قوله: (ونحن براءَ)، البراءة من المخالف لا تكون إلا فيما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به بالقطع فخالفه من خالفه، فهذا المخالف لما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به كأصول الدين؛ يتبرأ منه، وأما من خالف فيما هو دون ذلك، ولو كان مخالفاً لظاهر السنة أو لقول العامة من أهل السنة؛ ما دام أن قوله مأثور في كلام المتقدمين كالأقوال المرجوحة، فلا يطلق فيه لفظ البراءة، وإنما البراءة تكون في مسائل الأصول المعلومة من الدين بالضرورة عند أهل السنة.
تقدم التعريف بالمشبهة: تقدم، وأما المعتزلة: فهم أتباع واصل بن عطاء الغزال ، وعمرو بن عبيد ، وقد تكلموا في أول أمرهم في مسألة الكبائر، ثم صار للمعتزلة من بعد أصولٌ خمسة:
الأصل الأول: التوحيد، وأرادوا به نفي الصفات.
الأصل الثاني: العدل، وأرادوا به نفي القدر.
الأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين، وهي أن مرتكب الكبيرة عديم الإيمان، وهو فاسق بين الكفر والإيمان، وهي منزلة الفسق المطلق.
الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد، ومعناه عندهم: أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار.
الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه عندهم: الخروج على أئمة الجور.
والمعتزلة منهم بصرية، ومنهم بغدادية، ومن أخص أعيانهم وأئمة متكلميهم بعد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، بل هو منظر المذهب في مسائل الصفات: أبو الهذيل العلاف ، ومن أصحابه: أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام ، وإن كان بين العلاف والنظام خلاف واسع في بعض المسائل، ولكنهم يتفقون على جمهور هذه الأصول المعروفة، وقد ذكر الأشعري وغيره الخلاف في مقالات المعتزلة.
الجهمية: إضافة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ، وكان من الجند والجيش، ولكنه تلقى بدعته عن بعض الفلاسفة، وقررها وأظهرها فنسبت إليه، وقيل: إنه أخذها عن جعد بن درهم ، فالله أعلم بذلك.
والجبرية: هم القائلون بالجبر، وهذه الألفاظ والمصطلحات التي يستعملها المصنف، بعضها عبارة عن مدارس، كالمعتزلة، فهي عبارة عن تنظيم مدرسي، وبعضها عبارة عن نظريات مضافة، إما إلى الحقيقة النظرية، وإما إلى معينٍ قال بها، كالجبرية، فالجبرية ليست عبارة عن مدرسة منتظمة، إنما هي عبارة عن نظرية الجبر.
وكذلك الجهمية: فهي تسمى بهذا نسبة إلى أن الجهم بن صفوان هو المنظر لهذه البدعة، ومراد السلف بالجهمية: معطلة الصفات، مع أن جمهور من عطل الصفات ما كانوا موافقين للجهم في كثيرٍ من أصوله كالمعتزلة.
أي: وهم عندنا ضلال؛ لأن أقوالهم بدع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) ، جاء في الصحيح من حديث جابر ، وجاء في سنن أبي داود وغيره: (وكل ضلالة في النار) ، وطائفة كـشيخ الإسلام ابن تيمية يقولون بأن هذا الحرف ليس محفوظاً، ومعتبر شيخ الإسلام ومن يأخذ على طريقته أن الضلالة قد تكون مغفورةً، وأن البدعة قد تكون مغفورةً للعبد، أو قد تسقط عقوبتها بغير العذاب، ومن هنا قال شيخ الإسلام : إن هذا الحرف ليس محفوظاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: (وكل ضلالة في النار) .
وهذا المعنى الذي قرره شيخ الإسلام وجعل به هذا الحرف ليس محفوظاً ليس لازماً فيما يظهر، بمعنى أن هذا الحرف إذا لم يكن مشكلاً من جهة الرواية نفسها، فإنه من جهة المتن ليس مشكلاً، وإن كان المعنى الذي قرره شيخ الإسلام صحيحاً، لكن يقال: إن قوله: (كل ضلالة في النار)، يثبت كسائر النصوص التي جاءت في الوعيد، كقوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا [النساء:14] مع أنه لا يلزم أن سائر العصاة كذلك، وكقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] .
وقد يقال: إن معتبر شيخ الإسلام رحمه الله هو التصريح بالعموم، فإنه قال: (وكل ضلالة في النار) ، لكن يقال: إن السياق في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ الله)، أيضاً هو من سياقات العموم، والسياق في مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] ، هو من سياقات القصر والحصر، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن إعلال هذا الحرف بهذا الوجه ليس لازماً، وإن كان المعنى الذي قصده شيخ الإسلام من المعاني البينة المحكمة، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر