الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تكلمنا على شيء من الأحاديث المعلة في الصلاة، ونتكلم أيضاً باختصار على شيء منها.
أول هذه الأحاديث: هو حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر ويدعو في آخر وتره فيقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك )، الخبر، هذا الحديث قد رواه الإمام أحمد ورواه أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عمرو عن عبد الرحمن بن الحارث عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في المسألة التي تقدم الإشارة إليها في مجلس سابق وهي تتعلق بمسألة قنوت الوتر، وهل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر شيء؟ تقدمت الإشارة معنا في حديث الحسن بن علي أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت في وتره خبر فضلاً عن أن يكون أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة في دعاء قنوته، وهذا إذا نفينا الأصل فإنه ينتفي تبعاً لذلك الفرع.
هذا الحديث قد حسنه وصححه غير واحد من المتأخرين؛ وذلك لأن ظاهر إسناده السلامة، فإنه يرويه حماد بن سلمة عن هشام بن عمرو الفزاري عن عبد الرحمن بن الحارث عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن هؤلاء الرواة من الثقات، ولكن نجد أن أكثر النقاد الأوائل على إعلاله، يقولون بإعلال هذا الخبر, وذلك أن هذا الحديث تفرد به حماد بن سلمة عن هشام بن عمرو الفزاري، و هشام بن عمرو لا يعرف له راو إلا حماد بن سلمة وهو في ذاته ثقة، قد وثقه الإمام أحمد، و ابن معين، و أبو حاتم وغيرهم، ولكن تفرده بهذا الحديث عن عبد الرحمن بن الحارث عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما استنكره عليه الأئمة، وقد بين هذا غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله، وكذلك الدارمي كما نقله عنه البخاري في كتابه التاريخ، وكذلك أبو داود رحمه الله في كتابه السنن أن هذا الحديث من مفاريد هشام بن عمرو .
ووجه التفرد فيه يظهر ذلك من وجوه، منها: أن هشام بن عمرو لم ترفع عنه جهالة حاله وإن روى عنه حماد بن سلمة وكان من أقدم شيوخه إلا أنه مع تقدمه بسماع هذا الحديث لم يروه عنه إلا حماد .
ومن قرائن الإعلال عند العلماء: أن الحديث إذا كان موجوداً عند أحد ثم تقادم عليه الزمن ولم يروه عنه إلا واحد فإن هذا أمارة على كتمانه أو على عدم اعتبار العلماء بهذا الحديث، يقول أبو داود رحمه الله: هشام بن عمرو أقدم شيخ لـحماد بن سلمة، وهذا أيضاً من قرائن الإعلال، وذلك إذا كان أنه أقدم شيخ لـحماد بن سلمة ولم يرو عنه إلا حماد فأين هو عن مجالس الرواية، وأين الأئمة عن هذا الحديث وقد حدث به حماد بن سلمة قديماً مع كونه مهماً في باب الأحكام وهو في مسألة دعاء القنوت.
كذلك أيضاً من وجوه الإعلال والتفرد: أن هذا الحديث جاء من هذا الوجه من حديث هشام بن عمرو عن عبد الرحمن بن الحارث عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو ذلك في آخر وتره، والذي في الصحيح في هذا الحديث من حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو في سجوده، وهذا قد رواه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة عليها رضوان الله قالت: ( فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي فلمسته في المسجد، يعني: في المكان الذي يصلي فيه، فوقعت يدي على قدمه فإذا هو يدعو: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك )، يعني: أن هذا الدعاء إنما كان في سجود صلاة الليل، وهذا من قرائن الإعلال أنه جاء عن عائشة في السجود فحفظته في السجود ولم تحفظه في الوتر، فإن الدعاء في الوتر أسمع من أن يكون دعاء في سجوده.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث من هذا الوجه من حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عمرو به هو من الأحاديث المناكير، ويكفي في ذلك تفرد هشام بن عمرو بهذا الحديث، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الدعاء كان عليه الصلاة والسلام يقوله في سجود صلاة الليل، وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث هو من أدعية السجود لا من أدعية قنوت الوتر.
ثم أيضاً من وجوه الإعلال: أن مثل هذا الحديث ينبغي أن لا ينئا هؤلاء الرواة برواية مثل هذا الحديث عن علي بن أبي طالب وذلك أن حماد بن سلمة و هشام بن عمرو الفزاري يروون هذا الحديث عن عبد الرحمن بن الحارث عن علي بن أبي طالب والأولى أن يرويه أهل المدينة، وذلك لأنه من أعمال الأيام، يعني: أنه يستديم الإنسان أن يفعله على سبيل الدوام، فلما لم يثبت إلا من هذا الوجه دل على أن هذا الأمر من وجوه النكارة، ولهذا قد أشرنا مراراً إلى أن ظواهر الإسناد من جهة صحتها وسلامتها ينبغي أن لا يحمل الناقد على أن يحكم عليها بالصحة مجرداً من غير نظر للقرائن الأخرى وذلك من وجوه التفرد، كذلك وجوه الحديث من وجه آخر بلفظه فيكون في موضع آخر من مواضع العبادة، وكما تقدم فإن دعاء القنوت هو أشهر وأسمع من دعاء السجود، فلو كان ذلك ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أنقل، ثم أيضاً فإن دعاء الإنسان في سجوده لا يسمعه إلا من دنا منه وذلك من زوجه ونحو ذلك، وذلك لأن السنة في الدعاء أن يكون خفية بخلاف القنوت فربما جهر الإنسان بقنوته، وهذا من قرائن الإعلال.
الحديث الثاني: هو حديث أبي بن كعب: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في وتره بـ سَبِّحِ [الأعلى:1]، وبـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وبـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ويقنت قبل الركوع )، جاء هذا الحديث ووقع أيضاً فيه اختلاف كثير يأتي الكلام عليه.
قد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في المسند، ورواه النسائي، وكذلك الدارمي، وغيرهم من طرق متعددة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا ما تقدم الإشارة إليه معنا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للوتر وقراءته فيها أنها إذا كانت متصلة يقرأ بهذه السور على خلاف ما هو مشتهر عند أكثر الناس أنهم يجعلون السورتين إذا فصل الشفع عن الوتر.
ولكن نقول: الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يصلي ثلاث ركعات متصلات ويقرأ فيها بهذه السور الثلاث، فإذا فصل الركعتين عن الركعة فإنه لا يسن له أن يقرأ بالأوليين بـ سَبِّحِ [الأعلى:1]، وبـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، حتى يصلها، فإذا فصلها فإنه يقرأ بما كان له من ورد، وبعض الناس يسمي الركعتين الأوليين قبل ركعة الوتر يسميها الشفع ويقرأ فيها بـ سَبِّحِ [الأعلى:1]، وبـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وهذا لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث الذي يرويه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب وقع فيه خلاف، جاء في بعض ألفاظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع, وذلك أن هذا الحديث قد تفرد به عيسى بن يونس يرويه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفرد بهذا الحديث عيسى بن يونس وهو عراقي يرويه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى واختلف عليه فيه، فتارة يذكر القنوت هو وتارة لا يذكره، رواه يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به ولم يذكر قنوت الوتر وإنما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الوتر ثلاث ركعات وقرأ فيها بهذه السور من غير أن يذكر القنوت.
والقنوت في هذا الحديث هو من مفاريد عيسى بن يونس، واضطرب في الإسناد تارة يرويه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به، وتارة يرويه عن فطر بن خليفة عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب، وقد وهم وغلط في متنه واضطرب في إسناده, فروى الحديث على أكثر من وجه، وكذلك زاد فيه قنوت الوتر، ولهذا قال غير واحد من الحفاظ: إن قنوت الوتر لا يعرف عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى إلا من رواية عيسى بن يونس، والصواب في ذلك في رواية الحفاظ: أن هذا الحديث ليس في قنوت الوتر، رواه محمد بن بشر، ورواه عبد الأعلى يرويانه عن سعيد بن أبي عروبة به ولا يذكران قنوت الوتر.
وهنا علة قد أشار إليها أبو داود رحمه الله في كتابه السنن قال في محمد بن بشر قال: وسمع هذا الحديث مع عيسى في الكوفة، وجه الإعلال في هذا: أن الرواة إذا رووا حديثاً من الأحاديث ينظرون إلى اتحاد المجالس وإذا خالف الراوي غيره من أهل بلده في ذلك المجلس ممن سمع معه فيه فإن هذا من قرائن الاضطراب في الحديث واتحاد المجلس، لهذا نقول: عند وجود الاضطراب والاختلاف في الأحاديث ينبغي على طالب العلم أن ينظر في الرواة هل اتحدوا بلداً، فإن اتحدوا بلداً فالغالب أنهم اتحدوا سماعاً، وإن اختلفوا بلداً فالغالب أنهم لم يتحدوا سماعاً، فهذا ربما سمع في حول وذاك سمع في آخر، أو ربما هذا سمع في بلد وهذا سمع في بلد آخر.
ولهذا لما ذكر أبو داود رحمه الله أن عبد الأعلى و محمد بن بشر قد رويا هذا الحديث عن سعيد بن أبي عروبة قال: وقد سمع هذا الحديث مع عيسى بالكوفة، يعني: أن سماعهم واحد في ذلك وينبغي أن ينظر إلى مسألة الأرجح، وأن اتحاد المجلس علامة على وجود الاضطراب في الحديث وأن الرواية لم تكن متعددة، ولهذا كثير من المتأخرين يميلون إلى تعدد الروايات، يعني: أن الحديث إذا أختلف فيه على وجهين قالوا: هذا زاد هذه الزيادة وربما سمعها في غير هذا المجلس، ولكن إذا غلب على ظننا أن هذا الحديث قد سمع في مجلس واحد فهذا من قرائن الإعلال.
وكذلك أيضاً فإن هذا الحديث قد رواه من الحفاظ عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب ولم يذكروا فيه القنوت، رواه شعبة بن الحجاج، ورواه الأعمش سليمان بن مهران، ورواه محمد بن جحادة أيضاً و عبد الملك بن أبي سليمان كلهم يروونه عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه دعاء القنوت.
ولهذا نقول: إن الصحيح في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الوتر ثلاثاً قرأ في الركعة الأولى بـ سَبِّحِ [الأعلى:1]، والثانية بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، والثالثة بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ولم يجلس بينها ولم يقنت عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الأرجح، رجحه أبو داود كما في السنن، و النسائي رحمه الله كما في سننه أيضاً، ورجه البيهقي رحمه الله في سننه الكبرى مضعفاً لزيادة القنوت.
ثم أيضاً من وجوه الإعلال: أن هذا الحديث تارة يجعل مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يجعل موقوفاً على عمر، يرويه أبي عن عمر، وتارة يرويه أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يجعل احتمالاً في هذا الحديث أنه دمج بين الروايتين: بين الموقوفة والمرفوعة، فيكون المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القراءة في هذه الثلاث الركعات، وأما بالنسبة للقنوت فهو عن عمر بن الخطاب .
ولهذا قد صح الحديث من حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب عن عمر أنه قنت في الوتر، ولهذا نقول: يحتمل أن هذا الحديث قد وهم فيه عيسى بن يونس فروى هذا الحديث عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب فدمج الموقوف مع المرفوع وجعلها حديثاً واحداً، وهذا يدل على أن بعض الرواة يتشوفون إلى الرفع ربما من غير عمد، و عيسى بن يونس أيضاً هو من المتأخرين رواية، والعلماء لا يعتمدون على رواية الراوي إذا كان متأخراً وتفرد بالرواية، وأشرنا إلى هذا المقصد من مقاصد الإعلال وأن هذا من أظهر القرائن.
ووجه الإشارة في هذا: أن الأئمة إذا تركوا حديثاً من الأحاديث أو إسناداً من الأسانيد وتجاوزوه ورواه متأخر فإن المتأخر لا يقف على شيء تركه المتقدم، وقد يقول قائل: كم ترك الأول للآخر؟ نقول: إن الأئمة عليهم رحمة الله في ذلك الزمن كانت البلدان صغيرة والناس فيها قلة، فالكوفة والبصرة وبغداد وواسط والمدينة ومكة لم تكن على ما هي عليه حتى بعد قرن من زمن الخلفاء الراشدين فإنها قد اتسعت، فمعاقل العلم وهو مواضع الرواة معروفة والناس يتناقلون بخلاف إذا اتسعت، ولهذا إذا لم تلتقط هذه الروايات في زمن قلة الناس وقلة المجالس وشدة عناية الرواة، إذا لم تلتقط في ذلك الزمن فإنها أبعد أن يقف عليها من جاء بعدهم ويستدرك عليهم ما ليس عندهم.
وأما ما يستدركه البعض ويقول: إن مثل هذه الرواية من أين جاء بها هذا الراوي كـعيسى بن يونس وأشباهه في غير هذه الروايات، من أين جاء بها؟ نقول: إن مثل هذه الروايات إما أن تكون دمجاً بين موقوف ومرفوع، أو ربما طرأ عليه شيء من الوهم، فتضعيف الرواية لا يعني اتهام الراوي، بمعنى: أنه لا يتهم بهذه الرواية أنه اختلقها، ولكن يطرأ عليه شيء من الوهم مما يطرأ على كثير من الناس بنقل الأخبار.
ولهذا يأخذ العلماء خلاصة إذا اجتمعت القرائن على أن مثل هذا الحديث وهذه الرواية منكرة ثم يتوقفون عن إلحاق التهمة إلا إذا اتضحت القرينة، وتجد في مثل هذه الروية تجد الأئمة يحملون عيسى بن يونس بهذا الحديث باعتبار أن مجموع هذه الروايات تأتي عن طريقه.
الحديث الثالث: هو حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله قال: ( بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يقنت في وتره، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقنت قبل الركوع ) .
هذا الحديث قد رواه الدارقطني في السنن، ورواه البيهقي من حديث أبان عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به أبان بن أبي عياش وهو منكر الحديث بل متروك، ثم أيضاً إن هذا الحديث حديث كوفي يرويه أبان عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر صلاته في الوتر.
ومثل هذا ينبغي أن يثبت وأن يستقر عند غيرهم من فقهاء المدينة رواية وعملاً، ولا أعلم خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت في وتره، وهذا من الأعمال الليلية التي تدوم، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يطيل السجود والدعاء فيه.
وهل نقول: إن القنوت في الوتر لم يثبت على الإطلاق؟
نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت، وأما أصحابه فقنتوا في رمضان في الشطر الأخير منه، وأما في غير رمضان فلا أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استدام هذا العمل، وإن فعله على سبيل الاعتراض.
لهذا نقول: إن السنة في الوتر أن يكون دعاء الإنسان في سجوده من صلاة الليل إلا إذا كان يصلي لجماعة في رمضان فإنه يقنت لنفسه ويقنت لهم وذلك لدعوة المسلمين.
وأما من يميل مثلاً أو يستشكل رواية سفيان الثوري لهذا الحديث عن أبان عن إبراهيم عن علقمة وهو إمام في الرواية ويروي عن أبان بن أبي عياش مثل هذا الحديث، نقول: إن الأئمة الثقات منهم من لا يروي إلا عن ثقة، ومنهم من يروي عن ثقة وغيره، ومنهم من يروي الحديث يريد بذلك ضبطه حتى لا يختلط عليه مع غيره، و سفيان الثوري كوفي، و أبان كوفي أيضاً، وكذلك إبراهيم النخعي و علقمة كلهم من أهل الكوفة، وإذا لم يضبط الأحاديث المغلوطة مثل سفيان فغيره أبعد من أن يتولى ضبطه، ولهذا سفيان ربما روى عن بعض الضعفاء من أهل الكوفة ولا يروي عن الضعفاء من غيرهم وذلك احترازاً من أن يخرج حديث ويدخل في حديث آخر، وهذا من وجوه أو من أسباب رواية بعض الأئمة للأحاديث التي يكون فيها ضعفاء وذلك من باب الاحتراز.
وقد تقدم الإشارة معنا أن الأئمة عليهم رحمة يجعلون من وجوه الإعلال: أن الراوي يختلط عليه رواية الضعيف مع غيره فيستشكل الرواية فيحدث الحديث عن الثقة وهو قد سمعه من الضعيف، فإذا ميز ذلك واحتاط له ورواه حتى لا يستشكل عليه خاصة ما يبلى به الإنسان مما سمعه، وذلك قد مثلنا عليه في قول ابن عيينة رحمه الله يقول: إذا سمعت الحسن بن عمارة يحدث عن ابن شهاب وضعت أصبعي في أذني، والسبب في ذلك: حتى لا يقع في أذنه أحاديث الحسن بن عمارة عن الزهري فيحفظها وتستقر في ذهنه ويتناساها وينسبها للزهري مباشرة لأن الزهري من شيوخ ابن عيينة، وهذا من قرائن الإعلال.
ولهذا نجد سفيان الثوري وغيره يحفظون روايات بعض الضعفاء كرواية أبان بن أبي عياش وقد جاء حفظ أيضاً شعبة بن الحجاج وضبطها حتى لا تدخل عليه أو على غيره من أحاديث الثقات، وربما أراد أن يثبتها لغيره أو إذا جاءته من وجه آخر عرف أن هذه الأحاديث من الأحاديث الدخيلة التي تفرد بها أبان بن أبي عياش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى خاصة وأن الكوفة هي من معاقل العلم، كذلك أيضاً فإن أهل الكوفة مما يتساهلون في رفع الموقوفات، وكذلك يتساهلون برواية الأحاديث بالمعنى، وفيهم العجم, والعجم يميلون إلى إحسان الظن بأعمال الصحابة فيجعلون الموقوف مرفوعاً، أي: أن الصحابة لا يفعلون شيئاً إلا وله أصل عن النبي عليه الصلاة والسلام، فتمييزهم لمثل ذلك يختلف عن تمييز غيرهم وذلك من أهل الحجاز كمكة والمدينة فإنهم يميزون أن بعض الصحابة ربما اجتهد في مسألة من المسائل فقال بقول لم يقل به أحد غيره، فكان ذلك من باب الاجتهاد بخلاف العجم الذين يظنون أن كل فعل يفعله الصحابة يرون أن لذلك مستنداً.
ولهذا تجد في العجم حتى المتأخرين يجعلون أعمال العرب على أنها سنن، وأن مثل هذا لابد أن يكون عن أثر، وهذا بعد قرون مديدة، فكيف إذا كان ذلك يروى وبينهم بين الصحابي راوي أو راويان ونحو ذلك؟ وهذا من أسباب رفع الموقوفات عند الكوفيين, وذلك لأن أكثر أهل الكوفة ليسوا من العرب بل إما أن يكونوا موالي أو ربما من قبائل غير العرب فاستعربوا فدخلوا في أبواب العلم ورووا عن جماعة من الصحابة ورفعوا كثيراً من الموقوفات وربما رووا شيئاً من المعاني بخلاف ما قصده ذلك الراوي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر