أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى كما جمعنا في بيته هذا أن يجمعنا في دار الخلد في جنات النعيم، آمين .. وأشكر هذه الإدارة الكريمة على هذه الدعوة الكريمة في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجزي بالخير جميع من حضر واشترك وساهم في إعداد هذه الدروس، التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً.
أيها الإخوة: إن الله سبحانه وتعالى قد طلب منا أن نكون ربانيين، فقال: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] والرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذه الأمة علماؤها الذين ساروا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم علماء ربانيون، مواقفهم تربي الناس.
ما هو الموقف التربوي أيها الإخوة؟
هو كلمات أو تصرفات يقوم بها العالِم، أو طالب العلم، أو الداعية، أو مسلم من المسلمين، صاحب نيةٍ حسنة ينفع الله بها، تستقر في النفوس، وتعمل عملها في النفوس.
وأبدأ بكلام لـابن الجوزي -رحمه الله- يبين هذا المفهوم، يقول رحمه الله في صيد الخاطر معبراً عن تأثره الشخصي بهذه القضية، قال: "ولقيت الجماعة من علماء الحديث أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب؛ لئلا ينكسر الجاه وإن وقع الخطأ، ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي -وهذا هو الشاهد- وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل، ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سُئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول، فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر.
أيها الإخوة: إن علماءنا -رحمهم الله ونفعنا بهم- وأهل العلم الذين عملوا بالعلم لا تزال سيرتهم تنقل عبر الأجيال، تؤثر في القريب والبعيد، والذي لم يشهد يقرأ هذه السير وينتفع بها من بعدهم، فيكون ذلك معيناً لأجورهم،لا ينضب عبر الأجيال، خلَّد الله ذكراهم بإقبالهم على الله وعملهم بالعلم.
إن المواقف التربوية من سير العلماء هو ما ينبغي أن نتطلبه ونحن نؤكد على أهمية التربية، وكيف يربي الإنسان نفسه، وكيف يأخذها بمجامع الإيمان والأدب والخلق والعلم؟ هذه المواقف ينبغي أن نتوقف عندها وأن نتمعن فيها، وهي كثيرة جداً، وبعضها مشهور ومعروف، انتخبت بعضها؛ لكي تكون لنا ذكراً وتذكرة ونفعاً بإذن الله عز وجل.
لماذا تقرأ الأحاديث الآن ويندر أن تجد لها أثراً وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة؟
السبب هو قلب الذي يقرأ وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمن اكتسب هذا؟
يقول مالك رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً -المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري ، وكان ممن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.
إذاً: أيها الإخوة! كان للحديث شأن في نفس الإمام مالك ؛ لأنه عايش وتربى على أيدي علماء كانوا يعظمون الحديث، فخرج معظماً للحديث مثلهم .. إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة.
وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:166] هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته.
ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم، وتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جداً في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقراً في النفوس كما لو صار مستقراً بمواقف وأحداث.
قال الذهبي رحمه الله: وفي مسند الشافعي سماعنا: أخبرني أبو حنيفة بن سماك ، حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود) الدية أو القصاص، يقول الراوي: فقلت لـابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ نعم. آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك.
وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه.
لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين.
وهذه قصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره ، ناقلاً عن ابن جرير، حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي، حدثنا وكيع بن الجراح، عن المسعودي ، -و وكيع روى عن المسعودي قبل الاختلاط- عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً؛ فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نماشى ونتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -سنح لنا، أي: أتى من الشمال، وإذا أتى من اليمين يقال: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه -وهي المنطقة الناتئة خلف الأذن، أصابه في مقتله- فسقط ميتاً، قال: فعظّمنا عليه كيف تصيد في الحرم؟ قال: فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة -وهو السوار الذي يكون لياً واحداً، وكان عبد الرحمن بن عوف أبيض مشرباً بحمرة، وهذا هو الذي كان جالساً بجانب عمر- فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه -يتشاور معه في الحكم، ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه وما تعمدت قتله، فقال عمر : [ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وأسق إهابها] وعلق الشيخ محمود شاكر رحمه الله: [وأسقِ إهابها] أي: إعط إهابها من يدبغه، ويتخذ من جلدها سقاء [قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! عظم شعائر الله، عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك، قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟! ثم أقبل علي -ليؤدبه- فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني. فقال: يا قبيصة بن جابر! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب] لا تستعجل وتعترض على الحكم، حكم به ذوا عدل من الصحابة وتخالف وتفتي بغير ما قلناه، وهذا التأديب يكون سلطة لبعض الناس قد لا تتوافر للكثيرين، لكن الشاهد أنه وسيلة، موقف يتربى عليه قبيصة من عمر رضي الله تعالى عنهما في الوقوف عند الفتوى، وفي عدم الاستعجال في تخطئة العلماء.
لأن هؤلاء تلقوها بنفوس مفتوحة، والذي علموهم إياها لم يعلموهم إياها بنفسٍ باردة، بل علموهم إياها بنفوس وقلوب حية، ولذلك بقيت الآيات لها تأثير.
خذ مثلاً قول الله تعالى في سورة مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72] هذه الآية كان عدد من السلف إذا قرءوها بكوا بكاءً شديداً، [كان
وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أخبرنا أنَّا واردوها، ولم نخبر أنَّا صادرون عنها"، قطعاً أنا واردون جهنم وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] لكن ليس عندنا شيء يثبت لكل واحد منا أنه سينجو منها.
وعن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ -انظر إلى الموعظة وأسلوبها، هذا الأسلوب التربوي- قال: نعم. -تذكر الرجل الآية- قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟!
إن على الإنسان أن يجتهد في عمله، لكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يطلع بعض الناس من تلاميذهم أو من أصحابهم على أعمالهم الخفية، فإذا رأوها تأثروا بها؛ فيكون لذلك الموقف تأثير ما قصده الشخص، فما قصد الشخص أن يري الآخر عمله، لكن لإخلاص هذا الرجل يطلع الله بعض الناس على أعماله الخفية؛ فتكون تربيةً لهم.
إن التربية -أحياناً- لا تكون مقصودة بالذات، لكن سيرة الرجل ما خفي منها وما ظهر كلها تربية، يقول حماد بن جعفر بن زيد : إن أباه جعفر بن زيد أخبره قال: خرجنا في غزاةٍ إلى كابول ، وفي الجيش صلة بن أشيم ؛ فنزل الناس عند العتمة فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرقبن عمله -هذا رجل يستحق أن نراقب أعماله، وننظر ماذا يفعل في خلوته وسره- فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا ودخلت على إثره -ينظر ويراقب- فتوضأ فقام يصلي -دخل في مكان فيه أشجار حتى يستتر عن الناس في الليل ثم قام يصلي- وجاء أسد حتى دنا منه؛ فصعدت في شجرة، فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه! قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس -جهاد وقيام ليل- فحمد الله بمحامد، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ثم رجع وأصبح حتى كأنه بات -أي: بين الناس- وأصبحت وبي من الفزع شيء لا يعلمه إلا الله.
وكذلك دخل رجل من طلاب النووي -رحمه الله- المسجد في الليل، فإذا صوت شيخه النووي قائماً في الليل في المسجد، يقرأ آية ويرددها ويبكي، ويقرأ آية ويرددها ويبكي، وهكذا ... قال: فوقع في نفسي من الخشوع ما الله به عليم.
إذاً: الناس المخلصون يُطلع الله على بعض سيرتهم بعض الناس فينقلونها، وكثير من هذه الأشياء موجودة في الكتب، هذه مواقف كانت مخفية، وبعضهم اطلع بعض طلابهم على شيء، فاستحلفه ألا يخبر به حتى يموت، وهدده أنه لو أخبر به أن يقاطعه ولا يكلمه أبداً ولا يعلمه حرفاً، ولذلك ما نشرت الأعمال إلا بعد موت الشخص، نشرت وسطرت ونقلت إلينا في الكتب.
ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال علي بن الفضل : رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وصلى بعد المغرب فسجد فلم يرفع حتى أذن العشاء، وكان الثوري -رحمه الله- إذا صلى الليل اضطجع فرفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى أسفل من كثرة وقوفه.
ففي ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري يقول أبو بكر بن منيف : كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته اشتكى، فنظروا فإذا الزنبور قد أصابه بالورم في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته، فلاموه، فقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها. وما قطع الصلاة.
يقول علي بن محمد بن منصور : سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفع إنسان من لحيته قذاةً وطرحها إلى الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس -الآن حركات محمد بن إسماعيل تحت المجهر من ذلك الرجل- والبخاري يراقب الناس وينظر إلى القذاة، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته.
ففي هذا الموقف هل كان البخاري تقصد أن يراه ذلك الشخص؟ أبداً. لكن الموقف أطلع الله عليه واحداً ونُقل وسُطر، وفي سيرة البخاري يوجد هذا الموقف ويقرؤه طلاب العلم إلى الآن.
هذا موقف واحد نصر الله به الحق.. موقف واحد قد يدخل به الإنسان الجنة.. موقف واحد يسكت به بدعة، أو ينصر به السنة.. خطبة واحدة أو درس واحد أو عبارة واحدة ينصر الله بها الحق، وتكتب عند الله حسنة عظيمة ترجح في الميزان، وربما لا ينقل عن بعض الأشخاص إلا موقف واحد فقط، ما عرفناه إلا من خلال هذا الموقف، لكن هذا الموقف لما كان عظيماً عند الله نُشر ونُقل وكتب الله له الخلود.
روى ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع : أن سالم بن عبد الله بن عمر مرَّ على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه -الجرس في عنق البعير والدابة في السفر منهي عنه- (لا تصحب الملائكة رفقة وفيهم جلجل) أي: جرس -فقالوا: نحن أعلم بهذا منك -بهذه السفاهة- إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. وستأتينا -إن شاء الله- مواقف حول هذا الموضوع في تصرف العالِم مع السفيه ومع الجاهل.
عندما يصان عمن لا يستحقه، ولا يوضع في غير موضعه؛ كان المازني -رحمه الله- من كبار علماء اللغة ذا ورع ودين، أراد يهودي أن يدرس النحو فقد حصّل جزءاً من هذا العلم فجاء ليقرأ على المازني كتاب سيبويه فبذل له مائة دينار وقال: أعطيك مائة دينار وأقرأ عليك كتاب سيبويه ، فامتنع وقال: هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة آية ونيف، فلا أمكن منها ذمياً .. أنت يهودي وهذا كتاب وإن كان في اللغة لكن فيه ثلاثمائة آية، فلا أمكن منه ذمياً، ولذلك يعظم العلم في نفوس الأصدقاء والأعداء بمثل هذه المواقف.
يقول أبو عبيد رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل -والإنسان إذا ذهب يزور العلماء بنية الاستفادة يخرج بفوائد- فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد، فقلت في نفسي: خُذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله ! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، فقلت: هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ! فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه -والآن حتى يدخل السيارة ويغلق باب السيارة ويتحرك- قال: فقلت: يا أبا عبد الله ! من عن الشعبي ؟ قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي ، فقلت: يا أبا عبيد! هذه الثالثة.
هذه نفسية المستفيد، والذي يقول: استفدت الفائدة من شيخنا فلان، أو شيخي فلان علمني إياها.. ونحو ذلك.
ففي ترجمة ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- يقول السخاوي تلميذه: وأما طريقته في تقضي أوقاته فكان في أوائل أمره يصلي الصبح بغلس في الجامع، ثم صار بعد ذلك لما انتقلوا إلى المدرسة وفيها مكان الصلاة يصلي فيها، ثم يجيء من خلوته النافذة لمنزل سكنه؛ فإذا فرغ من الصلاة فإن كانت لأحدٍ حاجة كلمه، ثم يدخل إلى منزله فيشتغل بأذكار الصباح أو التلاوة، ثم يأخذ في المطالعة أو التصنيف إلى وقت صلاة الضحى فيصليها، ثم إن كان بالباب من يستأذن للقراءة ظهر إليهم، فقرأ بعضهم روايةً وبعضهم درايةً، واستمر جالساً معهم إلى قريب الظهر، ثم يدخل إلى منزله قدر ثلث ساعة، ثم يقوم فيصلي الظهر داخل بيته، ثم يطالع أو يصنف إلى بعد أذان العصر بنحو ثلثي ساعة أو أقل أو أكثر، فيظهر إلى المدرسة فيجد الطلبة في انتظاره، فيصلي بهم العصر ثم يجلس للإقراء، وفي غضون قراءتهم عليه وكذا في نوبة الصباح يكتب على ما يجتمع عنده من الفتاوى الحديثية والفقهية، وربما دار بينه وبين بعض الطلبة الكلام في بعضها، ولا ينتهي غالباً من هذه الجلسة إلا عند الغروب، فيدخل إلى منزله، فإن لم يكن صائماً تعشى، وإلا انتظر الأذان فيأكل ثم يصلي ويشتغل أو يطالع إلى أن يسمع العشاء؛ فيقوم إلى المدرسة فيجد جمعاً من الطلبة أيضاً في انتظاره، فيصلي ركعتين، ثم يجلس للقراءة غالباً، أو للمذاكرة أكثر من ساعة، ثم يقوم فيصلي العشاء بالجماعة، ثم يدخل إلى بيته فيصلي سنة العشاء، وهكذا ... رحمه الله.
هذا البرنامج اليومي والجدول الذي كُله نفع وإفادة واستفادة، هذا الوقت وهذا اليوم المليء بالغنائم هذا بحد ذاته -أيها الإخوة- فائدة، وعندما يراه طلابه يحصل في نفوسهم من الحماس للعلم الشيء الكثير، كان -رحمه الله- يغتنم وقته، حتى أوقات الانتظار الطارئة كان يغتنمها، توجه مرةً إلى المدرسة المحمودية فلم يجد مفتاحها، كان قد سها عنه بمنـزله -نسي المفتاح- فأمر بإحضار نجار ليصنع المفتاح، وشرع في الصلاة إلى أن انتهى النجار من فتح الباب، فقيل له: لو أرسلت وأحضرت المفتاح من البيت كان أقل كلفة! قال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاع بالمفتاح الثاني، النسخة الثانية هذه مفيدة.
جلس أعرابي إلى يزيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني -أعرابي جاهل- وإن يدك لتريبني -يتهم الشيخ بأن يده يد سارق- فقال يزيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال يزيد بن صوحان : صدق الله: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97].
فالموقف -أحياناً- يحتاج إلى شيء من التقريع والتوبيخ لأمثال هؤلاء السفهاء.
ومن أمثلة هذا أيضاً: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيد وهو من كبار علماء اللغة، وكان -رحمه الله- فقيهاً، وهو صاحب كتاب الأموال، فسأله عن الرباب فقال: أريد أن أعرف معنى الرباب. فقال: هو الذي يتدلى دوين السحاب -تحت السحاب بقليل- وأنشده بيتاً لـعبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحاب نعام تعلق بالأرجل |
فقال: لم أرد هذا -ليس هذا مقصودي- قال أبو عبيد : فالرباب اسم امرأة، وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننـا وكسا وجوه الغانيات جمالا |
وهب الملاحة من رباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا |
فقال: لم أرد هذا أيضاً، فقال أبو عبيد : عساك أردت قول الشاعر:
رباب ربة البيت تصب الخل في الزيت |
لها سبع دجاجات وديك حسن الصوت |
قال: هذا أردت -هذا هو الذي أبحث عنه- قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة . قال: على أي شيء جئت: على الظهر أم على الماء؟ -على دابة أم على سفينة؟- قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب واسترجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً فعلام تأخذ مني الأجرة؟
فقد يبتلى العالِم أو طالب العلم بأسئلة جهلة، يفترض فيهم في البداية حسن الظن، ويعطيه الأدلة وأقوال العلماء، ثم يتبين لهم أنهم في سخرية، فهنا يكون عليهم صارماً، هذا علم وليس لعب، هذا علم ينبغي أن يُوقر، فلما وجد الرجل خالياً قال له ما قال تربية له وتقريعاً وتوبيخاً لأمثاله.
مواقف يتربى فيها المطلع على أخبارهم وعلى أخلاقهم.
يقول الليث : كان ابن شهاب من أسخى من رأيت، وكان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فيعطيهم، حتى إذا لم يبق معهم شيء تسلف من عبيده، وربما جاءه السائل فلا يجد ما يعطيه فيتغير وجهه، فيقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير، قال: فيقيض الله لـابن شهاب على قدر صبره واحتماله أحد رجلين: إما رجل يهدي له، وإما رجل يبيعه وينظره.
وكان -رحمه الله تعالى- ينفق على طلابه، يقول زياد بن سعد للزهري : إن حديثك ليعجبني، لكن ليست معي نفقة فأتبعك، فقال له الزهري : اتبعني أحدثك وأنفق عليك.
وكان يأتيه الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم .. كان يقصد الأعراب، مثلما نقول الآن: عليكم بالقرى والهجر.. اخرجوا للقرى والهجر.. اشتغلوا بالدعوة إلى الله في البادية، هناك أناس فيهم جهل عظيم، بعضهم لا يحسن الفاتحة ولا تصح صلاته، ولا.. ولا.. إلخ.
وذات مرة ذهب إليهم واعظ، فوعظهم بعد الصلاة، فقال له إمامهم: يا شيخ، هل خروج الريح ينقض الوضوء؟ قال: نعم. من نواقض الوضوء. قال: والله لقد كان يخرج مني الريح وأصلي كل السنوات الماضية، وهو إمامهم، وربما سرد له أبياتاً من الشعر النبطي على أنها سورة من القرآن، أو أكمل لهم السورة بأبيات أو بأشياء من هذا الشعر.
كان الزهري -رحمه الله- يقصد الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم ويقدم إليهم الطعام؛ لأن هؤلاء الأعراب جزء كبير من مفتاح السيطرة عليهم، يكون بإكرامهم وإعطائهم.
قال مالك بن أنس : كان ابن شهاب يجمع الأعراب، فيتذاكر بهم حديثه، يعيد الأحاديث فيستفيد هو، فإذا كان الشتاء شق لهم العسل وجاء بالزبد، وإذا كان الصيف شق لهم وجاءهم بالسمن، فجاءه أعرابي وقد نفذ ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامته؛ فأخذها عن رأسه فأعطاها للرجل، وقال: يا عقيل! أعطيك خيراً منها. هذا تلميذه الخاص، ومثل هذا بينه وبينه خصوصية، قال: أعطيك خيراً من هذه.
وكان -رحمه الله تعالى- يقدم لطلابه كذا وكذا لوناً، ونزل الزهري مرةً بماء فشكا إليه أهل الماء أن لنا ثماني عشر امرأة عمرية، أي: لهن أعمار وليس لهن خادم، فاستلف ثمانية عشر ألفاً وأخدم كل واحدة خادماً بألف .. وقال عمرو بن دينار : ما رأيت الدرهم والدينار على أحد أهون منه على ابن شهاب ، ما كانت عنده إلا بمنـزلة البعر، وهل للبعر قيمة؟ فكذلك الدراهم والدنانير ..
ذر ذا وأثنِ على الكـريم محمد واذكر فواضله على الأصحاب |
وإذا يقال من الجواد بماله قيل الجواد محمد بن شهاب |
أهل المدائن يعرفون مكانه وربيع ناديه على الأعراب |
فهذا الكرم يفعل ما يفعله في اجتذاب النفوس، والطلاب إذا رأوا الشيخ يكرمهم اقتدوا به فأكرموا، وكان شعبة -رحمه الله- يُسمى أبا الفقراء، وكان صبيان الحي ينادونه: بابا بابا، هكذا ورد في كتب العلماء في سيرة شعبة، من كثرة ما كان يعطيهم، وكان يقول: والله لولا الفقراء ما جلست إليكم، فإني أحدث ليعطوا، وقال: لولا حوائج ما حدثتكم، ويقصد بالحوائج حوائج لنسوة ضعاف، وكان إذا قام في مجلسه سائل توقف عن الحديث حتى يُعطى السائل، وجاء مرة سائل فجلس فجأةً، فارتاب شعبة، وقال: ما شأنه؟ كيف جلس فجأةً؟ فقيل: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهماً، قال له: اجلس وعلي درهم؛ ليمضي الشيخ في حديثه، وكان كريماً سخي النفس، وكان إذا ركب مع قوم في زورق دفع إيجار الزورق عنهم جميعاً.
وكان الخطيب البغدادي -رحمه الله- يتعاهد تلاميذه، يقول أحدهم وهو الخطيب التبريزي : دخلت دمشق ، فكنت أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي وقال: أحببت أن أزورك.. تصور الآن العالِم عندما يزور طالب العلم، كم تكون كبيرة وعظيمة في النفس! وهذا موقف تربوي عظيم، الأعلى يزور الأدنى، هذا الشيخ يزور تلميذه الساكن في منارة المسجد، أو قل الآن: في غرفة المؤذن أو غرفة الفراش، ربما يسكن فيها أحد هؤلاء .. قال: فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقة، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ونهض وذهب، ففتحتها فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى ووضع نحواً من ذلك.
أحد المشايخ في هذا الزمن من الأفاضل، فقد أحد الطلاب نعاله عند المسجد، فخرج الطالب فما وجد النعال بعد الدرس؛ فعرف الشيخ، فأصر عليه أن يأخذه معه بسيارته إلى السوق، ودخل مكان النعال واشترى له نعالاً، ودفع الشيخ القيمة، وأصر على أن يدفع القيمة هو، وأعاده إلى مكانه.
أيها الإخوة: هذه المواقف وإن كانت قد تبدو بسيطة، لكن أثرها عظيم في النفوس، فإن التربية مواقف وتصرفات وكلمات ينفع الله بها وتستقر في النفوس.
وفي تواضعهم -رحمهم الله- مواقف تربوية .. كيف يتعلم الطلاب التواضع عندما يرون الشيخ متواضعاً؟
سأل الدارقطني أحدُ تلاميذه، وقال: هل رأيت مثل نفسك؟ قال الدارقطني : قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] فقال: هل تعرف أحداً أحفظ منك يا شيخ؟ قال: يقول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] وكذلك سئل ابن حجر رحمه الله: أنت أحفظ أم الذهبي ؟ فسكت وما أجاب.
والمواقف التي تُنقل عن العظماء والأجلاء، عندما يأتي أحدهم إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ويتمسح به، فينتفض ويدفع الشخص ويزجره، ويقول: عمن أخذتم هذا؟! من أين أخذتم هذا؟! والذي يأتي ويقول له: ادع لي، يطلب الدعاء؛ فيزجره الإمام أحمد -رحمه الله- ويذهب، ويقول: مني لا يطلب الدعاء، أنا أدعو لك! فإذا خلا بنفسه دعا له، والذي يقول له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فيقول: بل الإسلام جزاه الله عني خيراً، ومن أنا؟!
موقف تربوي عندما يكتب ابن تيمية -رحمه الله- لـابن القيم خطاباً، ويقلب ابن القيم الخطاب ويجد مكتوباً وراءه:
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي |
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتـي ..................... |
عندما يقرأ التلميذ كلام الشيخ في ذمه لنفسه، هذا هو الشيء الذي يُعلم التواضع، وليس أن يمدح بعض الناس، فكأنه يقول: زد قليلاً زد قليلاً.
كان ابن جرير الطبري -رحمه الله- يجلس في حلقة داود الظاهري ، وابن جرير -رحمه الله- رزق فقهاً وفطنةً، فلاحظ بعض الأشياء الغريبة في منهج داود ، فكان يناقشه في هذه المسائل، حتى ضاق أحد أصحاب داود الظاهري فأفحش الكلام في الطبري ، وكلمه كلاماً فظاً غليظاً، فلم يفعل الطبري شيئاً، قام من المجلس وبدأ في تصنيف كتاب في مناقشة مذهب داود الظاهري ، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود قطع الطبري كتابه.
فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر ، وتعسف عليه، وصنف مؤلفاً فيه سب للطبري ، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزل، فلما عرف الطبري أن هذا الذي ألّف فيه كتاباً يذمه رحب به، وأخذ يثني عليه ويمدحه ويصفه بالصفات الكريمة، فماذا حصل؟ لما رجع محمد بن داود إلى منـزله قطع الكتاب وأتلفه لحسن أخلاق ابن جرير -رحمه الله- امتص الموقف، وسجلت لـابن جرير ضمن حسناته، وهي مكتوبة في سيرة ابن جرير إلى الآن رحمه الله تعالى.
وجاء ذات مرة رجل معتوه إلى ابن حجر -رحمه الله- وهو في إحدى الحِلق في أحد الدروس، وبدأ يسب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بالألفاظ القبيحة، فقال الإمام: نقوم إلى أن يفرغ أو يروح، ونهض، هذا هو كل الذي فعله ابن حجر ، ما قال لطلابه: خذوه وارموه في الشارع، بل قال: نقف حتى ينتهي هذا السفيه، وقام ودخل إلى الغرفة ورد بابها يسيراً، فترك المعتوه المكان وانصرف، فظن ابن حجر أن المعتوه لن يعود، ففتح باب الغرفة ووقف فإذا بالمعتوه قد أقبل من باب آخر، وزاد على ما كان عليه، فقال ابن حجر لتلاميذه: ما بقي إلا الانصراف، وأغلق الباب ولم يمكن أحداً من التعرض له، وسمع أن الوالي قد أخذ هذا وحبسه فتوسط له وأطلقه.
إن الموقف التربوي الذي حصل أهم من إكمال الدرس في نظره؛ لأن هذا الموقف لا يقل أهمية وفائدة عن إكمال الدرس.
واجتاز ابن جحر -رحمه الله- يوماً في طائفة من جماعته بباب جامع الغمري، فبدت من شخصٍ يوصف بالجذب -إنه مجذوب- كلمات يقول لـابن حجر وهو ماش: عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، والعلم عند الله. فأراد بعض طلاب ابن حجر -رحمه الله- أن يعزروه، فامتنع وقال: دعوه، هذا مجذوب يترك له حاله.
المسألة تحتاج إلى حلم وامتصاص المواقف، وكثير من المواقف التي فيها مثل هذه الأشياء تحتاج إلى حلم.
إنه الربط بين الموعظة وبين الناس الحاضرين، بين الحديث والكلام الذي يقال، بين الواقع وبين الناس، الربط هو الذي يجعل المسألة مؤثرة.
قال رجل قبل موت الحسن لـابن سيرين -و ابن سيرين كان معروفاً بتأويل الرؤى-: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاةٍ في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن . فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن رحمه الله، فإن أحسن حصاة في المسجد الحسن رحمه الله تعالى.
ومن الربط بين النصوص والواقع: حادثة وقعت للإمام شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني-كما وصفه الذهبي في السير، وهو من أئمة أهل السنة، ألف عقيدة مهمة وعظيمة في بيان عقيدة أهل السنة ، كان أبو عثمان الصابوني يعظ في المجلس، فدُفع إليه كتاب ورد من بخارى مشتملٌ على ذكر وباء عظيم بها، ليدعو لهم، ووصف في الكتاب أن رجلاً أعطى خبازاً درهماً، فكان يزن والصانع يخبز والمشتري واقف، فمات ثلاثتهم في ساعة من شدة الوباء، فلما قرأ الكتاب هاله ذلك .. قرأ الشيخ على الطلاب في الدرس الرسالة الواردة من بخارى بهذا الداء العظيم، فاستقرأ من أحد الطلاب قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ [النحل:45] الآيات، ونظائرها من الآيات التي فيها ابتلاء الله وإنزال العقوبة، وبالغ بالتخويف والتحذير، وأثر ذلك فيه وتغير، وغلبه وجع البطن، وأنُزل من المنبر من الوجع، فحمل إلى بيته أسبوعاً كاملاً من الألم، فأوصى وودع أولاده ومات رحمه الله تعالى.
كم يا ترى سيتأثر الطلاب والناس من هذا الموقف؟ وعندما ربط لهم الشيخ بين الداء الذي صار وبين الواقع، وأدخل آيات في الموضوع، واستقاها من القارئ .. هذه مواقف تربوية تزيد الإيمان ولا شك.
يقول عمر النسوي : كنت في جامع صور عند الخطيب البغدادي رحمه الله، فدخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، وقال للخطيب : فلان -وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك -أعطاه مالاً- فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد. فقال العلوي : كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار! فقام الخطيب محمر الوجه! وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
قال الفضل بن أبي ليلى : ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها .. التعفف عما في أيدي الناس يؤدي إلى العزة، إنه موقف عظيم، وفيه تربية على التعفف والعزة.
وفي هذه المناسبة قصة المحاميد الأربعة المشهورة، لما جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني ومحمد بن إسحاق بن خزيمة بـمصر ، والمحدثون وعلماء الحديث فيها، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منـزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة ، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، فاندفع في الصلاة، ماذا قال ابن خزيمة في صلاته؟ الله أعلم، كيف رغب إلى الله؟ الله أعلم، كيف لجوؤه إلى ربه؟ ربه يعلم، فإذا هم بالشموع وغلام من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنـزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر ؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير ؟ فقالوا هو ذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون ؟ فقالوا: هو ذا فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟ فقالوا: هو ذا يصلي -في الصلاة- فلما فرغ دفع إليه الصرةً وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -أي: نائماً في الظهيرة- فرأى في المنام خيالاً يقول: إن المحامد -المحمدون هؤلاء الأربعة- طووا كشحهم جياعاً وهم عندك، فسأل: من هم المحمدون؟ من هم رفقاء محمدون؟ قالوا: هم الأربعة، فأرسل إليكم، وأقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه يمدكم بغيرها.
إن العفة عما في أيدي الخلق جلب لهم الرزق من الله عز وجل، برؤيا أراها الله ذلك الرجل؛ فحركته لتفقد حالهم.
وبعضهم ربما يصبر على أمر من هذا، قد يُبتلى بوالد فيه شيء في عقله، مثل واحد من كبار المحدثين كان له والد يجلس في المجلس في وسط الناس، فيرى الناس مجتمعين على ولده فينبسط ويقول: إن هذا خرج من هذا، ويشير إلى عورته؛ متباهياً بولده، وهذا من خفة عقله، فيصبر عليه براً به، وما نهره وما طرده وما قال: هذا يمنع عن المجلس، والناس يقدرون له، ويقدرون للعالِم موقفه براً بأبيه!
ومما علمونا آداب الطعام، كيف كانوا يأكلون؟ من آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته، وكان له لحية كثة، فيضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمةً لقمةًً من جانبٍ واحدٍ من القصعة.
يقول محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً، وأظرفهم عِشرةً، وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يُسمع منه تنخم ولا تبصق - ليس مثل بعض الناس، يخرج البلغم.. من آخر شيء ومن أول شيء، وبأعلى صوت، والجشاء حدث ولا حرج- وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فمه .. هكذا بغاية الأدب في أكلهم، وما يخرج منهم شيء من الأصوات أو اللعاب، وهذا فيه غاية الأدب.
هل سمعتم رفسة تربوية؟! قال أحمد بن منصور الرمادي : خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين خادماً لهما؛ فلما عدنا إلى الكوفة ، قال يحيى بن معين لـأحمد بن حنبل : أريد أن أختبر أبا نعيم . فقال له أحمد بن حنبل : لا تفعل الرجل ثقة، فقال يحيى بن معين : لابد لي، فأخذ ورقةً فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم ، وجعل على رأس عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءوا إلى أبي نعيم ، فدق عليه الباب، فجلس على دكان طينٍ مرتفع -حذاء بابه- وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى بن معين الطبق فقرأ عليه عشرةَ أحاديث وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم : ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث على رأسها الزائد، فقال أبو نعيم : ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث على رأسها، فتغير أبو نعيم -عرف أن المسألة امتحان- وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى بن معين فقال: أما هذا -وذراع أحمد بن حنبل في يده- فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا -يريدني- فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل! ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين ، فرمى به من الدكان وقام فدخل داره، فقال أحمد لـيحيى : ألم أمنعك من الرجل! وأقل لك: إنه ثبت؟! قال: والله إن رفسته أحب إلي من سفري.
وماذا نقول -أيها الإخوة!- في قصص علمائنا ومواقفهم، ولقد لفت نظري مرةً خبر في سير أعلام النبلاء ، فقلت: سبحان الله! هؤلاء العلماء من قديم يؤخذ منهم المواقف، ليس فقط منهم، بل من بعض العامة نأخذ مواقف، بل من بعض اللصوص، وهذا خبر طريف نختم به المجلس: يقول أحمد بن المعذل : كنت عند ابن الماجشون ، فجاءه بعض جلسائه، فقال: يا أبا مروان أعجوبة! خرجت إلى حائطي بالغابة، -بستان- فعرض لي رجل -قاطع طريق في مكان مهجور- فقال: اخلع ثيابك، فقلت: لم؟ قال: لأني أخوك وأنا عريان، قلت: فالمواساة -نقسمها بيني وبينك- قال: لقد لبستها برهةً -بقي دوري أنا- قال: فتعريني: قال: قد روينا عن مالك أنه قال: لا بأس أن يغتسل الرجل عرياناً. قلت: ترى عورتي! قال: لو كان أحد يلقاك هنا ما تعرضت لك -لو أعرف أن هنا أناساً سيكونون في هذا المكان لما خرجت عليك في هذا المكان أصلاً- قلت: دعني أدخل حائطي وأبعث بها إليك. قال: كلا! أردت أن توجه عبيدك فأمسك.
قلت: أحلف لك. قال: لا تلزم يمينك للص، فحلفت له بها طيبةً بها نفسي، فأطرق يفكر، ثم قال: تصفحت أمر اللصوص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا فلم أرَ لصاً أخذ بنسيئة -بالآجل لابد أن يكون نقداً- فأكره أن أبتدع، فخلعت له ثيابي.
أيها الإخوة: نحن بحاجة وبخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه العلم وقلَّت فيه التربية، وقد يوجد عند بعض الناس علم ولا يوجد تربية.. نحتاج حاجة ماسة للتربية، ونحتاج للمربين، والمربون الذين يحسنون التربية قلة، ولكن الذكي صاحب البصيرة لن يعدم أن يجد ولو من الأموات من يستفيد من سيرتهم ويتربى عليها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الربانيين الذين يعلمون الناس، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع وحُسن الخلق وحُسن الأدب، والإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب قريب.
الجواب: سير العلماء في الغالب تكتب بعد وفاتهم، وأحياناً يُضيع العالِم طلابه، فلا يكتبون سيرته، ومن جهة أخرى في هذا الزمان العلماء قلة.
وثانياً: لا يوجد حرصٌ شديد على كتابة سيرهم، وجمع أخبارهم، ولذلك لا ترى كثيراً من الأخبار، ولكن الذي يتقصى ويستمع ويحرص أن يسمع من طلاب الشيخ ومعاصريه، ستجتمع عنده أخبار .. الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله المفتي السابق كانت له ثلاثة مجالس، يدرس ثلاثة مستويات، للمتقدمين درس، وللمتوسطين درس، وللمبتدئين درس، ولو لاحظ أن أحد المبتدئين جاء إلى درس المتقدمين يطرده وينهره، ليس هذا مكانك، وليس من هنا تبتدئ، وهذا يورث العجب.
وكان -أيضاً- من الذين يزعِون بالقوة، خصوصاً أن السفاهة موجودة في كثير من الناس، فكان يستعمل الشدة في دين الله مع من يستحق الشدة، وفتاواه رحمه الله فيها أشياء من هذا، وقد حصل مرةً أن بعض أهل الحسبة صادروا من شخص كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ، وفي هذا الكتاب تعرض لأئمة الدعوة، وسب لأئمة الدعوة، فالرجل هذا من عِوجه أرسل للشيخ يقول: أرجعوا لي الكتاب الذي صادرتموه أو عوضوني، وكان أخذ منه عدة نسخ، فقال الشيخ: أما نسخ الكتاب فقد جرى منا إحراقها، لما تشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان بشأن أئمة الدعوة وتلاميذ إمام الدعوة رحمه الله تعالى وأحفاده وما فيها من الضلال، أما تعويضك عن قيمته فيكفيك أنك سلمت من العقوبة، هذا هو التعويض، ولولا أننا علمنا أن الذي دخلت معه غيرك لما تركناك .. هذا في فتاويه.
كذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله عليه، من المشايخ والعلماء الموحدين -نحسبهم والله حسيبهم- كان قد ترك بلده في ما يظن أنه هجرة، وجاء إلى بلد التوحيد، ولما توفي الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية ؛ أرسلوا إليه يطلبونه لكي يترأس الجمعية، فذهب وألقى عندهم درساً ومحاضرة ورجع، ولم يمكث عندهم؛ لأن نيته في نفسه كانت الهجرة، هكذا كانت في ذلك الزمان.
ولذلك لم يشأ أن يضيع نيته، أو أن يخالف القصد الذي قصده، والذين كان يدرسهم في معهد القضاء يشهدون له بحسن تدريسه وتفصيله، وكان يأتي قبل الطلاب وينصرف بعدهم، وكذلك في الإفتاء يأتي أول الموظفين في دار الإفتاء ويخرج آخر الناس، وكانت طريقته في تقسيم الدرس وتسهيل المعلومات أمراً عجيباً يشهد له به تلاميذه، ويقولون: ما رأينا في التدريس مثله، وكذلك كان فيه من الرزانة وسعة الاطلاع وبُعد النظر ما تشهد به الفتاوى التي أصدرها مع سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، فقد لازمه منذ عام (1370) للهجرة، جاء إليه في ذي الحجة في الخَرْج ، فرافق الشيخ أربعاً وأربعين سنة وأشهر، وفي الإفتاء رافق الشيخ عبد العزيز تسع عشر سنة في لجنة الفتوى، ولذلك الذي يتأسف على العالِم حقيقةً هم العلماء الذين كانوا معه وعرفوه، ولم يُعرف عنه ركضٌ وراء الدنيا، وكان يصون العلم ولم يتبذل.
والشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله من علماء هذا البلد، كان علامةً لم يعرف قيمته كثير من الناس، وكان يأمر أقرانه بالصلاة وهم يلعبون وعمره عشر سنوات أو أحد عشر سنة، كان يخرج بالعصا للصبيان وهم يلعبون وهو في مثل سنهم، يخرج إليهم بالعصا إلى الصلاة، ونحن الكبار نمر بجانب الصغار ولا نقول لهم كلمة، وكتب بيده ثلاثة مصاحف، ومن جميل خطه أن الناظر فيها يظنها مطبوعة، وكان يعمل بين رمضان والحج يكسب قوت سنته ليتفرغ في بقية السنة لطلب العلم، هو موسم واحد يعمل فيه، يشتري فيه شاحنة ويبيع ما فيها وهذه نفقة السنة، وقد تولى القضاء رحمه الله تعالى، وحصل له موقف أن اتهمه سبعة أشخاص بالغش وعدم الأمانة في القضاء، فلما صارت هذه الحادثة تأثر الشيخ ورفض الاستمرار في منصبه، وأغلق باب المحكمة، وأُلح عليه في العودة إلى القضاء فلم يفعل رحمه الله تعالى، ومات هؤلاء السبعة وبقي واحد منهم جاءه يستسمح منه، ويقول: سامحني على ذلك الموقف، فلعل الشيخ أراد موعظته، فقال: بيني وبينك رب العالمين، فشل الرجل وبقي مشلولاً على كرسي إلى أن مات، وكان رحمه الله يأخذ محبرته من رماد الحطب، يجعل معها خلطة ليكتب بها، وكان في الحرم يطوف بالبيت سبعة أشواط وراء سبعة أشواط، وهكذا ...، ويصلي ركعتين بعد كل سبعة، لقد كان عابداً من العُباد رحمه الله تعالى.
والشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله ونفع به- كم أخذ الناس من علمه! وكم نهلوا منه! حضرت معه في مجلس له موقفاً تربوياً، جاء رجل لعله جاء من بلد فيها اضطهاد للمسلمين، فقال: أنا مسكين ومحتاج وعندي أولاد أخي أيتام أريد مساعدة.. أريد حاجة، فيقول الشيخ: هات من يعرفك، فقال: أنا طالب علم، وأعطوني يا شيخ، فقال الشيخ: تقول: إنك طالب علم.. طالب العلم يعرف أن المدعي لابد أن يأتي ببينة، هات اثنين يشهدون لك. فقال: يا شيخ، أنا مضطهد، وقد عُذبت، وضُربت، وسُجنت و... فقال الشيخ: احمد الله، لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر، تريد أن تقول بأنك عُذبت كي تأخذ مالاً! فسكت، ومع ذلك ما أظن أنه انصرف إلا وقد أمر له الشيخ بشيء في النهاية.
والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث هذا العصر، الذي وقف على سلم المكتبة الظاهرية الساعات الطويلة، والله أعلم بحال قدميه، لكي يقلب المخطوطات، ويقلب الكتب، ويستخرج الأشياء، وربما بحث عن الورقة الضائعة فترة طويلة من الزمن، واستفاد في البحث عن هذه الورقة فوائد عديدة جداً .. حضرت له مجلساً فأراد أن يبصق -أخرج منديلاً فأراد أن يبصق- فسألني، فقال: أين القبلة؟ لأنه يعتمد حديث النهي عن البصاق جهة القبلة، وأنها خطيئة ولو في خارج الصلاة، ولذلك يتحرز ويتوقى منه، وهو الآن في وضع صحي حرج للغاية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه وسائر مرضى المسلمين.
أيها الإخوة: إن العلماء -والحمد لله- يُوجد منهم بقية، لكن أين المستفيد من سيرهم؟! أين الذاهبون إليهم؟! أين الجالسون عندهم؟! أين الآخذون منهم؟! أين السائلون عن سيرتهم؟! أين المتخلقون بأخلاقهم وآدابهم؟!
نسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر