إسلام ويب

شرح الحموية [7]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مقالة التعطيل مقالة مأخوذة عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وأول من قال بها هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وقد انقسم المعطلون لصفات الله إلى ثلاثة طبقات: من نفوا الأسماء والصفات، وهم الجهمية، ومن أثبت الأسماء في الجملة ونفى الصفات، وهم المعتزلة، ومن أثبت الأسماء وبعض الصفات، وهم الأشاعرة ومن وافقهم.

    1.   

    بيان إسناد مقالة التعطيل

    أول من قال بالتعطيل في الإسلام

    قال المصنف رحمه الله: [ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقةً، وأن معنى استوى بمعنى: استولى، ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم ، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن إبان بن سمعان ، وأخذها إبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم ، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم].

    بدأ المصنف رحمه الله هنا ببيان إسناد مقالة التعطيل بعد أن بين إسناد مقالة أهل السنة والجماعة.

    وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه من حديث عائشة ، والأئمة على قبوله، وإنما طعن فيه بعض المتأخرين بما ليس من أوجه الطعن، وما وقع له صلى الله عليه وسلم من السحر لا ينافي مقام النبوة والرسالة.

    [وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم).

    قوله: الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم يشير به إلى محمد بن عمر الرازي الذي صنف كتاب السر المكتوم .

    [ونمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس ليس اسم علم، فكانت الصابئة إلا قيلاً منهم إذ ذاك على الشرك].

    اتصال الإسناد الذي بعد الجعد بن درهم من جهة اليهود أو غير ذلك وكونه أخذ هذا من طالوت ... إلخ محتمل، وقد ذكره بعض أهل الأخبار والسير وبعض أهل العلم، لكن المتحقق أن أول من تكلم بهذه المقالة هو الجعد بن درهم ، ثم أخذها وأظهرها الجهم بن صفوان ، ولو فرض جدلاً أن قبل الجعد رجلاً أو ثلاثة أو عشرة أو مائة أو أنه مع الجعد رجال.. إلخ فإن كل هذه الفروضات لا تقدم كثيراً ولا تؤخر، إنما الاعتبار بأن هذه المقالة مقالة ليس عليها صبغة الشريعة ولا عليها صبغة اللغة؛ ولهذا ترى أنها في تقريرها ومقدماتها وتنظيمها لا تستعمل الأحرف الشرعية ولا الأحرف العربية المعروفة في لسان العرب، بل يستعملون الأعراض والجوهر الفرد والجوهر المركب، والتركيب والإمكان.. وهلم جرا، وإن كان لهذه معان في اللسان في كثير من الموارد إلا أنها من جهة اصطلاحهم على غير ما هو معروف في لسان العرب، فمن ترتيبها وتنظيمها يعلم أنها مقالة محصلة منقولة.

    [وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62] وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:69] لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل].

    عني المصنف رحمه الله بذكر الصابئين الذين أئمتهم الفلاسفة؛ لأن التحقيق -كما يذكر ذلك في كتبه الكبار- أن مقالة التعطيل هي مقالة فلسفية، أي: هذا التعطيل الذي قاله الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ، ثم دخل على المعتزلة بصورة مقربة، ثم استعمل شيء كثير منه في كلام متكلمة الصفاتية أصل مقالته مقالة فلسفية؛ فإن الجعد بن درهم والجهم بن صفوان كانوا قبل ظهور المتفلسفة الذين يسمون بفلاسفة الإسلام، لكن لما ظهر فلاسفة الإسلام بعد هؤلاء وظهر الحسين بن عبد الله بن سينا قرر المذهب الذي قرره وأضافه إلى أرسطو ، وهو يقارب كثيراً المذهب الذي كان عليه الجعد والجهم ، بل يكاد يكون ينتهي إليه في الجملة، وإن كان هناك بعض الفرق في الترتيب والإطلاقات والاصطلاحات، لكن من حيث نفي الأسماء والصفات فإن المذهب واحد بين ابن سينا مع تأخره وبين الجعد والجهم ، لكن ابن سينا صرح بأن هذه فلسفة، وأنه نقل ذلك عن الفلاسفة، وصرح بأنه من الممتنع أن يدل القرآن على هذا، وأنه ليس فيه إشارة أو تصريح بهذا، وأن القرآن لا يمكن تأويله، وأن المجاز غلط.. وهذه كلها مسالك فلسفية؛ لأنه ليس من مقصود المتفلسفة هؤلاء كـابن سينا وأمثاله التوفيق بين فلسفتهم والقرآن؛ لأنهم يرون أن للقرآن اختصاصاً وأن لفلسفتهم اختصاصاً، فالقرآن في الجمهور، وفلسفتهم في الخاصة والحكماء.

    إذاً: الناظر في كلام ابن سينا مع تأخره عن متقدمي المتكلمين يجد أن مذهبه في الصفات هو بعينه المذهب الذي قرره الجهم بن صفوان والجعد بن درهم، مما يدل على أنه مذهب منقول، لكن المتكلمين لم يصرحوا بأنه مذهب فلسفي، بل ظهر لهم في كثير من الأحوال -كما هو شأن أئمة المعتزلة- رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، في حين أن ابن سينا صرح بأنه فلسفة؛ ولهذا هذا مذهب منقول بالقطع.

    [ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما].

    أي: مذهب النفاة من الفلاسفة، وهذا هو الأسلوب الذي يستعمله ابن سينا ، وهو أن الرب ليس له إلا صفات سلبية. والسلب: هو النفي. أو إضافية: كقولهم: إنه مبدأ الأشياء، وكقولهم: إنه علة الأشياء.

    وقد كان أرسطو أصلاً لا يتكلم إلا في مسألة العلة والمعلول، فجاء ابن سينا وتكلم في مسألة الواجب والممكن وقرب فلسفة أرسطو ، وقرب المتكلمون هذا وتكلموا في المحدَث والمحدِث، ولا شك أن الله محدث للعالم، لكنهم قصدوا بأن المحدَث -الذي هو العالم- يفارق المحدِث -الذي هو الخالق سبحانه وتعالى - بأن هذا المحدَث يتصف بالصفات كما تقول المعتزلة، أو أنه يتصف بالحوادث ولا يخلو منها كما تقول الأشاعرة.

    قوله: (أو مركبة منهما) أي: كقولهم: إنه عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق.. وهلم جرا. فهذه هي المركبات في اصطلاح المتفلسفة، ولهذا كقاعدة: لا تفسر اصطلاحات المتفلسفة أو حتى المتكلمين بحسب ما يتبادر من اللفظ أو السياق من جهة اللسان العربي، فإن كلمة مركبة لا يدل عليها بالضرورة مثل هذا الإطلاق فيها كقولهم: إنه عاقل ومعقول. ومثله الإضافية كقولهم: إنه مبدأ على معنى المتضايفين الذي يذكرونه في منطقهم.

    أصل مقالة التعطيل مأخوذ عن الصابئة والفلاسفة

    [وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة والفلاسفة].

    وهذا من قوة ربط المصنف، وبهذا يتبين أن هؤلاء المتفلسفة الذين بعث إبراهيم في قومهم كانوا منحرفين في شيء من توحيد الربوبية، وهذا الانحراف ليس واقعاً في المشركين عبدة الأوثان الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا لم يخاصم محمد صلى الله عليه وسلم قومه كثيراً في مسألة الربوبية إلا أنه يقع ذكرها في القرآن؛ لأن القوم -أعني: مشركي العرب- يسلمون بها، ومن يسلم بالربوبية يلزم أن يسلم بالألوهية، أما في قوم إبراهيم فالأمر ليس كذلك، ولهذا قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:75-78] فكان قوم إبراهيم -والذين كان الفلاسفة أئمتهم- منحرفين في توحيد الربوبية، كما أنهم منحرفون في توحيد الإلهية.

    [وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته].

    أبو نصر الفارابي ليس من المتكلمين، بل هو من المتفلسفة الذين يضافون للإسلاميين، وهو قبل الحسين بن عبد الله بن سينا ، وهو يعد أشهر المتفلسفة؛ وهم يلقبونه بالمعلم الثاني؛ لكونه رتب المنطق وقربه إلى أهل الإسلام، ويعنون بالمعلم الأول أرسطو طاليس ، وقد جاء ابن سينا بعده، لكنه غلبه في الشهرة وكثرة التصنيف.

    [وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره-].

    ذكر هذا الإمام أحمد في رسالته الرد على الزنادقة ، وهي رسالة مشهورة لطيفة ليست بالطويلة، وقد تكلم بعض أهل العلم في صحتها، وذكر الذهبي شيئاً من ذلك عن طائفة، لكن شيخ الإسلام رحمه الله يعتبرها ويعتمدها ويجزم بصحتها إليه، ولهذا نشرها في كتبه وعلق عليها كثيراً، وخاصة في كتبه الكبار.

    [لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند -وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات- فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة، والضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين.

    ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقوه في قلوب أشباههم].

    شاعت هذه المقالة خاصة لما تقلدها المعتزلة؛ لأن الجهم بن صفوان لم يتحصل له أتباع، أي: أنه لم يشكل مدرسة متكاملة لها تنظيمها وترتيبها وأتباعها باطراد، بل كان -إن صح التعبير- صاحب نظرية، لم يكن لها حظها إذ ذاك حتى عند السلاطين في بني أمية، وهو كذلك كان معارضاً لهم مارقاً على خلافتهم، لكن لما تقلد هذه المقالة المعتزلة؛ وخاصة أن المعتزلة مع أنهم أخذوا مقالة الجهم بن صفوان إلا أنهم ذموه في كتبهم؛ لأنهم يختلفون معه في مسألة الإيمان، ومسألة القدر، حتى في الصفات لهم بعض الاختلاف الصوري معه، وإن كانت حقيقة المذهب واحدة.

    ولهذا كان من فقه السلف رحمهم الله أنهم سموا كل من نفى الصفات جهمياً وإن كان معتزلياً، ولهذا قالوا: فتنة الجهمية مع الإمام أحمد . مع أن أئمة المناظرة كانوا من المعتزلة، وإن كان ينبه إلى -كما قرر ذلك شيخ الإسلام- أن الذين اشتركوا في فتنة خلق القرآن ليسوا معتزلة محضة في سائر الأحوال، بل منهم معتزلة ومنهم من هو جهمي يميل إلى الإرجاء في مسائل الإيمان وغير ذلك.

    1.   

    طبقات مقالة التعطيل ومواقفها من بعضها البعض

    [ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية؛ بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم].

    إذاً: عندنا ثلاث طبقات:

    طبقة الجهمية الغلاة

    الطبقة الأولى: طبقة الجهمية الأولى الغلاة، نفاة الأسماء والصفات.. ومذهب هؤلاء ليس مشتبهاً، فإن بطلانه معلوم عند أهل السنة، بل وحتى المعتزلة يصرحون ببطلان طريقة جهم بن صفوان المحضة، وكذلك متكلمة الصفاتية كالكلابية والأشعرية والماتريدية.

    فالطبقة الأولى -إذاً- هي التي أسست مقالة التعطيل، وهؤلاء مقالتهم من جنس مقالة ابن سينا وأمثاله المتفلسفة.

    طبقة المعتزلة

    الطبقة الثانية: وهي طبقة المعتزلة، وهم الذين يطلقون إثبات الأسماء في الجملة وينفون قيام الصفات بالذات، ولا يعني قولنا: يثبتون الأسماء في الجملة؛ أنهم يثبتون أسماء الرب سبحانه كما يثبتها أهل السنة، ولكنهم يثبتون منها ما يرون قبول الرب سبحانه وتعالى له، فقد اتفقوا على أنه حي عليم قدير، وقال البصريون منهم: إنه سميع بصير. لكنهم لا يثبتون صفةً هي السمع والعلم.. إلخ.

    وقد حصل في هذه الطبقة بعض الاشتباه، ومن أخص أسباب اشتباهها: تبني سلطان في دولة بني العباس لها، فقد تبناها المأمون بن هارون الرشيد ، ودافع عنها واستعمل السيف فيها، ثم جاء المعتصم والواثق على ذلك؛ فكان هذا من أسباب دخولها.

    ومن أسباب اشتباهها: انتساب كثير من المعتزلة لـأبي حنيفة في الفقه وخاصة متأخريهم، فتأثر كثير من الأحناف بمثل هذه المقالة.

    ولكن -أيضاً- هذه المقالة عند أهل السنة والمنتسبين إليها ليست محل اشتباه، فإن السلف أجمعوا على ذم مقالة المعتزلة، وكلام الأئمة -كما أشار المصنف رحمه الله - في ذمهم كثير، والسلف إذ ذاك كانوا يسمونهم جهمية، وهو الغالب، وإن كانوا أحياناً يصرحون باسم المعتزلة.

    وكذلك المنتسبون إلى السنة كالأشعرية والكلابية والماتريدية وجماهير الفقهاء أيضاً يتفقون على بطلان مذهب المعتزلة.

    إذاً: هاتان الطبقتان ليس فيهما اشتباه عند أهل السنة، والمنتسبين إليها من الفقهاء والمتكلمة الذين ينتسبون للسنة، وهم ثلاث طوائف على وجه الاشتهار: الكلابية والأشعرية والماتريدية، ويوجد طوائف أخرى، لكن هذه الثلاث أشهرها، وكذلك المتصوفة الذين مالوا عن طريقة السلف وانتسبوا للسنة.

    طبقة متكلمة الصفاتية

    الطبقة الثالثة: وهم من انتسب إلى أهل السنة من بعد القرون الثلاثة الفاضلة، لكنه غلط في ضبط مذهب السلف، ويدخل في هؤلاء المتكلمة والمتصوفة والمتفقهة.. فقد حصل الاشتباه في الطريقة الحادثة التي أحدثها المتأخرون من المتكلمين ووافقهم عليها من وافقهم من المتصوفة والفقهاء ولهذا بعد أن بين المصنف أن السلف الذين تسلِّم الأشاعرة في الجملة بإمامتهم أجمعوا على ذم الجهمية، وحتى المعتزلة الذين ناظروا أئمة السلف وحصل بينهم طعن ورد.

    يبين المصنف أن هذه المذاهب الكلامية التالية -التي تسمى مذاهب متكلمة الصفاتية- تركب من مادتين:

    الأولى: حق أخذوه من السلف، وهذا يتفاضلون فيه.

    الثانية: نفي أخذوه من المعتزلة والجهمية.

    ولهذا يقول بعد ذلك في مقام الربط بين مذهب الأشعرية والمتأخرين بعامة، وبين مذهب الجهمية والمعتزلة والمتقدمين من المتكلمين بعامة، قوله: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس.. وهذا هو أخص مقصود للمصنف يريد أن يصل إليه، وهو أن الأشاعرة كما أنهم يذمون المعتزلة فإنهم هم قد وقعوا في شيء من هذا الذي ذم لأجله السلف المعتزلة.

    ارتباط الطبقة الثالثة بالطبقة الأولى

    [وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات ].

    أبو بكر بن فورك متكلم أشعري، وهو يعتبر من متقدمي الأشاعرة، وهو في الجملة من فضلائهم، أي: ليس هو بمنزلة الجويني والرازي وأمثالهما، وإن كان الباقلاني خيراً منه في هذا، والأشعري خيراً من الباقلاني ، فـابن فورك يقارب طريقة الباقلاني وإن كان ليس عليها؛ لأن الباقلاني أقرب إلى الإثبات من أبي بكر بن فورك ، وإن كان لـابن فورك اشتغال بالآثار مشهور أكثر من اشتغال القاضي الباقلاني .

    وله كتاب التأويلات ، وقد رد عليه القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه إبطال التأويلات ، وكتاب أبي يعلى مطبوع.

    [وذكرها أبو عبد الله بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس ].

    هذا من أخص كتب الرازي ، وهو ليس طويلاً، وقد رد عليه شيخ الإسلام في كتابه نقض التأسيس الذي طبع جزء منه، وحقق الآن كاملاً، ويكاد يطبع إن شاء الله قريباً.

    [ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي ].

    أبو علي الجبائي معتزلي، والمصنف رحمه الله يريد أن يربط هذه المذاهب المتأخرة حتى ولو لم يكونوا أشاعرة.

    عبد الجبار بن أحمد الهمداني ].

    هو عمدة المتأخرين المصنفين في مذهب الاعتزال، له كتاب المغني -مطول- وشرح الأصول الخمسة ، والمحيط بالتكليف ، والمختصر في أصول الدين ، وكتب في أصول الفقه، وهو متكلم معتزلي من كبار متأخريهم. وفي الجملة أن من يدافعون عن مذهب المعتزلة في هذا العصر، أو يمتدحون بعض طرقهم ومقاماتهم ومقدماتهم إنما هم عيال على كتب عبد الجبار بن أحمد ، وخاصة المغني وشرح الأصول.

    أبي الحسين البصري ].

    أبو الحسين البصري من المعتزلة الحنفية، لكنه أقرب من عبد الجبار بن أحمد ، وهو صاحب المعتمد في أصول الفقه ، وقد خلط في هذا الكتاب الأصول الفقهية بكثير من الأصول الكلامية العقدية.

    أبي الوفاء بن عقيل ].

    أبو الوفاء بن عقيل حنبلي، وليس له انتماء كلامي؛ فإن الحنابلة -في الجملة- حتى إذا غلطوا لا ينتمون للمذاهب الكلامية، وإن كان ابن عقيل رحمه الله قد درس في أول أمره على أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التباني المعتزليين، وكان من أصحاب أبي الحسين البصري المعتزلي ، حتى إنه مال إلى شيء من كلام المعتزلة، وتأثر بكثير من كلام الكلابية وبخاصة في الصفات الفعلية، وصنف في هذا كتباً، وامتدح التأويل في بعضها، لكنه في آخر أمره رجع في الجملة إلى طريقة مقاربة لطريقة أهل السنة المحضة.

    أبي حامد الغزالي وغيرهم].

    أبو حامد الغزالي من فقهاء الشافعية، ومن أهل أصول الفقه الكبار، له المستصفى في أصول الفقه ، وهو أشعري متكلم متصوف، وهو حسن الكلام في السلوك لولا ما خلط في سلوكه من المواد الثلاث: الأحاديث الموضوعة، وترهات الصوفية، والمادة الفلسفية التي تكلم فيها في التصوف.

    وهذا لا يستغرب؛ فإن كثيراً من الفلسفة على طريقة التصوف العرفاني والإشراقي؛ ولهذا لما تكلم أبو حامد عن مقامات العارفين في كتبه -هذه المقامات التي ذكرها وامتدحها- نقلها من كلام الحسين بن عبد الله بن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات ، بل يلخص نفس الكلام الذي قال ابن سينا ، وهو يذكره في إحيائه وغيره، ولكن مع ذلك فالإحياء غالبه -كما قال شيخ الإسلام- جيد، أي أن فيه كلاماً حسناً في تقرير مسائل القلوب وغيرها، ولكن فيه أغلاط شديدة.

    [وهي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً].

    أي: أنهم ليسوا على طريقة الجهمية المحضة، ولا على طريقة غلاة المعتزلة المحضة، بل لهم كلام حسن في أشياء، وإنما محل ذمهم ليس فيما وافقوا فيه السنة؛ فإن هذا مما يمتدحون به ولكن في مواضع التأويل؛ فإن التأويل مادته واحدة، وهي المادة الجهمية.

    [ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري .

    صنف كتاباً سماه رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد في ما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها].

    أقعد بها أي: أعلم بقواعدها.

    [وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته ومن جهة غيره].

    من جهته وجهة غيره ، ومن الجهات التي دخلت على بعض هؤلاء -كـالرازي مثلاً- الجهة الفلسفية التي نقلها عن ابن سينا .

    [ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفه ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم].

    هذا هو الربط.

    إذاً: المصنف في هذا المقام يبين أن أصل مقالة التعطيل ظهرت في أواخر عصر التابعين على يد الجعد بن درهم ، ثم أظهرها الجهم بن صفوان ، وأن هذه الطبقة لا إشكال فيها؛ فإنه حتى المعتزلة عند التحقيق يذمونها، وإن كانوا يتفقون معهم في حقيقة المذهب، لكن الموقف النظري عند المعتزلة هو التصريح ببطلان مذهب الجهم .

    والطبقة الثانية: وهي طبقة المعتزلة الأولى، وهذه أيضاً اتفق السلف على ذمها، وليست محل اشتباه.

    فأراد المصنف ذكر الربط في الطبقة الثالثة، وهم المتأخرون وبخاصة متكلمة الصفاتية أو حتى المعتزلة المتأخرة الذين انتسبوا لبعض الفقهاء الكبار كـأبي حنيفة. فيقول: أن العاقل وطالب الحق إذا رأى أئمة الهدى قد ذموا المريسية أو ذموا الجهمية أو ذموا المعتزلة الأولى علم أن هذا الذم يطرد في هذا التأويل الذي استعمله المتأخرون ولو كان أكثرهم ينتسبون للسنة والجماعة، وأن محض الانتساب لا يكفي إذا لم يكن المذهب موافقاً لهذا الانتساب. [وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي تبين الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حولا ولا قوة إلا بالله].

    قوله: وعلم أن هذا القول الساري أي: إذا علم أن القول الذي انتشر وشاع في هؤلاء المتأخرين هو مذهب بشر بن غياث وأمثاله من أئمة الجهمية الأولى أو المعتزلة الذين كانوا معطلةً للصفات، علم أن الحق يختص بما ذكره السلف، وأن المادة في التأويل واحدة.

    [والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما أشير إشارةً إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير وينظر، وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة، لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه: مثل كتاب السنن للالكائي ، والإبانة لـابن بطة ، والسنة لـأبي ذر الهروي ، والأصول لـأبي عمر الطلمنكي ، وكلام أبي عمر بن عبد البر ، والأسماء والصفات للبيهقي ، وقبل ذلك السنة للطبراني ، ولـأبي الشيخ الأصبهاني ، ولـأبي عبد الله بن مندة ، ولـأبي أحمد العسال الأصبهانيين، وقبل ذلك السنة للخلال ، والتوحيد لـابن خزيمة ، وكلام أبي العباس بن سريج ، والرد على الجهمية لجماعة مثل البخاري ، وشيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي ، وقبل ذلك السنة لـعبد الله بن أحمد ، والسنة لـأبي بكر الأثرم ، والسنة لـحنبل ، وللمروزي ولـأبي داود السجستاني ، ولـابن أبي شيبة ، والسنة لـأبي بكر بن أبي عاصم ، وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري ، وكتاب الرد على الجهمية لـعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن محمد الخزاعي ، وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، ويحيى بن سعيد ، ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم، وقبل: لـعبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة].

    ومن طالع هذه الكتب التي أشار إليها المصنف وما ماثلها من كتب السلف علم أن هذا القول الذي وقع في المتأخرين من المتكلمين فضلاً عن قول المعتزلة والجهمية مناقض لمذهب السلف رحمهم الله.

    1.   

    مذهب السلف مبني على الدلائل السمعية والعقلية

    [وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكرها].

    قوله: وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية يتبين به أن مذهب السلف مذهب مبني على الدلائل السمعية وكذلك على الدلائل العقلية، وإن كان العقل عند السلف ليس مصدراً للتلقي، فهو وإن صح دليلاً في بعض الموارد إلا أنه ليس مصدراً للتلقي؛ ولهذا لا ترى أن مسألةً واحدة لا في الشريعة فضلاً عن أصول الدين يكون معتبر القول فيها عند السلف هو الدليل العقلي، وإن كان الدليل العقلي يقارن كثيراً من الدلائل الشرعية السمعية، وهذا مقام آخر.

    ولهذا لو قيل: هل يُستدل بالعقل عند السلف؟

    قيل: إما باعتبار كونه مصدراً للتلقي، أي أن المسألة المعينة سواء كانت في مسائل أصول الدين أو الشريعة تثبت بهذا الدليل من جهته مع عدم دلالة السمع فإن هذا لا يكون، ولكن العقل يقارن كثيراً من الدلائل السمعية، ولهذا يكون مصححاً، هذا إذا قصد بالدليل العقلي الذي يحصله أعيان الناظرين، أما إذا قصد بالدليل العقلي الدليل القرآني الذي مقدماته عقلية فهذا مقام آخر.

    1.   

    مدى ارتباط الطبقة الثالثة بالطبقة الأولى

    [وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة، ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى، فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير.

    فإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود].

    لأن أول من تكلما بها وهما الجعد والجهم ليس لهم مقام صدق وفضل في الأمة، حتى عند جمهور مبتدعة الأمة كالمعتزلة؛ فإنهم لا يمتدحون الجعد والجهم ، فإذا كان جمهور الأمة حتى من وقع منهم في البدع بل من طوائف أهل البدع الكبار كالمعتزلة يذمون الجعد والجهم علم أن أصل هذه المقالة التي أسسوها ونشروها مقالة باطلة.

    [فكيف تطيب نفس مؤمن بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!!].

    والشأن: هو أن يفقه طالب العلم الاتصال بين الطبقة الثانية -وهي طبقة المعتزلة وأمثالها- والطبقة الثالثة -وهي طبقة المتأخرين ممن انتسب للسنة والأئمة من متكلمة الصفاتية وأمثالهم- وحينما يقال: أن يفقه الاتصال. فإن هذا الاتصال لا شك أنه ليس على جهة التطابق، فإن الأشاعرة يخالفون المعتزلة في مسائل كثيرة مخالفةً حقيقية، ولكنهم يتفقون معهم في كثير من المسائل في الصفات، وإن كان الأشعرية يظنون في كثير من الموارد أنهم برآء من مذهب المعتزلة.

    ففقه هذا المقام هو الذي يحصل به زوال الإشكال؛ لأن مذهب المعتزلة لم يندفع إليه في الجملة أئمة الفقه -أعني: المتأخرين منهم- ومن اشتهر بالعلم، إنما الذي شاع وأشكل وتأثر به أو انتحله خلق من فضلاء أهل العلم الكبار هو مذهب أبي الحسن الأشعري ، فإن كثيراً من أصحاب مالك والشافعي ممن لهم مقام في العلم، وتحصيل معروف، وإمامة عند المسلمين -سواء في الفقه أو في أصول الفقه أو في الحديث، أو في مقامات الأحوال والتعبد- كانوا يسلكون هذا المسلك الذي يظنونه بريئاً من البدعة، وهو في نفس الأمر من مقامات ومذاهب أهل البدع، لكنهم لم يتفطنوا في الجملة لهذا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767986936