيقرأ على المصروع، وعنده جيوش جرارة من الجن المسلمين الفقهاء والمحدثين والمجاهدين، وفي ذات مرة وقع في ضائقة فنادى على جني منهم يعرفه باسمه، وكان يستعين به؛ استدلالاً بقول شيخ الإسلام ابن تيمية ، فنادى عليه فقال: أنقذني مما أنا فيه، فما هو حكمه مع قول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] ؟ وكيف ترد عليه وهو يستغيث بغير الحي الحاضر.
فالجواب: أنه استغاث بغائب، فلا يمكن أن نقول: إن هذه استغاثة مباحة، بل هي استغاثة شركية، وهذا هو الراجح والصحيح.
أما كلام شيخ الإسلام بجواز الاستعانة بالجن بدليل قصة عمر بن الخطاب فنقول:
أولاً: القصة ليست صحيحة.
ثانياً: نقول: هذا غائب، فكيف يستعين بالغائب؟ فلا يجوز بحال من الأحوال، فهذه استغاثة لا تصح.
كذلك رجل كان في بلد وأخوه في بلد آخر فاتصل به بالهاتف، وقال: إني في ضائقة فأغثني، فهذه استغاثة مباحة جائزة؛ لأنه في أمر قادر عليه، وهو حي قادر حاضر، ولو كان غائباً، لكنه في حكم الحاضر.
كذلك رجل قام في السحر فصلى، فتذكر أن الله جل في علاه يبعث ملائكة سياحين في الأرض ينظرون لمن يقومون الليل، وهم يستغفرون للمؤمنين، فبعدما قام في السحر وبكى في الدعاء، نظر يمينه ويساره وقال: تحوطني الآن الملائكة، فتكلم مع الملائكة فقال: إني في ضر فأغيثوني، يعني بذلك الملائكة فما حكمه؟
فالجواب: أن هذه استغاثة شركية؛ لأن الملائكة غائبون عن الرؤية كالجن تماماً.
ولذلك قال العلماء: من طلب من ملك مقرب أو نبي مرسل أو من مقبور أو ولي صالح شيئاً مما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه فقد وقع في الشرك، ولو طلب ما يقدرون عليه فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب من غائب وليس بحاضر، والله جل في علاه لما أباح الاستغاثة أباحها بالحاضر، وذلك في قصة موسى في قوله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15]. وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام على الاستغاثة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر