الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
[عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب رواه البخاري ].
إن هذا الحديث النبوي الشريف من أبين وأظهر الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وذلك أنه حديث في كلمة دخل عليها حرف النفي، ومدلولها ومعطياتها يعجز الإنسان أن يوفيه حقه.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً)، من هو هذا الرجل؟ لا يعنينا، لأنه صحابي، والراوي صحابي، والحادثة وقعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب سمعه أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
رجل صحابي سأل النبي، وهذه نعمة كبرى على أصحاب رسول الله، فما إن تعرض لهم حاجة، أو يقعون في مشكلة، أو تتجدد لهم الأحداث إلا ويهرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه فيجابون.
والسؤال والجواب من أعلى أساليب التعليم والتربية، وقد جاء هذا الأسلوب في كتاب الله، واعلم أن السؤال إما أن يكون عن حاجة واستفهام وطلب المعرفة، وإما عن تعنت وتعجيز، وكل ذلك جاء في القرآن الكريم، والله سبحانه أجاب على تلك الأسئلة كلها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن هذه الأمة أقل الأمم سؤالاً لنبيها، سألوه اثني عشر سؤالاً)، والمتتبع لهذه الأسئلة في كتاب الله يجدها عملية واقعية إلا ما تدخّل فيها عنصر اليهود.
قال الله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [البقرة:215] سألوه مرتين: مرة بنوعية الإنفاق، ومرة بمصرف هذا الإنفاق، فقال الله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] أي: ليس كل المال، كما جاء في قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [الأنعام:141]، قالوا: (وَلا تُسْرِفُوا) في الحق الذي تخرجونه، فلا تتصدقوا بكل الثمرة، فتتركون الأهل والولد جياعاً، وقيل: (وَلا تُسْرِفُوا) راجعة على الأكل المتقدم ذكره، أي: كلوا بدون إسراف، بل بتوسط، وكما قال الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29] والسؤال الآخر: قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، فبين الله الأصناف الذين هم أحق بالبداءة والأولوية، وهو أمر عملي.
وقال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] -وهو أمر يخالط البيوت- قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222].
وقال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217] وهذه أمور واقعية.
وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْر [البقرة:220] واليتيم فرد من المجتمع.
وقال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فقارن بينهما ورجح الإثم.
وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105]، وهنا قال: (فَقُلْ) ولم يقل: قل.
عن رجل في سالف الزمن خرج من المشرق إلى المغرب، ما شأنه؟
وعن فتية آمنوا بربهم وخرجوا، ما شأنهم؟
وعن الروح؟
فإن سكت عن الجميع فهو كاذب فشأنكم به، وإن أجابكم عن بعضها وسكت عن بعضها فهو صادق، فجاءوا وسألوه، وجاءت الإجابة بقدر السؤال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9]، وبيّن سبحانه قصتهم وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبي [الإسراء:85]، وقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، وكان رجلاً في سالف الزمن، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التاريخ، ولم يعاصره، ولم يبلغه عنه شيء، فقص الله قصته للتحدي وللإعجاز، وسؤالهم ليس عن رغبة في فائدة يتحصلون عليها من وراء هذا السؤال، فجاء الجواب دون كل الأسئلة: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83]، أي: سأقرأ وحياً ينزل عليّ، ويكون هذا الذكر باقياً إلى الأبد: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ [الكهف:84] إلى آخر السياق، وفيها طوافه من المشرق إلى المغرب، وما كان منه في الطرفين، وما فعل مع يأجوج ومأجوج، إلى آخر قصته وفيها ما لم يكن عند اليهود من خبره في ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (يا
يقولون: حينما يأتيك جواب عن قضية عابرة يمر الجواب بسمعك عابراً، ولكن حينما تُسأل وأنت لا تعلم، تتفاعل في نفسك وتطلب الجواب والمعرفة فلا تجد، فتقف وكلك استعداد لتلقي وقبول الجواب الذي يأتيك، فيرسخ في قلبك.
ومن هنا نعلم جميعاً أن معاذاً تشوق إلى الجواب، فأخبره صلى الله عليه وسلم بعدما استجمع حسه وقواه لتلقي الإجابة، فقال: (حق الله على العباد كذا، وحق العباد على الله كذا).
وكان عمر رضي الله تعالى عنه في مسجد رسول الله فاختلف عنده رجلان من الصحابة، فيمن يأتي أهله فيكسل ولم ينزل، أيغتسل، أم لا؟
فقائل يقول: لا غسل عليه، لحديث: (إنما الماء من الماء)، وقائل يقول: عليه الغسل لحديث: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل).
فسأل علياً رضي الله تعالى عنه: ما تقول أنت -يا علي!- في هذه المسألة؟ فقال علي : لا تسألني ولا تسأل غيري، دونك زوجات رسول الله فأرسل إليهن وسلهن، فيرسل إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فأخبرتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويغتسل، قالت: وسمعته يقول: (إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل) ، فرجع الرسول وأخبر عمر ، فقال: لئن سمعت أحداً يقول: لا غسل عليه، لأجعلنه مثلة لغيره، وانتهى الخلاف، وقال أُبي : يا أمير المؤمنين! لا تعجل، أنا أخبرك عن هذا: في بادئ الأمر لم يُعزم علينا بالغسل، ثم في آخر الأمر عزم علينا به.
وفي زمن مروان بن الحكم ، وهو أمير على المدينة، اختلفوا عنده فيما يتعلق بالصائم في رمضان إذا أصبح جنباً -أي: أجنب بالليل، ولم يغتسل حتى طلع الفجر وهو جنب- والجنابة أثر من الوطء، فهل الأثر له فعل المؤثر، وصيامه باطل لأنه أثر الجنابة، والجنابة تبطل، أم لا؟
فتساءلوا، وقال قائل: إن أبا هريرة أخبرني أنه لا صيام له، فأرسل رجلاً إلى أم المؤمنين عائشة وسألها: فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام ويصبح صائماً)، فأرسل الرجل إلى أبي هريرة ، وهو بوادي العقيق، ليسأله عن رأيه، ويخبره بما قالت أم المؤمنين، وهذا منهج عملي في تتبع الخلاف في الروايات، فلما جاءوا إلى أبي هريرة وأخبروه، قال: أوقالت ذلك؟ قالوا: نعم، قال: أنا أخبرني مخبر، يعني: ما سمعت ذلك مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهل ترجح رواية من قال: أخبرني مخبر، أو رواية عائشة عن رسول الله؟
هكذا يكون ترجيح الروايات، وهذا منهج عملي لمعرفة الراجح من الخلاف فيما يصلنا من الروايات المتعارضة في الظاهر.
وتجد كلمة أخرى شبيهة بها في مادتها، وهي: وَصَلَ، فالواو والصاد موجودتان في الكلمتين، وتختلف الوصية من أنها تنفرد بالياء، والوصل ينفرد باللام.
يقول علماء فقه اللغة: إذا وجدت كلمتان تتفقان في أكثر الحروف، وتختلفان في حرف واحد، فبينهما صلة قرابة، والفرق بينهما هو الفرق بين الحرفين المختلفين، ويمثلون لذلك بقولهم في اللغة: خَبَنَ وغَبَنَ، فالخبن هو: التقصير من طول الثوب، والغبن: النقص في القيمة، فيقال: فلان مغبون في السلعة، أي: اشتراها بعشرة وهي تساوي خمسة، فنقص عليه من الثمن وصار بدون مقابل، أو باع السلعة بخمسة وهي تساوي عشرة، فهذا غُبن في خمسة ذهبت عليه، فالغبن والخبن كلاهما يشترك في معنى النقص. لكن الخبن: في نقص الثوب وتقصيره، والغبن: في نقص القيمة وتقديرها.
ومن دقة اللغة العربية وبلاغتها أنهم غايروا بين الغين والخاء، فنظروا إلى أن الغين أدخل في الحلق، والخاء أظهر، وكلها من حروف الحلق، وهي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء، فلما كان الغبن أمراً معنوياً، والغين أدخل في الحلق، جعلوا الغين مع الغبن من النقص المعنوي، ولما كان الخبن في المحسوسات، جعلوا الخاء التي هي أظهر من الغين في المعنى الملموس.
إذاً: وصى ووصل متقاربتان، والوصية صلة للموصى إليه، ولذا قال الله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، وقال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، والوصية للوالدين والأقربين هي صلة لهم بما يوصي به، ومن هنا فمعنى: أوصني، أي صلني بمعروفك يا رسول الله! تقول: أوصيك يا فلان! أي: أصلك بخير وأمنحك إياه.
إذاً: الوصية مصدرها الشفقة والرحمة وحب الخير.
هناك قال لـمعاذ : (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وهناك وصايا عديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور متعددة، ويهمنا في هذا الموقف وصيته لهذا الرجل الذي طلب وصية رسول الله، وتحفظ في طلب الوصية فقال: لا تكثر عليّ لعلي أعقل، والمراد بالعقل هنا: الإدراك، والحفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ولم يقل: يحفظه؛ لأن الفقه هو: الفهم، والفهم ثمرة الحفظ، كما جاء في الحديث: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
فالنبي صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لرغبة السائل لم يكثر، فقال: (لا تغضب)، فكأن لسان حال السائل يقول: أهذه الوصية التي جئت من أجلها، وتعبت لأسألك، وأهتم لذلك، ثم تقول لي: (لا تغضب)، فكرر: (يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب).
وفي بعض الروايات أنه جاءه عن يمينه ثم جاءه عن يساره ثم جاءه من أمامه، قال: (ألا تعقل! لا تغضب)، وفي بعض الروايات أنه قال: أوصني، علمني حسن الخلق، فقال: (لا تغضب)، وكل الروايات جاءت بالتأكيد على عدم الإكثار، فقال: (لا تغضب) فهذه كلمة كل من يسمعها يتقالها، وفي بعض الروايات أن السائل قال: (فتأملت في الغضب فوجدت تركه ترك الشر كله).
وفي بعض الروايات: (فتأملتها فإذا هي جامعة الخير كله)، هذه الكلمة يقف عندها علماء الأخلاق، كما فعل ابن مسكويه ، ويقف عندها علماء التشريع في الفقه، في آثار فعل الغضبان، ويقف عندها علماء التربية والتوجيه.
إذاً: الغرائز جبلات لا يمكن أن تنتزع، والإسلام ما جاء لينتزع الغرائز ولكن جاء ليهذبها، ويقال: إن الغضب محله القلب، وهو غريزة سبعية، فالأسد يغضب، وكلٌ من الرحمة والرضا غريزة إنسانية وحيوانية، ومحلها الكبد كما يقولون، والفكر والإدراك والذاكرة والتريث والتعقل محلها العقل، وهل العقل في الدماغ أو في القلب؟ هذه مسألة مختلف فيها بين الفلاسفة والفقهاء.
إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
والرسول صلى الله عليه وسلم مدح الأنصار بصفة كاملة، فقال: (إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع)، قياس عجيب، ومقابلة بديعة، عند الطمع حينما تستشرف النفوس، وعند العطاء، وعند وجود الخير، حينما يتطلع كل إنسان ليحصل على أكثر ما يكون؛ يقلون، ولا ظهور لهم، تعففاً واستغناءً، وعند الفزع والنجدة يكثرون، الواحد منهم كعشرة من غيرهم، والله امتدحهم في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ يوقى هذه الغريزة وهي شح النفس فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
وامتلاك النفس عند الشهوة، كحديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وجاءت الصخرة وسدت عليهم فم الغار، فما أنجاهم الله إلا بعد التوسل بخالص أعمالهم، لا بزيد ولا بعمرو، فلم يكن يعلم بمكانهم أحد، ولا يقوى مخلوق على إسعافهم، فقاموا وبينوا لنا الطريق السليم في التوسل إلى الله، وهو التوسل بالعمل الصالح، فيتوسل أحدهم بإيتاء الأجير حقه، ويتوسل الآخر ببر والديه وتقديمهما على أولاده، ويتوسل الآخر بهذا الموقف الخطير حيث قال: إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها فامتنعت، فأخذتها سنة من السنين المجدبة، فجاءت تطلب عشرين ديناراً، فقلت لها: أعطيك على أن تخلي بين وبين نفسك!! ثم دفعتها الحاجة، قال: فلما أجابت وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها الدنانير، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فتدحرجت الصخرة، وخرجوا يمشون في الفضاء، موقف عجيب! لو جيء (بونش) ليقيم الإنسان وهو تحت تأثير رغبته وشهوته ما استطاع أن يرفعه إلا وهي معه، ولكن مخافة الله أيقظت فيه الضمير عندما قالت له: (اتق الله)، وتقوى الله هي كل شيء.
فليملك الإنسان نفسه عند الشهوة، وعند الغضب كذلك، ففي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب)، وفي بعض الروايات: (لا تغضب فإن كثرة من في القبور من الغضب) نعم، فتشوا، وشكلوا لجاناً، وكل منكم يسأل: هل طلق زوج زوجته إلا بغضب؟! وهل قتل القاتل إلا بغضب؟! وهل اغتصب غاصب مغصوباً إلا بغضب؟! وهل اعتدى إنسان على إنسان إلا بغضب؟!
أذكر قبل حوالي عشرين سنة أني كنت قرأت مقالاً لبعض الأطباء، يقول: الغضب ثلاثة أقسام: غضب أخضر، وأسود، وأحمر.
الغضب الأخضر: وهو ممدوح ومطلوب، وذلك إذا كان لحرمات الله، ويكون في محله، ويكون لمصلحته، فالرسول صلى الله عليه وسلم (كان إذا رأى حرمات الله تنتهك يغضب لله) فلما جاء أسامة -حب رسول الله وابن حبه- يشفع في المخزومية التي سرقت، غضب وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله! لو أن
والغضب الأحمر هو: الغضب على الأشياء التوافه الذي يثير الإنسان لكنه في حدود التمكن.
والغضب الأسود هو: الذي يعمي البصيرة ويطمس البصر، ويذهب عن الإنسان إدراكه، ولا يدري ماذا يفعل؟ فيضر نفسه، وهذا القسم من الغضب قد يرجع على صاحبه بالأذى، فقد يصاب بنزلة معوية، فتتضرر أعصاب المعدة فيمرض، وقد يثور عليه ضرس، وقد تثور عليه عينه، وأقل آثاره أن يصاب بصداع شديد، وقد يحصل عليه شلل في المخ.
إذاً: عليك ألا تغضب لتسلم من الأمراض، فبالغضب قد تنفجر الطبلة في الأذن، وقد تتخلخل الأسنان، وقد ينشل المخ لسرعة التفكير وقوته، وقد يتعطل مركز من مراكز المخ فينشل عضو من أعضاء الجسم، فلا تغضب، فإن كثرة من في القبور من الغضب.
إذا كان الغضب غريزة وهذه أخطاره، فهل نتخلص من غرائزنا؟ لا، ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تنتزع هذه الغريزة من نفسك، وأن تتجرد من إحساسك، لا، فإن الغضب من شيمة الرجال، والشخص الميت لا يغضب بالكلية، فالغضب دليل الإحساس، لكن إذا أحسست بدوافع الغضب، فلا تسترسل معه، ولا تستجب لدعائه، فإذا غضبت من إنسان فالنفس تدعوك إلى البطش وإلى الانتقام، فلا تنفذ ما يدعوك إليه الغضب، إذاً: ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تكون ميتاً، فالحيوان لو اعتدي عليه فإنه يغضب لنفسه، وليس معنى ذلك أن تسلب نفسك الإحساس بالغضب، ولكن معناه: أنك لا تمكنه من نفسك، معناه: أنك لا تستجيب لنزعات الغضب.
فكيف نعالج الغضب؟
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلسه، وقام رجلان يستبان، كل واحد منهما يسب الثاني، وأقول: سامحهما الله! يستبان أمام رسول الله! فغضب أحدهما جداً حتى انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه. وهذا هو أثر الانفعال، فإذا انتفخت الأوداج فمعناه: أن الدم يجري بكثرة في العروق، هناك أوردة شعرية دقيقة مثل الشعرة تغذي ما تحت جلدك، فإذا ما غمزت بطرف الدبوس في أي محل في جسدك فإنك تحس به؛ لأن خلية الإحساس موجودة، والخلية يغذيها الدم، والشعرة يغذيها عرق مثل الشعرة تحتها.
إذاً: هناك أوردة شعرية في الجسم، وأكثر ما تكون وأدق ما تكون تحت حاجب العين، وفي الدماغ، فإذا زادت كمية الدم في العروق، وزاد القلب في ضرباته ودفعاته، فتلك العروق الدقيقة لا تحتمل الضغط العالي فتنفجر، فيتعطل المخ، فالرجل المذكور انتفخت أوداجه واحمرت عيناه؛ لأن العين -كما يقول أطباء العيون- فيها ما يقرب من مليون خلية تنقل الألوان إلى المخ، فالعين أسرع ما تكون تأثراً عند الغضب، فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى حال الرجل: (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فسمعها رجل فذهب وهمس بها في أذن ذاك الرجل، فقال: أمجنون أنا؟! ما قبلها وهو غضبان، ولو كان مالكاً لنفسه لسمع وعمل بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: ذكر الله، وخاصة هذا الذكر الوارد.
ثانياً: جاء في الحديث: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)، والحكمة أنه إذا توضأ حبس الغضب في أطرافه، فلم يجد له منفذاً فيهدأ، فإن لم يذهب فليغتسل.
ثالثاً: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطجع، ومما أثبته علم التشريح أن الإنسان إذا كان قائماً فالقلب يعمل أكثر، فإذا جلس قلت المسافة التي بين القلب وبين الأعضاء، فإذا وقفت وكان طولك مترين، فالقلب يوزع الدم على منطقة طولها متران، لكن إذا جلست صرت متراً واحداً، وبسبب تقارب الأعضاء يكون الضخ أقل، فإذا استلقيت فلا يوجد مجهود كبير، لأن الجسم يكون على مستوى واحد، وأظن هذا معروفاً، ولهذا عندما تذهب المريض إلى الطبيب من أجل ضغط الدم -الله يعافينا وإياكم جميعاً- فالطبيب يقيس الضغط للمريض وهو جالس؛ لأن الضغط يكون أعلى في حال الوقوف، وإذا كان المريض تعبان من الطريق فإنه يتحدث معه قليلاً قبل قياس ضغطه، وإذا كان منفعلاً يهدئ باله، حتى يكون في الوضع الطبيعي ثم يقيس له الضغط.
وأثر الغضب كبير، فالشخص الغاضب إذا كان قائماً وبجانبه عصا، والذي أغضبه أمامه فإنه تلقائياً سيأخذ العصا ويضربه، ولو كان قائماً ولا يوجد عصا أمامه، فإنه سيبحث عن شيء يمكن أن يضربه به، فإذا كانت أسباب الانتقام موجودة، فتكون الاستجابة للغضب أسرع، فإذا كان قائماً فهذا أمكن لتنفيذ دعوة الغضب، وإذا كان جالساً وأراد أن يضرب فإنه يحتاج إلى أن يقوم، ويحتاج إلى أن يأخذ ما يضرب به، فتكون الفرصة في حال الجلوس أضيق، وإذا اضطجع كانت الفرصة أضيق وأضيق.
فمن علاج حالة الغضب حتى لا يتحكم بالإنسان، أن يذكر الله، وأن يبادر إما بالوضوء أو الغسل، وأن يغير هيئته التي هو عليها، فإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع.
فإذا فعل الغضبان شيئاً ماذا يكون الحكم؟
يتفق العلماء على أن الغضبان إذا أتلف شيئاً لغيره في حالة غضبه، فهو ضامن لما أتلف، ولا يقول: إني غضبان وما كنت في وعيي، فالعوض المالي ثابت بخطاب الوضع لا بخطاب التكليف، فخطاب الوضع يقول: من أتلف شيئاً لغيره فهو ضامن، هذا ما حصل لأم المؤمنين عائشة مع صفية رضي الله تعالى عنهما، فقد كانت صفية تجيد صنع الطعام، وكانت بنت ملك، فأرسلت يوماً بقصعة فيها طعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوبة عائشة، فغارت عائشة رضي الله تعالى عنها فضربت القصعة وهي في يد الخادم، فسقطت فانكسرت وانتثر الطعام، فأمسك صلى الله عليه وسلم قصعة صفية عند عائشة ، وأخذ قصعة عائشة وأرسلها إلى صفية عوضاً عن قصعتها، وما الذي حمل عائشة على هذا؟ الغيرة، والغيرة غضب، والغيرة قد تقتل لأنها من أثر الغضب! وإذا تصرف الغضبان تصرفاً معنوياً فهل يلزمه نتائجه أو لا يلزمه؟ إذا أعتق عبداً أو إذا طلق زوجه، ونحو هذه الأمور المعنوية، فهل يقع طلاقه ويسري عتقه أم لا؟
يتكلم الفقهاء في هذه المسألة كثيراً، وليس هذا محل تحقيقها، ولكن خلاصة ذلك ما جاء عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: إذا تملك الغضب على الإنسان بحيث أصبح لا يعرف الذي أمامه ولا يعرف هل هو ولده أو أبوه؟ ولا يميز بين ابنته وزوجته، وهذا كما يقول المالكية فيما يتعلق بالسكران الذي لا يعرف نعله في قدمه من نعل غيره، ولا يعرف رداءه من رداء غيره، فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقه، والشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان يقول: المولى سبحانه قال: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فإن كان يحسن قراءة الفاتحة فهو صاح، وإن كان لا يحسنها فهو سكران، ويقول الإمام ابن تيمية في هذا: من استحكم فيه الغضب حتى أصبح لا يميز ولا يدرك فإنه يؤاخذ بتصرفاته التي عليه، ولا يؤاخذ بتصرفاته التي له، فالبيع والشراء عليه هو، ولكن الطلاق والعتق له هو، فيقول: لا يقع طلاقه ولا يقع عتقه، أما ما كان عليه من ضمان الأموال والاعتداء على الدماء ونحو ذلك فإنه ملزم به.
فالغضب إذا وصل بإنسان إلى هذا الحد، فصار لا يميز بين ولده وأبيه، وبين زوجته وابنته ،يقول: فهو في حالة يكون فيها مسلوب العقل والاختيار كالحيوان، فيضمن ما أتلف، ولا يؤاخذ بالعقود المعنوية كالطلاق والعتاق.
فهذا الحديث الذي فيه مجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبه منه الوصية الموجزة، فجمع له الخير كله، ودفع عنه الشر كله، بكلمة واحدة: (لا تغضب).
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر