أيها الإخوة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان درسنا إن شاء الله "ماذا ينقصنا؟" ولقد تأملت في النواقص التي تنقصنا نحن المسلمين، وفكرت في هذا العنوان، فرأيت أن الذي ينقصنا من كثرته لا يحصى، وأنه لعل الأجدى أن نفكر فيما يوجد عندنا، فهو أسهل في الحصر، وأما ما ينقص، فيصعب حصره من كثرته، ولكن من باب المحاسبة لأنفسنا؛ تعالوا نفكر في شيء مما ينقصنا؛ لنحاول الاستدراك وتحصيل بعض المطلوب، وقد قال الله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] ماذا ينقصنا؟
أول ما يخطر في البال مما ينقصنا تحقيق الإخلاص لله عز وجل، الإخلاص مسألة المسائل وأصل الأصول، الإخلاص الذي إذا حصله الإنسان المسلم؛ صلح حاله في كل شيء.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وقال إبراهيم التيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، وقال ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل] ويُذكر عن الحسن: [ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]. ما خاف عذاب الله إلا مؤمن، ولا أمن عذاب الله إلا منافق، هذا بعض ما ورد عن السلف مما يدفعنا إلى الحرص على الإخلاص، ومجاهدة النفس في سبيل الوصول إليه.
هذا السؤال يجيبنا عليه العلامة ابن القيم رحمه الله، فيقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، الضب والحوت -فالضب يسكن في الصحراء والحوت يكون في الماء- فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً، فاذبحه بسكين اليأس، عليك بالإياس مما في أيدي الناس، ولا ترجو على عملك الصالح شيئاً دنيوياً، اقطع الطمع من الدنيا بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؛ سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل عليَّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وهو بيد الله وحده، لا يملكه غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً، ولا يؤتي العبد منها إلا ما أراد.
وأما الزهد في الثناء والمدح، فيسهله عليك علمك أنه ليس أحدٌ ينفع مدحه ويضر ذمه إلا الله وحده. كما ذكر ذلك الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام: إن مدحي زينٌ، وإن ذمي شينٌ، فقال: (ذلك الله عز وجل، الذي مدحه زين، وذمه شين). إذا مدح الله عز وجل أحداً، كان زيناً، وإذا ذم أحداً؛ كان شيناً على هذا المذموم.
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين؛ كنت كمن أراد السفر في البحر بغير مركب، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] وقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
إذا كان يراقب الله في أعماله، ويحتسب الأجر في أفعاله وأقواله، ويعمل بعلمه، وينصر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقمع البدعة، ويحلي باطنه، ويزكي نفسه، ويحس بقربه من الله، وأن قلبه منير، فعند ذلك هو إذاً من المخلصين.
كان الصالحون يدخرون أعمالاً معينة عظيمة لآخرتهم، يقول ابن كثير رحمه الله عن السلطان عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب ملك دمشق والشام، يقول: لما توفي أبوه كان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، هذا الرجل تولى بعد أبيه، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، اشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان قد أمر أن يُجمع له كتاب في اللغة يشمل الصحاح للجوهري والجمهرة لـابن جريج والتهذيب للأزهري، وأمر أن يرتب له مسند الإمام أحمد، وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير، ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي، وأوصى عند وفاته ألا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له، ولا يبنى عليه، وكان يقول: واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى، وأرجو أن يرحمني بها، يعني: أنه أبلى بها بلاءً حسناً رحمه الله تعالى، وقد جُمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله.
فالإنسان وكل واحد منا يحاول أن يعمل أعمالاً صالحةً يدخرها عند الله، هذه لآخرتي، هذه ليوم العطش الأكبر، هذه ليوم الخوف الأعظم، يعمل الصالحات ويدخرها للآخرة، اعمل وخبئ وادخر لذلك اليوم.
ينقصنا -أيها الإخوة- القدوات، نحن في قحط في القدوات إلا من رحم الله فوفقه للقدوات: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] يؤتم به، قال الله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
ما طلبوا ذلك للشهرة، وإنما طلبوه ليحصل لهم أجر الاقتداء، لماذا يريدون أن يكونوا أئمة يُقتدى بهم؟ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]؟ لكي يحصل لهم الأجر بالاقتداء: (من دل على هدى، كان له من الأجور مثل أجر من تبعه).
إحداهما وهي أشدها: سقوط عدالته، ولا تقبل شهادته، لأن الإنسان إذا جاء إلى منكر وجلس، وجلوسه حرام، فهو مجاهر بجلوسه في المنكر، وجلوسه منكر.
والثانية: أنه قدوة، فيقع العوام بسبب تعاطيه ذلك في اعتقاد جوازه في الشرع، فيكون ذلك سبباً للإحداث في الدين.
إذاً موقع القدوة مهم، إذا جعلك الله يا أخي قدوةً إماماً أو مدرساً، أو في أي مكان أنت فيه قدوة، حتى لو كنت أباً لأولادك أنت قدوة في البيت، فاحرص كل الحرص أن تعطي القدوة حقها، فلا تفعل منكراً، ولا تأته، ولا تجلس في مكانه، لماذا قيل في الصلاة على المجاهر بالمعصية المصر عليها أن أهل العلم والفضل لا يصلون عليه؟ لو جيء برجل معروف بشرب الخمر، أو مات منتحراً، أو مات بالمخدرات، جيء به إلى شيخ إمام معروف، أو عالم، أو داعية مشهور، فينبغي ألا يصلي عليه، ويقول: صلوا على صاحبكم، لماذا؟ لأنه موقع القدوة.
وفي مجلس البخاري رحمه الله رفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها في الأرض في المسجد، قال الراوي: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس، رأيته مد يده ورفع القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد، أخرجها وطرحها في الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه اللحية، فكان أبو عبد الله محط الأنظار، قدوة.
ولذلك نقلت القصة، وكان هناك من يراقب ويشاهد، لأن هؤلاء أئمة، والإنسان إذا خالط القدوات يتعلم ويستفيد، ولذلك يقول أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل ، فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقي، وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال صاحب البيت، أو المجلس أحق بصدر بيته، أو مجلسه؟ قال: نعم، نعم هو أحق، لكن يقعد ويقعد من يريد، وأنا أردت أن أوثرك، فأقعدتك.
فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حق ما تستحق، لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً لا ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، مع أني ما أراهم في السنة إلا مرة لبعد البلدان والانشغالات ونحو ذلك، لكني أحبهم أكثر من بعض الناس الذين أراهم يومياً، ذلك الغائب أحب إلي، قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد، أي: لا يلزم أن يكون من لا يرى باستمرار مكروهاً، أو أقل محبة. فلما أردت القيام، قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ، قال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه، قلت: يا أبا عبد الله من عن الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت: يا أبا عبيد هذه الثالثة.
نحن يا إخوان! ينقصنا الآن نقصاً حاداً جداً وجود القدوات، وجود القدوات في المدرسين والمدرسات، فهناك مدرس خلف سور المدرسة يدخن والطلاب في الطابور، وأخلاقه شرسة، ومدرسة تقول: الكعب العالي ممنوع يا بنات، واللباس لا بد أن يكون محتشماً، وهي كعب حذائها ارتفاعه كبير، والفتحة في تنورتها طويلة، وهناك أبٌ مقصرٌ في الصلاة ويريد من أولاده أن يصلوا، ويشاهد التلفزيون ويريد من الأولاد الامتناع، كيف سيحدث هذا؟!!
) إن من الناس مفاتيح للخير ) المفتاح: آلة فتح الباب المعروفة، والمقصود: أن الله أجرى على أيدي هؤلاء العباد مفاتيح للخير، أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير للناس، يفتحون للناس باب علم، أو باب صلاح، أو باب هداية، حتى كأنهم صاروا مفاتيح كأن المفاتيح وضعت في أيديهم، فيقال: هذا جعل الله مفاتيح الخير على يديه.
أثنى النبي عليه الصلاة والسلام عليهم قال: (طوبى) طوبى لذلك، فمن الناس من يشتغلون بالخير ويشغلون غيرهم للخير، فيعمل حلقةً، فيأتي أصحابه إليها يستفيدون، أو يعمل مشروعاً خيرياً، فيشترك فيه الناس، فينتفع آخرون، وينتفعون هم، وينتفع هو في الدرجة الأولى، وهكذا يمشي في إصلاح بين الخلق، فيحصل الصلح وترجع المياه إلى مجاريها، ويرجع الوئام ويتصل حبل المودة، وتنصلح أحوال الأسرة، أو أحوال الشركاء المختلفين، فهذا الإنسان من مفاتيح الخير.
ونحن في وضعنا الذي نعيش فيه نحتاج حاجةً ماسةً إلى مفاتيح الخير هؤلاء، لو قلّ أهل الخير في المجتمع؛ فإننا على خطر عظيم، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن بشر ، قال: لقد سمعت حديثاً منذ زمان، يقول: (إذا كنت في قوم عشرين رجلاً، أو أقل، أو أكثر، فتصفحت في وجوههم، فلم تر فيهم رجلاً يُهاب في الله، فاعلم أن الأمر قد رق) إذا صرت في مكان، في شركة، أو مكتب، أو مدرسة، فنظرت في عشرين رجلاً حولك لم تر فيهم واحداً من يُهاب لله، فاعلم أن الأمر قد رق، وأن أمر الدين صار رقيقاً ليس متيناً.
ينقصنا دعاة، لأننا في حال بئيس، الناس يعيشون أزمة في العقيدة، وأزمة في الأخلاق، وأزمة علاقات اجتماعية، فيهم شرك، وفيهم بدعة، وفيهم معاصٍ، وفيهم موبقات، وتفكك أسري، وتناحر، وعصبية، وكيد، وسحر، وعين، من كل الجهات، إذا جئت تنظر؛ وجدت شراً كبيراً، ما الذي يصلح الأمر؟
وجود الدعاة إلى الله عز وجل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ونحن نعلم أن مهمة التغيير مهمة شاقة وصعبة. إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما تولى المهمة العظيمة وشعر بحجم المسئولية، والخلافة تولاها على المسلمين، قال: "إني أعالج أمراً -أكافح وأناضل وأصارع، وأبذل الجهد- لا يعين عليه إلا الله، قد شب عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وهاجر عليه الأعرابي، وفصح عليه الأعجمي حتى حسبه الناس ديناً لا يرون الحق غيره".
تعودوا على منكرات وأخطاء، شبوا عليها ونشئوا حتى صاروا يرونها حقاً، وأنا جئت أريد أن أغير "إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله" ابتداءً من الشرك الموجود في عصرنا بين المسلمين الذين يسألون غير الله، ويطلبون من أصحاب القبور قضاء الحوائج.
ذهب موحدٌ فاضلٌ إلى أحد شيوخ الصوفية ، فقال له: دعاء غير الله حرام وشرك، إذا سألت فاسأل الله، بدلاً من أن تقول: يا عبد الله وتنادي الميت، قل : يا ألله! قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [الأعراف:194] قال: يا ابني هذه آية وهابية ما لك فيها!!
وذهب أحد الأفاضل إلى شيخ من هؤلاء، فقال له: إن الاستغاثة بالأموات حرام وشرك، والأدلة من القرآن والسنة كذا كذا، فقال ذلك الضال: فقط أنت عندك أدلة، أنا عندي أدلة، قال: وما هو دليلك؟ قال: عمتي تقول: يا شيخ سعد، أي: تنادي الولي سعد تستغيث به، فهذا دليل.
وإذا نظرت في قضية البدع، لوجدت أموراً لا يحصيها إلا الله.
وعلى مستوى التفكك الأسري طلاق، ومهاجرات، وخصومات، وقضايا، وتشرد أولاد، وعدد كبير من حالات الانحراف في الفتيات وفي الأولاد في البيوت المفككة. فلانة أبوها طلق أمها ثم انتقلت إلى بيت جدتها، الرقيب ضعيف، فانحرفت البنت.
وأخرى أبوها طلق أمها، ثم عاشت في بيت زوج أمها، لم تجد الرعاية، فانحرفت البنت، وانتقلت إلى بيت خالها، فحصل السوء، وهكذا التفكك يولد الفجور.
وعلى مستوى الانحطاط الأخلاقي هناك أفلام وقنوات، وفحش في الأطباق الفضائية وأناس تستأجر شقة مفروشة بخمسين ريالاً في الليلة إلى الصباح ليسهروا على القنوات التافهة التي تأتي بها أجهزة مركبة على الصحون الفضائية، واشتراكات في القنوات ومواقع على شبكة نسيج العنكبوت الإنترنت، ودسكات كمبيوتر متداولة بأيدي المراهقين في المدارس المحملة بالأشياء القذرة حتى في شهر رمضان، والبريد الإلكتروني يرسل الفحش، وأشياء منتشرة كانتشار النار في الهشيم.
ما الذي يصلح هذا الحال؟
قيام دعوة إلى الله بقوة لإصلاح الخلق ودعوتهم إلى الله بترقيق قلوبهم، وتذكيرهم ووعظهم.
وترى التشبه بالكفار أمراً منتشراً متفشياً قد يصيب البعض باليأس، فقد دخلت داعية من الداعيات إلى مسرح مدرسة لإلقاء كلمة في الطالبات، فهالها وأصابها الإحباط أن كل ما رأت بعينها كان أحمر اللون، الطالبة التي ليست معها وردة حمراء معها شال أحمر، أو قفاز أحمر، أو حقيبة حمراء، أو منديل أحمر، لماذا هذا؟ عيد الحب، انتهت الورود الحمراء من المحلات في ليلة، إنها مصيبة وكارثة، البنات في المتوسطة يقلدنَ الكفار في عيد الحب.
إن انتشال هؤلاء وإصلاح الأوضاع بحاجة ماسة إلى دعاة، الوضع يحتاج إلى حركة في الدعوة إلى الله، وإصلاح المجتمع، وإصلاح الخلق، وبذل الجهد في هذا، ما أسهل الهدم! وما أصعب البناء! والإنسان الداعية يأخذ أجر من اتبعه على الهدى الذي يدعو إليه إلى يوم القيامة، ولو تسلسل الناس الذين تعلم كل واحد من الآخر.
ثم الداعية من فضله قد ينتج شخصاً أفضل منه، قد يكون داعية يدعو أحد الناس، وهذا الشخص يتفوق على الداعية مستقبلاً في العلم والقدرات والإمكانات ونصرة الدين، ولكن ذلك الأول مع أنه أقل في الإمكانات، لكنه لما أنتج هذا وهذا وهذا، سيكون له شيءٌ عظيمٌ من الأجر.
ويقول أبو سليمان الداراني : اختلفت إلى مجلس قاص، واعظ، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت، لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانيةً، فأثر كلامه في قلبي بعدما قمت وفكرت، ثم عدت إليه الثالثة، فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات، عود، وطنبور، وربابة، ومزمار، وطبل، والآن الشاشات والأفلام.
أحد الشباب حضر جنازة عظيمة لامرأة نحسبها من الصالحات، فلما رأى كثرة الناس اتعظ من منظر الجنازة وهو ذاهب إلى المقبرة أخذ أشرطة الغناء من السيارة كلها وألقاها في الشارع. فالإنسان قد يتأثر فعلاً ويتعظ في لحظات، يقول أبو سليمان : أول مرة كان التأثير ضعيفاً، وفي المرة الثانية حصل التأثير في الشارع، وفي المرة الثالثة رجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق المستقيم، فحكيت هذه الحكاية لـيحيى بن معاذ بعد سنين أي عندما صار أبو سليمان رجلاً مشهوراً ومعروفاً بالزهد والورع والعبادة والذكر، قال يحيى : عصفورٌ اصطاد كركياً -يبدو أن الكركي هذا نوع نادر ونفيس من الطيور- فقال: عصفورٌ اصطاد كركياً، أي: يقول: انظر سبحان الله! هذا القاص مثل: العصفور، لكن اصطاد لنا هذا الشخص العظيم.
فالداعية له أجر وفضل، فليحرص الدعاة على دعوة الخلق وإنتاج الصالحين؛ لأنهم إذا بثوا في المجتمع، حصل نفعٌ كبيرٌ.
ولذلك نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ونكررها في الصلاة مراراً، زدنا هداية وثبتنا على الصراط المستقيم، ومعنى التكرار هنا طلب المزيد وطلب الثبات والدوام، والثبات مهم؛ لأن وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وفيها من أنواع الفتن والمغريات التي نكتوي بنارها يومياً، وشبهات وشهوات تبث بسببها صار الدين غريباً، وانطبق المثل العجيب: القابض على الدين كالقابض على الجمر.
فالثبات مسألة متعلقة بالقلب، وإنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة تقلبها الريح ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الأمة إيماناً وثباتاً على الدين، فما بالنا نحن؟!!
أهل جواثى حاصرهم المرتدون، وضيقوا عليهم حتى منعوا عنهم الأقوات، فجاعوا جوعاً شديداً حتى فرج الله عنهم، وقال رجلٌ منهم، من أهل جواثى المسلمين الثابتين المحاصرين، وقد اشتد عليه الجوع:
ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً وفتيان المدينة أجمعينا |
فهل لكمُ إلى قومٍ كرامٍ قعودٌ في جواثى محصرينا |
كأن دماءهم في كل فجٍ شُعاع الشمس يعشي الناظرينا |
توكلنا على الرحمن إنا وجدنا الصبر للمتوكلينا |
ما لنا إلا الصبر، والقتل فينا والجوع والحصار، يقول ابن كثير رحمه الله: وقد قام فيهم رجلٌ من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى ، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً وقد جمعهم، فقال: يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمرٍ، فأخبروني إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ -صلى الله عليه وسلم- قالوا: نعم، هناك أنبياء قبل محمد، قال: تعلمونهم، أو رأيتموهم؟ الشيء هذا علمتموه، أو رأيتم الأنبياء؟ قالوا: نعلمهم علماً، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه، وبعث الصديق رضي الله عنه وأرضاه العلاء بن الحضرمي، وحصل بعد ذلك ما حصل من رجوع الناس إلى الإسلام.
إذاً في موقف الشدة، أحدهم ينقذ الموقف، ويثبت الناس، قال هؤلاء: لو كان محمدٌ نبياً ما مات، فقام وقال هذه الكلمة، فثبت الله به الناس.
التربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والتبعية الذميمة، التربية الواعية التي تعرف سبيل المجرمين وخطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً وهي التربية المتدرجة التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً إلى كماله.
عن خباب بن الأرت ، قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فجلس محمراً وجهه، فقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ، أو عصبٍ، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة ، قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجرٍ حجرٍ) كل واحد مربوط على بطنه حجر من الجوع (جئنا نشتكي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فرفعنا عن بطوننا، كل واحد في بطنه حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين) وهكذا كان الثبات والتربية، كان يُوضع في وقت الجوع والمخمصة ألواح من الحجارة يشد على البطن حتى يعتدل الظهر وتبرد حرارة الجوع فتضغط على المعدة حتى لا يحس الإنسان بخلوها، يستعينون بها على مواجهة المجاعة.
ويقول لك بعض من يطلب العلم: هذا قرأناه في كتاب المحْلِي والمُغَنِي، سبحان الله! المحلى لـابن حزم ، والمغني، ليس المغَني، والمربعصار، المربَّع، وهذا يقول: من هو الإمام (مقيده) الذي يكثر كان الشنقيطي النقل عنه؟ الإمام مقيده من هو؟ الشنقيطي يقول: قال مقيده عفا الله عنه، مقيده أي: الذي كتب الكتاب، يقول: هذا مقيده الشنقيطي يكثر النقل عنه، من هو الإمام (الباقون)؟ كل لحظة: قرأ الباقون، قرأ الباقون، الباقون أي: باقي القراء السبعة.
وهناك باحث في رسالة ماجستير وتحقيق مخطوطة، يقول في التعريف: ويبدو أن أباه كان عالماً بالقراءات، أي: أبو المصنف كان عالماً بالقراءات، فإنه كثيراً ما يقول في كتابه: وقرأ أبي وقرأ أبي، وهي: قرأ أُبيّ ، وهذا استنبط أن أبا المصنف كان عالماً بالقراءات، هذا باحث ماجستير.
فيا إخواني! الجهل صار في هذه الأمة متفشياً عجيباً مؤلماً وحالات مضحكة، وهناك أمور من الأساسيات تختفي، تمارس علينا القنوات الفضائية غزواً فكرياً شريراً جداً جداً يهز الثوابت في نفوس العامة.
مثلاً: استقر في نفوس العامة أن الربا حرام، ألف بألف ومائة حرام. فصار الكلام يدور الآن، وبدأ بعض العامة فعلاً تتخلخل عندهم قضية أن الربا حرام.
مثلاً: تعدد الزوجات، نتيجة الهجوم على هذا المبدأ؛ بدأ بعض العامة يقولون: النساء وبعض النساء، وغير ذلك.
إذاً: الثوابت تهتز ومعنى ذلك أن هناك خللاً كبيراً بسبب ضياع العلم عند بعض الناس.
قال حفص بن حميد: دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة أشكلت، وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ قال: نعم، قال: فإذا أفنى عمره في الآلة، فمتى يحارب؟ شخص يجمع ويجمع، ثم لا يستعمل.
والعلم ليس بنافعٍ أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ |
سيان عندي من لم يستفد عملاً به وصلاة من لم يطهرِ |
صلاة بلا طهارة مثلها مثل هذا العلم الذي لا يعمل به، علمٌ بلا عمل كشجرة بلا ثمرة.
يقول عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن أنهم كانوا يستقرئون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: وجدت رأي النفس في العلم حسناً، أي: النفس مقبلة على التعلم، فهي تقدمه على كل شيء، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، غير أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم النوافل عن العلم قد ضلوا، ولكن في المقابل علم بدون تطبيق ولا ممارسة ، قال: رأيت نفسي واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين التعلق؟ أين الحذر؟ أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟!
أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل؟! ثم أنه قام حتى ورمت قدماه؟! أما كان أبو بكر شديد النشيج كثير البكاء؟! أما كان في خد عمر خطان من آثار الدموع؟! أما كان عثمان يختم القرآن في ليلة؟! أما كان علي يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا غري غيري]؟!
أما كان الحسن يحيا على قوة التعلق بالله؟! أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟! أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟! أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! قال: إن أباكِ يخاف عذاب البيات، أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وهو يقول: وا لهفاه سبقني العابدون وقطع بي؟! أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟! أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟! أما تعلمون أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، احذري من الإخلاد إلى صورة العلم وترك العمل به.
كان الأولون إذا نقلوا المعلومة؛ تجد الجدية في النقل، إذا سمع شيئاً أثر فيه، يقول سعد بن عبيدة: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر، ثم قمت من عنده، فجلست إلى سعيد بن المسيب ، فجاء صاحبي وقد اصفر لونه، وتغير وجهه، فقال: قم إليَّ، قلت: ألم أكن جالساً معك الساعة؟ فقال سعيد: قم إلى صاحبك، فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر ؟ قلت: وما قال؟ قال: أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عبد الرحمن أعليَّ جناحٌ أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة، فاحلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلف بأبيك، ولا بغير الله، فإنه من حلف بغير الله، فقد أشرك) رواه الإمام أحمد.
حديث سمعه رجل فقام مصفراً وجهه متغيراً لونه مما سمع من القصة، ولذلك ينبغي أن يكون عندنا تدقيق، وجدية في طلب العلم، وينبغي أن يكون عندنا عمل بالعلم، وأن يكون هناك أدب في الطلب، فإن بعض الشباب قد يتحمس في الطلب، لكنه لا يرزق أدباً، فيسيء مع الشيخ، ويسيء في السؤال، أو في الأسلوب، أو في الجلسة، أو في الاعتراض.
عن عميرة قال: إن رجلاً قال لابنه: اذهب فاطلب العلم، فخرج فغاب عنه ما غاب، ثم جاءه فحدثه بأحاديث، فقال له أبوه: يا بني اذهب، فاطلب العلم، فغاب عنه أيضاً زماناً، ثم جاءه بقراطيس فيها كتبٌ فقرأها عليه، فقال له: هذا سوادٌ في بياض، اذهب فاطلب العلم، فخرج، ثم غاب عنه ما غاب، ثم جاءه، فقال لأبيه: سلني عما بدا لك، فقال له أبوه: أرأيت لو أنك مررت برجلٍ يمدحك ومررت بآخر يعيبك، ماذا تفعل؟ قال: إذاً لم ألُم الذي يعيبني، ولم أحمد الذي يمدحني، قال: أرأيت لو مررت بصفيحة ذهبٍ؟ قال: إذاً لم أهيجها، ولم أقربها، فقال: اذهب، فقد علمتَ.
الآن جاء العلم، لما حصل الزهد في كلام الناس، والزهد في الدنيا، وقد شابهه ابن القيم في كلامه الذي قلناه في أول الدرس، قطع الطمع بالدنيا وقطع الطمع بكلام الناس هذا علامة الإخلاص.
ينبغي أن يكون عندنا اشتغال بالطاعات، وقيام بالحقوق الشرعية عند حدوث المهمات والمُلِمَّات واستنفار عند حضور مواسم العبادة.
لما تولى عمر بن عبد العزيز، أتى بزوجته فاطمة ، فخيرها بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكت جواريها من بكائها، فسمعت ضجةٌ في دارهم، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله، وقال له رجل: تقرب إلينا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول:
قد جاء شغلٌ شاغـلٌ وعدلت عن طرق السلامة |
ذهب الفراغ فلا فراغ لنا إلى يوم القيامة |
هذه المهمة العظيمة ليست لطلب الفراغ، فقد انتهى الفراغ، وهكذا ينبغي أن يشغل الوقت بطاعة الله عز وجل.
ومرة جاء ابن حجر رحمه الله إلى المدرسة المحمودية ليخرج المفتاح، فاتضح له أنه نسي المفتاح في البيت، فأمر بنجار يأتي ليعمل مفتاحاً، وقام يصلي -فوراً قام يصلي- فجاء النجار وعمل المفتاح، فقال أحد الطلاب: لو أمرتني، لذهبت إلى بيتك وأتيتك بالمفتاح، فقال: نعمل في الوقت والمفتاح الثاني يفيدنا.
وكان بعض العلماء يقلل الأكل؛ لأنه يحتاج إلى شغل ودخول الخلاء زيادة، والبخاري قال:
اغتنم في الفراغ فضل ركـوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة |
وكان بعض العلماء إذا قرأ عليه التلميذ من كتاب، والتلميذ عنده خطأ، أو عنده في الكتاب خطأ، فالتلميذ سيسكت عن القراءة ليصلح الخطأ، فكان الشيخ إذا توقف التلميذ، يذكر الله بصوت خفي حتى يفرغ الطالب من تصحيح الخطأ ويعاود القراءة، ولذلك من تأمل السلف في اغتنامهم لأوقاتهم، يقول أحدهم: لا يحل لي أن يذهب عني وقت بدون طاعة، تدريس، أو دراسة، أو قراءة، أو تلاوة، وحتى إذا استلقى ليرتاح وغمض عينيه، فهو يذكر الله، وحتى لو ما ذكر الله، فهو يتأمل في المسائل ويتأمل في عظمة الله تعالى، هكذا كانوا يفعلون، ونحن ينقصنا هذا المبدأ نقصاً شديداً.
يقول أبو غالب : صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه -وضع الجنازة وقام مقامه خلف رأس الميت مباشرة- ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، أي: الجنازة، فقال له العلاء بن زياد : أهكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ، قال العلاء: احفظوا هذه السنة.
واستأجر أبو داود قارباً ليقطع النهر ويرد على رجل عطس وحمد الله ويقول له: يرحمك الله، وهذا الحديث: (فليقل له: يرحمك الله) أي: يُسْمِعه، فمن السنة أنك تشمته إذا سمعته قال الحمد لله، ولا تقل في سرك: يرحمك الله، بل تُسْمِعه : (فليقل له: يرحمك الله).
وكان أبو بكر الحديدي شديد الحرص على السنة، لا يسامح أحداً في شيء من أدائها، وكان معه مقراض -مقص- فمن رأى شاربه طويلاً قصه، أي: أنه يحمل مقصاً في يده فإذا رأى شخصاً شاربه طويل يقص له شاربه ، فإن امتنع، تبعه يقول: وا ديناه، وا سنة نبياه، و.. ويجلس ويقص له شاربه.
فالشاهد هو الحرص في إنشاء هذا الدين كله مهما كانت المسائل كبيرة أو صغيرة، يجب أن يقام به ويحرص عليه.
تمنى كل واحد من أصحاب عمر أمنيتين، فلما جاء دور عمر ، قال: [لكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال
قال الشراح: المقصود في الحديث أقوالاً منها: لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه، وقيل المراد: إن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليلٌ جداً، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل، وقيل المعنى: إن الزاهد في الدنيا الكامل في صفاتها، الراغب في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل، قال النووي : هذا أجود، وأجود منه قول آخرين: إن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل.
وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة، فتَحمُل المسئوليات ما يطيقه أي أحد، ولا بد أن يتربى الجيل على تحمل المسئوليات.
الآن حتى الخطوط والكتابة سيئة، الإملاء سيئ، القراءة سيئة، يصل إلى رابع ابتدائي وأخطاؤه في القراءة والكتابة عجيبة جداً، لا يتحمل الواحد أن يعمل شيئاً.. اطلع إلى فوق هات الحقيبة، انزل إلى تحت هات كذا، وشغل الأطفال مشغلة الخدم.
يقول ابن كثير عن الوليد بن عبد الملك : كان أبواه يطرفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان إذا مشى يتوكف في المشية، أي: يتبختر، وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه، أي: في الخلافة بعده، ثم توقف؛ لأن ولده لا يحسن العربية! فجمع الوليد جماعةً من أهل اللهو عنده -الآن لما اقترب الموت، أراد أن يصحح خطأ كذا سنة- فجمع له أهل اللهو، فأقاموا سنةً عند الوليد، وقيل ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان. وسنعود إلى مسألة التربية، ثم الأولاد والزوجات بعد قليل إن شاء الله.
كنا نتكلم أيها الإخوة! عن قضية الرجولة وحمل المسئوليات والجدية، الجدية المنافية للهزل، والآن تجد هزلاً كثيراً، وكثرة ضحك، وميوعة، لقد كان السلف يقاومون هذه الحركات، قال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري : قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: هل أتاك أنك صادرٌ عنها؟ هل عندك إثبات أنك تنجو؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟!
وتحت قول الله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية:27] أورد ابن كثير رحمه الله القصة التالية: قدم سفيان الثوري المدينة ، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يُضحك به الناس، فقال له: يا شيخ! أما علمت أن لله تعالى يوماً يخسر فيه المبطلون؟ قال: فما زالت تُعرف في وجهه حتى لحق بالله تعالى، أي: حتى مات وموعظة سفيان تعرف في وجهه وفي سمته، قلّ الهزل والضحك، صار الجد والإقبال والعمل، والآن كثر الضحك وقل العمل، وكثر الهزل وقل الجد، وهذه مصيبة أن تكون في الجيل، لا بد من جدية، إنهم لا يصبرون على ساعة علم، ويسمعون أشرطة الأناشيد بالساعات.
قال لي أحد الشباب: دخلت على محل تسجيلات. نظرت (بيانو) عند الميكرفون، وهو آلة موسيقى والآن يقول لك: مؤثرات صوتية، إذاً ما هي النتيجة، إذا كانت النتيجة هي نفس آلات الغناء، إذاً ذهب الناس في الألحان وتركوا القرآن والله المستعان!!
أظن أن أباكم هذا هاجر وفجعكم بنفسه وماله، [قالت: قلت: كلا يا أبتِ إنه قد ترك خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً، فتركتها، فوضعتها في كوة البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبتِ، أي: يا جدي، ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني قد أردت أن أسكن الشيخ بذلك] هذه أسماء هي البنت التي رباها أبوها.
ينقصنا في حسن التصرف التدبير في المعيشة، والاقتصاد في المعيشة، اليوم إسراف كثير، مصروفات لا داعي لها، ثم ينتهي المرتب قبل نهاية الشهر، ثم استلاف بسبب قلة التدبير.
والمسلم لا يستذل، ولا يرضى بالهوان، يقول ابن عباس: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء من المشركين -ليس عندهم أموال يفتدون بها أنفسهم- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، يعلموا أولاد المسلمين، فإذا أتقن الكتابة، أطلقنا سراحه، فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه، غلام مسلم جاء إلى أبيه يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بزحل، والزحل: هو الثأر والانتقام. قال: الخبيث يطلب بزحل بدر والله لا تأتيه أبداً، هذا الضرب لأنه كافر مأخوذ أسير يريد أن ينتقم، فأفرغها في هذا الولد ضرباً. ما كان مسلماً.
اشترى قوم من الليث بن سعد سلعة على أساس أن يستغلوها فندموا وما حصلوا الشيء المطلوب، فجاءوا إليه وقالوا: أقل البيع، قال: قد أقلتكم، مع أن الإقالة قد يكون فيها خسارة.
ثم أرسل لهم مالاً إضافياً، فقال له ولده: ما الأمر ؟ الآن أقلتهم، ثم أرسلت إليهم مالاً، قال: اللهم غفراً، إنهم كانوا قد أملوا فيه أملاً، فأحببت أن أعوضهم عن أملهم، فالسلعة أرجعناها ونزلنا على رغبتهم وعوضناهم الأمل الذي كانوا يؤملونه وفات عليهم.
وأعطى منصور بن عمار ألف دينار، وقال: لا تُسمع بهذا ابني، فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث هذا تربية أبيه، فأعطى منصور بن عمار تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً، الابن لما سمع أن أباه أعطى ألف دينار فأعطى تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً، فقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في عطيته، حتى لا أساوي أبي، احتراماً لأبي، هذا الولد تعلم الكرم من شيخه محمد بن شهاب الزهري ، قال: ما رأيت أسخى منه قط، كان يعطي كل من جاء وسأله، حتى يستلف من أصحابه ويعطي الناس.
ومرة جاءه أعرابي والزهري ليس عنده شيء، قال: يا عقيل أعطني عمامتك وسأعطيك خيراً منها، فأخذ العمامة وأعطاه إياها، فأعطاه الأكل بعد ذلك.
وعاش الإمام أحمد مع زوجته عشرات السنين، قال: عشت أنا وأم صالح ، فلم نختلف يوماً قط، والآن تهديد بالطرد من البيت هذا إذا لم يطردها فعلاً، أو هي تغلق عليه الباب، أو تخنقه بعقاله، أو تقول: يا بخيل ما فيك خير، ما تجود لنا ولا تنفق علينا، والصياح يصل للجيران، وهذه أهل زوجها عملوا سحراً!! وهذه سحرت زوجها احتياطاً حتى لا يتزوج عليها!!
ونأخذ عبرة من حياة امرأة، إنها فاطمة بنت أحمد حمدون الشقيلي كانت من الزاهدات العابدات، لما توفي بعلها ترك لها ثلاثة أولاد: الأول: نحو سبع سنين، والثاني: نحو أربع سنين، وأختهما ولها سنتان، فألزمت ولديها قراءة القرآن وحفظه، وكان الزمان إذ ذلك شديد الأهوال والجوع والقحط والغلاء الذي أفضى ببعض الناس والعياذ بالله إلى قتل أولادهم؛ لأنهم لا يجدون طعاماً يعطونهم إياه، وقد أُكِلَ الأموات جهاراً في شوارع فاس - المغرب - فكانت تجتهد في الكسب، وفي العمل بيديها بما يحصل قوتها وقوتهم، وكان خالها محمد بن خلف الأنصاري يشتري لها كتاناً تغزله ويبيعه لها، ويشتري لها بما زاد قمحاً وشعيراً تصنع منه خبزةً واحدةً تجعلها في قربة زيت كانت عندها فقط في البيت حتى تروى ثم تخرجها فتقسمها أرباعاً لكل ولد ربع وتأكل هي ربعاً، وعلى ذلك عاشوا تلك المجاعة، وكانت تستيقظ من آخر الليل، فتغزل غزلاً آخر غير الغزل الذي في النهار وهي تذكر الله, وتتركه حتى تجمع منه ما تنسج به حلةً أجرة معلم الأولاد، لأنها تريد أبناءها يحفظون القرآن، وهي مشتغلة في تعليمهما، ومجتهدة في إرشادهما، وراغبة في إصلاحهما، فوفى الله تعالى بقصدها وبحسن نيتها وأجابها إلى مرغوبها وأتم أولادها حفظ القرآن.
من الأهمية بمكان الاعتناء بتربية البنات، فالفتاة التي لا علم لديها، لا يتمكن الإيمان في قلبها، ولا تستطيع أن تربي أولادها كما يجب، وقد اجتهد بعض الدعاة في بعض القرى على وضع منهج لتعليم النساء والفتيات، فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالقراءات والتعليم، وصرن يحفزن الرجال على أعمال الخير، وطالما عيرنهم على المظالم، وعلى ما يرتكبون منها.
هذه طائفة من الأشياء التي تنقصنا وما ينقصنا كثير، ولكن أكتفي بما تقدم وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ويسدد خللنا إنه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: فأجابني: بأنه إذا لم يتمكن من العثور عليه، باع السلعة، وأخذ بقية حسابه، وتصدق بالباقي عن المشتري.
الجواب: فقال لي: الظاهر أنه لا بأس به، ليس من التفليج، وهذا شين وعيب مثل: السن الزائدة والإصبع الزائدة، وما شابه ذلك.
الجواب: فقال: هذا يكون تشويهاً، وأخذه ليس من النمص.
السؤال: قلت له: هل يجب على صاحب العمارة في هذه الأيام أن يشترط على المستأجرين عدم وضع دش؟
الجواب: قال: نعم، إذا غلب على ظنه أنهم يركبونه، فيجب أن يشترط عليهم.
الجواب: فقال الشيخ/ محمد: لا يجوز أن يقبل هدايا طلاب الموضوع الأول، أو الثاني، وأما النوع الثالث فإذا انقطعت الصلة ولا يدرسه وأعلنت النتائج، فقال: لا بأس بها.
الجواب: فقال: إذا كانت الهدايا متبادلة أصلاً، فلا بأس بذلك، وإلا تكون رشوة.
السؤال: أنا طالب في كلية الطب أرغب في طلب العلم الشرعي وليس لدي وقت؟
الجواب: يا أخي! لا يوجد شيء اسمه ليس لديك وقت، لابد من إيجاد وقت ، أي: أما عندك ربع ساعة في الليل؟ أما عندك خميس وجمعة؟ أما عندك إجازة سنوية؟ إذاً يوجد، لأن الطالب يدرس في السنة سبعة أشهر أو ثمانية، فإذا أزلت الخميس والجمعة هذا الوقت يجب أن يغتنم.
الجواب: الذي يتمثل الإسلام في واقعه ويطبق الأحكام هذا هو القدوة.
الجواب: اللحية هي الشعر النابت على العارضين والذقن، فلا يجوز الأخذ من أي شعر نابت على العارضين والذقن، لأنه من اللحية لا تقصيراً، ولا تحديداً، ولا غير ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعفو اللحى) (أرخوا اللحى) (وفروا اللحى) (وخالفوا المشركين) ورخص بعض العلماء بالأخذ ما زاد عن القبضة.
الجواب: اقرأ التحيات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلها.
الجواب: إذاً يكون الشق هو المعمول به ما دام أن هذه طبيعة الأرض.
الجواب: خذ معك رفيقاً يطلب معك العلم ويشجعك ويحمسك.
الجواب: نحن إذا لم نحبب إليهم القراءة، فلن تكون القراءة بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم الطيبين ومرافقة الأخيار، فلن تكون مكتبات المساجد بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم حفظ القرآن، فلن تكون حلق التحفيظ بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم الرياضات المفيدة، فلن تكون بديلاً، فنحن إذا اتبعنا الطريقة النافعة والجيدة والمجدية في تحبيب أطفالنا بهذه الأشياء، فستكون بديلاً، ولكن لا بد أن نعرف ما ذكرت عائشة رضي الله عنها أن البنت الحديثة السن الحريصة على اللهو، قالت: [اقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على الوقت] لماذا لما حرمت الشريعة التماثيل وصور ذوات الأرواح والمجسمات، أباحت استثناءً ألعاب البنات: هيكلاً، ورأساً ويدين ورجلين، هيكل جسم، بدون تفاصيل دقيقة، لماذا؟ لأجل إشباع رغبة البنت في اللهو، وتعويد البنات على الأمومة، لأن تعويد البنات على الأمومة مصلحة كبيرة أكبر من هذه المفسدة، فإذاً لا بد أن نحرص على لعب الأطفال، نأخذهم إلى البحر ليسبحوا وإلى البر ليلعبوا، وإلى أماكن طيبة، تعمل لك أنت مع إخوانك وقت، أي: درس أسبوعي للأولاد فيه جزءٌ لعبٌ وجزءٌ جدٌ.
اجتمع مجموعة من الطيبين واستأجروا مدينة ألعاب لا يدخلها غيرهم، قالوا: تعال كم تأخذ في اليوم؟ كم دخل الأسبوع؟ مثلاً كم تحصل من العصر إلى العشاء؟ لو أخذنا منك ثلاثة آلاف، ألفين، ألف وخمسمائة، وجمعوا ثلاثين، أربعين، أولاد هؤلاء جاءوا وجعلوا يلعبون بهذه الألعاب بدون موسيقى بدون انحراف، انتقوا مكاناً مناسباً، إما استراحة، أو مزرعة ، فنحن ينبغي أن نحرص على اللهو المباح للأولاد مع إفادتهم.
الجواب: أنا أنصح بالاتجاه إلى الله بالتعبد، وممارسة العبادات، ففي ممارسة العبادات فائدة عظيمة: صيام، وقيام، وذكر، وتلاوة القرآن، وأدعية إلى الله، ومناجاة.
الجواب: ليس هناك مانع، لكن بشرط أن يكون المحفز صحيحاً، فلو كان المحفز دائماً كلمات، فأسلوب التربية خطأ، لكن لو كان المحفز الأجر والثواب من الله؛ فهذا صحيح طيب، فالمحفز ليس بشرط أن يكون ثناءً وهديةً وجائزةً، لا، لا بد أن تكون محفزات أخروية تدخل في التربية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر