أما بعد:
فليس المقصود من هذا البحث: وضع مشروع مقترح لطالب العلم في قراءة علم أصول الدين علم العقيدة -وإن كنا سنشير في أثنائه إلى بعض المصنفات والكتب، وبعض المصنفين والكاتبين في هذا العلم- لماذا؟
لأن الحديث في هذه المشاريع المقترحة ربما ناسب جيلاً من طلبة العلم ولم يناسب جيلاً، وربما ناسب بيئة ولم يناسب بيئةً أخرى؛ وذلك لأن الناس يختلفون في قدراتهم وأحوالهم وبيئاتهم، وفي مقاصدهم من التحصيل.. إلى غير ذلك.
فهذا شأن -في الجملة- فيه تنوع واطراد واختلاف، وعلى كل حال فثمة متون وكتب قد اشتهر وشاع بين طلبة العلم أنها من الكتب التي يُقصد إلى قراءتها ودراستها في تحصيل هذه العلوم، وإنما الذي قصد في هذا البحث هو: بيان بعض المسائل المتعلقة بالمنهج الشرعي، ولا أقول: العلمي، فإن كلمة (الشرعي) أعم وأشمل، لأن الشرعي يتضمن العلمي وما زاد على ذلك.
هذا البحث هو بيان لعشر مسائل في تقرير المنهج الشرعي في دراسة العقيدة، نجملها في ما يلي:
أولاً: الأسماء التي يسمى بها هذا العلم.
ثانياً: تقسيم الدين إلى أصول وفروع.
ثالثاً: مسألة السنة والبدعة.
رابعاً: تقسيم البدعة.
خامساً: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعًا، على الإطلاق.
سادساً: الفرق بين خطأ المتأول المجتهد وبين المعاند.
سابعاً: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين.
ثامناً: الوسطية.
تاسعاً: الامتياز والشمول.
عاشراً: ما يضاف إلى مذهب السلف.
نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق..
فلا يُعلم أن أحداً من علماء السنة المعروفين سمَّى هذا العلم بالاعتقاد على هذا المراد، ومن هنا نجد أن الذين يشرئبون أحياناً على بعض كلام أهل العلم رحمهم الله، يقولون: إن تسمية العلماء لهذا الباب بعلم العقيدة، أو بالاعتقاد، لا أصل لها في الكتاب والسنة.
ولا شك أن هذا الاعتراض اعتراض ساقط؛ لأن هذه التسمية هي من باب الترتيب العلمي، الذي بُني على مقصود صحيح. فإن من نطق بكلمة الاعتقاد، إما أن يريد: أن هذا العلم -علم الاعتقاد- هو علم المسائل العلمية، ويخرج بذلك المسائل العملية، فعلى هذا المراد -إذا أخرج المسائل العملية من جملة هذا الأصل- لا تكون التسمية مناسبة؛ لأن ثمة مسائل علمية محلها القلب، وهي ليست من مسائل أصول الديانة الكبرى؛ كاختلاف أهل السنة: هل المنافقون والكفار يرون ربهم يوم القيامة، أم لا يرونه؟ فهذه المسألة مسألة علمية محلها القلب، ومع ذلك فليست من مسائل الأصول.
وكذلك ثمة مسائل عملية وهي مع ذلك تعد من مسائل أصول الدين؛ كالصلوات الخمس، فإنها مسألة عملية.
إذاً: من نطق بهذه التسمية من أهل السنة والجماعة، ليس مقصودهم: أنه علم بالعلميات المجردة عن العمل، بل إن التحقيق: أن مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة: أنه تلازم بين العلم والعمل، ولذلك يقولون: الإيمان قول وعمل.
فما مقصود من تكلم بهذه التسمية من أهل العلم إذاً؟
مقصودهم: أن ما سموه اعتقاداً، أو ما جعلوه من المسائل من باب العقائد، هو من باب أنها أمور لازمة في القلب، أي: أن القلب عقد عليها وجزم بها، كما في قول الله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [البقرة:225] فما كان من اليمين عقده القلب وجزم به، فإنه يكون لازماً.
إذاً: تسمية هذا العلم بهذا الاسم من باب أنه أمور عقدها القلب، وجزم بها، وعزم عليها؛ لبيانها وظهورها في الكتاب والسنة، وعليه؛ تكون هذه التسمية تسمية سائغة.
وتسمية هذا العلم بأصول الدين فيه نوع من الإضافة، بمعنى: أنه إشارة إلى أن ثمة مسائل لا تعد من مسائل أصول الدين، وهذا ينبني على مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وسيأتي الحديث عنه في المسألة الثانية من مسائل هذا البحث.
وتسمية هذه الكليات من المسائل: في الصفات، والإيمان، والشفاعة، والقدر، وفي التوحيد العبادي، وتوحيد العلم، ونحوها - تسميتها بأصول الدين، قد درج عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، بل وغيرهم من الطوائف، فإن سائر المسلمين متفقون على أن هذه المسائل تسمى: مسائل أصول الديانة.
فتسمية هذا العلم بالتوحيد، هي تسمية له بأشرف مسائله ومقاصده، فإن ما يسمَّى بمسائل العقائد، والكليات والضروريات من الديانة، المراد منها: تحقيق توحيد الله سبحانه وتعالى ، فإنه يصح لك أن تقول: إن حقيقة الإسلام كله من أوله إلى آخره هي: تحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى ؛ لأن الله يقول: شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:18-19] ويقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ويقول في سياق آخر: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] فالمسائل الواجبة؛ بل حتى المسائل المستحبة هي من تحقيق التوحيد؛ لأن التوحيد معناه: عبادة الله سبحانه وتعالى ، والإقبال على طاعته، والإخلاص له، واتباع ما أنزله.
ومعلوم أن كل فعل أو قول يقوم به العبد على جهة التدين لله، فهو تحقيق لهذه العبودية، فإن التوحيد: هو العبودية لله، فإذا فعل العبد مستحباً، فضلاً عن الواجب، أو ما إلى ذلك من سبل الخير؛ فهو من توحيد الباري سبحانه وتعالى ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) ، زاد الإمام مسلم : (فأعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فكل هذه المسائل تدخل في تحقيق التوحيد ومعناه.
إذاً: سُمِّي هذا العلم بهذا الاسم من باب التسمية له بأشرف مقاصده، وأوائل مسائله، فإن هذا العلم إذا ذُكر فأول ما يقرر فيه: التقرير لربوبية الله وكماله في أفعاله وصفاته، والتقرير لفردانيته ووحدانيته في العبودية، وأنه المعبود وحده بالحق، وأنه لا يُصرف شيء من العبادة لغيره.
وهذا هو معنى كلمة التوحيد التي هي فاتحة دين المسلمين، بل فاتحة دين المرسلين، فإن الله قد بعث جميع المرسلين بالدعوة إلى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة متضمنة للإقرار لله سبحانه وتعالى بالربوبية، وهي أيضاً تحقيق وتقرير بأنه سبحانه وتعالى هو المعبود وحده بحق، فلا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه التسمية تسمية مناسبة.
ولكن المصنفين في هذه المسائل، يسمون ما يكتبونه في مسائل أصول الدين: الإيمان، ويقصدون به: الاسم الشرعي العام، الذي ذكره الله في مثل قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] وفي مثل قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله [الأنفال:2] والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: (الإيمان أن تؤمن بالله، ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر...) الحديث، فيقصدون الإيمان، وتحت هذه التسمية تُذكر سائر مسائل الأصول العقدية.
ومن هذا تسمية الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه لكتاب الإيمان، فقد وضع كتابه: الصحيح في كتباً، ومن أوائل هذه الكتب: كتاب الإيمان. ومقصود الإمام مسلم : أن يذكر تحت هذا الكتاب الأحاديث التي فيها تقرير مسائل أصول الديانة، سواء تعلقت هذه الأحاديث بمسألة العبودية والألوهية لله، أو تعلقت بصفات الله ورؤيته وعلوه ونحو ذلك، أو تعلقت بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكم أهل الكبائر من المسلمين، أو تعلقت هذه الأحاديث بما يتعلق بمسائل القدر.. أو ما إلى ذلك، فكتاب الإيمان عند الإمام مسلم ، لم يقصد به الرد على المرجئة، وأن يبين أن الإيمان قول وعمل فحسب، بل هو كتاب جامع.
وربما صنف بعض أهل العلم في هذه المسائل، وسمَّى ما صنفه بالإيمان، ويكون مقصوده: دراسة مسألة واحدة من مسائل أصول الدين، وهي مسألة: مسمَّى الإيمان. وهذه المسألة هي أول مسألة حصل فيها نزاع بين أهل القبلة من المسلمين، فلما كان الصحابة ومن بعدهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وظهرت المرجئة الذين يخرجون العمل عن مسمَّى الإيمان، وظهرت الخوارج الذين يبالغون ويُغلون في مسألة الإيمان، لما حدث ذلك صنف بعض الأئمة ما سمَّاه: كتاب الإيمان، ولم يكن مقصوده الكلام عن سائر مسائل أصول الديانة، وإنما الكلام عن مسألة واحدة وهي: مسمَّى الإيمان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، وكيف يرد على المرجئة الذين أخرجوا العمل عن الإيمان.. ونحو ذلك، ومن هنا سمَّى البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان.
ومن هنا يتبين الفرق بين تسمية الإمام البخاري ، وبين تسمية الإمام مسلم ، فمقصود الإمام البخاري بكتاب الإيمان: ذكر مسألة من مسائل الإيمان، وهي مسألة: أن الإيمان قول وعمل، والرد على المرجئة في ذلك، ومن يُلحق بهم ممن قابلهم من الوعيدية، أي: يلحق بهم إلحاق مخالفة، وأما الإمام مسلم فإنه قصد الشمول كما تقدم.
ومثل ذلك أيضاً: كتاب الإيمان لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وكتاب الإيمان لـابن أبي شيبة ، إلى غير ذلك من المصنفات الأخرى.
وما يتعلق بأصول الدين، سمَّاه بعض العلماء -كما نقل عن أبي حنيفة وغيره- :الفقه الأكبر، أي: أنه إذا كان القول في تفصيل مسائل الشريعة فقهاً، فإن القول في مسائل أصول الديانة يُعدُّ الفقه الأكبر، وهذه تسمية سائغة مناسبة، وإن كان كتاب: الفقه الأكبر، المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة ، ليس كتاباً له، وإنما كتبه بعض الحنفية من بعده، ثم شرحه بعض الأحناف على غير طريقة الإمام أبي حنيفة .
ونجد أن المتقدمين من أوائل الفقهاء والمحدثين؛ كالإمام: مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن مهدي ، والبخاري ، وأمثال هؤلاء، كثيراً ما يسمون ما يقررونه في هذا الباب من المسائل: السنة اللازمة، فيقول الإمام أحمد مثلاً: السنة اللازمة عندنا هي: أن الإيمان قول وعمل، وأن أفعال العباد مخلوقة.. إلى غير ذلك، فيسمون ذلك: السنة اللازمة، أي: أنها أصول الديانة العامة.
وتقسيم الدين إلى أصول وفروع، أمر مشهور وشائع في كلام أهل العلم، ولاسيما المتأخرين، وقد أشكل على كثير من طلاب العلم -ولاسيما المعتنين بكلام الأئمة المقتدين بكلام السلف- أنه ورد في كلام بعض المحققين -وأخص منهم الإمام ابن تيمية رحمه الله - اعتراض على هذا التقسيم، فقد تكلم ابن تيمية رحمه الله في المجلد التاسع عشر من مجموع الفتاوى وفي غيره، تكلم بنوع من النقد والاعتراض على هذا التقسيم، وأنه تقسيم أحدثه بعض النظَّار والمتكلمين، مع أنك إذا قرأت في كتب شيخ الإسلام ، بل ومن قبله من الأئمة؛ وجدت أنهم يسمون المسائل التي نسميها نحن: العقائد الأولى، يسمون هذا النوع من المسائل من الدين: مسائل أصول الدين، وهذا شائع كثير متواتر في كلام الإمام ابن تيمية .
إننا نجد في كلام الإمام ابن تيمية التصريح بأن هذا من مسائل أصول الدين وهذا من مسائل الفروع، وقد نص الإمام ابن تيمية في غير موضع من كتبه أن هذه من مسائل الفروع وأن هذه مسائل الأصول، أما تسميته لباب الصفات والقدر وما إلى ذلك بأصول الديانة، فهذا شائع لا حصر له في كلامه.
إذاً: ما معنى الاعتراض الذي ذكره رحمه الله ؟ معناه: أنه لا يعترض على الاصطلاح كاصطلاح عام، فإنه يُعلم بالبديهة الشرعية والعقلية الشائعة عند أهل العلم، المحصَّلة من دلائل الكتاب والسنة: أن مسائل الديانة ليست بدرجة واحدة، فإن منها ما لها قوة وظهور، ولها تواتر في الكتاب والسنة، ومنها ما تحصَّل بالاجتهاد، أو القياس، أو الأدلة التي قد تسمى بالأدلة المختلف فيها.
فأما تسمية مسألة إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ومسألة الصفات، ومسألة القدر، والمسائل التي من هذا النوع، بأصول الدين، فهذه لا يعترض عليها أحد من أهل العلم، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه حتى من خالف أهل السنة والجماعة من الطوائف، فإنهم لا يعترضون على تسمية هذه المسائل بمسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون الأئمة من أهل السنة في طريقة تقرريها، لكنهم يتفقون على أن باب الصفات -مثلاً- يعد من مسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون في تقريره وترتيبه.
إنما المأخذ الذي أخذه الإمام ابن تيمية ، هو أن كثيراً من النظَّار والمتكلمين، أصحاب علم الكلام ومن شاركهم من الأصوليين، وأقول: من شاركهم من الأصوليين؛ لأن كثيراً ممن كتب وصنف في أصول الفقه هم من أعيان علماء الكلام، فإن من كتب أصول الفقه: المعتمد لـأبي الحسين البصري ، وهو متكلم معتزلي حنفي، وكتاب المستصفى لـأبي حامد الغزالي ، وهو رجل متكلم على طريقة أبي الحسن الأشعري ، وكتاب البرهان للجويني ، وهو أيضاً متكلم... إلخ، ولا يعني هذا أن كل من صنف في أصول الفقه كذلك.
المقصود: أن مأخذ ابن تيمية هو: أنهم قالوا: إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع، وهذا قدر عام لا إشكال فيه من حيث هو، لكنهم أخطئوا من جهة الحد، أي: التعريف، فما هي المسائل التي تسمى بالأصول، وما هي المسائل التي تسمى بالفروع؟
لقد شاع في كلام هؤلاء النظَّار ومن شاركهم من الأصوليين والفقهاء المتأخرين: أن مسائل أصول الدين هي المسائل العلمية، ومسائل فروع الدين هي المسائل العملية، ومنهم من يقول: إن مسائل أصول الدين هي ما علم بالعقل والسمع -والسمع هو دليل الشرع الكتاب والسنة- ومسائل فروع الدين هي ما علم بالسمع وحده دون العقل.
فلمثل هذه الحدود والتعريفات للأصول والفروع، اعترض الإمام ابن تيمية ؛ لأنه يقول في قولهم: إن مسائل الدين هي العلميات دون العمليات، يقول: هذا غلط في المقامين. ما معنى أنه غلط في المقامين؟
يقول: إن هناك مسائل علمية ولا تعتبر من مسائل أصول الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى مسألة رؤية الكفار لربهم، ومثلها مسألة: سماع الميت صوت الحي، وهل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ فإن هذه مسائل علمية تصورية، فإذا قلنا: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أو قلنا: لا يعذب، هل لهذا تطبيق فعلي في أفعال المكلفين؟ الجواب: لا، ومع ذلك فقد اختلف الصحابة: هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ على أقوال معروفة: لـعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم، واختلف الأئمة من بعد في مسألة: رؤية الكفار، واختلفوا في سماع الميت صوت الحي، فيقول ابن تيمية : إن ثمة مسائل علمية لا تعد من مسائل أصول الدين.
وبالمقابل: لما قال هؤلاء: إن المسائل العملية هي مسائل فروع الدين، قال: هذا غلط شرعي، ووجه كونه غلطاً شرعياً: أن الزكاة، والصلاة، والحج، والصوم، هي أفعال عملية، وإن كانت مرتبطة بالمقاصد القلبية، لكنها أفعال وحركات، فالحج حركة: وقوف بعرفة، وطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وكذلك الصلاة، مع أن الحج والصلاة وأمثالها من العبادات الكبرى أو الأولى التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم مباني للإسلام، ولا شك أنها تعد من مسائل أصول الدين.
إذاً: هذا هو مقصود ابن تيمية من الاعتراض.
كذلك لما عرَّفها قوم منهم فقالوا: الأصول: هي ما دل عليه السمع والعقل، قال ابن تيمية : إن ثمة فروعًا دل عليها السمع والعقل، أي: أن العقل يدرك كونها مناسبة؛ كالأمر بالصدقة مثلاً، أو بذل المعروف، مثل: طلاقة الوجه، وإماطة الأذى عن الطريق، ألا نقول: إن هذا الحكم مدرك بالشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى إماطة الأذى عن الطريق؟ الجواب: بلى.. ثم أليس إماطة الأذى عن الطريق مدرك بالعقل أنه حسن وأنه خير وبر.. إلى آخره؟ الجواب: بلى، فهل معنى هذا: أنه من أصول الدين؟ الجواب: لا.
وفي المقابل: هناك مسائل لم يدل عليها العقل، وإنما قضى بها الشرع وأخبر بها، وهي تعد من مسائل أصول الدين، كنزول الرب سبحانه وتعالى ، فلو لم يحدث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث، لما كان لأحدٍ من بني آدم أن يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا.. إلخ. فهناك مسائل خبرية مبنية على خبر الله أو خبر رسوله.
إذاً: فمحصَّل هذا التقسيم: أنه إذا استعمل كمصطلح على معنىً مناسب، فهو تقسيم سائغ، وأما إذا استعمل على معنى: أن في الدين أصولاً وفروعاً على هذا الحد الكلامي، الذي يخالف مقاصد الشريعة وأحكامها، فهذا مرفوض، وكذلك إذا استعمل هذا التقسيم على أن معنى الفروع: أنها مسائل ليس لها أهمية في الإسلام، أو كما قد يسميها بعض المتأخرين المعاصرين لما يسمى بعصر النهضة: أن هناك مسائل اللب، ومسائل القشور، وأمثال هذه التعبيرات السطحية التي استعملها بعض الكتاب، فلا شك أن هذه تسميات ليست صحيحة، بل إنها مخالفة لشرع الله، فإن الدين كله له جلاله وله قدره، مهما كان قدر مسألته.
وقد كذلك ثبت ذم النبي صلى الله عليه وسلم للبدع كما تواتر عنه، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر قال في خطبه: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، فذمُّه عليه الصلاة والسلام للبدع: قوليها، وفعليها، فضلاً عن عقديها أمر متفق عليه.
وقد تقدم: أن كلمة السنة كلمة فيها اشتراك، فربما ذكرت السنة بمعنى: الذي أذنت به الشريعة، فيقال: إن هذا سنة، أي: مأذون فيه شرعاً، وربما ذكرت السنة بمعنى: ما ندب إليه الشارع، فيقال: إن عيادة المريض سنة، بمعنى: أنه مندوب إليها، وربما قُصد بالسنة -كما هو الحال هنا- الأصل من الديانة.
وهنا يأتي سؤال: هل كل ما ليس سنة يكون بدعة، أم أن التعبير الصحيح: أن ما خالف السنة يكون بدعة؟
لك أن تقول: إن التعبير الأول صحيح، بشرط أن يُفسَّر تفسيراً صحيحاً، فمثلاً: إذا قُصد بالسنة ما أذنت به الشريعة، فضلاً عما ندبت إليه، فلك هنا أن تقول: إن ما ليس سنة يكون بدعة، وأما إذا قُصد بالسنة ما أمر الله به، أو أمر به الرسول، على جهة التخصيص له، والندب إليه، فهل يلزم أن يكون ما خالف هذا الأمر الخاص بدعة؟ ربما كان وسطاً وهو ما يسمى: ما أذنت به الشريعة.
ونضرب لذلك مثلاً في باب العمل:
تقول عائشة : (ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)، والحديث في الصحيحين ، فمن صلَّى كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة من الليل، فنقول: إنه أصاب السنة، بمعنى: أنه فعل ما ندب إليه؛ لأنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن من صلَّى من الليل ثلاثين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل، أي: أنه صلَّى عدداً لم يرد دليل بخصوصه، فهل أصاب سنة خاصة بهذا العدد، كما أصابها من قصد أن يصلِّي إحدى عشرة ركعة، أم أنه فعل بدعة؟
إن من يضيِّق الفهم في هذه المسائل، ربما قال: ما دام أنه لم يفعل سنة معينة، فيلزم أنه فعل بدعة؛ لأنه ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ونقول: نعم، ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ولكن بشرط أن تُفسَّر السنة تفسيراً عاماً، فإذا فسرت السنة بأنها: ما أذنت به الشريعة، فلا شك أن الأمر كذلك.
ولقائل أن يقول: إذاً ماذا نسمي عبادة من صلَّى ثلاثين ركعة؟ هل نقول: إنه فعل سنة؟ فإن قلنا: إنه فعل سنة، لزمنا الدليل على هذه السنة.
فنقول: إنه فعل أمراً جائزاً شرعاً، وربما يشكل هذا عند البعض فيقول: كيف نسمي العبادة أمراً جائزاً، والجائز هو المباح، كالأكل والشرب؟ نقول: ليس معنى ذلك أنها بحكم الأكل والشرب، وإنما المعنى: أن هذه الصورة من العبادة قد أذن بها الشارع، ووجه إذن الشارع بها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجل عن صلاة الليل -كما في الصحيحين- قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر) ، فجعل الضابط وقتاً وليس عدداً، ومعلوم أنه لما أطلق وقال: (مثنى مثنى) فإنه لا يستطيع أحد أن يفرض رقماً في ذلك.
إذاً: هناك مسائل -وإن كانت عبادات- من إذن ومباح الشريعة، وليست من السنن التي يقصد إليها، ولكنها مع ذلك ليست من البدع؛ وقد رخص بعض أهل العلم في مسائل قد يحتاج فيها إلى تأمل أكثر، فمثلاً: عندما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التسبيح بالسبحة -ومن المعلوم أنه لم يُنقل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء- إلا أن ابن تيمية قال: (إن التسبيح بها حسن -أي: جائز- بشرط: ألا يكون ذلك من باب المباهاة والرياء، وبشرط: ألا تتخذ اتخاذاً عاماً، ويهجر التسبيح بالأصابع).
فهذا النوع من المسائل لا بد له من فقه، فإنه قد يشكل على المسلم: أهي من باب السنة المأذون بها، أم من باب البدعة؟
فمثلاً: لو صلى أحد قبل الجمعة ست ركعات، فهل هناك دليل على هذا العدد؟ وأيضاً صيام العشر من ذي الحجة لمن أراد أن يتعبد لله تعبداً عاماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام. يعني أيام العشر) ، كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري ، ومسند الإمام أحمد ، فمن قصد الصيام فيها على أنه نوع من العبادة تناسبه فلا ينكر عليه. لكن من ظن أن الصيام عبادة مختصة مشروعة في هذه العشر من بين سائر العبادات، كما ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام العاشر من المحرم، فيقال له: هذا غير صحيح؛ لأن العاشر من المحرم مسنون من جهة الندب إليه، أما صيام العشر من ذي الحجة فهو مما سوغته الشريعة بالأدلة الإجمالية.
وقد يقول البعض: ربما اعتقد بعض العوام أنها سنة خاصة مندوب إليها، فنقول: هذا الاعتقاد يُعدَّل، لكن لا يلزم من ذلك أن يحرَّم على الناس الصيام، أو أن يقال: إن الصيام في عشر ذي الحجة من البدع، فهو ليس من البدع، وأما القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فهذه مسألة أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى العمل في هذه الأيام، ومعلوم أن سنته العامة تثبت بقوله، وتثبت بفعله، وتثبت بإقراره.
إذاً: هذا التقسيم لا بد أن يكون على جهة من المراعاة.
وهذا التقسيم فيما يظهر -والله تعالى أعلم- تقسيم خاطئ؛ لأن من قسم البدعة إلى: بدعة الحسنة وبدعة السيئة، يفسر البدعة الحسنة بأنها أمر سائغ، أو ما يُندب إليه بجملة عموم قواعد الشريعة ومصالحها، وهذا لا ينبغي أن يسمَّى بدعة؛ لأن كلمة (بدعة)، قضى الشارع عليه الصلاة والسلام أنها كلمة مذمومة في رسالته، فإنه كان يكرر على منبره: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة) ، فلما قال الشارع عليه الصلاة والسلام: إن البدعة مذمومة، وقال: (كل بدعة ضلالة) وهذا لفظ عام، لم يسغ لأحدٍ من أمته من بعده أن يأتي ويقول: إن من البدع ما هو حسن.
وقد يتمسك بعضهم بكلمة لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة التراويح، حين قال لما اجتمع الناس عليها: (نعمة البدعة هذه) ، مع أن عمر رضي الله عنه إنما سمى هذا العمل بدعة تسمية عارضة من باب اللغة، وفرق بين التسمية العارضة على معنى لغوي، وبين أن يلتزم هذا كتقسيم مطرد لتضاف هذه التسمية إلى البدعة الحسنة، وكأنها بمعنى البدعة المشروعة؛ لأنه إذا قيل: بدعة حسنة، فهل هي حسنة بالعقل، أم حسنة بالشرع؟ إن من يلتزم بهذا التقسيم لا بد أن يقول: إنها حسنة شرعاً، إذاً كأنه قيل: البدعة المشروعة، وهذا لا شك أن المسلمين ليسوا بحاجة إليه؛ لأنه يُشكل من وجهين:
الوجه الأول: أنه مخالف لعموم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبل ذلك هو مخالف للقرآن أيضاً، فإن الله تعالى قد ذكر البدعة على معنى الذم، قال تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] إذاً: فلا يرد في مسائل التعبد بدعة وتكون محمودة، لأن الله تعالى قد ذكرها ذمَّاً وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ذكراً عاماً فقال: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
الوجه الثاني: أن هذا التقسيم أشكل على عوام الناس؛ لأن العاصي إذا قيل له: هناك بدع حسنة وبدع سيئة، ثم قيل له: هذه حسنة وهذه سيئة، أصبحت الأمور عنده غير دقيقة، وربما قال: إنكم تتحكمون فتجعلون هذه من الحسن وهذه من السيئ، ولماذا كانت هذه حسنة وهذه سيئة؟ بخلاف ما إذا قيل للعامة من المسلمين: إن الواجب هو الأخذ بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الابتداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وكل بدعة ضلالة).
إذاً: هذا التقسيم وإن استعمله بعض أهل العلم، فليس من باب التراتيب العلمية السائغة؛ لأنه يعارض لفظاً نبوياً وسياقاً قرآنياً، فضلاً عما يتضمنه من الإشكال على العامة من المسلمين، وقد درج بعض المسلمين على بعض البدع المذمومة شرعاً لما سمَّاها بعض المترخصين بالبدعة الحسنة.
المقصود: أن الإمام ابن تيمية قال عن كلمة أبي حنيفة أو حماد بن أبي سليمان ، لما قالوا: إن العمل لا يدخل في مسمَّى الإيمان، مع أنهم يوافقون جمهور الأئمة في بقية المسائل أو في أكثر المسائل، قال ابن تيمية : (وبدعة حماد هي بدعة عن السلف والأئمة، لكنها من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد التي يُضلَّلُ فيها المخالف). فكأنه أشار إلى أن البدع القولية والبدع الفعلية، شأنها دون البدع العقدية، وكأن هذا يتضمن: أن البدعة القولية والفعلية لا تؤدي في الغالب إلى خروج صاحبها عن السنة والجماعة خروجاً مطلقاً كلياً، بحيث لا يسمَّى سنياً، فضلاً عن أن يحكم عليه بما هو أشد من البدعة؛ كالكفر ونحوه.
إذاً: هذا التقسيم تقسيم صحيح، وصحته مأخوذة من جهة أنه اصطلاح على معنىً مناسب.
وقد يقول قائل: إنه يشكل على هذا التقسيم ما إذا أشير إلى أن البدع القولية والعملية أو الفعلية شأنها دون البدع العقدية، فإننا نرى مثلاً بعض الناس، يعملون أعمالاً عند القبور، وهذه الأعمال من البدع، ولا يمكن أن يقال: إنها من المسائل التي لا يُضلَّلُ فيها المخالف، مما يدل على أن مسألة البدعة الفعلية ليست فقط من هذا الوجه؟
والجواب: أن هذا السياق حينما نقول: بدع الأقوال والأفعال أو البدعة الفعلية، ليست العبرة بكون هذه البدعة في الجانب الفعلي أو الحركي الآدمي فتكون عكس المسألة الصورية النظرية، وقد سبق معنا: أن مسائل أصول الدين منها مسائل علمية ومنها مسائل عملية، وكذلك الفروع: منها مسائل علمية، ومسائل عملية، فمقصود ابن تيمية في بدع الأقوال والأفعال التي يقول: إنه لا يضلل مخالفها: هو ما لم يتضمن خروجاً عن أصل من الأصول، سواء كان هذا الأصل أصلاً عبادياً فعلياً أو أصلاً علمياً.
فعليه: من فعل بدعة عند القبور من البدع الفعلية المنكرة الكبرى، فإنه يقال: إنه أتى بدعة من البدع، حقيقتها أنها بدعة من بدع العقائد؛ لأن الاعتبار فيها بالمقصود القلبي الذي حرَّكه لهذا الفعل، وهو مقصود بدعي خارج عن أصول السنة.
إذاً: هذا التقسيم إذا فُقه على هذا الفقه فإنه يكون تقسيماً مناسباً، أو لك أن تقول: إنه تقسيم سهل.
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستختلف وستفترق، وبيِّن صلى الله عليه وآله وسلم فيما تواتر عنه: أنه (لا تزال طائفة من أمتي على الحق...)، وهذا حديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، أما حديث: (افترقت اليهود) إلى قوله: (وستفترق هذه الأمة...)، فهو حديث تكلَّم فيه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، وسواء صح أو لم يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الطائفة المنصورة في حديث صحيح متفق عليه متواتر عند الأئمة.
والمخالفون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل القبلة -أي: من المسلمين- عندهم مخالفات سمَّاها أئمة أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين: بدعة، وعندهم بدع ربما سمَّاها بعض الأئمة كفراً، فهل كل قول قال السلف أو الأئمة: إنه بدعة، يلزم منه أن من قال به يكون مبتدعاً، أو يسمى مبتدعاً تسمية مطلقة، ولا ينسب إلى السنة والجماعة؟
الجواب: ليس هناك تلازم، بمعنى: أن الإنسان قد يقول بدعة فيسمَّى مبتدعاً، كمن قال بنفي صفات الله، أو من قال: إن القرآن مخلوق، فهذا قال بدعة، ويسمَّى مبتدعاً؛ وذلك لأن هذه البدعة التي خالف فيها تُعدُّ من البدع المغلظة، التي فيها مفارقة بينة لمذهب أهل السنة والجماعة.
ومن ناحية أخرى: قد يقول بعض الناس -ولو من أهل العلم- بدعةً أو يفعل ما هو بدعة، من باب الاجتهاد، وهو لا يعلم أن هذا القول أو الفعل بدعة، فيمكن أن يصحح فعله، ويمكن أن يقال: إن فعله أو قوله بدعة، فلا جدل أن يسمَّى ما فعله بدعة بالدليل الشرعي الصحيح، لكن لا يجوز أن يسمى هذا القائل مبتدعاً، وذلك كقول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله، فلا يلزم من ذلك أن نسميهم من أئمة أهل البدع، لكون ما قالوه بدعة، مع أنه قد اتفق الأئمة أن كلمتهم بدعة، لكن لم يقل أحد من الأئمة: إنهم من المبتدعين الخارجين عن السنة والجماعة، إلا أئمة بلغتهم عن أبي حنيفة بلاغات لا تصح، فحكموا عليه بمجموع هذه البلاغات، التي ظنوا أنها بلاغات صحيحة. إذاً لا تلازم بين هذا وهذا.
ومن ذلك أيضاً: أن الإمام أحمد قال -كما في رواية أبي طالب -: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع). وصح عن البخاري أنه جعل اللفظ بالقرآن مخلوقاً، ومقصود البخاري : أن فعل العبد مخلوق، وهذا مقصود صحيح، لكن كلمته وحرفه ليس مناسباً، فهل نقول: إن البخاري جهمي، أو يسمى جهمياً؛ لأن الإمام أحمد يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؟ الجواب: لا، بل لا يجوز أن نقول: إن البخاري مبتدع، أو ما إلى ذلك. فهذه مسائل لا بد فيها من الفقه، ولا سيما في النقل عن الأئمة رحمهم الله.
ومثل ذلك مسألة الكفر:
فقد قال الأئمة عن كثير من المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين: إن القول بخلافها كفر، كقولهم مثلاً: إن إنكار العلو كفر، والقول بخلق القرآن كفر، وتعطيل الصفات كفر... فهل معنى هذا القول الذي تواتر عن الأئمة، ونجده في كلام الأئمة الأربعة: مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة ، وغيرهم- هل معناه أن القائلين بذلك يسمون عند هؤلاء كفاراً، ويحكم عليهم بالكفر بأعيانهم، كما يحكم على عبدة الأصنام والأوثان والمشركين وغيرهم؟ الجواب: لا.
ولذلك نجد أن كتب السنة مليئة بالنقل عن الأئمة المتقدمين: أن القول بخلق القرآن كفر، ولكن لا نجد في كتبهم التصريح بأن فلاناً وفلاناً -مع كثرة من قال بخلق القرآن من الطوائف- كفار بأعيانهم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (والإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، وإن تواتر عنهم تكفير الجهمية، إلا أنهم لم يكونوا مشتغلين بتكفير أعيانهم؛ لأن كون المقالة من مقالات الغالطين من أهل القبلة كفراً، لا يلزم أن كل من قال بها أن يكون كافراً، وفرق بين المقالة التي يكون موجبها الرد والإنكار، وبين المقالة التي تقع عن تأويل).
وهل يعني هذا أن من طريق الأئمة أنهم لا يكفرون المعين؟ الجواب: لا، ولكنهم يقولون: إنه لا يُحكم بكفره بعينه إلا إذا علم قيام الحجة عليه، فإن قال قائل: فإن لم نعلم قيام الحجة عليه؟ نقول: إذا لم نعلم قيام الحجة عليه قلنا: قوله كفر، والقائل لا يعد كافراً، بل يعد على الأصل، وتجري عليه أحكام المسلمين.
فإن تُردد في شأن القائل: أهو كافر، أم ليس كافراً؟ فهذا التردد ليس إشكالاً، فإن بعض الناس قد يكون حاله عند الله تعالى على غير حاله في حكم الناس في الدنيا، فقد قال الله تعالى لنبيه: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101] وبعض الناس يظن أن من ضروريات ديانته أن يعرف حكم كل واحد من بني آدم: هل هو مسلم أو كافر؟ إن هذا الحكم ليس ضرورياً، ولو كان ضرورياً لفقهه الصحابة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم جميع المنافقين في المدينة وممن حولهم من الأعراب، بنص القرآن: لا تَعْلَمُهُمْ [التوبة:101] وحتى من علمهم الرسول من أسماء المنافقين لم يبينهم لكل الصحابة، ولم يقل: إن فلاناً وفلاناً من المنافقين؛ بل ظل ذلك سراً بينه وبين حذيفة، مع أنهم كانوا مختلطين بهم.
ولذلك يقول ابن تيمية : (ولما أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام المسلمين على المنافقين، فإجراؤها على أهل البدع، الذين لم يُحكم بكفرهم بأعيانهم، وإن ضلوا في بدعهم وفارقوا السنة والجماعة، أو حتى أتوا قولاً كفرياً لم يحكم عليهم بموجبه، فإجراء هذه الأحكام على هؤلاء من باب أولى).
لا شك أن المراد هو الأول: أن هذا من باب الدفع للبدعة، التي قال أصحابها: إن القرآن مخلوق؛ لأنه إن كان مخلوقاً، لزم أن يكون قول بشر، أو أن يكون مخلوقاً بعينه -كما قال بعضهم: إنه حكاية عن كلام الله، أو غير ذلك- لكن هذا الكافر الذي ذكره الله في القرآن لما قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] قالها على جهة الجحد لتصديق هذا القرآن.
إذاً: القول بأن القرآن مخلوق، مقالة كفرية في ذاتها، لكن من قالها على قدر من التأويل، فإذا ما علم قيام الحجة عليه، وأنه خرج عن هذا التأويل الذي منع القول بكفره، إلى العلم بقيام الحجة عليه، فإنه يحكم عليه بهذا الموجب، وهذا لم يقع في تطبيقات الأئمة مع القائلين بمثل هذه المقالات إلا في حالات يسيرة، مثل ما نقل: أن الإمام أحمد حكم بذلك على ابن أبي دؤاد ، لكن كم كان المعتزلة إذ ذاك؟ وكم كان علماء الجهمية؟ هذا إذا استقام الإسناد إلى مسألة ابن أبي دؤاد .
وهنا يرد سؤال آخر: لماذا حكم الإمام أحمد بالكفر على ابن أبي دؤاد ، ولم يحكم على المعتصم ، مع أن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وأجبر العلماء بالسيف والسنان على القول بخلق القرآن؟ بل كان الإمام أحمد يدعو له، ويستغفر له، ويصلي خلفه؟ ولذلك قال ابن تيمية : (بل إن الإمام أحمد صلى خلف بعض من يقول بهذه المقالات). وهو يقصد بذلك المعتصم ، يقول: (صلَّى خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان كافراً عنده لما فعل ذلك).
ومثل ذلك أيضاً: مسألة العلو، فإن إنكار العلو كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، فمن أنكر علو الله على جهة الرد والتكذيب، فهو كافر، وذلك كما أنكره فرعون فيما ذكره الله في شأنه، لكن من تكلَّم بهذه المسألة على نوع من الشبه التي عرضت له، فهل يتغير حكمه، أو لا يتغير؟ المقالة حكمها واحد: أنها كفر، لكن القائل بها، لما دخلت عليه هذه الشبه والتأويلات، وظن أن هذا هو تحقيق الحق، فلا يلزم أن يكون كافراً، وقد ناظر ابن تيمية قوماً من المتكلمين الذين ينفون علو الله تعالى، حتى انقطعوا معه في المناظرة، حتى قال لهم بحضرة السلطان: (أنا أمهل من يخالفني في هذه المسألة ونحوها ثلاث سنين). من باب ثقته بما قال، فمع مناظرته لهم، ومع انقطاعهم، خرج بنتيجة فقال لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي). فهذا الفقه في طريقة الأئمة المرضيين رحمهم الله؛ كالإمام أحمد ، ونحوه من المتقدمين، وكذلك من بعدهم من الأئمة؛ كـابن تيمية ونحوه، لا بد أن يكون نموذجاً مبصراً لطالب العلم، فيقول الحقائق الشرعية بغير نقص، ولكن لا يعتدي على الخلق أيضاً.
إذاً: هذا التفريق لا بد أن يكون بيِّناً.
- الأصل الأول: قال: (إن المقالة قد تكون كفراً، ولا يلزم أن يكون قائلها كافراً)، وقد حكى الإجماع عن السلف على هذه القاعدة، وإذا قلنا: إن المقالة تكون كفراً، ولا يلزم أن يكون قائلها كافراً، فهل معنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون كافراً؟ قطعاً لا، إنما المقصود: أنه ليس هناك تلازم ولا اطراد بين القول وحكم قائله.
- الأصل الثاني: قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة)، أي: ممن يقيم الصلاة، والشعائر الظاهرة، فيصوم رمضان، ويحافظ على الصلوات الخمس، ويحج البيت، ونحو ذلك، قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي: في حكم الله سبحانه وتعالى - إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق). وقد شرح هذا الأصل في أكثر من موضع من كتبه، ومن أقربها وأيسرها: شرحه لحديث الافتراق، ولعله في المجلد الثالث من فتاويه.
قال: (لأن الناس لما بعث النبي كانوا: إما مشركين يعبدون الأصنام، أو مسلمين متبعين للنبي، ولما هاجر إلى المدينة ظهر صنف ثالث، وهم المنافقون، فالناس: إما منافق، وإما كافر، وإما مؤمن، والمؤمن أحد درجات ثلاث: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات).
- الأصل الثالث: ذكره الإمام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى وفي درء التعارض وغيره، قال: (إن كل من أراد الحق، واجتهد في طلبه من جهة الرسول، فأخطأه، فإن خطأه مغفور له). إذاً: لا بد من تحقيق إرادة الحق، وهذا الشرط يخرج به الذين يكون مقصودهم الانتصار لمذاهبهم، فإن هؤلاء لم يحققوا إرادة الحق؛ بل إنه قد خالط هذه الإرادة وشابها نوع من النقص، وربما نوع من الشرك، وهو التعصب لهذه المذاهب الباطلة، أما من سلمت إرادته للحق، (واجتهد في طلبه)، أي: بذل وسعه في تتبع الكتاب الكريم، ودلائل السنة، وآثار الصحابة، (من جهة الرسول)، أي: من جهة الكتاب والسنة وما جاء به الرسول، (فأخطأه، فإن خطأه مغفور له).
فلا بد من هذه الأصول أو الشروط الثلاثة:
الشرط الأول: (أن كل من أراد الحق).
الشرط الثاني: (واجتهد في طلبه).
الشرط الثالث: (من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم )، قال: (فأخطأه فإن خطأه مغفور له).
ولما تكلم عن أهل البدع الذين ذمهم السلف قال: (وأما من ذمهم السلف من الطوائف فهم في الجملة مقصرون في باب الإرادة، مقصرون في باب الاجتهاد، فإن كثيراً منهم يكون من مقصوده الانتصار لمذهبه)، قال: (والمقصرون في مقام الاجتهاد لعدم علمهم بالسنة). ولذلك فإن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة ليسوا أهل علم بمفصل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: من ذمهم السلف والأئمة من طوائف المخالفين فإنهم في الجملة مقصرون في هذه المقامات الثلاثة.
فإن عندهم تقصيرًا ونقصًا في باب الإرادة، لكثرة ما يعنون به من التعصب لأئمتهم، وطوائفهم، وشيوخهم، والانتصار لهم.
وأما في باب الاجتهاد، فإنهم مقصرون في هذا الباب من جهة قلة عنايتهم بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وآثار أصحابه. وهذا أمر بيِّن، فإن علماء الكلام كأئمة المعتزلة الأوائل، ونحوهم، ليسوا من أهل الرواية، بل إن الذين عرفوا بأنهم أئمة الحديث وأئمة الرواية هم علماء أهل السنة والجماعة.
قال: (وأما المقام الثالث- وهو قوله: من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - فإن هذه الطوائف مقصرون في هذا المقام من جهة ما استعملوه من الأصول الكلامية ونحوها، التي حصلوا بها، أو بكثير من مقاماتها، ما يعتبرونه هو مقام أصول الديانة، وربما قدَّموه على القرآن، وزعموا أن هذا من باب تعارض العقل والنقل).
إذاً: هذا الأصل لا يقود إلى تعطيل الحق، ولا يقود إلى تعطيل الذم للمخالفين، وإنما هو أصل من أصول العدل والشريعة التي يوزن بها المخالف، دون أن تنقص الحقائق الشرعية.
وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى خطورة هذا النقص الذي يعرض لهؤلاء في هذه المقامات الثلاثة، فذكر أنه قد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون من باب الفسق، وقد يكون من باب المعصية، قال: (وهذا النقص قد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، بحسب قدر المقالة وحال قائلها).
فمسألة الوسطية من مسائل المنهج المعروفة عند أهل السنة والجماعة، فقد قرر الإمام ابن تيمية في رسالته الواسطية -وإن كان اسمها ليس مشتقاً من هذا المعنى، وإنما لأنه كتبها لقاض من قضاة واسط، وهي بلد في العراق- قرر في هذه الرسالة مسألة الوسطية، في كلام معروف شائع بين طلبة العلم، وكثير من العامة.
فالمقصود: أن الوسطية أصبحت في هذا العصر مصطلحاً يُجادل عليه في أكثر من مقام، فإن بعض الذين ليس عندهم ضبط وعناية ببعض المسائل الشرعية أو المنهج الشرعي، نجدهم يدَّعون أن ما يذكرونه هو من باب الوسطية، فقد أصبحت الوسطية مصطلحاً يدخله الاشتراك والتداول في أكثر من ميدان وأكثر من ديوان، ولذلك لا بد من فقه هذه الكلمة، وأنها كلمة تدل على جملة من المعاني.
الأول: أن تُستعمل الكلمات الشرعية في هذا التقرير، أي: الكلمات التي نطق بها القرآن، وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو التي اشتهرت وشاعت عند علماء المسلمين الأوائل، وعند أئمة السنة من الفقهاء والمحدثين، أما الكلمات المخترعة، والكلمات المجملة، والكلمات الحادثة؛ فإنه ينبغي أن يُباعد عنها.
الأمر الثاني: أن يضبِط هذا التقرير استدلال بالكتاب والسنة، فليس من الحكمة أن نسرد تقريراً عقدياً ونقول: إن هذا هو الحق، وإن غيره ضلال أو بدعة أو خطأ، دون أن يُضمن هذا التقرير ما يناسبه من الدلائل، فإن كتب المتقدمين التي صنفت، كأن المقصود الأكبر من تصنيفها هو التقرير، فما سمي بكتب السنة: كالسنة لـعبد الله بن أحمد ، والسنة للخلال ، والإبانة لـابن بطة ، والسنة لـابن أبي عاصم ، والشريعة للآجري ، هذه الكتب وغيرها فيها رد، لكنها عنيت بالتقرير أكثر. أيضاً إذا قرأنا تقريرهم لمسألة القدر، أو لمسألة الصفات، أو لمسألة الإيمان؛ ربما نجد أن غالب هذا التقرير ليس من كلامهم، وإنما نصوص يستعملونها، كما هو واضح من فعل الآجري في الشريعة، فإنه ذكر أكثر من خمسين آية تحت كلمة: أن الإيمان يكون بالعمل.
فلا بد من العناية بمسألة ربط المعتقد الصحيح بدلائل الكتاب والسنة، أما أن تكون العقيدة من جنس علوم الآلة، فيكون الهم هو أخذ ألفاظ يتزوق المتزوق في نظمها، أو في صياغتها، أو ما إلى ذلك؛ فهذا من الخطأ والقصور، وقد يكون من باب التسهيل للطلاب أو نحوه، لكنه ليس بالضرورة، والمنهج الفاضل هو الذي كان عليه المتقدمون، ولذلك فإن القدماء لم يصنفوا رسائل مختصة في الاعتقاد، وإنما كتبوا كتباً مسندة، وسموها: كتب أصول الدين، فـالبخاري مثلاً لما صنف صحيحه، استودع فيه ما سماه: كتاب الإيمان، وما سماه: كتاب التوحيد، وما إلى ذلك.
إذاً: لا بد أن تكون هذه الصورة من طريقة تقرير الأئمة المتقدمين واضحة، ولا بد أن يتكلم في تقرير العقيدة بكلام بيِّن للعامة من المسلمين، وذلك بأن تختار الكلمات الشرعية، والكلمات البينة المفصحة الواضحة، كما أنه لابد أن يُضمن هذا التقرير مسألة الدلائل المفصلة من الكتاب والسنة، ولعل من الرسائل المتأخرة المناسبة في هذا الباب: الرسالة الواسطية، للإمام ابن تيمية ، فهي رسالة جامعة ومفيدة في هذا الباب، وقد بناها على حديث جبريل في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمسألة الإيمان.
وباب الرد: هو باب يقصد منه دفع الشر، ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر في كتابه الكريم مقام الدعوة إلى الحق، اختلف السياق عن مقام إبطال وإنكار الباطل.
والأئمة في مقام الرد يستعملون اللوازم، فربما ألزموا بعض الطوائف بأقوال ليست هي من أقوالهم، وليس ذلك من باب أنهم يكذبون عليهم، وإنما من باب أن هذه أقوال تلزمهم، وإذا لزم عن الباطل ما هو أظهر منه بطلاناً؛ كان ذلك دليلاً على الحكم بفساده.
وذلك كقولهم مثلاً: إنه يلزم بعض طوائف المرجئة: أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفسَّاق، هذا من باب اللازم، وليس من باب: أن المرجئة من الفقهاء ونحوهم من المقاربين يقولون بمثل هذا القول، فهذا لازم لهم، ولازم المذهب ليس بمذهب، لكنه يُستعمل في مقام الرد، من باب الإبطال لقول المخالف.
ومثل هذا ما سبق ذكره من الاستدلال بقوله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] لإبطال قول من يقول: إن القرآن مخلوق، فهذا من باب اللازم، أي: أن مقالة هؤلاء يلزم أن تكون نتيجتها مشتركة مع مقالة أولئك القوم من الكفار.
ومما يشير إليه الأئمة في باب الرد: الذم، فنجد أن في كلام الأئمة ذماً لمخالفيهم، وهذا الذم إذا ذكر على قدر من العدل والاقتصاد، فإنه لا بد منه، وقد ذم الله في كتابه من خالف أمره أو أمر رسوله أو ما بعث به عباده المرسلين.
وكما يوجد في هؤلاء من عنده تفريط وتقصير، أو ما يُسمى باللسان الدارج: التمييع، أي: من يميعون الفروق بين الحقائق الشرعية والأشياء البدعية، أو يميعون الأحكام التي نطق بها أئمة السلف رحمهم الله، هذا الذي نسميه تمييعاً هو في حقيقته تفريط - فكذلك يوجد أحياناً من بعض الصادقين الصالحين، القاصدين نصر السنة، يوجد فيهم قدر من الإفراط، فيظنون أن الحق والسنة لا تُحكَّم، ولا تضبط، ولا ينتصر لها، إلا بمثل هذا الأسلوب من الشدة، التي فيها قدر من الزيادة والظلم لقوم من الناس، وهذا ظن خاطئ؛ لأن الله تعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين سائر عباده من المسلمين وغير المسلمين محرماً.
فمسألة الوسطية تعني: الانفكاك عن الإفراط وعن التفريط، وفي نظري: أن أشهر مثال للمعتدلين الوسطيين من المتأخرين هو: الإمام ابن تيمية رحمه الله ، ومن هنا أوصي طلاب العلم بالنظر في كتب هذا الإمام؛ لما فيها من المقومات الشرعية للوسطية الشرعية.
إذاً: من مقومات الوسطية الشرعية: الوضوح العلمي، والله تعالى يقول لنبيه: فَاعْلَمْ [محمد:19]. إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] إلى غير ذلك من الأدلة التي تحث على التزود من العلم، والرسوخ فيه.
فينبغي أن يكون مقصودك لما تقوله من التقرير للعقيدة، أو من الرد على المخالف الإخلاص والصدق العبادي، وأن يهتدي الناس بذلك، ولذلك فإن المخالفين للسنة والجماعة كما أنه يشرع الرد عليهم، يشرع كذلك في حقهم الدعوة.
ومن العجب أن نرى بعض الناس يقرر مسألة دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولا يلقي بالاً لدعوة أهل البدع، وردهم عن ضلالهم، وإذا كان غير المسلمين يُدعون إلى الإسلام، والله تعالى قد بعث الرسل يدعون الناس إلى دينه، ويدعون الكفار، فمن باب أولى أن يكون لمن ضل من عباد الله المسلمين من أهل القبلة بشيء من البدع، أن يكون لهم مقام من الدعوة؛ لأن الدعوة إلى دين الله من تحقيق العبودية لله، بغض النظر عن درجة استجابتهم، أما من يقول: إنهم لا يستجيبون، ويأتيك بكلمة عن زيد أو عمرو: أن المبتدع لا يستجيب، ولا يرجع عن بدعته، فإن هذا تخرَّص على الديانة.
فكل من أخطأ الحق، فإنه يجب دعوته، وإقامة حجة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عليه، سواء كان مسلماً ضل، أو كان غير مسلم.
ولذلك لما ذكر ابن تيمية هدي أهل السنة والجماعة، قال: (من هديهم ترك الاستطالة على الخلق، بحق أو بغير حق). فحتى لو كان الحق معك فلا تستطل أو تظلم من جهة أن الحق معك؛ بل يجب العدل والاقتصاد.
إذاً يقصد بالسلف هذا المعنى: الصحابة، وإذا قيل: عقيدة السلف، فهي عقيدة الصحابة.
كما ينبغي أن يُعنى بالتمييز، أي: تمييز السنة وأهلها من غير السنة، فينبغي أيضاً أن يُعنى بالشمول؛ لأن الملتزمين بهذه العقيدة، المستقيمين عليها، كما أنهم يسمون: سلفيين، فإنهم يسمون كذلك: مسلمين؛ لأن هذا اسم شرعي، والله تعالى يقول عن إبراهيم: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] فهذا اسم شرعي لا يجوز تركه، فهم مسلمون، مؤمنون، صالحون... إلخ، فالأسماء الشرعية لا يجوز هدم شيء منها، فكما أنهم يسمون أهل السنة، أو يسمون: أتباع السلف، أو أتباع الصحابة، فإنهم يسمون كذلك بالمسلمين، وما إلى ذلك.
وإن كانت بعض هذه الأسماء يشركهم فيها غيرهم، فهذا لا يوجب تعطيل الاسم الشرعي، كما يقول بعض الناس: لا تتسموا بالمسلمين؛ لأن السني والبدعي يسمى مسلماً، فالاسم الشرعي لتضمنه حقيقة شرعية؛ لا يجوز إسقاطه أو هجره لمجرد أن المخالف تسمى به.
فإذا قيل عن مسألة ما: من مذهب السلف كذا وكذا، فإنه يُفهم من هذا: أن هذه مسألة مدرجة في مسائل الأصول الأولى، وأنها مسألة مدرجة في باب السنة التي يقابلها البدعة. ولكن، ألسنا نرى في تاريخ المسلمين وفي علمهم، أن المسائل: إما مسائل مجمع عليها، وإما مسائل مختلف فيها، كالمسائل التي اختلف فيها الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء؟
يقول ابن تيمية : (تحصيل مذهب السلف استُعمل فيه عند المتأخرين أحد طريقين.. أما محققوهم فإنهم يُحصِّلون ما يسمونه مذهباً للسلف بالإجماع، فإما أن يكون هذا الإجماع قد نص عليه علماء الإسلام الكبار، وإما أن يكون الإجماع معروفاً، لكون هذه المسألة قد توافر قول الأئمة المتقدمين من السلف فيها ولم ينقل فيها مخالف)، فإذا انضبطت المسألة بالتواتر صح أن تنسب إلى مذهب السلف، مثال ذلك: قول البخاري : (لقيت أكثر من ألف عالم في شتى الأمصار، كلهم يقول: الإيمان قول وعمل). فهذه المسألة لما تواترت بهذه الصفة، ونقل من نقل أنها إجماع، صح أن نقول: من مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل.
وهذا الطريق هو الذي عليه المحققون كما يقول ابن تيمية ، وهو طريق المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، أئمة أهل السنة والجماعة.
أما الطريق الثاني فقال عنه: (واستعمل بعض المتأخرين من الفقهاء، من المنتسبين للسنة، وبعض المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة أيضاً، استعملوا طريقاً آخر، فصار ما يحصلونه فهماً في مسائل الديانة، وهم لا يجدون فيه إجماعاً، يضيفونه إلى مذهب السلف؛ لأن السلف عندهم لا يخرجون عن الحق).
وهم ظنوا أن هذا الفهم يلزم أن يكون صحيحاً، فصاروا يضيفون بعض مسائل الخلاف والاجتهاد إلى مذهب السلف، فإذا قيل: هذا من مذهب السلف، فهم البعض أن ما خالفه يكون خروجاً عن مذهبهم، وخروجاً عن السنة والجماعة، إلى غير ذلك.
وهذا الطريق الثاني، الذي اعترض عليه ابن تيمية وأبطله، لا شك أنه باطل بديهة؛ لأنه لو كان ممكناً وسائغاً للزم أن كل فقيه ينتهي إلى نتيجة ما باجتهاده، فإنه يحكم على قوله بأنه مذهب للسلف، وهذا يستلزم تعارض مذهب السلف.
إذاً: طريق المتقدمين هو الأعلم والأسلم والأحكم. والله منا ومنهم أعلم.
هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يهدينا سواء السبيل.
والحمد لله رب العالمين..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر