أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وأنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له من قبل أن يأتيكم يوم تودعون فيه لحوداً وقبوراً، يقول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).
معاشر المؤمنين: بعد أيام قليلة يستقبل أبناؤنا وشبابنا إجازة طويلة، بعد أشهر مضت في الدراسة والتعليم، ولا يخفاكم أيها الإخوة! أن الإجازة الدراسية في آخر العام تعني فراغاً كثيراً في أوقات الشباب، وهذا ما يدعو إلى أن نطرح أمامهم سؤالاً مهماً وهو أين وفيم يقضون أوقات الفراغ في هذه الإجازة الطويلة؟
معاشر المؤمنين: أيها الشباب! تذكروا أن آباءكم وأجدادكم كانوا لا يعرفون شيئاً اسمه الفراغ؛ لأنهم في شغل شاغل، في تأمين لقمة العيش وسد حاجات الحياة الأساسية، كان الواحد منهم من صغره وهو في حاجة أهله وعون والديه على النفقة على إخوانه وأخواته، وسواءً تغرب وسافر من أجل ذلك، أو عمل أجيراً ببدنه؛ لأجل ذلك في بلاده، ولم تكن مرافق الحياة وخدماتها متوفرة لهم، كما توفرت بين أيدينا في وقتنا الحاضر، إذ أننا اليوم نرى الشاب يملك من الوقت الكثير الكثير؛ خاصة أوقات الإجازة الدراسية الطويلة؛ وذلك لأن جميع مرافق الحياة ومستلزماتها وأسباب الراحة والرفاهية قد هيئت له وتوفرت بين يديه، فلا عليه إلا أن يشتغل بما هو أهم وأولى، ولكن كثيراً من الشباب لم يعرفوا قيمة نعمة الفراغ، وبالتالي لم يستثمروا الأوقات كما ينبغي، وقاد ذلك الكثير منهم إلى الوقوع في العادات السيئة الضارة المخلة بالدين والشرف، وتورط بعضهم في جرائم لم يكن يتوقع أو يظن أن يقربوها أو يقتربوها بدون ذلك الفراغ القاتل:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده |
عباد الله: اعلموا إن النفس البشرية لا بد لها من شغلٍ وعمل؛ فإن لم نشغل هذه النفس ونستعملها وما معها من الجوارح في طاعة الله، فستشغلنا بغير ذلك، أي: بمعصية الله ومن هنا ننصح أنفسنا وإخواننا بترتيب الأوقات والاستفادة منها غاية الاستفادة، إذ أن الأوقات هي حياتنا ومراحل أعمارنا تطوى بليلها ونهارها؛ ولأن ما مضى منها لا يعود أبداً، وقد جاء في بعض الآثار: [ما من يومٍ تطلع فيه الشمس على ابن آدم إلا وينادي فيه مناد: يا ابن آدم! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود أبداً] ولو عمل الإنسان الواجبات واعتنى بالمندوبات والسنن المؤكدة، واعتنى بوقتها عناية دقيقة؛ فلن يجد متسعاً لشيءٍ يسمى الفراغ أو البطالة.
ومن الشباب من أولعوا بشيءٍ من الهوايات النافعة تعم بالخير كالرماية والسباحة، وهي التي حث الفاروق بن الخطاب رضي الله عنه عليها بقوله: [علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل] فهذه من محاسن الهوايات وأفضلها؛ لما يتعود عليه طالبها من الرجولة والكرامة والإباء، ولا بأس أن يقضي الشاب في ممارستها شيئاً من وقته بشرط ألا تشغله عن ذكر الله جل وعلا.
وإن مما ننصح به الشباب الصالحين المستقيمين أن يجعلوا هذه الإجازة فرصةً لمزيد بذل في الدعوة إلى الله، وطلب العلم وتعليم من يجهل احتساباً لذلك عن عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه من أمور العبادة، والإنسان معلوم أنه يبذل فيها أفضل أوقاته ويبذل فيها أهم أوقاته، لكنه يزيد من جهده ويضاعف من نشاطه في طلب العلم والدعوة إلى الله في مثل هذه الإجازة.
ومن الشباب من أولع ببعض الهوايات العلمية التقنية؛ كشيءٍ من الاختراعات أو تطوير بعض الأجهزة، وذلك حسن جداً؛ لما يعود عليه وعلى أمته مستقبلاً بالنفع العظيم.
إن كثيراً من الناس حينما تسأله عن انقطاعه وفقده، يقول: كنت منشغلاً بالدراسة والامتحانات، أما الآن فأمامك إجازة طويلة تستطيع أن تقضي فيها أوقاتاً مباركة في صلة أرحامك وبر والديك، وفي زيارة إخوانك في الله، وفي جملة من الأعمال المهنية والعلمية والوظيفية، وإن هذه البلاد بحمد الله قد فتحت معاهد للتدريب الفني والمهني لمن أراد أن يكسب صنعة أو أن يكسب خبرة في أي مجال من المجالات، فاستغلوا الأوقات وبادروها قبل أن تفوت عليكم ولم تستفيدوا منها.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن وجوهكم وجسومكم على وهج النار لا تقوى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين: هناك ظاهرة سيئة وقع بعض الشباب -هداهم الله- فيها، ومن المؤسف أن جملة ممن وقعوا فيها لا يزالون صغاراً، ألا وهي سفر بعضهم أو اصطحاب بعضهم بعضاً إلى السفر إلى الخارج، إذ أن الإنسان لا يقف أمامه ما يردعه، فجواز السفر ميسرٌ بالنسبة له، وبعد ذلك قد يذهب بدون إذن والده أو عاصياً امتناع والده عن سفره، ومن ثم يذهب إلى تلك الدول الغربية الكافرة، التي تعرض فيها المنكرات والفواحش في الأسواق عرضاً، ثم بعد ذلك لا يملك أمام شيطانه وضعف نفسه الأمارة بالسوء، لا يملك أمام ذلك إلا أن ينساق وراء هذه الشهوات والمغريات، فيعود عياذاً بالله! شارباً للخمر، أو زانياً، أو واقعاً في كثير من الممارسات الجنسية الشاذة، وإن بعض الشباب قد وقعوا في ذلك -هداهم الله- ومنهم من أخبرني أنه سافر مع صديق له لا يزالون صغاراً، لكن الشيطان أغوى بعضهم أو أغواهم، ومن ثم وقعوا في جريمة كبيرة، وبعد ذلك عاد تائباً يقول: إن الله يقبل التوبة، ولكن ما الذي حدا بك للسفر إلى بلاد لا حاجة لك فيها، لا تطلب فيها علماً معدوماً في بلاد المسلمين، وليس لك فيها تجارةٌ لابد من حضورك فيها، وليس لك من أمرها قليلٌ أو كثير.
إننا بحمد الله يوم أن ننصح الشباب ألا يتوجهوا في السفر إلى الخارج، وأن يقضوا إجازاتهم في مصايف بلادهم، وفي أرضهم، وفي ربوع مملكتهم ننصحهم بهذا؛ لأننا نعلم ولله الحمد أنهم في هذه البلاد على ارتباط وثيقٍ بعبادة الله، فهم يسمعون المآذن تعج بالتكبير في كل يوم خمس مرات، أينما ذهبوا في أي جهةٍ من جهات هذه المملكة شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً، وذلك مما يشدهم ويصدهم عن الوقوع في الفواحش، ومن العصمة ألا يقدروا إذ أننا ولله الحمد والمنة لا نرى مظاهر الفساد، أو الزنا، أو الخمور، علنيةً ظاهرة؛ فذلك من فضل الله، والكثير يعجز عن نوالها والحصول عليها، ومن العصمة ألا يقدر الإنسان.
أيها الإخوة: إننا ننصحكم أن تنتبهوا لأوقاتكم، وألا تفكروا في السفر إلى بلاد لا حاجةً لكم فيها، وإني لأنصح الآباء أن ينتبهوا لأبنائهم، وأن يتأكدوا تمام التأكد من أحوالهم، وأن يكونوا على صلةٍ وثيقة تحصل الهيمنة والسيطرة من الأب على ولده، لا أن يخرج الشاب ثم يسافر إلى أي جهة شاء، وبعد ذلك يعود فاجراً، أو زانياً، أو سكيراً، أو مجرماً من المجرمين، فإذا عاد الواحد منهم، وقد تكون أول مرة يقع فيها في الفواحش يعود الشيطان إليه يقول: ماذا بعدما زنيت، اترك الصلاة، زنيت دع عنك هذا الأمر، شربت الخمر دع عنك هذه الصحبة، ثم بعد ذلك يهون عليه ارتكاب الجرائم والفواحش والمعاصي مذكراً له بفاحشة كبيرة تهون عليه ارتكاب ما دونها، وإني لأنصح الشباب أن يهتموا بهذا الأمر اهتماماً عظيماً، وألا ينساقوا وراء المغريات التي تنتشر في كثير من المجلات، عبر الدعوة إلى شركات السياحة والمتعة في بلدان الخارج، إذ أن حقيقتها سم زعاف وتدمير للأخلاق، وإفساد للهمم والكرامات، فيما يسمونه بالرحلات السياحية التي تنظمها شركة من الشركات، فتدور على جملة من بلدان العالم، من هو الذي يحفظهم في هذا السفر؟ من هو الذي يوجههم؟ هل معهم من أهل العلم من ينتبه لهم؟ هل معهم من المربين والأساتذة المثقفين من ينتبه لأحوالهم؟
رحلات سياحية في أي جهة كانت، هدفها الأول ابتزاز الأموال ومحصلة آخرها فساد للشباب في أخلاقهم وفي أنفسهم، وصرف لهم عن طاعة رب العالمين.
وإن من المداخل الخبيثة السيئة على كثير من الشباب ما يسمونه بفكرة دراسة اللغة الإنجليزية، فترى الواحد منهم يسافر وحيداً أو يدفعه والده إلى السفر بحجة تعلم اللغة الإنجليزية وبعد ذلك يقول: إذا سافرت إلى هناك لا بد لك أن تسكن مع أسرة تخالطها وتحادثها، وتتكلم معها؛ لأن ذلك يعينك على الاستفادة من اللغة وتحصيل المخاطبة بها، وقد نسي ذلك الشاب أو نسي والده أنه يقع في فخٍ وكمينٍ قد أعد له من زمن طويل، أو أعد لفلذة كبده، فالتفتوا لهذا يا عباد الله! وإن سبل تحصيل هذه اللغة متيسر في هذه البلاد ولله الحمد والمنة لمن كان محتاجاً لها.
إن الذين وقعوا في المخدرات وتناولوها، وساروا في بيعها وترويجها، إن الذين ضعفت نفوسهم في تدبير الرشاوى، إن الذين دخلوا بالفساد على أنفسهم وأهلهم، إن الذين وقعوا في كثير من الانحرافات الخلقية وبثوا سمومهم إلى ما حولهم من أبناء مجتمعهم، كان السبب الأول في هذا هو الفراغ.
إن الفراغ هو الذي يولد المصائب وهو الذي يولد الجرائم، وهو الذي يولد المشكلات.
إذاً فينبغي لنا أن نهتم بأوقاتنا، وأن نشغل أنفسنا بطاعة الله أو بالمباحات التي تعيننا على طاعة الله، قبل أن تشغلنا النفوس بالمعاصي:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني |
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمرٌ ثاني |
إذا اشتغل الإنسان ونفع في بلده وأسرته وفي وطنه وأمته استطاع بذلك أن يحقق لنفسه عقباً صالحاً من جميع المسلمين الذين يذكرون أفعاله بالخير ويدعون له على ما فعل، أما الذين يعيشون الليل والنهار كالبهائم لا يذكرون الله، ولا يعرفون عبادة، ولا صلاة مع الجماعة، ولا يعرفون ذكر الله طرفة عين، وقد وقعوا في حضيض الفساد وهاوية الدمار، إنهم بذلك يجرون الفساد لأنفسهم ولمجتمعاتهم، فإذا ماتوا بعد ذلك قيل عنهم: حجرة زالت عن طريق المسلمين، فينبغي للإنسان أن يجعل لنفسه في هذه الحياة لبنة تعرف له في حياته ويذكر بها بعد موته، يدعو له من رأى ثمرة عمله ونتيجة جهده يقولون: جزى الله فلاناً بن فلان خير الجزاء، فلقد فعل وفعل، مما عاد بالنفع عليه وعلى أسرته وإخوانه المسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بلادنا بسوء وأراد ولاة أمورنا بفتنة وعلمائنا بمكيدة؛ اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم اختم بالشهادة آجالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، اللهم لا تدع لأحدنا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم اعصمنا عما يسخطك وجنبنا ما يغضبك، ووفقنا إلى ما يرضيك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وتب علينا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له، وابعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله بإخوانه ومن أحببته وأحبه، اللهم لا تفرح عليهم عدواً ولا تشمت بهم حاسداً برحمتك يا رب العالمين! اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين ونساءهم وزوجاتهم وبناتهم يا رب العالمين، اللهم أرنا في شبابنا ما يرضيك ويسرنا يا رب العالمين، اللهم اجعلهم خير الشباب لأمتهم، اللهم انفعهم بأمتهم، اللهم انفع أمتهم بهم، اللهم لا تجعلهم حطباً لجهنم، اللهم لا تجعلهم ممن ينفع أعداء أمتهم، اللهم وفقهم لما فيه صلاح نياتهم وذرياتهم وقلوبهم يا رب العالمين!
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين!
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تصنعون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تفعلون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر