أما بعـد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].
عباد الله! إن تاريخ الحياة البشرية منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى اليوم، هو تاريخ الصراع بين الحق والباطل، ولقد مضى اليوم من عمر البشرية كثير، كما دلت على ذلك النصوص، بل إن هذا العمر قد ذهب معظمه وبقي أقله، قال الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:1-2] وقال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] وقال: يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [الأعراف:187] إلى غير ذلك من النصوص والآيات.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الصحيح: {بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى} مشيراً إلى أن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، كانت من علامات قُرب الساعة، ودنو القيامة، وقرب نهاية هذا العالم الدنيوي.
وإذا أدركت ذلك، ثم التفت إلى الوراء لتقرأ في تاريخ الأمم والشعوب كلها، لوجدت أن معظم هذا التاريخ، لم يكن تاريخ الصراع على المرعى، ولا كان تاريخ الصراع بين القبائل، ولا كان تاريخ العُشاق الذين ذهب الواحد منهم يضرب البحار والفيافي والقفار بحثاً عن معشوقته.... كلاَّ!!
وإنما كان تاريخ الصراع والحرب بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنبوة والشرك، هذا هو التاريخ.
ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، كان في مكة، بل كان في الكعبة ثلاثمائة وستون نُصباً -صنماً- فكان عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأنصاب والأصنام بعودٍ في يده، فتتهاوى وتتساقط واحداً بعد الآخر، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] وقال تعالى: جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49].
إن تاريخاً طويلاً من الوثنية في جزيرة العرب ومن الشرك ومن عبادة الأوثان، حين كان العرب يعتبرون الصنم هو إلههم ومعبودهم ومرجعهم ومستشارهم، ومع ذلك هذا التاريخ الطويل العريض كله مسح في غداةٍ واحدة، حينما دخل النبي المصطفى المختار عليه صلوات الله وسلامه مكة فاتحاً، فكان يطعن الأصنام بعود، ما احتاجت إلى شيء آخر، ما احتاجت إلى فأس ولا إلى منجل، وإنما كان يطعنها بعود في يده، فتتهاوى وتتساقط، وكان ذلك إيذاناً بأن بنيان الباطل زائل مهما ضُربت حوله الطبول، ورفعت حوله الأعلام، وجندت له الجنود، فإن بناء الباطل مبنيٌ على شفا جرفٍ هار، فانهار به في نار جهنم.. فمتى ظهر الحق اختفى الباطل، ومتى علت كلمة التوحيد اندحر الشرك، إن كلمة الله تعالى لا يقف في وجهها أحد، وإن دين الله تعالى منصورٌ بقوة الحق الذي يحمله، ومنصورٌ بأن الله تعالى معه، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وقال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
فشعر العالم الغربي أن الإسلام يملك بذاته من وسائل القوة والتأثير والجاذبية الكثير، ولو كان الإسلام محجوباً بمساوئ أهله وعيوبهم، ولو كان الكثيرون يعزفون عن الإسلام لِأنهم يرون في المنتسبين إليه رداءة الأخلاق، أو التخلف العلمي، أو الغباء السياسي، أو التبعية للغرب أو الشرق، أو غير ذلك من الآفات والأمراض الكثيرة التي حاول الغرب أن يحجب بها مساوئ الإسلام، لكن رغم هذا كله، فإننا نجد عند العالم الغربي حركة في التوجه إلى الإسلام والالتزام بدين الله تعالى، ليس على مستوى العمال مثلاً، ولا على مستوى شعب من الشعوب، وإنما في قلب العالم الغربي وفي منطلق الحضارة، بل في مهد الحضارة.. في الجامعات الغربية وفي مراكز البحوث والدراسات!!
وقد زرتُ أحد المراكز هناك، فأخبروني أنه يسلم عندهم أسبوعياً ما يزيد على عشرين، بعضهم من أساتذة الجامعات، وقد لقيت بعض هؤلاء، فرأيت فيهم الحماسة للدين والاغتباط بهداية الله تعالى والفرح برحمته: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
لقد بدأ العالم الغربي يشعر بخطورة الإسلام، ولهذا لم يجد أمامه إلا أن ينكفئ إلى الوراء، ليعود إلى العقيدة النصرانية بتحريفها وتبديلها وتغييرها، وما فيها من التناقض، وما فيها من المخالفة للعقل، وما فيها من المخالفة للدين، ولكنها هي الحل الوحيد أمامه.
يريد أن يعود إليها وينفخ فيها روح الحياة من جديد، وقد ظهرت في العالم جماعات ودعوات ومنظمات تدعو إلى تجديد النصرانية، ولعل من أحدثها وأشهرها (جماعة بورٍ أجن) التي تدعو إلى الدخول في النصرانية أو اكتشاف الدين النصراني من جديد.
إنهم يشعرون أن دينهم بحاجة إلى دماء جديدة، وإلى تغيير جديد ولأنه ليس ديناً حقيقياً، بل هو محرف، وهو منسوخ، فإنه لا مانع عندهم أن يجروا له عدداً من العمليات الجراحية؛ حتى يتلاءم مع الهدف المحدد الذي حركوه لأجله؛ لأنهم حركوه من أجل أن يوظف هذا الدين في مواجهة الإسلام وفي مقاومة المد الإسلامي، وليكون حصانةً فكرية وعقائدية ودينية، يغرون بها بسطاء العقول والسذج من بني قومهم لئلا يتأثروا بالإسلام.
إننا في الوقت الذي نجد فيه أن كثيراً من الناس في بلاد العالم الإسلامي، يستكثرون علينا صحوتنا الإسلامية، وعودتنا إلى دين الله تعالى، وتمسكنا به وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على رغم أنه الدين الحق، وأن هذه الأمة بحمد الله مازالت راية الإسلام فيها مرفوعة هنا أو هناك لم تسقط أبداً:
إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قئولٌ بما قال الكرام فعولُ |
فهذه الأمة في مجملها أثبتت أنها أمة الإسلام، وأنه إن تخلى منها قوم، خرج آخرون، كما وعد الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] وقال: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
هذا وعد قائم؛ قائم للجيل الأول، وقائم لي ولكم، وقال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].
إننا نجد اليوم أن رؤساء الدول الغربية وأن كبار العلماء، وكبار المتخصصين، وأصحاب الفكر، وأصحاب النفوذ، وغيرهم أنهم أصبحوا يطالبون بأن تقوم الدول الغربية بإشباع الحاجات المعنوية والروحية للإنسان، وقد قال كبير من كبارهم، ورئيسٌ لحامية الصليب في العالم، رئيسٌ سابق، قال: إننا لا يجوز أن نقصر مهمتنا على دعم العالم بالمساعدات المادية التي أثقلت ميزانياتنا، ولم تُجد نفعاً، ولكننا ينبغي أن ننتقل إلى تقديم المساعدات الروحية للعالم، وإلى إشباع الحاجات العاطفية للناس، ويجب أن نقدم لهم الإنجيل بيد، ونقدم لهم المساعدات باليد الأخرى.
ولهذا أصبحوا اليوم، يبتزون الناس بأموالهم ومساعداتهم، لصرف الناس عن دينهم، مقابل أن يشبعوا جوعتهم، أو يرووا ظمأهم، أو يكسوهم من عُري، أو يعالجوهم من مرض، أو يمنحوهم مساعدة، أو جنسية، أو منصباً، أو علاوة، أو رتبة، أو أي شيء آخر.
وقلب مَنْ؟
إنه عقل الإنسان وقلبه، الذي هو مدير المعارك العسكرية، والقائم على الإعلام، والمسئول عن السياسة، والمتصرف في أجهزة الدول.
إذاً، وهي وإن كانت معركة خفية إلا أن شررها يتطاير وآثارها تظهر بين آونة وأخرى، بل في كل وقتٍ وفي كل حين.
فقد أصبح بإمكانه أن يتعبد زعماً وإلا فهي عبادة للشيطان حقيقةً، أن يتعبد وهو متكئ على أريكته في عقر بيته، من خلال متابعة برنامج تلفزيوني، أصبحت البرامج التلفزيونية بالمئات بل بالآلاف في دولة واحدة فقط مثل أمريكا!! فضلاً عن الجهود الأخرى المكثفة والكثيرة، التي تُنادي بالقضاء على العلمنة في التعليم وفي الإعلام وفي الحياة العامة، وقد أصبحت هناك مطالبات كثيرة بإتاحة فرص أوسع للطلاب، للتعليم الديني، ولأداء الطقوس في مدارسهم وأماكن عملهم.
إنها مفارقةٌ عجيبة ففي الوقت الذي ينكفئ العالم الغربيُّ إلى دينه الفاسد المحرَّف المبدَّل المنسوخ، فإننا نجد أن من المسلمين اليوم من لا يزال يغط في سُباتٍ عميق، ويستكثر على المسلمين عودتهم إلى دينهم، ويحاول أن ينفخ الحياة من جديد في جسدٍ ميت، إنه جسد العلمانية التي هي كما قال الله تعالى عنها وعن غيرها من الباطل: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26].
إن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى أن يتلمسوا مواقع أقدامهم، ويدركوا أي حالٍ هم قادمون عليها، وأية خطةٍ تدار بشأنهم، يتنادى إليها الغرب والشرق على رغم أن المسلمين لا يملكون الكثير، ولكن أعداء الله تعالى هم كما وصف الله تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً [التوبة:10] وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] وقال تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].
خياران لا ثالث لهما يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف:20].
فأسأل الله تعالى أن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يرزق المسلمين الوعي والبصيرة في دينهم، وأن يثبت أقدامنا وأقدام المسلمين في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا الله يغفر لكم ويتُب عليكم؛ إنه هو التواب الرحيم.
إننا نقول بحقٍ وصدق.. لقد صدقوا؛ فإن الإسلام عدوهم وخصمهم، وخاصةً ذلك المسلم الواعي الذي أصبح يُدرك ما معنى أن يكون الغرب كافراً؟! نصرانياً أو يهودياً أو علمانياً.. إن المسلم الذي بدأ يعي دينه، ويقرأ قرآنه، ويتلقى عن الله تعالى العقائد والشرائع والأحكام، أصبح يقرأ في القرآن قول الله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] ويقرأ قوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] ويقرأ قوله تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف:20].
الأول: هو تقتيلهم والقضاء عليهم.
الثاني: فهو تذويبهم في المجتمعات الأخرى المدنية العلمانية".
ومع أن هذا الرئيس المفكر الكاتب المستشار رجح الحل الثاني، إلا أن لهجة الحديث تدل على أن الاحتمال الأول عنده واردٌ وقائم، بل ويمكن استخدامه في حالات كثيرة، ونحن نرى اليوم بوادر التطبيق العملي لهذا الأمر في تدخلات غربية في بلاد عدة، وفي مواجهات ساخنة مباشرة بين الإسلام والكفر، فأحداث البوسنة والهرسك -مثلاً- هي نموذج للحقد الصليبي، الذي يتنامى ويشتد يوماً بعد يوم، ويعصف بما يسمى حقوق الإنسان، وما أشبه ذلك من العبارات التي طالما خدَّرنا بها الغرب، وطالما أقام لها الجمعيات، ووضع لها الإعلانات، وتحدث عنها، ولكنه كان أوَّل من يخرق هذه الاتفاقيات، ويهدم هذه الحقوق، ويقضي على هذه الإعلانات بفعله، وإن كان يرددها بلسانه.
ومع أحداث الصومال القريبة، التي تنم كما تعبر الصحف بحروفها عن وصاية غربية أو حماية، إنها عودة لعصور الاحتلال والاستعمار والمواجهة العسكرية المباشرة بين المسلمين والكفار.
وأعتقد أن ثمة بلاداً إسلامية أخرى يمكن أن تكون تحت طائلة هذه العداوات المتكررة في شرق البلاد وغربها، إن العالم الغربي ليس لديه مانع أن يضرب عرض الحائط بكل دعاوى الحرية والإنسانية والكرامة والمساواة، متى ما شعر أن هناك قوةً إسلامية يمكن أن تظهر.
وأستار غيب الله دون العواقب |
أيها الأحبة: هل يجوز أن يكون دور المسلم هو مجرد انتظار المعركة الحاسمة التي ينتظرها النصارى، وينتظرها اليهود.
ما هو دور مثل هذه المراكز العلمية في الدعوة إلى الإسلام، وفي نشر الحق، وفي مقاومة الباطل، وفي تهيئة المجتمعات الإسلامية كلها للمواجهة التي هي آتية لا محالة، رغبنا أم كرهنا، بيننا وبين أعداء الإسلام، اليوم أو بعد سنة أو بعد خمسين سنة أو في أي زمن يعلمه الله تعالى فإن الجهاد قائم إلى قيام الساعة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيَّة}.
فالجهاد قائم إلى قيام الساعة، ولا تزال طوائف من هذه الأمة تُقاتل الكفار، فيرزقها الله تعالى منهم، وينصرها عليهم، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون على الناس.
فهذه المهمة العظيمة مهمة القدوة الحسنة لهؤلاء، ومهمة التأثير عليهم، ومهمة أن تحمل هَمَّ الدعوة إلى الله تعالى وتلقي به بين هؤلاء الشباب، وتبنيهم وتتعاهدهم وتربيهم، وتحتسب عند الله تعالى أن يخرج منهم ولو طائفة تحمل مشعل الهداية، وتحمل هَمَّ الدعوة إلى الله تعالى، وينفع الله تعالى بها الأمة، وكم يصيبك من الغبطة والسرور أن ترى بعض طلابك وقد تبوءوا مناصب كبيرة، ونفع الله تعالى بهم وأصلحوا، وتعلموا، وبرزوا، وأصبحت الأمة تردد أسماءهم وتلهج بذكرهم.
ولن نستطيع أن نفعل ذلك بمجرد الحديث والمحاضرات، وإنما من خلال تقديم النماذج الإنسانية البشرية، التي يراها الناس، فيرون العقيدة الحقة، ويرونها فيرون الخلق الفاضل، والعبادة الصالحة، والعلم، والإبداع، والدقة، والإنتاجية، والتقدم، والسبق، في ميادينها ومجالاتها.
إن هذا لشيءٌ عجاب!!
إن من الواجب على أستاذ الجامعة أن ينـزل للمجتمع ويحتك بالناس، ويختلط بكل الفئات، ويتعامل معهم جميعاً، ويأخذ منهم ويعطي، ويفيدهم ويستفيد منهم، ويعمل ليكون، لبنة قوية، وأداةً فعّالة، في كل عمل خيرٍ في المجتمع، وألا يتردد في دعم أي مشروعٍ يرى أن فيه مصلحةً للإسلام والمسلمين، هذا مع أن الدور الأكبر ولا شك لأستاذ الجامعة، داخل أروقة الجامعة حيث يستطيع أن يقوم بدور كبير في تصحيح الأوضاع، وتحسينها، وصياغة الطلاب والمناهج وغيرها، ولكن هذا لا يمكن أن يعفيه أبداً من المسئولية الكبيرة في النـزول إلى ميدان المجتمع والتأثير فيه والاحتكاك بأفراده.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا أن كل معروفٍ صدقة، ولو قلّ، فكيف بهذا المعروف الكبير الذي هو خدمة للأمة، وحماية لها! وتحصين من عدوها، وتقديم خدمات جليلة لها، وسير بالدعوة الإسلامية من الكلام النظري إلى الواقع العملي؟!
فإن الناس لا يستغنون أبداً عن الطبيب الذي يُصدقُ قول العالم، والاقتصادي الذي يصدق قول الخطيب، فحينما يقول الخطيب لنا مثلاً: إن الربا هو سببُ الكساد والفساد في الاقتصاد، وهو سبب الأزمات، وهو سبب البلايا، فإن الكثير من الناس، وإن صدقوا بذلك إلا أنه لم يبلغ عندهم مبلغ اليقين، فإذا جاءنا المختص في الاقتصاد، وقدم لنا من خلال الوثائق والأدلة والإحصائيات، أن هذا الأمر حقيقةٌ قائمة في العالم اليوم، مبنية على مُقدمات وأسباب، وهذه هي النتائج؛ فإن الكثيرين يديرون رءوسهم ويتعجبون، ويقولون: سبحان الله العظيم!!
وإذا حدثنا الواعظ عن الزنا وخطره، وأثره في انتشار الأمراض والآفات والعقوبات، فإن الكثيرين يصدقون، لكن لا يصل تصديقهم إلى درجة اليقين، فإذا جاءنا الطبيب المختص، ليثبت لنا من خلال الحقائق والأرقام، أن الأمراض الخطيرة اليوم التي تُهدد البشرية، وتجتاح مئات الملايين من البشر، كالهربز والإيدز وغيرها، هي نتيجة عقوبة إلهية للشذوذ الجنسي، أو للاتصال الجنسي المحرم أو غير ذلك، فإن الكثير من الناس يعتبرون هذا آية من آيات الله تعالى، ويقولون: سبحان الله العظيم! سبحان الله وبحمده!
فنحنُ نحتاج إلى المختص الذي يصدق قول العالم وقول الفقيه، وأنت أيها الطالب تسير في هذا السبيل، وتنحو ذلك المنحى، فالجدَّ الجدَّ! والاجتهاد الاجتهاد! في الدأب والطلب والتحصيل، وإدراك أن هذا العمل الذي تقوم به هو تهيئة للقيام بدور كبيرٍ في الدعوة إلى الله تعالى.
فمن الواجب علينا جميعاًً وعلى الطلاب خاصة، أن يكون لديهم حرصٌ على التزام مكارم الأخلاق ومعاليها، وعلى التمسك بالدين كله، وعلى أن يُقدموا أنفسهم على أنهم في الوقت الذي يدرسون فيه التخصصات العلمية، إلا أنهم أيضاً يقدمون أنفسهم كطلبة علمٍ شرعي، أو يقدمون أنفسهم كدعاة إلى الإسلام بحسب ما يعرفون، أو يقدمون أنفسهم على أنهم ينتمون إلى هذا الدين انتماءً قلبياً عميقاً، وأن هَمَّ الإسلام يقوم معهم ويقعد، ويصحو معهم إذا صحوا، أما إذا ناموا فهو يخايلهم في أحلامهم..!
إن أمر الإسلام لا يتم ولا يستوثق، إلا إذا وجدت القلوب التي تتحرق له، والعقول التي تفكر له، والأجساد التي تجهد نفسها في خدمته، وحينئذٍ لا خوف على الإسلام؛ لأنه دينُ الله، ولو كان ديناً فاسداً وجد له أتباعاً يجاهدون في سبيله لرفعوه، فكيف وهو دين الحق الذي معه الله تعالى؟!
إننا لا نشك طرفة عين في أن أهل الحق وأهل الإسلام لو جدوا واجتهدوا، لحققوا في سَنَةٍ ما حققه أعداؤهم في خمسين أو عشرين سنة.
فينبغي للإنسان أن يسلك أسلوب النصيحة، والكلمة الطيبة، والدعوة بالتي هي أحسن، وتأليف القلوب على الحق مهما أمكن، فإن المقصود هداية الناس وليس إبعادهم أو تنفيرهم عن الحق، فكلما رأيت إنساناً تعيب عليه بعض الشيء، فعليك أن تسلك معه أسلوب الدعوة والرفق والحلم والصبر، ومن لم يهتد اليوم فسوف يهتدي غداً أو بعد غد أو بعد سنة أو ما زاد عن ذلك فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14].
لماذا أنت في عجلة من أمرك؟
ولماذا تعيب فلاناً أو تنتقده لأنك نصحته فلم ينتصح؟
اصبر عليه لعل الكلمة التي فيها هدايته لم يسمعها بعد!
وهذا الحِمْل الذي تحمله عليه السلام، وسهر له بالليل، وتعب له بالنهار، وجهد من أجله قد أُلقي على عواتقنا جميعاً، فنحن ورثته، وحملة شريعته، ونحن الذين طولبنا بتبليغ الرسالة للأجيال التي بعدنا، فضلاً عن الأجيال التي نعايشها اليوم، فواجبٌ على كل جيل أن يحمل أمر الإسلام إلى من بعده، وواجبٌ علينا جميعاً أن نشارك في الدعوة إلى الإسلام، وأن نشارك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا نقبل من أنفسنا عذراً مهما كان، فكل من قال: لا أستطيع، نقول له: حاول، وكل من قال: مستحيل، نقول له: جَرِّب، وعلينا أن ندرك أن الحاجة أم الاختراع.
جاء رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حينما دعا الناس إلى الجهاد، ومعه أخوه، فقال له: هذا أنا، وهذا أخي، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] وموسى عليه الصلاة والسلام قالها من قبل قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84].
فعلينا جميعاً أن نُجند إمكانياتنا في الدعوة إلى الله، وأن نصدق الله تعالى في أن نقوم بالعمل الذي نستطيعه، فإن الحساب عسير.
يقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] نعم إن الآية لها منطوق ومفهوم:
أولاً المنطوق: فهو أن الإنسان لا يكلف مالا يستطيع.
ثانياً المفهوم: فهو أن الله تعالى قد كلَّف كُل إنسانٍ وسعه كله، وطاقته كلها، وجهده كله.
ونحن نقول لك: متى بذلت وسعك وطاقتك، فكثَّر الله خيرك! وجزاك الله خيراً! ولا تُطالب بأكثر من ذلك، لكن من مِنّا ولو كان من أقوانا، وأكثرنا دعوة، وجهاداً، وعملاً، وتضحية من هو الذي يستطيع أن يقول: إنني بذلت كل طاقتي؟!
فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يجعلني وإياكم هُداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم أنـزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنـزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنـزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا أجمعين، وهَبِ المسيئين منا للمحسنين برحمتك يا أرحم الرّاحمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر