هذه هي القاعدة الخامسة، وهي من شريف القواعد، وهي من تحقيق مذهب الأئمة، وقول المصنف: (أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه)، أما الوجه المعلوم فهو: المعنى المستقر في اللسان، وإذا ذكر مضافاً إلى الله علم اختصاصه به، وشهد العقل والإدراك أنه معنىً يليق بالله سبحانه وتعالى، ليس كالمعنى الذي يضاف إلى المخلوق؛ فالاستواء معلوم، والسمع معلوم، والبصر معلوم, فهذا ما يعلم، وهو العلم بالمعنى.
وأما قوله: (دون وجه)، فإن الوجه الذي ليس معلوماً هو ما يتعلق بكيفية الصفات، فإن كيفية الصفات مجهول، وهذا تصريح من المصنف بأنه لا يذهب مذهب التفويض الذي يقول أصحابه: إن العلم بالمعنى في سائر أوجهه لا يكون معلوماً.
أي: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتدبر الكتاب كله دون استثناء أي شيء منه، ومن المعلوم أن آيات الصفات في كتاب الله متواترة؛ وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتدبر الكتاب -أي: القرآن- كله، مما يدل على أن إمكان العلم بالمعاني في القرآن ممكن، ولو كان العلم بمعاني القرآن ليس ممكناً، أو كان العلم بمعاني آيات الصفات ليس ممكناً؛ لما شرع الله لعباده أن يتدبروا القرآن تدبراً عاماً مطلقاً لم يستثن من ذلك شيئاً من الآيات.
والتدبر: هو درجة تزيد على التصديق بأن هذا قرآن، فإن بعض الناس قد يصدق بأن هذا القرآن، كما هو معروف عند عامة المسلمين، لكن التدبر هو وجه من الفقه والفهم لكتاب الله، وبذلك يعلم غلط طريقة المفوضة؛ لأن من لازم التفويض منع التدبر؛ أما أن يقال: إن الآية لا نعين لها معنى، ولكنه يشرع تدبرها، فإن هذا من باب التناقض.
وأيضاً: فإن أمره سبحانه وتعالى بتدبر القرآن كله دليل على غلط طريقة أهل التأويل، ووجه ذلك: أن الله أمر بتدبر القرآن، وجعل هذا حكماً لعباده أجمعين, مما يدل على أن ظاهر القرآن مراد، وإلا لو كان ظاهره -كما يقول أهل التأويل- ليس مراداً؛ لما شرع التدبر؛ لأن من تدبر الكلام انقاد إدراكه وعقله إلى إدراك المعنى الظاهر، وهذا يدل على أن ظاهر النصوص مراد.
مع تقييد هذا الكلام بأن يقال: إن الظاهر الذي يحصل بالتدبر العلم به هو: المعاني اللائقة بالله سبحانه وتعالى، وليس هو التشبيه، ولذلك فإن من تدبر قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] حصل له من هذا التدبر أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى بن عمران, ومن تدبر قول الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] حصل له من هذا التدبر أن الله موصوف بالمحبة لعباده المؤمنين، وأن المؤمنين يحبون ربهم، كما أنه سبحانه وتعالى يرضى عنهم ويحبهم.
وقد يقول قائل: إن ما سماه بعض المصطلحين من أهل العلم بالحروف المعجمة -وهذا التسمية في ظني ليست حسنة، إنما يقال: أوائل السور، والمقصود بها الحروف المقطعة في أوائل السور, كقوله تعالى: الم [البقرة:1] كهيعص [مريم:1] المر [الرعد:1] ... إلخ- فقد يقول قائل: إن هذه الآيات -وهي أوائل بعض السور- ليست معينة المعنى على مثل سياق قوله تعالى مثلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ [الحجرات:12] أو قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] ... إلخ.
فيقال: هذا صحيح، لكن هذه الآيات أيضاً -وهي أوائل بعض السور- داخلة في التدبر، ومن معنى التدبر: تحصيل تدبر يكون مناسباً لها، فإن هذه الأحرف مثل: (الم) (المر) (كهيعص)، ليس لها معنى في لسان العرب كسياق: (أقيموا الصلاة) أو (آتوا الزكاة)، فيكون تدبرها تدبراً مناسباً لسياقها، وهنا نرجع إلى أن التدبر يكون مناسباً للسياق، ومن ذلك: أن هذا مما يعلم به اختصاص القرآن، ومما يعلم به إعجاز القرآن.. وغير ذلك من الأوجه التي تفسر بها.
هذه الآية من كتاب الله تعالى قد وقف عندها كثير من الواقفين في باب الصفات، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن جمهور المتكلمين جعلوا آيات الصفات من المتشابه، وقالوا: إن الله شرع في المتشابه التأويل، وهذا على الوقف عند قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] ومنهم من يجعلها من باب المتشابه، ثم يتردد في مسألة التأويل.
فالمقصود: أن جملةً كثيرةً من الطوائف -ولا سيما الطوائف الكلامية- فسروا المتشابه في هذه الآية بآيات الصفات، ولا شك أن هذا من الكلام المجمل الذي لا يجوز إطلاقه.
وقد أثر عن الأئمة في الوقف فيها أحد وجهين:
الوجه الأول: الوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7] وهذا هو الذي عليه الجمهور كما يقول المصنف.
الوجه الثاني: الوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] .
فعلى الوجه الأول يفسر التأويل بالحقيقة التي اختص الله بعلمها، وهي الكيفيات والحقائق التي لا يمكن للعقل أن يتصورها.
وعلى الوجه الثاني يكون المقصود بالتأويل: التفسير، أي: أن الفقه والتفسير والتحقيق للمعاني هو من شأن الراسخين في العلم.
قال رحمه الله: [وروي عن ابن عباس أنه قال: (التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب) .
وقد روي عن مجاهد وطائفة: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله. وقد قال مجاهد : (عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها) ].
مقصود ابن عباس بالتفسير الذي لا يعلمه إلا الله أي: الحقائق المفارقة، وهي حقائق اليوم الآخر، أو ما يتعلق بكيفيات الصفات، وغير ذلك، فهذا مما اختص الله بعلمه. وقول مجاهد: (يعلمون تأويله) أي: تفسيره.
هذا هو المصطلح الأول في مرادهم بالتأويل، وهو الذي عليه أئمة علم الكلام، وقد دخل على كثير من أهل الفقه والأصول، وإلا فأصل هذا المصطلح هم أئمة المعتزلة، فالتأويل عندهم بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وهو مبني على ما تقدمت الإشارة إليه من مسألة الحقيقة والمجاز؛ ولهذا فلك أن تقول: إنهم يقولون تارة: هو صرف اللفظ عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي؛ لدليل يقترن بذلك، ولا شك أن هذا الحد فيه قدر من التناقض من جهة العقل، ومن جهة اللغة، ومن جهة الشرع، وليس هذا المقام مقام تفصيله.
أما باب الخبر فإنه دائر بين التصديق والتكذيب، فمثلاً: قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] فالقرء هنا قد يفسر بالحيض وقد يفسر بالطهر، وهذا التفسير مختلف عن هذا، لكن ليس هذا من باب الإثبات والنفي، أي: التصديق والتكذيب، أما إذا قيل: إن هذا النص الخبري -كنص من نصوص الصفات- يحتمل الحقيقة ويحتمل المجاز، ويكون المعنى المجازي منافياً للمعنى الذي يسمى حقيقة؛ لزم أن يكون النص قد احتمل معنيين بينهما تناقض في النفي والإثبات، أي: في التصديق والتكذيب، ومن المعلوم أن من يكذب القرآن فإنه يكفر.
وإذا ما فرض عند هؤلاء أن الآيات الخبرية -وهي آيات الصفات- تحتمل معنيين متناقضين أو متنافيين؛ لزم من هذا -كضرورة عقلية- أنه قد يقع بعض المسلمين حقيقة في هذا أو في هذا، فقد يقع بعضهم في المعنى الصادق، ويقع البعض الآخر في المعنى الكاذب، ويكون هذا في باب صفات الله وكمال الله، وهذا واضح الامتناع؛ ولذلك فإن مسألة التأويل بهذا الاصطلاح مبنية على نظرية لغوية، وهذه النظرية اللغوية هي نظرية الحقيقة والمجاز.
وقد أسلفنا أن تسمية نوع من سياق العرب مجازاً والآخر حقيقة إذا ما كان من باب الاصطلاح فإنه يكون سائغاً، ولا مشاحة في الاصطلاح، وأما إذا كان ذلك من باب عوارض المعاني، فلا شك أن هذا غلط على اللغة، وغلط على الشريعة.
الأول: أن المتكلم نفسه أراد أن يلغز ويدلس ويشبه على المخاطبين، فقال جملة خبرية يفهم منها شخص إثباتاً، والآخر يفهم منها نفياً؛ لأنه قصد عدم الإفصاح بالحقيقة المثبتة، أو بالحقيقة المنفية.
الثاني: أن المتكلم بطبعه ليس فصيحاً، فيكون ركيك الكلام، ركيك التركيب، فاضطرب كلامه حتى لم يستطع السامع له أن يفهم هل أراد إثباتاً أم أراد نفياً؟
لكن لا شك أن كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المسلمين ينزه عن هذين الوجهين، أو عن هذين العارضين: فينزه عن أن يكون الله تعالى أراد أن يلبس على خلقه.. هذا لا شك أنه يستحيل على قدره سبحانه، وقدر كلامه، وقدر كلام نبيه، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله يقول: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] وغير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن الكريم هو هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ويمتنع الوجه الآخر من العارض، وهو النقص في المتكلم نفسه، فيكون ركيك الكلام، فيضطرب كلامه.. فإن هذا بين الامتناع عقلاً وشرعاً أن يضاف إلى القرآن أو إلى كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: لا يمكن أن تكون الجملة الخبرية محتملة لمعنيين متنافيين، ومعلوم أن باب الصفات -كما قال المصنف في أول الرسالة- من باب الخبر الدائر بين الإثبات والنفي، وهذا من فقه المصنف؛ أنه افتتح بهذه القاعدة ليقول: إنه يمتنع أن تكون هذه الآيات محتملة للإثبات ومحتملة للنفي؛ فإن من التناقض أن يقال: إن الآية محتملة للكمال، ومحتملة للنقص، ومحتملة للصدق، ومحتملة للكذب.
إذاً: كل جملة خبرية في ألسنة بني آدم أجمعين، ليس عند العرب فقط، فإن بعض الناس يظن أن مسألة الحقيقية والمجاز مبنية على مفهوم لسان العرب فقط، وهذا غير صحيح -وإن كان القرآن نزل بلسان العرب- وذلك لأن الله بعث الأنبياء بألسنة قومهم، ومعلوم أن الأنبياء، وأن جميع الرسالات والكتب السماوية جاءت بإثبات الصفات لله تعالى، وقد نزلت بلسان قومها -أي: بلسان قوم الأنبياء- ولذلك يقول ابن سينا -وهو ممن يمنع التأويل كما سبق، وإن كان يذهب إلى شر منه، لكنه يعارض أهل التأويل من المتكلمين فيقول-: "هب أنكم تأولتم هذا على طريقة العرب، فأين التأويل على طريقة اليهود؟ وأين التأويل على طريقة الأمم الأخرى؟" .
إذاً: كل جملة خبرية لا يمكن أن تكون محتملةً لمعنيين متنافيين، أحدهما تصديق والآخر تكذيب بالأول، أو الأول إثبات والثاني نفي، إلا أن يكون المتكلم قاصداً لتردد المخاطب في إدراك أحد الحقيقتين، وهذا ينزه عنه الباري سبحانه، والأنبياء عليه السلام، وإما أن يكون المتكلم ناقصاً ركيك الكلام، فإذا امتنع هذا وهذا، فإنه يمتنع حتى في كلام المخلوقين -ولله المثل الأعلى- أن تكون الحقيقة مضطربة هذا الاضطراب.
إذاً: مسألة المجاز تنقد من هذا الوجه: أنها تتضمن الإيمان بأن هذه الآيات تتضمن معنىً ومعنى مناقض له، تتضمن الكمال وتتضمن النقص، والنقص هو الظاهر كما يزعمون، فإنهم جعلوا ظاهر النصوص هو النقص؛ لأنهم لو جعلوا ظاهر القرآن هو الكمال؛ لكان هذا -مع أنه لا حاجة إليه- ألطف، لكن أن يقولوا: إن ظاهر القرآن ليس مراداً؛ بل المراد هو التأويل، ويسمون الأول مجازاً والثاني حقيقة، فلا شك أن هذا غطرسة وسفسطة في العقليات، وعدم تقدير للقرآن حق قدره، ومن هنا فإن القول في مسألة المجاز من هذا الوجه يكون قولاً مناسباً من جهة اللغة ومن جهة الشرع.
أما إذا كان اصطلاحاً فكما أسلفت أنه لا مشاحة في الاصطلاح، لكن هذا كله سفسطة، فحينما يقال: إن قولنا: رأيت أسداً يخطب، هذا مجاز، وقولنا: رأيت رجلاً يخطب، هذا حقيقة، لماذا قيل في الأول: إنه مجاز؟ قالوا: لأن الحقيقة إذا قلت: رأيت أسداً يخطب، أن يفهم السامع أن أسداً حيواناً دخل المسجد وصعد المنبر وجلس يخطب والناس يستمعون، هذه هي حقيقة هذا الكلام، فنحن نريد أن نبين ونستدرك فنقول: إن المتكلم العربي إذا قال هذا فهو لا يقصد المعنى الحقيقي وهو أن الحيوان المعروف دخل المسجد، إنما يقصد المعنى المجازي، وهو أن رجلاً شجاعاً دخل المسجد!!
متى وصل الذهن البشري إلى هذه الدرجة من الانحطاط حتى يقال: حتى لا يتوهم متوهم أن حيواناً دخل المسجد أو ما إلى ذلك؟! هذا كله سفسطة في تفكيك اللغة، وفي فلسفة اللغة، ولا حاجة إليه، فإنه إذا قيل: رأيت أسداً يخطب؛ فُهم أن رجلاً شجاعاً أو رجلاً هائجاً قام على المنبر فخطب.
إذاً: هذا مما يرد به على مسألة الحقيقة والمجاز، ومن ثم على مسألة التأويل الكلامي.
هذا هو المعنى الثاني للتأويل، وهو أنه بمعنى التفسير، وقول ابن جرير رحمه الله: "واختلف علماء التأويل"، أي: علماء التفسير.
هو هذا المعنى الثالث من معاني التأويل، والفرق بين الثاني والثالث من المعاني: أن الثاني المقصود به المعاني المدركة بالعقل، أما الثالث فالمقصود به الحقيقة الصورية، أو ما نسميها بالكيفيات أو الحقائق المتصورة على قدر من التكييف والماهيات المفارقة.
قال رحمه الله: [فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته، أو دليله، وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج].
وعليه: فالعلم بالتأويل على المعنى الثاني لا يتضمن العلم بالتأويل على المعنى الثالث.
قال رحمه الله: [ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن) ، تعني: قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3] وقول سفيان بن عيينة : (السنة هي تأويل الأمر والنهي) ].
فيكون من باب التحقيق والتطبيق.
قوله: (الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة)؛ لأن الفقهاء يعرفون ما يسمى بالحقيقة الشرعية، ومن المعلوم أن علماء الأصول يقولون: هذه حقيقة شرعية، وحقيقة لغوية، أو العرف الشرعي، والعرف اللغوي.. فيقول أبو عبيد -وهو من متقدمي أهل العلم العارفين بكلام العرب وفقه الحديث والرواية-: (إن الفقهاء أعلم بالتأويل -أي: التفسير- من أهل اللغة)، ووجه ذلك: أنهم -أي: أهل الفقه- يعلمون المعنى الذي قصده الشارع، بخلاف صاحب العربية الذي لم يستفصل في علم الشريعة، فربما ظن أن المقصود بهذه الكلمة من كلمات صاحب النبوة هو عين المعنى اللغوي.
- مسألة: هل جاءت الشريعة بزيادة على المعاني اللغوية أم لا؟ وهناك مسألة ذكرها النظار من المتكلمين، وبعض أهل السنة؛ كالإمام ابن تيمية ، وأبي محمد ابن حزم ، وهي مسألة: هل جاءت الشريعة بزيادة على المعاني اللغوية أم أن الأمر ليس كذلك؟ هل هذا ترادف أم أن الشارع قلب الأسماء اللغوية؟ أم أنها ثبتت على أصولها وزيد عليها؟
هذا فيه خلاف مفصل مطول ذكره أبو محمد ابن حزم في الفصل، وذكره ابن تيمية في مواضع، منها: في المجلد السابع من الفتاوى لما تكلم عن مسألة الإيمان عندما يقال: التصديق في اللغة وفي الشرع هو كذلك، أم أنه في الشرع هو كل ما شرع من الأقوال والأعمال؟ ثم ذكر الخلاف مع المرجئة في هذا الكلام.
لكن أقول هنا: إن ما يذكره ابن تيمية أو ابن حزم في: هل زادت الشريعة على اللغة، أم أنها نقلت اللغة، أم أن ثمة أوجهاً أخرى من الكلام؟ أقول: إن هذه الأوجه من البحوث والجدل والمناظرات والخلاف يقال فيها وينظر فيها، وقد يرجح فيها.. لكن من المعلوم أنه لا يمكن أن ترد الحقائق في أصول الدين إلى الانتصار لقول يقبل الخلاف ويقبل الاجتهاد والمنازعة.. وهذه طريقة في تقرير المعتقد لابد أن يكون طالب العلم على فقه فيها.
فلا ينبغي أن يبني هذا الحق الذي يجعله أصلاً من أصول الدين، كقوله: إن الإيمان في الشريعة هو كل قول وعمل شرعي -لا ينبغي أن يبني هذا على وجه من الدليل المركب على المعاني اللغوية، ويكون هذا الوجه قد حصل فيه نزاع، لكنه -أعني: هذا المتكلم به- انتصر له وصححه، فإنه حتى لو انتصر له وصححه فإن غيره يمكن أن ينازعه فيه.
إذاً: فما يعرض في كلام أهل العلم يقال: إنه نوع من الاستئناس في التقرير، أو نوع من قطع الحجج على المخالفين، أما أن الحقائق تبنى على ذلك، وعلى هذا الاختلاف، وعلى أنه إذا انتصرنا لقول الله تعالى مثلاً: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ [يوسف:17] فكأن فقه مسألة الإيمان الشرعي عند المسلمين يدور على تفسير هذه الآية، فلا. وقد نبه إلى هذا المعنى ابن تيمية ، مع أنه يشتغل بهذه المعاني، لكن اشتغاله بها هو من باب كمال الحقيقة العلمية، ومن باب الاستئناس العلمي؛ ليقطع حجج المخالفين.
أما أن مدار المسألة يتفرع عن هذا التفسير، أو عن هذا النظر المعين الذي -إن صحح- قد ينازع فيه الغير وفي تصحيحه؛ فإن هذا لا يكون، ولذلك يقول ابن تيمية في بعض أجوبته مع المرجئة: "إنه يمتنع أن يكون فقه مسألة الإيمان، الذي ما بعث الله الرسل إلا من أجله، وما بعث الله الرسل إلا للتوحيد، وأصل التوحيد هو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، إنه يمتنع أن يكون فقه هذه المسألة عند المسلمين مبنياً على آية من كتاب الله، ربما أن كثيراً من المسلمين لم يسمعها ولم يقرأها، أو أنه توفي وقد صح إسلامه وإيمانه قبل نزولها" .
فهذا باب ينبغي أن يفقه، وهو أن أصول الدين ترد إلى دلائل وإلى قواعد مستقرة منضبطة، وهي كذلك، ولا ينبغي أن ترد إلى قول يقبل النزاع، ويقبل الاختلاف والمجادلة.
وقوله: (كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم...):
أبقراط هو الطبيب المعروف، وهو من أساطين الأطباء، وسيبويه هو عالم النحو المعروف.
قوله: (لكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته)؛ لأنه يتحقق، ولذلك قال سفيان : (السنة تأويل الأمر والنهي). بخلاف الخبريات، فإنه لا يمكن المعرفة بتأويلها على المعنى الثالث الذي هو الحقائق.
إذاً: في باب الأمر والنهي تقع الحقائق، وذلك بتطبيق الأمر على وجهه الشرعي, وهذا يسمى تأويلاً له، أي: تحقيقاً له في الخارج وفي الوجود، أما في باب الخبريات فإن المصنف يقول: (بخلاف تأويل الخبر فإنه لا يمكن معرفته)؛ لأنه من الحقائق المفارقة في علم الغيب الذي اختص الله تعالى به.
هذا هو المعنى الثالث للتأويل، وأما إذا قيل: التفسير، فإن تأويل الصفات على معنى التفسير هو العلم بمعانيها، وتأويل الوعيد على المعنى الثاني هو العلم بمعناه، أما على المعنى الثالث فهو الحقائق المفارقة، وقد اختص الله تعالى بعلم كيفية صفاته، أو كيفية وماهية وعيده.
قوله: (وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً):
وهذا هو: الاشتراك اللفظي بين ما في الدنيا وما في الآخرة من هذه الأسماء. وقوله: (ومعنى) أي: المعنى الكلي الذهني، وهذا قد سبق في ذكر المثلين.
قال رحمه الله: [فأسماء الله تعالى وصفاته أولى -وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- ألا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته].
وقد سبق الإشارة إلى هذه القاعدة كثيراً.
إذا قيل: لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأسماء في حق خلقه، وهي مذكورة في حق ذاته سبحانه وتعالى؟ قيل: لأنه لا يعلم الإخبار عن الغائب إلا إذا عبر بأسماء معلومة في الشاهد، فيكون الاشتراك حصل في الاسم، وفي المعنى الكلي الذهني، وأما من حيث الإضافة والتخصيص فإن هذا المعنى يكون تابعاً لمن أضيف له.
وقوله: (وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد)؛ لأن هذا أضيف إلى الشاهد الممكن البسيط، وذاك أضيف إلى قدر من الغيب المعظم، سواء في ملكوت السماوات، أو في ملكوت الأرض، أو في ملكوت الله سبحانه وتعالى فيما شاء من خلقه؛ فضلاً عما يكون مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كانت حقيقة ما ذكر من النعيم أو من العذاب في الآخرة أعظم من حقيقة النعيم أو العذاب في الدنيا؛ فمن باب أولى أن يكون ما ذكر من صفات الله سبحانه وتعالى ليس كصفات خلقه.
قال رحمه الله: [وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر].
وهذا يقع في الجنة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فإذا كان في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فمن باب أولى أن يكون ما اختص الله سبحانه وتعالى به من صفات الكمال لم تره العين، ولم تسمع هذه الكيفيات الأذن، ولا يمكن أن تخطر هذه الكيفية على قلب بشر، فإذا كانت كيفيات ما في الآخرة -مع العلم بمعانيها- لم تسمعها الأذن، ولم ترها العين، ولم تخطر على قلب بشر، فمن باب أولى ما يتعلق بكيفيات صفات الباري سبحانه وتعالى.
وهذا على المعنى الثالث للتأويل، فكما أننا نعلم المعاني المقولة في وعيد الله ووعده، ومع ذلك لا نعلم الكيفية التي تقع، فإن القول في باب الصفات من باب أولى أن يقال: إن معانيها معلومة، وهي صفات كمال لائقة بالله، وأما كيفياتها فإنها مجهولة وليست معلومة، والعلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية، فإنا نعلم ما في وعد الله ووعيده من المعنى، ولا نعلم الكيفية، فهذا في حق المخلوقات، فهو في حق الخالق وصفاته من باب أولى.
قال رحمه الله: [ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان. فبين أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة].
وهذا القول -أي: قول مالك - مروي عن غير واحد من السلف، وهو يصح أن يقال في سائر مسائل الصفات، وقوله: (الاستواء معلوم) أي: معلوم المعنى، فإن معنى (استوى) في كلام العرب معلوم، والاستواء معلوم في القرآن، وإذا قيل: إنه معلوم في القرآن، فإن معنى ذلك أنه معلوم في كلام العرب؛ لأن هناك تلازماً، فإن القرآن نزل بلسان العرب، ولا يمكن أن يخبر الله عز وجل عن نفسه في القرآن بشيء إلا ويكون معلوماً؛ لأن الله أمر بتدبر القرآن.
وقوله: (والكيف مجهول) أي: أن العلم به علم ممتنع؛ لأنه لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى علماً.
وقوله: (والإيمان به واجب) أي: بالاستواء ومعناه، وقوله: (والسؤال عنه بدعة) أي: عن كيفية الاستواء؛ لأنه يدخل في قول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] فلا ينبغي لأحد أن يسأل عما ليس له به علم.
قال المصنف رحمه الله: [ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، ولا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) ، وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم . وقد أخبر به أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره].
الحديث الثاني، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) قد تكلم بعضهم في إسناده، وبعضهم قواه وصححه، وهو دليل على أن أسماء الله سبحانه وتعالى ليست مقصورةً على تسعة وتسعين اسماً.
وإذا كان الله عز وجل قد استأثر بشيء من أسمائه سبحانه وتعالى، فمن باب أولى ما يتعلق بالكيفيات في صفاته سبحانه وتعالى.
قوله: (متواطئة من حيث الذات) أي: أنها تدل على ذات واحدة وعلى مسمى واحد، وأما أنها متباينة من جهة الصفات فمعنى ذلك: أن كل صفة تدل على معنى، وهذا فيه إبطال لطريقة غلاة المتكلمين الذين جعلوا كل صفة هي عين الصفة الأخرى.
قال المصنف رحمه الله: [وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب].
الماحي: الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر: قيل: الذي يحشر الناس على قدميه، أي: يكونون تبعاً له، والعاقب: الذي ليس بعده نبي.
قال رحمه الله: [وكذلك أسماء القرآن مثل: القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك، فمثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها: هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات؛ كما إذا قيل: السيف، والصارم، والمهند؛ وقصد بالصارم معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟ والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات].
ولا ينبغي هذا الإطلاق ولا هذا الإطلاق؛ لأنها من وجه متباينة ومن وجه متواطئة ومترادفة.
ومن المعلوم أن أساسيات المفاهيم هي قوانين مشتركة فطرية أساسية إدراكية، أو تلقائية الإدراك عند سائر بني آدم، وهذا هو معنى أن الإنسان عاقل، أي: أنه يدرك الأشياء، فإذا قيل: من أسماء النبي: محمد، وأحمد، والحاشر، والعاقب؛ فليس هناك حاجة إلى أن ندخل نظام الاصطلاح على هذا الكلام ومن ثم نقول: هل هذا متواطئ أم مترادف؟ لأن سائر من يسمع هذا عن مسمى؛ كالنبي عليه الصلاة والسلام، أو عن غيره، كما لو قيل عن رجل بأنه يسمى بخمسة أسماء مثلاً -لم يفهم أن هذا الرجل سيكون خمسة رجال، كما أنه لا أحد من الناس يفهم أن هذه الصفة بمعنى الصفة الأخرى؛ إلا إذا لم يكن عليماً باللسان الذي سمع به الخطاب.
فهذه الحقائق في أصلها حقائق مدركة، فحينما يقال: إن من أسماء الله العزيز، والحكيم، والسميع، والبصير؛ فإن سائر العقلاء يدركون أن المسمى واحد، وأن هذه الصفات صفات متنوعة ومختلفة.
ذكر المصنف رحمه الله هنا مسألة أخرى، كتفريع عن مسألة التباين والترادف، وأنه قد يكون من باب اختلاف التنوع، فذكر أن الله عز وجل قد وصف القرآن الكريم بأنه محكم، ووصفه بأنه متشابه، وقال عنه: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] فوصف القرآن تارةً بالإحكام العام، وتارة بالتشابه العام، وتارة بأن منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فيقول المصنف: إن هذا الإحكام العام لا ينافي الإحكام الخاص، كما أن الإحكام العام لا ينافي التشابه الخاص ولا العام، ويجعل لهذا معنىً مناسباً، ولهذا معنىً مناسباً، كما سيأتي في عرض كلامه.
فالإحكام العام بمعنى الإتقان، أي: أن ما فيه من الخبر فهو صادق، وما فيه من الشرع والأمر فهو رشد وعدل ونفع للناس، وما إلى ذلك، فإذا قيل: إن القرآن محكم, أي: محكم من جهة صدق خبره، ومن جهة صدق أمره ورشده.
قال المصنف رحمه الله: [والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1] فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76] وجعله مفتياً في قوله: قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:127] أي: ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هادياً ومبشراً في قوله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الإسراء:9] ].
وهذا كله معنى الإحكام العام الذي هو: الإتقان، والضبط، والصحة، والصدق، ونحو ذلك من الكلمات.
وهذا بين، فالتشابه العام: هو ضد الاختلاف المنفي عنه، فقولنا: إن القرآن كله متشابه، أي: أنه لا اختلاف فيه، والله تعالى يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] أي: تعارضاً وتضاداً وما إلى ذلك، ولك أن تقول: إذا قيل: إن القرآن متشابه، فهو بمعنى قولك: إن القرآن محكم. فالتشابه العام هو بمعنى الإحكام العام، والتشابه العام بمعنى أنه ليس مختلفاً، وهو الذي نفي في قوله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] أي: تضاداً، أو عدم صدق، أو تناقضاً وعدم رشد في الأمر، أو ما إلى ذلك.
قال رحمه الله: [فالتشابه هنا: هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر؛ بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر؛ بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ].
فإن قيل: إذا كان معنى التشابه العام بمعنى الإحكام العام، فلماذا يوصف القرآن بهذا وهذا؟
قيل: وإن كان المعنى في الجملة واحداً، إلا أن كلمة (الإحكام) تفيد الاختصاص بوجه من تحقيق كمال هذا القرآن، كما أن كلمة (التشابه) تفيد بوجه آخر من الاختصاص، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه إذا سمي بمحمد، أو سمي بالحاشر، أو سمي بنبي الرحمة؛ فإن هذا الاسم يدل على معنى لا يكون الثاني منافياً له، بل يكون مشاركاً له، لكن يكون أحد الأسماء أدل على وجه من الاختصاص، كما لو قيل في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] الصراط المستقيم هو القرآن, وقال آخر: الصراط المستقيم هو الإسلام، وقال آخر: الصراط المستقيم هو الاستقامة على تقوى الله، وقال آخر: الصراط المستقيم هو اتباع سنة النبي, فكل هذه التفسيرات صحيحة، لكن الذكر لواحد منها -وإن دل على المعنى الآخر بالجملة- إلا أنه يعطي اختصاصاً لوجه من الإحكام.
قال المصنف رحمه الله: [وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك؛ بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته؛ بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارةً وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، أو يفرق بين المتماثلين، فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة].
الاختلاف الذي نفي في القرآن في قوله تعالى: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] أي: لوجدوا فيه تضاداً كثيراً، وعدم اطراد في الحكم والتشريع، أو في باب الخبر، لكن لما كان القرآن من عند الله؛ تحقق لزوماً أن يكون مطرداً في خبره، ومطرداً في تشريعه.
قوله: (فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام)، ولك أن تقول: بل هو بمعناه الكلي، وإن كان التشابه يختص بوجه من التحقيق، كما أن الإحكام يختص بوجه من التحقيق، والقرآن وصف بهذا وهذا، ولهذا فقد استعمل هذا وهذا في كلام الله سبحانه وتعالى.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه].
يبين المصنف رحمه الله أنه قد يرد على بعض الأذهان بعض المقامات التي لا تكون صحيحة من جهة العقل أو من جهة الشرع، وذلك أن الإحكام صفة مدح، والتشابه الذي ذكر في القرآن ليس منافياً لكمال القرآن، وهذا يعتبر من الضرورات العقلية الشرعية، فإنه إذا وصف به كتاب الله أو بعض آياته فيمتنع أن يكون -سواء كان تشابهاً عاماً أو تشابهاً خاصاً- مادةً من النقص؛ لأن القرآن منزه عن هذا، فلما وصف القرآن بأن منه آيات محكمات ومنه ما هو متشابه؛ علم أن هذا وهذا من الكمال.
وعليه: فالتشابه الخاص -كما أشار المصنف، وهذه قاعدة عقلية في كل الأشياء المختصة، بخلاف الأشياء العامة المطردة- هو تشابه نسبي، وكل ما كان خاصاً فإنه يكون نسبياً، وهذا من معنى خصوصه، فإن التشابه هنا إذا ما فسر بقدر من الحقائق المفارقة التي اختص الله بعلمها؛ كان هذا أيضاً من التشابه الخاص، وإن كان عاماً في الخلق، إلا أنه لا يستلزم الجهل بالمعاني، ولهذا فإن تشابهت حقائقها، بمعنى: أن الله اختص بعلمها، فإن معانيها تكون معلومةً.
وقد يكون التشابه راجعاً إلى حال الناظرين في آيات القرآن، ولا يلزم أن تكون الآية في نفس الأمر كذلك، ومن هنا قال بعض العلماء -كالمصنف-: إن من وقف من السلف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7] كان وقفه صحيحاً، ومن وقف منهم على قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] كان وقفه صحيحاً، ولكن هذا يفسر بمقام وهذا يفسر بمقام آخر.
إذاً: التشابه الخاص: هو قدر من الأمر النسبي، وهذا من معنى خصوصه، وقد يعرض لبعض الناظرين في آيات القرآن، وقد يفسر هذا التشابه بوجه من الحقائق الغيبية المفارقة.
وعليه: فإذا قيل: هل يوجد في القرآن آية متشابهة على هذا المعنى الخاص من التشابه باطراد، أي: أنها متشابهة في معناها وحقيقتها عند سائر المخاطبين بها؟
فالجواب: لا؛ لأنه لو اقتضى التشابه الخاص حكماً عاماً مطرداً؛ لكان هذا نقصاً، ولهذا فلا يوجد في القرآن آية متشابهة من كل وجه تشابهاً مطرداً عند سائر المخاطبين بالقرآن؛ لأنه إما أن يكون التشابه على معنى الحقائق المفارقة التي هي من غيب الله، وهذا ليس تشابهاً من كل وجه؛ بل هو تشابه في الماهية والكيفية، أي: أنها كيفية مجهولة، لكن المعنى الذي وردت الآية به -سواء كان في صفات الله، أو في مسائل المعاد ونحوها- يكون معلوماً.
فإذا اطرد التشابه من جهة المعنى امتنع أن يكون عاماً؛ بل يكون في وجه من مدلول السياق دون الوجه الآخر؛ لأنه لو كان مدلول السياق في سائر موارده مشتبهاً، أي: ليس بيناً وليس محكماً مفصلاً؛ لكان هذا النوع من سياق القرآن مما يقرأ ولا يفهم، وهذا مما ينفى عن القرآن.
وأما إذا قيل: إن بعض الآيات قد يكون شأنها كذلك، أي: أن بعض القارئين لها، أو الناظرين فيها، أو السامعين لها لا يفهمون معناها؛ فإن هذا موجود، لكنه لا يمكن أن يكون حالاً عامة لسائر المخاطبين والسامعين للقرآن؛ بل هو حال عارضة لبعضهم، وهذا العروض ليس سببه السياق, وإنما سببه حال السامع.
وعليه: فالتشابه الخاص هو نوع من عدم العلم التام المطرد، أي: أن الناظر قد يعرض له قدر من الوقف، فإذا كان الوقف في المعنى من كل وجه؛ امتنع هذا أن يكون حكماً مطرداً، وامتنع أن يكون سياقاً من القرآن كذلك، وإن عرض لبعض الناظرين فهذا من جهتهم.
وأما إذا كان من وجه خاص كالحقائق المفارقة، فإن هذا يكون حكماً عاماً للمخاطبين، ولكن السياق يكون سياقاً محكماً من وجه آخر، ولذلك فلو قال قائل مثلاً: إن الآيات التي ذكرت ما يتعلق باليوم الآخر محكمة بمعنى، وفسر الإحكام هنا بمعنى أنها معلومة المعاني، وقال آخر: إن هذا من المتشابه في القرآن، وقصد ما يتعلق بالحقائق في نفس الأمر، فيقال: إن كلام المعنيين صحيح.
وإن كان قد ينازع في تسمية هذه الآيات بالمتشابه؛ فإنه وإن أخبر الله تعالى أن من كتابه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، إلا أن إطلاق التسمية بالتشابه الخاص على جملة من آيات القرآن غلط بين.. نعم، من القرآن ما هو متشابه، ولكن فرق بين الإطلاق، وبين أن يضاف التشابه الخاص إلى سياق خاص على وجه من التفسير المناسب.
وعليه: فمن قال: إن ما يتعلق بكيفية الصفات هو من المتشابه الذي اختص الله بعلمه والذي قال الله فيه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7] كان كلامه هذا كلاماً صحيحاً، بخلاف من قال: إن آيات الصفات هي المتشابهات وغيرها هي المحكمات، فإن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً مناسباً ولا إطلاقاً سائغاً، وقد أطلقه جمهور المتكلمين، وكثير من الفقهاء، وأهل التفسير، ونسبوه إلى طائفة من المتقدمين، وهذا الإطلاق ليس حكمياً ولا مناسباً؛ فإن آيات الصفات وإن كانت متشابهة من جهة الحقائق، فإنها من جهة المعاني محكمة مفصلة.
هذا استطراد من المصنف لتقرير وجه من أوجه الفهم والإدراك للحقائق، فإن كثيراً من موارد الاختلاف؛ بل عامة موارد الاختلاف بين المختلفين، تجد أن موجب هذا الاختلاف في الجملة يقع فيه قدر من الإجمال، أو قدر من الاشتراك، فأكثر أسباب الخلاف بين بني آدم هو أنهم يختلفون لأن ثمة وجهاً من أوجه الاشتراك، أو وجهاً من أوجه التشابه، وما إلى ذلك، ولذلك قالت الفلاسفة: "أكثر ما يخطئ العقلاء من جهة المشترك"، ويقول الإمام أحمد : "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"، فإن القياس يتنوع على غير وجه، وكذلك التأويل هو قدر من الاشتباه في مورد الدليل أو في مورد الخطاب.
وعليه: فإنه لا بد من تحقيق المناطات إذا ما تكلم في حقائق معينة من الحقائق العلمية؛ سواء كان هذا في باب أصول الدين، أو في باب الفروع، أو في غيرها من مسائل العلم؛ لأن كثيراً من الاختلاف ربما كان من باب التنازع دون تحرير لمحل النزاع، فلابد أن يكون هناك تحقيق وتنقيح للمناط، وهو ما قد يجمل بكلمة التحرير والتعيين لمحل النزاع ومورده.
وهذا مما يلخص كثيراً من أوجه النظر في الاختلاف، بخلاف من ينظر إلى أسفل المسألة المعينة، ويتكلم فيما احتف بها من القرائن، دون أن ينظر في أصل هذه المسألة، أو وجه ورودها في الشريعة، أو وجه ورود الدليل بها، أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا في الغالب يقع عنده شيء من الاضطراب وعدم التحقيق.
قوله: (والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة):
أي: عند المتكلم بها، فإن التشابه لم يدخل عليها من جهة النصوص، وإنما لأنه بنى أو صدق بأصل استوجب هذا التصديق عنده أن يجعل هذه النصوص من المتشابهة، فإذا قيل مثلاً: لم حكم أئمة المعتزلة أو بعض متكلمة الصفاتية بأن آيات الصفات هي المتشابه في القرآن؟ قيل: هذا لم يحكموا به ابتداءً، وإنما عندما استعملوا الدليل العقلي -الدليل الكلامي- الذي قالوا: إنه معارض للنقل, فلما صدقوا بهذه المقدمة الكلامية؛ لزم من ذلك أن يجعلوا آيات الصفات من المتشابه، وأن يطلقوا هذا القول.
وذلك أن ثبوت الحقائق يعرف بصدق دليلها، وليس بدفع الشبهة المعينة عنها، وهذه قاعدة في التحصيل، وهي التي جاء ذكرها في القرآن وفي هدي الصحابة رضي الله عنهم: أن الحقائق تصدق باعتبار دليل الحق الموجب لتصديقها، وليس بالضرورة أن التصديق بالحقائق يكون طريقه مستلزماً دفع التسلسل من الشبهات.
ولذلك فإن أهل العلم والبصراء يعرفون الحق بدليله، ويدفعون الشبه التي تعرض له، لكن العامة من المسلمين قد استقر عندهم كثير من الحق، أو استقر عندهم الحق في الجملة، مع أنه قد لا تقوى عقولهم على الجواب عن كل ما يعارض به المعارض من الشبهات، فلو أُورد عليهم إيراد -مثلاً- في بعض المسائل، فإن عدم العلم بالجواب عن هذه الشبهة المعينة لا يحصل علماً أن هذا الحق الذي كان عليه تبين أنه ليس كذلك؛ بل يقال: إن الأصل أن الحق يعرف بدليله، وهذا هو الذي يناسب العامة ويناسب الخاصة، وإن كان الخاصة -أي: أهل العلم- لابد لهم مع هذا من دفع الشبهات.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الدعوة وما إلى ذلك جعلها في نفر من أهل الإيمان فقال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ [التوبة:122] فما يتعلق بمسألة التصحيح هذا لا تستطيعه العامة؛ وعليه: فالعامة يعرفون الحق بدليله، وليس بفساد الشبه العارضة عليه، إلا إذا كان هناك شبهة شاعت بين العامة، فهنا يكون من الحكمة الشرعية أن يحدث العامة بدفعها، كما اعترض بعض الكفار على إحياء الأموات، فجاء جوابه في القرآن في قول الله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] .
إذاً: المنهج الشرعي أن العامة لا يحدثون بالشبهات ثم يقصد إلى الجواب عنها إلا إذا علم أن هذه الشبهة قد شاعت بينهم، وهذا يختلف باختلاف البيئات، واختلاف الأزمنة والأمكنة، وإلا فإن الأصل: أن العامة يحدثون بدلائل الحق الشرعية والعقلية القاضية بصدق الحق، وأما أنه يتسلسل معهم في مسائل الشبه ودفعها، فهذا ليس من الحكمة، وعقولهم لا تقوى على الاستتباع، وربما كان المقرر بمسألة الشبهة ودفعها ضعيفاً في دفعها قوياً في تقريرها.. وما إلى ذلك، وهذا مما ينبغي أن يلاحظ في مسائل تعليم العقيدة.
وقد سبق أن أشير إلى أن ثمة فرقاً بين تقرير العقيدة وبين الرد على المخالفين، ولا ينبغي أن يخلط هذا المقام بهذا المقام، فإن مقام تقرير العقيدة له وجه: وهو تعليم الحق بدليله، ودفع الشبه الشائعة، أما الاستفصال في مقام الرد فإن هذا يكون وجهاً آخر من أوجه التعليم، وهو ليس من شأن العامة.
يشير المصنف إلى طريقة أهل وحدة الوجود من غلاة المتفلسفة المتصوفة، ومما ينبغي أن ينبه إليه هنا: أن من قال بهذا المذهب -وهو ما يسمى بمذهب وحدة الوجود- هم قوم من الباطنية المتفلسفة، الذين نسجوا على طريقة الصوفية، وأما أن قوماً من العباد والسالكين والصالحين الذين ينظرون في كلام الله ورسوله، وينظرون في مقامات الورع ومقامات الديانة والنسك، تحصلت عندهم هذه النتائج، فهذا ليس كذلك؛ لأن هذا المقام لم يصل إليه إلا قوم استعملوا المقدمات الفلسفية، ولهذا فإن كل من تكلم بهذا من أئمة هؤلاء يكون معروفاً بمقام من العلم بالفلسفة.
لكن إنما يشتبه ذلك على بعض الناس لأنه إذا ذكرت الفلسفة تبادر إلى عقله أن الفلسفة هي العلم بالعقليات، أو أنها نظر في العقليات، وهذا ليس كذلك؛ فإن الفلسفة وجهان: إما أن تكون فلسفةً عقلية، وهذه هي التي نظر فيها من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين؛ كـابن رشد وأمثاله، وإما أن تكون فلسفةً نفسية.
وقد درج نظار بني آدم الذين لم يتلقوا الرسالات السماوية ويصدقوا بها -وهم من يسمون بالفلاسفة وأتباع الفلاسفة- درجوا على أن العلم بالحقائق يكون بأحد طريقين: إما بالطريق العقلي، وإما بالطريق النفسي.
ولما جاء الإسلاميون -أي: من انتسب إلى القبلة وصحح الفلسفة، كـابن سينا وابن رشد وأمثال هؤلاء- فمنهم من استعمل الطريق العقلي لتحصيل الحقائق -أي: الفلسفة العقلية- ومنهم من استعمل الفلسفة العرفانية الإشراقية الغنوصية؛ كحال العفيف التلمساني وأمثاله، ومنهم من جمع بين الفلسفتين، فاستعمل هذا تارة وهذا تارة، وهذا على مقام وهذا على مقام، كـابن سينا ونحوه.
وهذا هو غاية التعطيل؛ لأنهم إذا قالوا: إنه من باب المشترك اللفظي؛ لزم أن يكون معنى الوجود المضاف إلى الله غير معلوم؛ وهذا من تعطيل وجوده سبحانه وتعالى. وهذا اللازم لا أحد يلتزم به، لكنهم يريدون أن يفروا من الإشكال دون أن يتبينوا أن ما فروا إليه هو شر مما فروا منه، وإلا فلا شك أن القول بالمشترك اللفظي شؤمه وإشكاله أكثر من القول بالتواطؤ، مع أن القول بالتواطؤ إذا ما حقق لم يلزم منه إشكال، وقولنا: (إذا ما حقق) أي: إذا ما فرق بين الاسم والمسمى من جهة، وفرق بين المسمى الذهني العام والمسمى العيني الخاص، فإذا ما حقق التواطؤ لم يوجب إشكالاً.
قال المصنف رحمه الله: [وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود؛ لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة، مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه].
وهذا قد عرض لقوم من الفلاسفة الأولى؛ كالمثل الأفلاطونية التي كان أفلاطون صاحب الأكاديمية يستعملها، وكذلك جاء ما هو أكثر تقييداً من هذا المذهب الذي عليه أفلاطون عند أرسطو طاليس ، فإن ثمة فرقاً بين مذهب أفلاطون وبين مذهب أرسطو ، كما هو معروف في كلامهم.
فيقول المصنف: إن مسألة الوجود -مع أنها من أوائل وأبسط المسائل العقلية- لما بالغ هؤلاء في اصطلاحها وتقسيمها وفلسفتها وتشقيقها؛ خرجوا بها عما يعلم بضرورة العقل فضلاً عن ضرورة الشرع، حتى زعم يعضهم أن الوجود واحد، وحتى زعم بعضهم أن ثمة حقائق مفارقة كلية، مع أنه لا يوجد في الخارج إلا المعينات، فقالوا -كـأفلاطون وأمثاله-: لما كان هناك الوجود الكلي الذهني؛ لزم أن يكون هذا الوجود الكلي الذهني موجوداً في الخارج، فقال أفلاطون بالمثل المفارقة الكلية، وهي المثل الأفلاطونية، أي: الحقائق الكلية الذهنية، وقال: إنها موجودة في الخارج، وأن وجودها غير وجود المعينات، وربما سلسل بعضهم هذه الفلسفة، وأن وجود المعينات يرجع إلى وجود هذه الكليات.. إلى غير ذلك، فهذا كله من باب الاشتباه.
وعليه: فلا يلزم أن كل سياق يحتاج إلى تفسير، وأن كل حقيقة تحتاج إلى تقسيم.
وهذا التشقيق والتقرير في الغالب هو نوع تميل إليه كثير من النفوس، ولا سيما النفوس التي تكون متربصة بمسائل العلم -إن صح التعبير- أي: داخلة في مسائل العلم دون أن تكون محصلة لفقهه على الوجه الصحيح، فتجد أنهم يعنون بهذه التقسيمات، وهذه التشقيقات والاصطلاحات والتفريعات، وفي الغالب أن مثل هذه الطرق التي كثرت في كلام بعض المتأخرين لا تحصل فقهاً كثيراً. فتجد بعضهم مثلاً يقول: إن هذا الشيء ينقسم إلى ثلاثة أوجه، ثم يذكرها، ويظن أن الإحاطة بمثل هذه الأوجه الثلاثة في مسألة معينة هو من التحقيق العلمي، مع أن هذا الأمر الذي يدور حوله، وربما علمه وتعلمه، وكرره، وعده من نفائس العلم وما إلى ذلك، يعد في الأصل من البدهيات، ولو نظرنا من هو الذي تكلم بهذا التقسيم من العلماء المتقدمين لوجدنا أن فلاناً من أهل العلم ربما ذكره على نوع من الذكر العادي، ولم يقصد به الإبراز والإثارة المطلقة لهذا الكلام.
فلابد من العناية بالفقه على الطريقة التي جاء ذكرها في القرآن في تقرير الشريعة، في أصولها أو فروعها، أو جاء في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقة مخاطبته لأصحابه، وفي طريقة تعليمه، وفي طريقة قضائه، وفي طريقة أمره ونهيه، هذه الطريقة العلمية القرآنية النبوية التي درج عليها الصحابة هي الطريقة الفاضلة.
وعندما تأخر عصر الأمة، وضعف اللسان، ودخلت الرواية بعض التردد عند بعض الرواة لها، وما إلى ذلك؛ طرأت هذه الإشكالات بلا شك، لكن لا ينبغي أن يبالغ في ترسيم هذه الإشكالات أكثر من اللازم، فإن اللسان العربي لم يفسد، والناس لا يزالون عرباً، لكن ذهبت فصاحتهم، ولذلك فإن العربي الذي ولد عربياً ونشأ عربياً، إذا قرأ القرآن فإنه يفهم جمهور ما في خطاب القرآن، فيفهم معنى (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ويفهم معنى أن الله يأمر بالعدل، ويفهم قصة موسى من أولها إلى آخرها، ويفهم معنى وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:143] ويفهم (وكلمه ربه)، فلا يزال اللسان العربي قائماً. لكن هناك بعض الحقائق العلمية الخاصة التي تحتاج إلى إنسان فصيح.
فلا ينبغي أن يبالغ في تكريس علوم الآلة تكريساً استطرادياً مطولاً لا يحصل في النتيجة فقهاً عادلاً، ولذلك فإن كل من استطاع أن يختصر المسافة بين فهم المخاطبين وبين النص بطريقة علمية عادلة وصادقة، بحيث يكون فهمهم للنص أكثر بياناً وأكثر وضوحاً، فهذا نوع من الفقه ونوع من التجديد الشرعي، بخلاف من يضع سلسلة متسلسلة معقدة للوصول إلى الحقيقة التي نطق بها النص، مع أن الإشكال والتعقيد إنما هو في الفهم وليس في النص نفسه، وهو أيضاً في إدراك هذه السلسلة المطولة.
ولعل من الأمثلة على ذلك: حال المتكلمين، فإنهم إذا أرادوا أن يقرروا دليل الربوبية -أن الرب واحد- قالوا: وهو المذكور في قول الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91] الآية، ثم يقولون: وهذا دليل التمانع، ويذكرون معناه، وأنه مبني على مقدمتين: ... ثم يأتون بسلسلة عقلية في تقرير دليل التمانع، وفي الأخير يقولون: دليل التمانع هو المذكور في قول الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون:91] .
ومن المعلوم أن فهم العامة لدليل التمانع على الصورة الكلامية يكون فهماً صعباً، وليس هذا فحسب؛ بل يقولون بعد ذلك: ولكن هذا الدليل عليه سؤالات، فإنه مبني على تعارض الإرادتين، فلو فرض جدلاً أن ثمة اتفاقاً في الإرادتين... ثم يقولون: وهذا يجاب عنه بكذا...إلخ، فتجد أنهم -إن صح التعبير بالعبارة الدارجة- قد عقدوا القضية، مع أنه من يقرأ من المسلمين -وإن لم يكن عربياً، ويترجم له المعنى- قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91] يفهم أن هذا تقرير بين واضح لمسألة الربوبية، دون أن يحتاج إلى ذلك التعقيد؛ ولذلك حينما سمع جبير بن مطعم قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الطور:35-36] -كما في البخاري - تحركت نفسه إلى التصديق عندما سمع هذا الكلام.
فالمقصود: أن تقريب الفهم إلى النصوص منهج حسن، بشرط أن يكون على وجه من العدل، لا أن تسقط العلوم التي اشتغل بها العلماء، فإن بعض الناس يريد أن يفهم النصوص والحقائق دون أن يرجع للقواعد وأصول الفقه وما إلى ذلك، فإن هذا ليس منهجاً عدلاً، وليس هو المقصود، لكن المقصود أيضاً ألا يبالغ في هذه القضايا.
وهذا كله محكم، ولا ينبغي أن يكون إشكالاً؛ لأن الإشكال ينشأ عن فرض غلط، كما إذا قيل: إن لفظ (إنا) هي للجمع، فكيف عبر بها في حق المفرد؟ مع أنه لا أحد يفهم من هذا السياق أن ثمة تعدداً في الذات، ولذلك فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يستشكلوا شيئاً من هذه الإشكالات، ولم يفرضوا على أنفسهم ما لم يقتضه المقام. وقد يقول قائل: إنه لفصاحة لسانهم. وأقول: إنه لفصاحة لسانهم ولسلامة نفوسهم، واستعدادهم العقلي والذهني، وصفاء مداركهم وفطرهم التي فطرهم الله عليها.
فمثلاً: حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) ، هل استشكل صحابي واحد هذا الكلام وقال: يا رسول الله! كيف تقول: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؟! وحينما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل جلسوا فيما بينهم واستشكلوا هذا الكلام؟ لا، لم يستشكلوا شيئاً منه؛ بل فهموه فهماً تلقائياً.
ولو رجعنا إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبحثنا فيها؛ لم نجد ولا مرةً واحدة أن الصحابة استشكلوا إشكالاً عاماً أي: مطرداً بين جميع الصحابة؛ بل في الغالب أنه لا أحد منهم ينطق بشيء.
نعم. هناك أحاديث استشكل بعضهم فيها فسأل عن تفصيل بعض ما ورد فيها، منها: حديث: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو من النار، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله! ففيم العمل؟ ...إلخ) .
لكن هل الذين قالوا ذلك هم كل الصحابة؟ هل قال ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي ؟ لا. ولا شك أن الذي يقول هذا ليس بدرجة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي .
إذاً: ليس السبب فقط هو فصاحة اللسان عندهم.. هذا شيء له أثره، لكن هناك تخلص من كثير من هذه الافتراضات والإشكالات التي تفرض على النص.
قوله: (بخلاف الملك من البشر...) إلخ، وهذا بخلاف الباري سبحانه وتعالى، فإنه لا يحاط به علماً؛ ولهذا كانت حكمته سبحانه وتعالى في أفعاله وفي شرعه وأمره لعباده ونحو ذلك غير معلومة على الإحاطة، والعباد قد يعلمون ما هو من مقام هذه الحكمة العالية، لكنهم لا يمكن أن يقع لهم إحاطة بهذه الحكمة وتفصيلها.
التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة بمعنى: أنها تكون متشابهةً من وجه محكمةً من وجه، فإذا قيل: إن الأسماء المذكورة في صفات الله قد جاء ذكرها في صفات المخلوقين كالرضا والمحبة ونحوها، قيل: هي متواطئة من وجه، وهو إذا ما قصد بذلك المعنى الذهني الكلي، ومتشابهة من وجه آخر، وهو إذا ما تكلم بالكيفية التي اختص الله بها في صفاته وأفعاله.
وقول المصنف: (وبهذا يتبين أن التشابه...) إلخ، يبين أن التشابه يقع في المقامين: في الألفاظ المتواطئة، والألفاظ المشتركة، وإنما كان كذلك لأنه التشابه الخاص، ومعلوم أن التشابه الخاص -كما سبق- أمر نسبي إضافي.
قال رحمه الله: [وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو].
وهي الكيفيات، أي: كيفيات الأسماء والصفات.
ولذلك ذكر المصنف -أعني شيخ الإسلام - في مواضع أن الإمام أحمد لم يذم التأويل مطلقاً، وإنما ذم تأويل القرآن على غير تأويله؛ لأن المتقدمين ينطقون بالتأويل على معنى التفسير.
ومن أهل العلم -كما ذكر الذهبي رحمه الله- من لا يصحح أن هذه الرسالة للإمام أحمد .
وسواء قيل: إنها لـأحمد أو ليست له، فإن ما عليه الإمام أحمد من القول في مسائل أصول الدين أمر شائع، سواء صحت هذه الرسالة أو لم تصح.
وجهة الغلط: أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو، وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك].
قوله: (بغير دليل يوجب ذلك): حتى وإن كانوا قد اشترطوا دليلاً للتأويل، فإنهم -أي: أهل التأويل الكلامي المخالف للسنة والجماعة- ينازعون في ثلاثة مقامات:
أولاً: ينازعون في كون هذه النصوص محتملة لمعنيين متنافيين: أحدهما يسمى بالحقيقة وهو الظاهر، والآخر يسمى بالمجاز، فإن هذا من باب تحميل القرآن للمعاني المتناقضة المتنافية، وهذا يصان القرآن عنه.
ثانياً: أنه لو فرض أن ثمة احتمالاً في المعنى، فإنهم قد اشترطوا أن التأويل لابد أن يكون بدليل، وهذا الدليل الذي بنوا عليه التأويل هو الدليل الكلامي، وليس هو دليلاً شرعياً ولا عقلياً يعرف بمدارك العقل الأولى، وإنما هو دليل كلامي، وهو ما سموه: دليل الأعراض، أو دليل التركيب، أو ما إلى ذلك.
إذاً: فهم قد صرفوا اللفظ عن ظاهره -كما يقولون- وحجتهم في هذا الصرف هو الدليل الكلامي الذي زعموه معارضاً للقرآن، فينازعون في صحة الدليل الصارف.
ثالثاً: أنه لو فرض أن هذا الدليل صحيح، أي: أن الدليل الكلامي يمكن أن يكون حجةً في هذا التأويل، فإن هذا الدليل غاية ما يقضي به الجواز وليس الوجوب، بمعنى: أنه إذا صح هذا الدليل الصارف، لم يحصِّل إلا أن المعنى يفسر بهذا التفسير، ولو صح صرفه للّفظ عن ظاهره فإنه يمنع ورود المعنى الأول الذي تركوه عن اللفظ، وهذا يجعل الإشكال باقياً، ووجه بقاء الإشكال: أنه يلزم منه أن القرآن تضمن جملةً من المعاني التي لا تليق بالله، وحتى لو قالوا: إنها ليست مرادة، فيقال: إن القول بأنها مدلول من مدلولات القرآن، ثم يقال: إنها ليست مرادة، فإن هذا من باب التناقض؛ لأن ما كان مما يدل عليه القرآن؛ لزم أن يكون مراداً.
وأما إذا لم يكن مراداً فإنه يمتنع أن يكون من مدلول القرآن، وإذا كان كذلك صار هذا التقسيم لا وجه له.
قال المصنف رحمه الله: [ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعاً كان الثابت مثله. وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً ويحتجون بقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7] قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء].
من المعلوم أنه لم تقع بدعة أو لم يقع غلط في مسائل الأصول إلا ووقع ما يناقضه؛ ولهذا قيل: إن طريقة الأئمة أنهم وسط بين الطوائف. فلما وجد الغلاة من أهل التأويل؛ وجد الغلاة من أهل دفع التأويل في سائر موارده.
فلا يجوز أن يقال: إن هذه اللفظ متأول، بمعنى: أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا، فلابد أن يكون له تأويل يخالف ظاهره].
لكنه إذا قيل: إن هذا السياق ليس معيناً للمعنى المراد به؛ لزم من باب أولى ألا يكون معيناً للمعنى الذي ليس مراداً به، فإن الأصل هو عدم دخول المعنى الذي ليس مراداً في النص؛ لأن النصوص إنما جاءت بذكر حقائق معينة، وليس بذكر امتياز عن جملة من المعاني المتسلسلة.
ولذلك إذا قيل: هل يراد بسياق من السياقات كذا وكذا؟ فقيل: لا؛ قيل: العلم بعدم هذه الإرادة فرع عن العلم بإرادة الأول، بمعنى: أنه إنما نفي الثاني لكونه منافياً للأول الذي يفسر الكلام به، فإذا ما قيل: إن الكلام لا يفسر بالأول -وهو المعنى الموجب، المعنى الإثباتي- امتنع أن يسلسل النفي فيقال: هذا ليس مراداً، بمعنى: أنه إنما يعرف أن هذا المعنى الثاني والثالث والرابع -وهلم جرا- ليست مرادةً في هذا النص لأنها تنافي معناه اللائق به.
فإذا زعم زاعم وقال: إن المعنى المراد ليس معلوماً، فهل يمكنه عقلاً أن يقول: إن المعاني التي ليست مرادةً تكون معلومةً؟ الجواب: لا، فإذا جهل المراد لزم أن يجهل ما ليس مراداً؛ لأن ما ليس مراداً إنما عرف كونه ليس مراداً بالعلم بالأول، فلما امتنع العلم بالأول امتنع العلم بالثاني، فيكون السياق ليس معلوماً من كل وجه، وهذا غاية التعطيل للنصوص؛ ولذلك سبق أن أشرت إلى أن مسألة التفويض في المعاني مسألة ممتنعة من جهة العقل.
ولذلك فإن هذا الاضطراب في فهم بعض مسائل أصول الديانة لابد أن يكون له أحد أسباب ثلاثة:
فإما أن يكون صاحب هذا الاضطراب قد نقصت إرادته بتحصيل الفقه، وإما أن يكون قد نقص اجتهاده، وإما أن يكون قد استعمل وجهاً ليس مشروعاً في تحصيل الحق. ولذلك فإنه من المعلوم أنه إذا رجعنا إلى البسائط الأولى من الفطرة ومدارك العقل، ومقاصد الشريعة الأولى، فإن الإسلام بوجه عام يجب أن يكون ديناً واضحاً بيناً؛ لأن الإسلام ليس هو رسالة للعلماء أو للمثقفين -إن صح التعبير- أو للأذكياء، أو للبصراء، أو للمكاشفين ونحو ذلك فحسب؛ بل هو رسالة لسائر الناس.
فيجب أن يكون الإسلام رسالة بينة في أصوله وفي فروعه، أما أصوله فهي واضحة منضبطة، وقد اضطرب قوم من أهل القبلة في مسائل الأصول لأحد هذه الأسباب الثلاثة:
السبب الأول: أن يغلب عليهم التعصب لبعض الطوائف والأعيان، فلما غلب عليهم التعصب عَميت نفوسهم وعقولهم عن تحصيل الحق، ومن غلب عليه التعصب لأحد فلابد أن يكون تعصبه هذا منقصاً لإبصاره الحق؛ ولذلك فلم يشرع التعصب بمعناه اللغوي -الذي هو التمسك تمسكاً مطلقاً- لم يشرع هذا التمسك تمسكاً مطلقاً إلا لصاحب الحق المحض وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو الذي لا يؤخذ من قوله ويرد؛ بل يؤخذ سائر ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن التعصب له لا يمكن أن يعمي عن الحق، أو عن شيء من الحق؛ لأنه لا يقول إلا حقاً، بخلاف من تعصب لمعين، حتى ولو كان عالماً فقيهاً، فضلاً عن أن يكون مبتدئاً؛ فهذا يصيبه كثير من الاضطراب.
إذاً: من أهم مقاصد طالب العلم: أن ينفك عن التعصب، ولكن أقول: ينفك عن التعصب بفقه، وليس بهوج، فيذهب يتعصب لنفسه، أو ينفك عن التعصب لأحد من الأكابر فيتعصب للأصاغر، فإن هذا قد يعرض أحياناً.
السبب الثاني: عدم الاجتهاد في تحصيل الحق.
السبب الثالث: الأخذ بوجه غير مشروع في تحصيل الحق، والوجه المشروع هو أن يكون تحصيل الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
إذاً: الأصل أن دين الإسلام بين في أصوله وفروعه، أما أصوله -كما أسلفت- فإنها بينة، وأما فروعه فحتى لو اختلف العلماء فيها، فإن هذا الخلاف في كثير من موارده -بل في أكثرها- هو نوع من السعة، وليس معنى ذلك: أن الناس يخيرون ويتذوقون ما يشاءون، ولكن القصد: أنه ليس من الإشكال وليس من الحرج.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر