اللهم اجعلنا لإخواننا المسلمين هينين لينين، واجعلنا لهم مبشرين وميسرين، ولا تجعلنا معسرين ومنفرين، اللهم اجعلنا لإخواننا المسلمين كالأرض الذلول يطؤها الكبير والصغير، وكالسحاب يظل البعيد والقريب، وكالمطر يسقي من يحب ومن لا يحب، اللهم أيما عبدٍ، أو أمةٍ من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم على الحق، فثبته على الحق وزده، ومن كان منهم على الباطل، وهو يظن أنه على الحق، فرده إلى الحق رداً جميلاً، اللهم إنا عفونا ما بيننا وبين عبادك، فاعف ما بيننا وبينك، فأنت أجود وأكرم يا رب العالمين، ولئن نلقاك بالعفو خير لنا من أن نلقاك بالخصومة.
أما بعد:
أيها الأحباب الكرام: إني أحبكم في الله، وحديثي في هذه الديوانية العامرة بوجودكم ودعائكم الصالح، وأُخوتكم في الله حول محبة الله، وأن هذا القلب الذي بين ضلوعك لا يكون فارغاً أبداً، إما أن تملأه بحب الله، أو يمتلئ بحب ما سواه، درهماً أو ديناراً، أو زوجةً، أو هوىً، أو شيطاناً، لا يكون القلب فارغاً أبداً، فهو كالرحى يدور، فإن وضعت فيه حباً، أخرج لك طحيناً مفيداً، وإن وضعت فيه تراباً أنتج لك تراباً، وإن وضعت فيه غثاءً أنتج لك غثاءً: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت، صلح سائر الجسد، وإذا فسدت، فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب) والذي يتابع من ملأ قلبه الهوى، يراه في عذاب وأي عذاب، فالذي يعبد هواه يعيش في الدنيا عيشةً ضيقةً ضنكاً كما قال الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
[طه:124] وعند سماعك لهذه الآية تعلم أن هذا لو كان يحب الله لذكره؛ لأن المحبوب مذكور، أنت إذا أحببت مخلوقاً، فإنك تذكره دائماً، انظر إلى حياة العشاق فإنهم لا ينسون أحبابهم، والمتتبع لأقوالهم وأشعارهم يجد فيها الأعاجيب، يذكر الحبيب حبيبه في السراء، ويذكره في الشدة، وفي الصحة، وفي المرض، وفي السفر وفي الحضر، أما تقرءون الشعر، أما تقرءون الأدب، لماذا هكذا دائماً الحبيب مذكور؟
لأنه في القلب، فهذا الذي صارت معيشته ضنكاً ربه ليس في قلبه، لماذا؟
قال: لأنه أعرض عن ذكري، لو كان يحبني لذكرني، فتحول الإنسان المقطوع الذي هو بدون حبيب، وكل إنسان يكون بدون حبيب يعيش في عذاب، وفي قلق، وفي جحيم، لهذا قال الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
[طه:124] وشتان بين من يحب الخالق وبين من يحب المخلوق، فهؤلاء العشاق استمع إليهم يوم أن عبدوا معشوقهم، فهو في عذاب لا ينقطع، آهات وأنات، ودموع وعبرات، وسهر وسهد لا يهنأ بطعام ولا بمنام، كما يقول الشاعر:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرةٌ تترقرق |
ما لاح برقٌ أو ترنم طائرٌ إلا انثنيت ولي فؤادٍ شيق |
كابدت من نار الهوى ما تنجلي نار الغضا وتكل عما يحرق |
أي أن الحريق الذي أحس فيه من الداخل والعذاب نار جمر الغضا، والغضا هو شجر موجود في جزيرة العرب معروف، وهو أشد أنواع الفحم، يقول: النار التي أحسها في داخل صدري بسبب هذا الهوى نار الغضا تعجز أن تكون مثلها، كابدت أي: عانيت.
من يطفئ هذا الحريق؟ ذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
[الرعد:28]
يا ليت شعري وعندي في الحب ما ليس عندك |
هل طال ليلك بعدي كطول ليلي بعدك |
سلني حياتي أهبها فلست أملك ردك |
الدهر عبدي لما أصبحت في الحب عبدك |
أرأيت؟ أليس هذا شركاً؟ يوم أن يكون عبداً لمخلوق، ويجعل الدهر عبداً له، الدهر هو الله، لهذا قال الله في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار، بيدي الأمر) فهذا الشاعر الذي عبد محبوبه، يقول: الدهر عبدي، متى؟ قال: عندما أصبحت في الحب عبدك، انحراف رهيب، انطمس عنده مفهوم التوحيد؛ بسبب غشاوة الهوى، وهذا معذبٌ ثالث لا يخاطب إلا ذاته ونفسه، يدخل في معركة مرة مع العين؛ لأنها هي السبب، ويدخل مرة معركة مع القلب؛ لأنه هو السبب، فيعترك مع ذاته، فهو في تمزق:
نفر النوم واحتمى من جفوني كأنما |
هو أيضاً من الحبيب جفاءً تعلما |
أنتِ يا عين كنتِ لي للصبابات سلما |
وهذا أكبر درس لمن تزيغ عينه ذات اليمين وذات الشمال، في الأسواق والجمعيات، والتلفزيون والصحف والملاحق والصور، هذه نهاية مأساوية.
أنتِ يا عين كنتِ لي للصبابات سلما |
ثم حملتني الثقيل وأبكيتني الدما |
ثم ألفت بين طرفي والنجم في السما |
النجم سهران، وأنا سهران.
أنت لو لم تكن شقياً لما كنت مغرما |
يعترف بشقائه.
فازجر القلب دائماً ولُمِ العين مثلما |
جشمت قلبك الصبابة حتى تجشما |
أشعل الحب ناره في فؤادي وخيما |
فهو لا يرحل الزمان وإن قلت يمما |
أي: كلما قلت انفكيت منه وذهب رجع وزاد.
عجباً كيف لم يصر هو مثلي متيما |
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم |
أي: الحصان الآن يلبس الدم.
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إليَّ بعبرة وتحمحم |
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي |
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم |
ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ مني وبيض الهند تقطر من دمي |
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم |
الرماح والسيوف تشرب من دمه وهو لا يبالي، لماذا لا يبالي؟ فقط لأنه ذكر الحبيب، فكيف بمن يذكر الله في هذا الموقف، من أجل ذلك نزل القرآن يقول عن هذه الحقيقة البشرية، هذه الغريزة البشرية الموجودة في الناس، جاء الإسلام وأثارها الإثارة الفطرية الصحيحة، فأصبح الذي يفدي نفسه من أجل عنز، أو عبلة، أو عشيرة، أو قبيلة، أو ناقة، أو حصان، أو مدح، أو لكي يقال عنه: شجاع وقوي الآن تحولت القضية في سبيل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
[الأنفال:45] أرأيت الدور الخطير لقوله: واذكروا الله، فشتان بين من يذكر عبلة، وبين من يذكر الله، لهذا كان ثبات الصحابة في مقارعة الفرس والروم - أكبر إمبراطوريتين في العالم لهم جيوش نظامية حديثة، وأسلحة إستراتيجية ضخمة ما كانوا يعرفونها - كان ثبات الجبال الراسيات، قصروا قيصر، وكسروا كسرى؛ لأنهم يذكرون الله عند لقاء الصف: (من قاتل المشركين اليوم صابراً محتسباً، فقتل دخل الجنة) والجنة أجمل ما فيها رؤية الله، لهذا كان هذا المحرك في لحظات الشدة يهون العذاب والدماء والجراح:
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ
[النساء:104]..
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
[النور:36]؛ لأنه حبيب في القلوب:
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
[النور:37-38] انظر تبادل المحبة كما قال الله في القرآن:
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
[المائدة:54] سبق بمحبته محبتهم سبحانه وتعالى؛ لأن الفضل المتقدم منه والإحسان المتقدم منه، قال:
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
[المائدة:54]..
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
[النور:38].
هذه الصفة لهؤلاء الأحباب الذين هم في بيت ربهم، الذين هم يحبونه جاءت بعد ضرب المثل لنور الله، كأن الله يقول: إذا أردتم أن تروا نوراً واقعياً لهذا النور، انظروا إلى وجوه هؤلاء الذين يجتمعون في بيتي، نور الدنيا وزينتها كما تنور النجوم صفحتها وديباجة السماء، هذه الصفات جاءت بعد قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
[النور:35] إلى أن ختم المثل العظيم في ضربه للنور:
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
[النور:35-36] وأخذ يصف.
وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم |
أرأيت الانحراف؟ جعل الدنيا الذي جاد فيها ليس الله بل رسول الله! والآخرة بما فيها من نعيم وجنات وحور، فهي من جود الرسول، ليست من جود الله، وأن علمه يعلم ما في اللوح المحفوظ، أي: يعلم الغيب، ويعلم ما خط القلم عند الله في الكتاب الأول، إذاً حوَّل المخلوق إلى إله، ما بقي إلا أن يقول له: أنت إله، لكنه ما قالها، ذكر صفات الإله، ووضعها فيه ولم يصرح، أرأيتم الانحراف عندما طغى عن الحد الشرعي، وهنا تكون الخطورة، لهذا الله سبحانه وتعالى لم يترك العقول والخيالات والعواطف هي التي تسطر ديباجة المديح لهذا الحبيب، إنما هو الله الذي حد الحد: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[آل عمران:31] فحب الله من حب رسوله، وحب رسوله وحب الله مربوط بالاتباع خطوة خطوة، وسنة سنة، حتى الزيادة مرفوضة، قال أحد الصحابة: (إني أصوم ولا أفطر، وقال آخر: أقوم ولا أنام، وثالث قال: لا أتزوج النساء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني).
لأن الحب عبادة قلبية، والعبادة القلبية لها تشريع، وتشريعها من الله، والحب المجرد لا يكفي، لابد أن يكون له جناحان، الجناح الأيمن: الرجاء، والجناح الأيسر: الخوف، وبدون هذين الجناحين يطغى عنده الحب في يوم من الأيام، فـالصوفية طغى الحب عندهم حتى ألهوا البشر، واستغاثوا بالبشر، وتمسحوا بالقبور، وسألوا الأولياء، واستجاروا بالمقبورين الأموات، وتوسلوا بهم، سألوهم ما يسأل الله من مال ورزق وولد وجوار وإعاذة ولواذ إلى آخره .... لماذا؟ لأنه لم يكن الحب محفوظاً في الرجاء والخوف، أما ضرورة الرجاء، فلأن الإنسان خطاء، ويخشى أنه كثرت خطاياه أن يقنط من رحمة الله، فيقول: من أي ذنب أتوب: من هذا أم من هذا؟ ويقول: أكون كافراً أفضل لي!
حين يأتي الرجاء يضبط القضية ويوازنها ويقسمها حتى تعتدل، فيقول الله له: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
[الزمر:53]..
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
[العنكبوت:5] والخوف له دور للعابد الطائع مخافة أن يتكل على العمل، فيقول:
من مثلي؟ قال: صلوا، فصليت، زكوا فزكيت .. حجوا فحجيت، هل هناك أحسن مني؟ ليس هناك أحسن مني، فيستكثر الطاعة على الله، ويقول: إنها منه بحوله وقوته، ليست من توفيق الله، فلو وجد الخوف لأحس بالتقصير ولو كان صِدّيقاً، فهذا أبو بكر الصديق يقول: [لو أن رجلي اليمنى في الجنة والأخرى خارجها، ما أمنت مكر الله] هذا من الخوف، فوجود الخوف والرجاء ككفتين للقلب المملوء بالحب، وهذا الذي أثنى الله به على الأنبياء وعلى العابدين كما قال سبحانه وتعالى: (تتجافى) - انظر المحبين وهم يقومون الليل كله لله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
[الفرقان:64] كل الليل سجداً وقياماً - تعبير عجيب في هذه الآية، اسمع الأخرى ماذا تقول:
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
[السجدة:16] النوم حلو، لكن الله سبحانه وتعالى أحب، فآثرت الله على النوم، وهذا شيء موجود فينا، عندما تأتي رسالة من محبوبة إلى حبيبها، لا ينام وإنما يظل يقرأها، أول شيء يرى الغلاف ويشم ريحته، وبعد ذلك يفتحه، وبعد ذلك يقرأ حرفاً حرفاً، وبعد ذلك يفكر في كل كلمة ويقول: ماذا تقصد بها؟ والتشكيلات يحفظها عن ظهر قلب، ويقرأ توقيعها، وكل كلمة لها، وكل كلمة لها موقع تحفر في قلبه وفي نفسه وفي روحه، لا ينام، وهذا الليل الطويل يصير عنده قصيراً كما قال:
وطرٌ ما فيه من عيب سوى أنه مر كلمح البصر |
رأيت كيف مر كلمح البصر مع قراءة ذكريات الحبيب ورسائله، ومكالماته هذه التي تجعل الإنسان يمر عليه الوقت كأنه برق؟ المحبون لله أعظم، الله سبحانه وتعالى يقول: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
[السجدة:16] الجنب بينه وبين المضجع عداوة:
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
[السجدة:16] الطمع هو الرجاء بجنة الله ورضوانه، كفتان بالقلب النابض بالحب الذي جعله يهجر المضجع، ويقف بين يدي الله يذكره:
وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً
[الأنبياء:90] رغباً يعني: رجاء، ورهباً يعني: خوفاً، فهذا هو الميزان الضابط أيها الأحباب!
والله سبحانه وتعالى أثنى في كتابه على هذا الصنف المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، والذي يضبط هذا الميزان العجيب، وتتحول الانضباطية عنده في جميع سلوكياته في الحياة، وفي نفس الوقت تراه عزيزاً وذليلاً، هذه المتضادات كيف تجمع في شخص واحد إلا من ضبط نفسه على الشريعة الإسلامية، اسمع ماذا يقول الله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
[الفتح:29] أرأيت شديد ورحيم في نفس الوقت وتجد عمر بن الخطاب الحد الفاصل بين الشدة عنده والرحمة طرفة عين حاطب بن أبي بلتعة يرسل رسالة إلى قريش يخبرهم بتحرك جيش الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فينزل الوحي، فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستحضر للتحقيق، فمباشرة يقول عمر: (ائذن لي يا رسول الله أضرب رأس هذا المنافق -يرد عليه بنفس الوقت- لا يا
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
[الفتح:29] وتتبع آيات القرآن، وهو يصف سبحانه وتعالى هذا الصنف المحب لله رب العالمين، وخير من يمثله.
وأكثر ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الخيام من الخيام |
إذا كانت الخيمة قرب الخيمة فإن الشوق يزيد ويلتهب، لهذا عندما نزل جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم يخيره بين الخلود في الدنيا وكنوزها وبين الجنة، قال: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) لأنه كان دائماً باستمرار يقول: (أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك) فلهذا قال خبيب: [لولا أنني أخشى أن تقولوا: خفت من الموت، لأطلت في الصلاة] ثم أخذوا يقطعونه -والقصة معروفة- ماذا قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك علي أجزاء شلوٍ ممزعِ |
أرأيت الآن كيف تجلى حبه لله، ضحى بروحه في ذات الإله.
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك علي أجزاء شلوٍ ممزعِ |
من أجل ذلك أختم حديثي بدعاء داود الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء داود).
اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي وأهلي ومالي، ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الجواب: الجنة الأولى للسابقين، والجنتان اللتان من دونهما للأبرار وأصحاب اليمين، فالسابقون في القرآن دائماً يميزهم الله في وصف نعيمهم بمميزات كثيرة، فعلى سبيل المثال في سورة الواقعة عندما وصف الله سبحانه وتعالى السابقين ماذا قال؟ قال: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً
[الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة:
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
[الواقعة:8] (ما أصحاب الميمنة) هذا للتهويل والتعظيم، أي: ما أعظم مكانهم، لكن لم يعظمهم بصفة، قال:
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
[الواقعة:9] وهذا للتهويل، أي: ما أشد عذابهم ودركاتهم في النار، ثم قال:
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
[الواقعة:10] ولم يعط السابق صفة إلا السبق، أي: كأنه يقول: من مثلهم، انظر إليهم:
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
[الواقعة:11] ترك الآن أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وأخذ يتكلم عن السابقين، ترك الصنفين وبدأ يتحدث عن السابقين هذا يبين أن درجتهم أعلى، وأن الله يحثنا على أن نكون منهم:
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ
[الواقعة:10-12] فالذين يذكرهم الله بثوابهم، يذكر لهم جنة، هنا لما ذكر السابقين ذكر جنات، قال: في جنات النعيم، وفي الحديث أن هناك جنة من ذهب آنيتها وأكوابها وكل شيءٍ فيها، وجنة من فضة آنيتها وأكوابها وكل شيء فيها:
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
[الواقعة:12-17] نلاحظ هنا كلمة (يطوف) أنها بدون واو، ليس هناك حواجز بين السابقين وبين من يطوف عليهم، الخدمة قائمة باستمرار، لكن لما ذكر الأبرار الذين درجتهم أكبر من درجة السابقين في سورة الإنسان وضع الواو:
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ
[الإنسان:19] وعندما أخذ يصف نعيم السابقين:
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ
[الواقعة:17].
وعدَّد أصناف المشروبات والأواني: بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ
[الواقعة:18-21] لاحظ، كله مجرور بسبب حرف الجر الأول (على) (على سرر) إلى أن جاء إلى وصف الحور، فاستأنف جملة جديدة ابتدأها، وضم الحور بالضمة وهي أقوى الحركات في الإعراب حتى يلفت نظرك أن المتعة في الحور أعلى من كل المتع التي مرت، فلم يقل: وحورٍ بالكسر كما قال عن: وفاكهةٍ وأكوابٍ، لا. لما جاء عند الحور، قال:
وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[الواقعة:22-24] فعندما وصف نعيم أصحاب اليمين ترى أنه أنزل درجة:
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ
[الواقعة:28-33].
ويقول تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
[المطففين:22] الأبرار درجتهم أدنى من درجة المقربين والسابقين:
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ
[المطففين:23-27] ممزوج، مضاف له شيء، لكن جاء الشراب الخالص للمقربين، لاحظت؟! نكمل الآية:
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
[المطففين:26-28] لما ذكر المقربين، شربهم من العين التي ليس فيها مزج، هذه صفة خاصة فهم يشربون من المنبع، لكن أولئك مزج لهم بالتسنيم، تلاحظها أشد في سورة الإنسان وهي في أولها، ماذا يقول في أولها؟
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
[الإنسان:5] فالذي يمزج في الدنيا قد يكون صالحاً، لكن ينظر من هنا قليل، ومن هنا، ويمزج، فيمزج له الجزاء من جنس العمل:
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
[الإنسان:5-6] وصف المقربين بالعبودية، سماهم عباد الله، وشربهم من العين بدون مزج:
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
[الإنسان:6] يفجرونها هم بأنفسهم بدون أن يكون فيها مزج، وهكذا المتتبع أيضاً في سورة الرحمن يجد وهو يصف الحور العين للسابقين، والحور العين لأصحاب اليمين يجد فرقاً كبيراً، الحور العين في سورة الرحمن يقول الله عنهن
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ
[الرحمن:56-58] قال عنهن قاصرات، أي: طرفهن قاصر على أزواجهن فقط لم يقع عليهن بالإكراه من الخارج، لكن لما وصف حور أصحاب اليمين، جعل القصر يقع عليهن من الخارج:
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ
[الرحمن:72] هذه درجة أنزل، تلك قاصرات، وهؤلاء مقصورات، وقع عليهن القصر، وهذه اللطائف الصغير لا يحسها إلا من أعطاه الله التذوق من القرآن الكريم، والله أعلم.
الجواب: رابعة العدوية من الناس من يقول إنها وهمية وليست حقيقة، وإن كل شعرٍ به تصوف يريدون أن يشهروه، ينسبونه إليها، ومنهم من يقول: إنها عابدة، وإن الشعر الذي يروي عنها منسوب، وليس لها، ومنهم من يقول: لا. هذا شعرها، ولكن على العموم لا يخلو الشعر الصوفي في الحب الإلهي من غلو، هو في رواية: حقَت، وفي قراءة حُقت، وكلها صحيحة (حُقت محبتي للمتحابين فيّ) بدأبها بالحب، الإطار الأول هو الحب، بدونه لا تكون العلاقات لها أثر أو ثمرة: (وحُقت محبتي للمتجالسين فيَّ، وحُقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحُقت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحُقت محبتي للمتناصحين فيَّ)المتحابون، فحده بإطار ثانٍ من الحب، أول الحديث حُقت محبتي للمتحابين، نهاية الحديث: (المتحابون فيَّ على منابر من نور) فأصبح التجالس والتزاور والتناصح لا يؤتي ثمرته إن لم يكن بيني وبينك حب، تزورني وأزورك وأنا لا أحبك فليس هناك فائدة، بين قلبي وبين قلبك سد، تنصحني وأنا لا أحبك فلن آخذ نصيحتك.
أضرب لك مثالاً: سعود البسام أشهد له موقف مر في مسجد في الظهر الذي يسمونه الآن عقيلة، صليت معه صلاة العصر، وكان بجواره عجوز عمره ثمانون سنة، وسعود لابس نظارته الطبية، وعندما كان يصلي سنة العصر قام العجوز ينظر إليه نظرة غضب، فلما فرغ سعود من صلاته قال له العجوز: أراك تصلي بالنظارة، لا تدري أن هذا مخل بآداب الصلاة، ماذا فعل سعود ؟ نزعها بسرعة وقال له: صحيح، لا تغضب يا حاج، والله إني غشيم، وهذا غشم مني لا حول ولا قوة إلا بالله، فوضع النظارة في محفظته، فضحك العجوز واستأنس وحس أن هذا ما جفاه ولا زجره، ولا صرخ بوجهه، ولا قال له: ما هو دليلك؟ وما صاح عليه، لأنه قد يصاب بسكتة قلبية، لكن انظر كيف أخذه بهذه الحكمة والروية، قال له: والله إني غشيم، وأخذها ووضعها في جيبه، يعني: ماذا كلفه عندما أخذها من عينه، ووضعها في جيبه، وقال: أنا غشيم سامحني يا عم! ما كلفه شيئاً، وهذه حكمة، يا إخوة معاملة الناس الطيبة تجعل المحبة بين القلبين عامرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن هينٌ لينٌ قريبٌ كالجمل الأنف؛ إذا قيد انقاد، وإذا استنيخ على صخرةٍ استناخ) يجلس عليها ويسكت؛ لأنه ينقاد، كذلك المؤمن لإخوانه وأحبابه.
الشاهد: أن هذا الحديث حفته المحبة (حُقت محبتي للمتحابين فيَّ، حُقت محبتي للمتجالسين فيَّ) وأفرد الله لكل عبادةٍ حقاً مستقلاً لمكانتها عند الله، لم يقل: حقت محبتي للمتحابين والمتجالسين المتباذلين، لا. وإنما أفرد لكل عبادة حقاً حتى يعطيها مكانة قيمة، ودرجةً خاصةً بها، ثم كان الجزاء من جنس العمل، لما أصبح قلبي مفتوحاً لك، والذي فيه هو الذي على لساني، لا أغشك، ولا أخدعك، ولا أنافقك، ولا أجادلك، ولا أخاصمك، ولا أحسدك، ولا أحقد عليك، كان الجزاء أنهم كانوا على منابر من نور؛ لأن العلاقة بيني وبينك نور على نور، فقال: (على منابر من نور، يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء) بمكانهم عند الله يوم القيامة، فالذي يريد أن يكون على منابر، والمنبر هو: المكان العالي البارز على رءوس الناس، والناس في الأسفل، في الأعلى على منبر الأخوة، فلا يطالب، ولا يخاصم، ولا يعاتب، ودائماً يسامح، ودائماً يعفو، ودائماً يلتمس لإخوانه سبعين عذراً، فإذا بعد السبعين لم يجد لأخيه عذراً، يقول: العيب فيَّ والله، فإذا لم يجد بعد سبعين وما لقيت لأخي عذراً، إذاً أنا غلطان ليس هو، فهذه هي الحقيقة التي تجعل الإنسان على منبر من نور يوم ا لقيامة، ويناديه الله على رءوس الأشهاد: (أين المتحابون فيَّ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) وجاء في رواية: (أين المتحابون بجلالي؟) كلمة (بجلالي) تحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأن الحب بجلال الله يعني عرفت أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ومعانيها، فأحبيت هذا العبد على ضوء العقيدة، والذي ما جمع العقيدة في جلال الله، لا يجمعه دنيا، ولا وظيفة، ولا نسب، ولا حسب.
الجواب: يا إخوان! تدبروا وتفكروا في هذه الأحاديث العظيمة تجدوا فيها علماً عظيماً، نسأل الله أن يفقهنا.
الإنسان يوم القيامة يخلقه الله خلقاً جديداً يناسب نعيم الجنة، أما الصورة، فهي على صورة يوسف عليه السلام. ولكن هذه الصورة لا يتشابه فيها كل أهل الجنة بحيث أنه يختلط الأزواج، وتختلط السمات، لا. ولكن الله سبحانه وتعالى يحسن صورهم على مستوى حسن صورة يوسف، لكنهم معروفون، لهم أشباه، ولهم سمات، ولهم مميزات سواءً في وجوههم، أو في منازلهم، أو في درجاتهم، وإنهم ليتراءون في درجاتهم ومنازلهم كما ترواءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، ونعيم يناسب الجنة التي أعدها للمتقين، وليس على ما عليه الناس في الدنيا، وكذلك المشركون واليهود يخلقهم خلقاً يناسب شدة العذاب، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مجلس الكافر في النار كما بين مكة والمدينة، وضرسه كـجبل أحد، وجلده أربعون ذراعاً) وفي رواية: (أربعون يوماً، وأخرى: أربعون سنة) فلاشك أن هذا على قدر كفره وإلحاده وصده عن سبيل الله سبحانه وتعالى، يعني: هناك فرق بين كافر وكافر، هناك كافر ينصر الإسلام، فهذا أقل عذاباً؛ لأن الله ينصر الدين بالفاجر، وذلك كـأبي طالب، فقد كان كافراً، ومات وهو كافر، ولكن نصر الله به الدين نصراً عظيماً، وعذابه يكون في ضحضاح من النار يوضع تحت رجله يغلي منه دماغه، وهناك كافر يحارب الدين، ويقتل الدعاة، ويشنقهم، ويصد عن سبيل الله، ويبث الخلاعة والمجون- والعياذ بالله- فهذا الصديد يجري من جسمه ولحمه ومجلسه ما بين مكة والمدينة وضرسه كـجبل أحد ، أهوال عظيمة نسأل الله العافية.
نعم. المسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم يكون على خلق أبيه آدم ستون ذراعاً في الفضاء وعرضه سبعة أذرع) يعني: الطول كمنارة المسجد ستون ذراعاً، والعرض سبعة أذرع، وقلبه كقلب أيوب الراضي عليه السلام؛ لأن قلب أيوب هو أرضى قلب رضي بالبلاء، وصورته على صورة يوسف الصديق، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، ولا يتبولون، ولا يتغوطون، رشحهم المسك، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، صورتهم على صورة يوسف الصديق) الألوة: هي البخور نفسه، المجامر مصنوعة من البخور، والعرق هو المسك، إلى آخرها من الصفات التي جاءت بوصف أهل الجنة، وهذا ارجعوا له في أشرطة الجنة والنار، والله أعلم.
وفي الحقيقة: أنا اخترت هذا الموضوع علاجاً لنفسي قبل أن يكون لكم، يعني: أنا جئت هذه المرة بدون تحضير، لكنني أنا اليوم متعب لكثرة الأعمال في الدعوة، وفي مشاغل البيت ومتطلبات الحياة، فوجدت في نفسي كللاً ومللاً وتعباً، فلم أجد موضوعاً أهون به على نفسي إلا هذا الموضوع؛ لهذا أنا الآن في غاية الأنس، وهل هناك أجمل وأحلى من أن تتكلم عن حب من هو سبب وجودك وإيمانك وحياتك ورزقك وبرك، وقد أعد لك من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهذا علاج ناجح، يعني: من أحس في نفسه ضيقاً أو حرجاً، أو كللاً أو مللاً، فليتحدث عن صفات الله وأسمائه الحسنى، وعن حب الله سبحانه وتعالى، والمقامات القلبية لعباد الله من توكل وإنابة وتفويض وتسليم وتوبة ومحبة.. إلى آخره من هذه المقامات القلبية، فتجد بعدها ترويحاً لنفسك ما بعده ترويح، اترك هؤلاء الذي يلجئون إلى الغناء، ويلجئون إلى الموسيقى، يقول لك: الموسيقى هي غذاء الروح، بالله عليك هل هذا كلام؟ الموسيقى غذاء الروح! غذاء الروح كتاب الله سبحانه وتعالى والطعام الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالحاً
[المؤمنون:51] أي: اعملوا العمل الصالح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر