فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:1-6].
الواو في قوله تعالى: (وَالتِّينِ) واو قسم، فأقسم الله سبحانه وتعالى بأربعة أشياء: بالتين، وبالزيتون، وبطور سينين، وبالبلد الأمين، أما المراد بالتين: فلأهل العلم فيه أقوال، أشهرها: أنه التين الذين يأكله الناس، وكذلك الزيتون فهو الزيتون الذي يعصر، ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالتين والزيتون: منابت التين ومنابت الزيتون، أي: الأماكن التي ينبت فيها التين، والأماكن التي ينبت فيها الزيتون. وهذا القول له قوة.
واستظهر بعض العلماء قولاً فقالوا: إن الله أقسم بثلاثة مواطن: بمنابت التين والزيتون وهي: الشام، وبطور سينين وهو: طور سيناء، وبالبلد الأمين وهو: مكة. قالوا: فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه المواطن الثلاثة التي نزلت فيها أشهر كتبه على أفضل خلقه عليهم الصلاة والسلام، فالتين والزيتون المراد بهما: منابت التين ومنابت الزيتون، وهي بلاد الشام التي كان فيها عيسى صلى الله عليه وسلم، وطور سينين وهو طور سيناء الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وسلم، والبلد الأمين وهو مكة التي بعث فيها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. فهذه وجهة القائلين بأن المراد بالتين والزيتون منابت التين ومنابت الزيتون.
وعلى ذلك فالقسم بثلاثة مواطن، وهي: الشام حيث ينبت التين والزيتون، وطور سينين، والبلد الأمين.
قال تعالى: (وَطُورِ سِينِين) أما الطور: فهو كل جبل ينبت يطلق عليه طور، فهناك جبال إذا نزل عليها المطر أنبتت، وجبال إذا نزل عليها المطر لا تنبت، فكل جبلٍ ينبت يطلق عليه فهو طور.
أما قوله: (سِينِينَ) فلأهل العلم فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بسينين: سيناء.
ومن العلماء من قال: إن المراد بسينين أي: مبارك حسن، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لجارية كان يقال لها أم خالد حينما أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أقاربها وعليها ثوب حسن، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا
ومن صور الأمن التي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) فذكر الحديث، وفيه: (فلا تلتقط لقطتها إلا لمنشد، ولا يعضد شوكها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يسفك فيها دم).. إلخ، فلها حرمة، فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه البلدة.
وعلى ماذا يقسم الله بهذه الأشياء؟
لأهل العلم أيضاً فيها قولان مشهوران:
القول الأول: أن المراد بـ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة، فعلى ذلك يكون المراد بالإنسان هنا: الإنسان الكافر، فالمعنى: لقد خلقنا هذا الإنسان الكافر في أحسن تقويم، ثم بعد ذلك لما لم يؤمن ولم يشكر؛ قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة. فهذا قول لكنه ليس بالقول الأشهر، وليس عليه الأكثر.
والأكثرون على أن المراد بـ (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أرذل العمر، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل:70]، وكما قال سبحانه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:68]، فمعنى قوله: (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: إلى أرذل العمر، وهنا يقول الشاعر:
يود الفتى طول السلامة والغنى فكيف ترى طول السلامة يفعل
يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل
فبعد أن يكون في أحسن تقويم يبدأ بالتمايل وانحناء الظهر، فالمراد بالإنسان على هذا التأويل: عموم الإنسان (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) أي: كل الإنسان، (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أعدل خلق، وأحسن قوام، ثم بعد ذلك (رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي إلى أرذل العمر، فبدأ هذا القوام الجميل المستقيم في الانحناء والرجوع.
لكن يرد على هذا الوجه من التأويل إشكال وهو: أن الله قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؛ فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء، ومن المعلوم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الآخرون ينكسوا في الخلق، وينحنوا كما ينحني غيرهم، ويكبروا كما يكبر غيرهم، فكيف توجه هذه الآية: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؟
أجاب الذين اختاروا هذا التأويل على هذا الإشكال بقولهم: إن قوله تعالى: (إِلَّا) بمعنى لكن، فالمعنى: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون، واحتاجوا مع هذا إلى أن يقدروا محذوفاً في الآية الكريمة، فقالوا: إن في الآية محذوفاً يفهم من السياق، فالمعنى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، أي: في أحسن صورة، وأعدل قوام، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى أرذل العمر، حيث الكبر والتخريف، فلما يكبر ويخرف ينقطع عمله ولا يقبل، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تنقطع أجورهم، فهم وإن ردّوا إلى أرذل العمر، وانقطعت أعمالهم، ولم يستطيعوا القيام بما كانوا يقومون به من أعمال صالحة؛ مع ذلك كله لا تنقطع أجورهم فهم: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)، أي: غير مقطوع، ولا منقوص.
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)، فقال هؤلاء العلماء: إن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) معناه: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات انتظروا وضعفت صحتهم، وخارت قوتهم، وانحنت ظهورهم، ولا تنقطع أجورهم؛ بل تثبت لهم الأجور وإن ضعفوا عن العمل الذي كانوا يقومون به، وذلك على خلاف الكافر.
وثم قولٌ آخر في تفسير قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)، أي: ما هو الحامل لك أيها الإنسان على التكذيب بالدين وقد بيّنا لك حالك وما ستصير إليه؟ ما هو الحامل لك بعد هذا البيان على التكذيب بالدين؟ أي: بالجزاء والحساب.
فقوله سبحانه: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ) فيه قولان: أحدهما: أن الخطاب لرسول الله أي: فمن يكذبك بعد هذا البيان الذي بيّناه لك يا محمد؟! ومن يستطيع أن يكذبك في أن هناك بعثاً وجزاءً؟!
والثاني: أن الخطاب للإنسان أي: فما الحامل لك أيها الإنسان على التكذيب بالدين؟ وما هو الذي يحملك على أن تكذب بالجزاء والحساب؟
وقد ورد بأسانيد فيها ضعف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين)، لكن لم يثبت في هذا الباب خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما ورد فيه أحاديث ففيها مقال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر