إسلام ويب

التوبة وأثرهاللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوبة واجبة على جميع العباد؛ إذ إن العباد غير معصومين من الزلل والعصيان، ولكن الكارثة التي استشرت عند المسلمين اليوم هي الإصرار على المعاصي وترك باب التوبة دون أوبة، وهناك موانع وعوائق تحول بين العبد وتوبته إلى الله عز وجل، ينبغي على العبد معرفتها ليتجنبها ويكون على حذر منها.

    1.   

    التوبة إلى الله تعالى

    مراحل التوبة

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى افترض على عباده أجمعين أن يتوبوا إليه، فقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، وهذه التوبة هي لطف من الله وفضل، وإقالة للعثرات، يقيل الله سبحانه وتعالى عثرات عباده الذين فرطوا في جنبه، فيفتح لهم باباً من قبل المغرب اسمه باب التوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبهذا تتاح الفرصة لكل من أخطأ وأذنب أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيخرج من ذنبه بتوبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذه التوبة ثلاث مراحل:

    المرحلة الأولى: هي توبة الله على العبد، وهي نور رباني يقذفه الله في قلب المذنب ليرجع عن ذنبه ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهي توبة الله الأولى على العبد.

    المرحلة الثانية: هي توبة العبد نفسه، واستغفاره ورجوعه عمَّا فرط فيه بجنب الله، وندمه على ما مضى، وعزيمته أن لا يعود إلى ذلك الذنب، وإرجاعه للحق إلى مستحقه إن كان ذلك في حقوق العباد، وهذه التوبة هي من فعل المكلف، وهي التي يثاب عليها، وهي الواجبة عليه؛ لأن الأولى هي من فعل الله لا يستطيع العبد التدخل فيها.

    المرحلة الثالثة: هي توبة الله الثالثة على العبد، بمعنى: قبوله لتوبته. والتوبة عمل من الأعمال، والأعمال كلها عرضة للقبول وللرد، فما شاء الله قبله من الأعمال، وما شاء رده وهو الغني الحميد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وبذلك إذا رضي الله توبة من عبده فإنه يتقبلها، ويسمى ذلك القبول توبة في عرف الشرع، ولهذا قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:117-118]، فهذه توبة الله على العبد ليتوب.

    الإسلام الحسن هو الذي يكفر الذنوب

    ثم بعدها إذا تاب العبد وأحسن تاب الله عليه، وأعظم التوبة الدخول في الإسلام بعد الكفر، فإنه يجب ما قبله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يجب ما قبله)، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الإسلام المقصود هنا هو الإسلام الحسن لا كل إسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان أزلفها)، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه.

    فالإسلام الذي يكفر الذنوب هو الإسلام الحسن الذي يخلص فيه المرء لله، ويحسن ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، ويفعل ذلك تقرباً إلى مولاه واستسلاماً لأحكامه، فمن يعمل العمل ابتغاء ظهور أو ابتغاء التسمية أو ابتغاء الذكر في هذه الدنيا، أو يعمله لقصد حصوله على هدف من أهدافه أو غرض من أغراضه فإن ذلك العمل لا يقبل، بل يرد على صاحبه، وليس إسلامه حسناً، بل الإسلام الحسن هو الذي يقتضي الاستسلام الكامل لأمر الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، فإذا كان العبد لا يستسلم تمام الاستسلام لأمر الله فما وافق هواه من الشرع أخذ به وما خالف هواه رده أو التمس المعاذير لنفسه فهو غير حسن الإسلام، وعمله مردود عليه، ولا يقبل الله توبته حينئذ، ولا تكفر عنه سيئاته السابقة لذلك الإسلام المزيف.

    ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:49-52]، فهذه التوبة المفترضة على المؤمن إذا أحسن إسلامه تكفر ما سبق، وهي بحسب الذنب الذي يتوب الإنسان منه، فإذا كان الذنب شركاً بالله فإن التوبة منه لا تكون إلا بالإسلام، وإذا كان الذنب بترك حق من حقوق الآدميين فإن التوبة منه لا تكون إلا بإرجاع ذلك الحق لمستحقه، وإذا كان الذنب بحق من حقوق الله المحضة فإن التوبة منه بالندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والإسراع للخروج منه إذا كان متلبساً بالجريمة في وقتها، وكذلك النية على أن لا يعود إلى هذا الذنب، فبهذا تصح توبته.

    صحة التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر

    وتصح التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر؛ لأن الإنسان له جهات متعددة، وكل هذه الجهات تقع فيها الذنوب والطاعات، فيمكن أن يكون طائعاً بجوارحه عاصياً بلسانه أو بقلبه أو بماله، فيتوب من إحدى الجهات وهو متلبس بذنب آخر، ولا يبطل ذلك توبته، بل قد تتقبل توبته في ذلك الذنب وحده ويبقى ما عدا ذلك في المشيئة، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى في إعلان البراءة من المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[التوبة:11]، فإن تابوا من الكفر -ولا يكون ذلك إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدخول في الإسلام- وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، فجعل الإسلام توبة مما سبقه من الكفر، والتوبة بهذا المعنى تشمل كل ذنب من الذنوب، فكل ذنب سواءٌ أكان شركاً أكبر لا يغفر، أم كان ذنباً لا يترك كحقوق العباد، أم كان ذنباً في المشيئة كحقوق الله المتمحضة فالإنسان مطالب بأن يتوب منه.

    الحالات التي لا تقبل فيها التوبة

    تقبل التوبة إلا في حالين:

    الحال الأول: حال الغرغرة فإذا غرغر الإنسان وهو قد ودع الدنيا وختم على صفحات أعماله وأصبح الموت أقرب إليه من شراك نعله فحينئذ لا تقبل توبته؛ لأن أعماله قد ختمت، وهو يشاهد قبل الموت أحوالاً عجيبة هي التي ذكرها الله في قوله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، فالمرء عندما يدبر عن الدنيا ويقبل على الآخرة يرى أموراً عجيبة لم تكن تخطر على باله، ولم يكن يتصورها بوجه من الوجوه، يشاهد ملائكة ربه، فيرى ملك الموت الذي يأتيه لقبض روحه، ويرى الملائكة الآخرين الذين كأن وجوههم الشموس يجلسون مد البصر وهم مادو أيديهم: أخرجوا أنفسكم.

    ويشاهد كذلك الفتان الذي يدعوه للموت على غير الإسلام، فـيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[إبراهيم:27]، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المؤمنين أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة المحيا هي قبل الموت عند الغرغرة، وفتنة الممات هي سؤال القبر الذي يسأل فيه الإنسان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وفي هذه الحال حال الغرغرة لم يعد للإنسان أمل الرجوع، فلذلك توبته هي من قبيل توبة فرعون عندما أدركه الغرق فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ[يونس:90-91]، فلا يتقبل الله ذلك، فلهذا ترد التوبة ولا تقبل في حال الغرغرة، وأكثر الكفار يتوبون في وقت الغرغرة؛ لأنهم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولهذا ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن النصارى جميعاً يبدو لهم عيسى قبل موتهم، فيخبرهم أنه عبد الله ورسوله وليس ابن الله، وذلك مصداق قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا[النساء:159]، فيعرض عليهم عيسى بن مريم بصورته عند الموت فيقول: أنا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، ولست ابن الله، ولست الله. فتقوم عليهم الحجة بذلك، ويشهد عليهم عيسى يوم القيامة، لهذا قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أي: ليؤمنن بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ أي: قبل موت الشخص من أهل الكتاب وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا[النساء:159] بذلك أنه قد بلغهم أنه ليس ابن الله، وليس هو الله، وإنما هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، هذا مذهب جمهور أهل التفسير.

    وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود على عيسى بن مريم، فيكون معنى (إلا ليؤمنن به قبل موته) أي: قبل موت عيسى بن مريم فإن عيسى بن مريم سينزل في آخر الزمان، ولن يموت قبل ذلك، وإذا نزل آمن به كثير من أهل الكتاب وصدقوا عندما يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقاتل اليهود حتى يقتل المسيح الدجال.

    الحال الثاني الذي لا تقبل فيه التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها. لأن الحجة قد قامت، فهذه الدنيا كلها دار امتحان، والناس فيها مبتلون بهذه الأعمال، والامتحان إذا انكشف وعرفت نتيجته وعرف جوابه فلن يعود النجاح حينئذ وارداً، فإذا وقف الأستاذ وحل الامتحان وشرحه للناس فما فائدة أن يأتي شخص في مؤخرة الركب ويقول: أنا أحل لك الأسئلة وأعيد عليك ما قلت لنا؟! هل يعتبر هذا ناجحاً في الامتحان؟! لا يعتبر ناجحاً فيه، فكذلك بعد أن تطلع الشمس من مغربها فإن الناس قد قامت عليهم الحجة النهائية في هذه الدنيا، وقد أقبلت الآخرة مرتحلة، وأدبرت الدنيا مرتحلة كذلك.

    ومن هنا لا تقبل التوبة ممن كان حياً قبل مطلع الشمس من مغربها، والله سبحانه وتعالى يقول: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ[الأنعام:158]، فإذا طلعت الشمس من مغربها فهذا بعض آيات ربك، وإذا جاء ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويدخل في ذلك أنواع التوبة من الذنوب كلها.

    أقسام التوبة

    ثم إن هذه التوبة تنقسم إلى قسمين:

    توبة نصوح صادقة صاحبها صادق في توبته، صادق في توجهه إلى الله، قاصد بذلك الخروج من الذنب، وهذه هي التوبة المقبولة.

    وتوبة غير نصوح، فصاحبها عازم على الرجوع ناوٍ للتكرير، إنما يتوب بلسانه وقلبه يكذب ذلك، وهذه التوبة هي زيادة افتراء واقتراف -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن صاحبها لم يعزم على ترك المنهي عنه أصلاً، وإنما قال بلسانه قولاً لا ينويه بقلبه، وأشهد الله على ما يقول وهو كاذب، فكلامه الذي يقوله يلعنه، واستغفاره الذي يستغفر به يلعنه؛ لأنه يكذبه من باطنه وقلبه.

    1.   

    فوائد التوبة

    تثبيت الإيمان

    هذه التوبة لها فوائد كثيرة جداً يحتاج إليها ابن آدم، وأعظم هذه الفوائد أنها تثبيت للإيمان؛ لأن الإنسان الذي يجاهر الله بالمعصية ثم لا يتوب بعد ذلك عرضة لأن يختم له بخاتمة السوء، ولهذا فمن أصر على الذنب إلى وقت الموت فقد عمل بعمل أهل النار، ومن عمل بعمل أهل النار فهو ميسر لها: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ومن تاب تاب الله عليه.

    التوبة سبب للإحسان بقية عمر التائب

    كذلك من فوائد التوبة أنها مقتضية للإحسان في بقية العمر، فإن كل إنسان يعلم أنه قد فرط في جنب الله في كثير مما مضى من حياته، وهو محتاج إلى أن يتدارك هذا العمر الذي ضيع أوله، ولذلك جاء في الأثر (إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره)، فكثير منا ضيعوا ما مضى من أعمارهم، فبقية العمر جديرة أن تحفظ، يقول أحد العلماء:

    بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير مرغوب من الزمن

    يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

    والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، والإنسان محتاج إلى أن يتبع سيئاته الماضية بما يكفرها من الحسنات، وأولئك الذين تابوا توبة نصوحاً هم الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، بمعنى أنه يوثقهم بأن يصرفوا الوقت الذي كانوا يصرفونه بالمعصية في الطاعة، فتكون تلك الحسنات بدلاً عن السيئات التي كانوا يعملونها فيما مضى من أعمارهم.

    إعانة التائب على الطاعة

    كذلك من فوائد التوبة أنها تعين الإنسان على الطاعة، فكثير من الناس اليوم مقتنع بأن عليه أن يكون من العابدين الطائعين لله المبادرين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولكنه عاجز عن ذلك لا يستطيعه، والذي حال بينه وبينه هي الذنوب، فهو مكبل بذنوبه، وهذه الذنوب قيد عظيم تحول بين الإنسان وبين الطاعة، فإذا تاب الإنسان منها كسر كبلاً، وإذا كسر كبله أسرع في الخطو، وإذا أتى الله مشياً أتاه هرولة، ومن هنا فإن ما نشكوه من قسوة القلوب وتكاسل الجوارح عن الطاعات من علاجه التوبة والاستغفار.

    ولهذا فالحسنات تنقسم إلى قسمين: حسنات أصلية، وحسنات جزاء، والسيئات كذلك تنقسم إلى قسمين: سيئات أصلية، وسيئات جزاء.

    فالحسنات الأصلية هي ما يقبل العبد به على الله سبحانه وتعالى طائعاً يريد وجه الله والتقرب إليه.

    وحسنات الجزاء هي ما يوفقه الله له بعد ذلك من الطاعات، فيعمل العبد حسنة صغيرة جداً هي من أقل درجات شعب الإيمان، كأن يميط الأذى عن الطريق، لكنه فعل ذلك مخلصاً لله، فيوفقه الله لحجة مبرورة، أو يوفقه لجهاد في سبيل الله بالمال، أو يوفقه لشهود صلاة في المسجد قد كتب الله أن كل من شهدها في المسجد يغفر له، أو يوفقه لعمل صالح من الأعمال المستمرة التي تبقى بعد الموت كالوقف، أو الولد الصالح الذي يدعو له، أو النفقة الجارية بسبب عمل يسير جداً كان قد عمله، كإماطة الأذى عن الطريق أو نحوها، فالله سبحانه وتعالى يجزي على الحسنات جزاءً مضاعفاً أنواعاً منوعة، ومنه جزاء دنيوي وجزاء أخروي، وأعظم الجزاء الدنيوي أن يوفق الإنسان للازدياد من الخير.

    لذلك فالحسنات يتبع بعضها بعضاً، فمن تجرأ على أن هزم الشيطان وهزم نفسه فترك المعصية وبادر للطاعة فإن ذلك معين له للاستمرار على هذا الطريق، ومن كانت عقده منكوثة كلما عقد العزم على الاستمرار على الطاعة والهداية وجد هذا العزم منتكثاً رجع أدراجه فهو متصف بصفة من صفات المنافقين: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[النساء:143] .

    التوبة سبب للانكسار بين يدي الله

    كذلك من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية للانكسار والأدب بين يدي الله، فالمؤمن محتاج إلى حسن معاملة الله سبحانه وتعالى، أن يعامل الله معاملة صحيحة، ولا يتم ذلك إلا بالتوبة؛ لأنها مفتاح باب المعاملة، فمن لم يدخل من هذا الباب لا يمكن أن يوفق للشكر -مثلاً- ولا للصبر ولا لتحقيق الخوف والرجاء، بل لا يتم هذا إلا من طريق الباب الذي هو التوبة؛ لأنه بمثابة الطهارة للصلاة، فالصلاة أعظم ما فيها السجود بين يدي الله، والقراءة في حال القيام، لكنها ما لم يتنظف الإنسان قبلها ويتطهر لغو ومردودة على صاحبها.

    فكذلك هذه الأعمال إذا لم تسبقها هذه التوبة التي هي طهارتها، فالتوبة طهارة القلب، كما أن الوضوء طهارة الجوارح، إذا لم تسبقها هذه التوبة فهي مثل الصلاة الباطلة التي لم يسبقها وضوء.

    اقتضاء التوبة تقصير الأمل

    كذلك من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية من الإنسان تقصير الأمل، والإقبال على الله سبحانه وتعالى بوجل؛ لأن التائب يريد أن يختم له بالحسنى، فيتذكر أن كل وقت بالإمكان أن يكون خاتمته، وكل ساعة تنتهي فيها آجال عدد كبير من الناس، ويأتي فيها الموت فجأة لكثير من الناس، وليس لدى كل واحد ضمان من الله أن لا يأتيه الموت في ساعته هذه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34]، ومن هنا فكل ساعة تمر علينا من المحتمل أن تكون خاتمة بعضنا، فمما يعين على تذكر هذا وتقصير الأمل أن يكون الإنسان من التوابين، ولهذا افتتح الله سبحانه وتعالى وصف عباده المرضيين بذكر هذه التوبة، فقال تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[التوبة:112].

    اقتضاء التوبة حسن الخلق مع الناس

    كذلك فإن من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية من الإنسان حسن الخلق حتى مع الناس، فالتائب منكسر، والمنكسر نادم على ما مضى، ومغير لبعض سلوكه وتصرفاته، وهذا التغيير مقتضٍ لتغيير حاله؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ[الرعد:11]، فيغير الله حاله بتوبته.

    تحقيق رغبات التائب في الدنيا

    كذلك من فوائدها: أنها مقتضية لنيل ما يرغب فيه الإنسان في حياته الدنيا، فهي سبب للتوسعة في الرزق، وللبرء من الأسقام، وللحصول على الأموال والأولاد، كما قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:10-14].

    حصول السعادة

    كذلك من فوائد هذه التوبة أن التائبين قد نالوا حظهم، وأخذوا بعض ما يرغبون فيه، فوفقوا بعد ذلك للتوبة فكانوا سعداء بهذا؛ لأن العبرة بالخواتيم لا بالمبادئ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فلذلك العبرة هنا بالخواتيم، ولو لم يبق من عمر الإنسان إلا ما هو بمثابة الذراع من الثوب فإذا وفقه الله سبحانه وتعالى فيه للإحسان، كان ذلك خيراً من كل ما مضى من أيام حياته، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضره العدو، فقال: يا رسول الله! أسلم وأقاتل أم أقاتل ثم أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فجرد سيفه فقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً) عمل عملاً يسيراً لكنه كان ختام حياته، وأجر كثيراً بسبب ذلك، فقد أصبح في الدرجات العلى لأنه أصبح من الشهداء، وهم الذين يلون الصديقين والأنبياء، ومن حسن عمله بعد أن كان فرط فهو من السعداء بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد اختار له أن يكون من أهل الجنة، فتأتي اللحظات الأخيرة فتكون مغيرة لما قبلها، كما قال ابن الطثرية:

    ألا قل لأرباب المخائض أهلموا فقد تاب مما تعلمون يزيد

    وإن امرأ ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد

    فيسعد الله سبحانه وتعالى من شاء في هذه اللحظات الأخيرة.

    1.   

    العوائق التي تحول بين العبد والتوبة

    استصغار الذنب

    إن هذه التوبة التي لها هذا العدد وغيره من المزايا العظيمة التي الإنسان بحاجة إليها لا بد أن تكون دونها فتنة، ولا بد أن لا تكون أمراً سهلاً لا يشق على الناس، بل كل الأعمال التي يترتب عليها الأجر الكثير لا بد أن يكون دونها كثير من العوائق: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فلهذا لا بد أن نتعرف على العوائق التي تحول دون التوبة وإن من العوائق الكبرى التي تحول دون التوبة، استصغار الذنب، فكثير من الناس يستصغر ذنبه، فيرى أنه لا يستحق التوبة، وأنه ليس من المفرطين، وهذا دليل على نفاق في قلبه؛ لأن ذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا.

    ومن هنا فالمؤمن يستعظم ذنبه ولو كان يسيراً؛ لاستشعاره للن خالفه ومن وقع في معصيته، والمنافق يستصغر ذنبه ولو كان عظيما؛ لعدم استشعاره لهيبة الله سبحانه وتعالى.

    استكبار الذنب

    كذلك من هذه العوائق التي تحول دون التوبة استكبار الذنب، فكثير من الناس ما يحول بينه وبين أن يتوب إلا أنه يستعظم ذنبه، فيرى أنه قد أوجب النار، وحينئذٍ يعد نفسه من أهل النار وأنه لا تنفعه توبة، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء أيضاً قد ذهب بهم الشيطان ذات الشمال فصدهم عن التوبة والطريق المستقيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر:53]، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومهما عظم الذنب فلن يكون أعظم من رحمة الله ومغفرته.

    الإصرار على الذنب

    ثم من هذه العوائق كذلك التي تحول دون التوبة الإصرار على الذنب، وهو من أعظم العوائق وأشدها فتنة، فكثير من الناس لا يحول بينهم وبين التوبة إلا لذتهم التي تدعوهم إلى الإصرار على الذنب الذي هم فيه، وهذه اللذة يستشعرها الإنسان حال مقارفة ذنب، ثم تزول وتبقى التبعة، وهو لا يستشعر ذلك.

    ولهذا فإن مما يزعج الإنسان يوم القيامة أن يرى في كفة سيئاته ذنوباً كثيرة قد ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها، يريد أن يخرج من مال محرم فيحول بينه وبينه أن نفسه تدعوه لجمع المال، ولديه شهوة للمال، فلا يستطيع ذلك، ويسوف ويؤخر، ويريد أن يترك عادة من العادات السيئة التي كان مصراً عليها ولكن نفسه لا تطاوعه لذلك؛ لأن هذه العادة قد صادفت هوى لديه، فيميل وراء هذا الهوى، ويريد أن يترك الغيبة أو النميمة وقد أصبحت عادة وخلقاً لديه، فلا تطاوعه نفسه لذلك؛ لأنه أصبح يشتهيها ويتلذذ بها.

    فإذاً هذا الإصرار سبب للطمس على القلب والختم عليه؛ لأن الملائكة يرتفعون بالأعمال إلى الله سبحانه وتعالى فيقولون: يا رب! عبدك فلان اقترف الذنب الفلاني. ثم يعودون في وقت آخر فيقولون: يا رب! عبدك فلان ما زال مصراً على الذنب الذي اقترفه في الصباح. ثم في الصباح الآخر، وهكذا حتى تتراكم ذنوبه عند الله، وإذا تراكمت فمعناه أن العبد لا يستحي من الله، فيختم على قلبه ويمنع من الرجوع على أثره، فلا يتذكر ذنبه حتى يسقط من الهاوية، والله تعالى يمهل ولا يهمل، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

    المجاهرة بالذنوب

    كذلك من هذه العقبات التي تحول دون التوبة الجهر بالذنب، فالمجاهرة بالذنوب يعتبرها بعض الناس شجاعة، وبذلك يجاهر أمام الناس بذنبه ليبدي لهم شجاعته وأنه لا يخاف أحداً ولا يستطيع أحد أن يغير عليه وليس لأحد عليه يد، لكنه يجهل في هذا الوقت ربه، ولا يتذكر قدرة الله الذي السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين أصبعين من أصابعه، وأنفس العباد كلها بيده متى شاء أخذها، ولهذا تجرأ عليه وتجاسر.

    والإعلان بالذنب دعوة إليه، والدعوة إليه محادة لله تعالى، فالذي في قلبه فطرة الإيمان يشمئز ويقشعر من الذنوب، فإذا رأى ذنباً من الذنوب اشمأز منه واقشعر، لكنه سرعان ما تزول هذه القشعريرة بكثرة رؤية الإنسان للذنب وتكرره عليه؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس.

    وقد كان الناس إذا ذكر اليهود اقشعرت الأجساد واشمأزت القلوب، وتذكروا أنهم إخوان القردة والخنازير، لكن لم يزل الأمر بالتدريج يخف حتى أصبح كثير من الناس يشتري بضاعة اليهود ويأتي بها، وحتى أصبح كثير من الناس يعامل أفرادهم الذين يأتون، حتى أصبح بعضهم يتنفس فوق هذه الأرض الطاهرة التي ما عرفت من قبل أنفاس اليهود إخوان القردة والخنازير، فتزول هذه القشعريرة والاشمئزاز الذي كان في النفوس بكثرة المساس؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس.

    وإنك لتقشعر وتشمئز إذا رأيت امرأة تكشف عن رأسها في الشارع إذا كنت في بلد ما زال أهلها بخير، لكنه يأتي بالتدريج والتقسيط، فتنزع حجابها عن مقدمة رأسها، فإذا سكت الناس تجاوزت ذلك إلى ما وراءه حتى تنزعه بالكلية، وبذلك يتعود الناس على هذا الذنب، ويزول عنهم ما كانوا يجدونه في نفوسهم من كراهيته والاشمئزاز منه.

    ومثل هذا ما كان حاصلاً عند الناس من كراهية الربا والتعامل به، والحرص على طهارة الكسب، فقد أدركنا الناس قديماً يتحدثون عن فترة مضت من حياة أهل بلاد كان الناس فيها يشمئزون من الذين يبيعون اللبن وهو في الضروع؛ لأنهم يعتبرون هذا رباً، وكان الهجاء يحصل به بين الناس، لكن اليوم أصبح الربا منتشراً، وأصبح القوي الشجاع هو الذي يتجرأ على الربا، ولم يعد أمراً يهجى به ولا منقصة لدى الناس؛ لأنهم قد تعودوا عليه وتجاسروا عليه، وأصبح معاش الناس منه، نسأل الله السلامة والعافية! ومن لم ينل منه ناله من غباره، وهكذا البدع كلها، فإنها تنشأ ضعيفة ملتوية كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم لا تزال تقوى إذا سكت الناس عنها ولم تجد رادعاً ولا منكراً، وكثير من المنكرات اليوم من تعرض لإنكارها اعتبر مجنوناً أو مخالفاً؛ لأن الناس أصبحت هذه المنكرات لديهم معروفة ولم تعد منكرات بسبب ترسخها ومضي الزمان عليها.

    وهكذا في كل الأمور، فأي ذنب أعلن به الإنسان وجاهر فهذا مدعاة لئلا يتوب منه أبداً، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هذا الجانب ينبغي التنبيه إلى الفتن، فهذه الفتن التي نعيش فيها لا يستشعرها كثير من الناس، فكثير من الناس يظن أن عقله محل ثقة، وأنه لا يمكن التلبيس عليه أبداً، وأنه سيتضح له الحق إذا رآه واضحاً، ويتضح له الباطل إذا رآه واضحاً، ولا يدع مكاناً للفتنة، لكن أهل الإيمان يخافون الكفر والنفاق ويخافون الفتنة، ويعلمون أنها حاصلة في الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، لكن المفتونين اليوم إذا نبه أحدهم على شرك وقع فيه، أو على أمر مخالف لعقيدة النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء بها قال: أنا لا أخاف على نفسي من الكفر، ولا من الشرك. ونزه نفسه عن هذا، كأن لديه أماناً من الله من الفتنة.

    إن هذه العقول لا يوثق بها أمام الفتن، فكم رأينا من إنسان يقدم على ما يخالف مقتضى العقل عندما يفتن؛ لأنه ينفذ فيه القدر، وإذا جاء القدر عمي السمع والبصر، والله تعالى يقول في كتابه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111]، فلهذا يفتن صاحب المعصية المجاهر بها الذي يجاهر بها في البداية شهوة أو حباً للشجاعة والذكر، أو معاكسة للناس ومخالفة لهم، ويظن أنه سيعود ويرجع، ولكن الفتنة تأتي، وسيستمر على معصيته من حيث لا يشعر.

    الجرأة على الذنب

    كذلك من هذه الأمور التي تحول دون التوبة الجرأة على الذنب، فإن لله سبحانه وتعالى برهاناً في قلوب عباده المؤمنين، هو النور الرباني الذي يحول بين الإنسان وبين اقتراف معصية الله، فيتذكر إذا مسه طائف من الشيطان، وإذا عرضت عليه النفس الأمارة بالسوء سوء ذكر الله، وإذا عرض عليه أي ذنب من الذنوب ذكر الله ففر منه وتركه.

    وأحوال الناس في هذا البرهان متفاوتة، فمنهم من يقوى البرهان الرباني في نفسه فلا يقارف المعصية ولا يسمع لها صوتاً ولا يرى لها حركة ولا يشم لها رائحة، وهؤلاء محفوظون من الوقوع في المعاصي، ومنهم من يستزله الشيطان ولكنه يتذكر فيتوب ويرجع، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]، ومنهم من تعجبه المعصية يسمعها من غيره، وتكون مشاركته حينئذ الإقرار والسكوت، ولكن من رضي وتابع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومنهم من يشارك فيها ولا يكون رأساً، ولكنه يكون ذنباً في المعصية، ومنهم رؤساء المعصية وقادتها، نسأل الله السلامة والعافية.

    وكل هؤلاء درجاتهم متباينة في هذا البرهان الرباني الذي يحول دون المعصية، فلذلك قد ينزع هذا البرهان بالكلية من قلب الإنسان وهو أمانته، فينام الرجل النومة فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه، فيبقى أثرها كالوكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ فتراه منتبراً وليس فيه شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، نومة واحدة ينامها الإنسان فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه.

    ويكثر هذا في آخر الزمان، فمن فتن آخر الزمان أن تنزع الأمانة، ولذلك قال حذيفة: (اثنتان حدثنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحدهما فقد رأيناه، وأما الآخر فنحن ننتظره، ولقد مضى عليّ زمان وما أبالي من بايعت منكم، لئن كان مؤمناً رده عليّ إيمانه، وإن كان ذمياً رده عليه ساعيه، وأما اليوم فقد أصبحت لا أبايع إلا فلاناً وفلاناً)، وذلك بنزع الأمانة حتى في المعاملات في أمور الدنيا، ومن هنا فعلى كل منا أن يحاسب نفسه، وأن يتذكر أوقاتاً كان فيها يجد حاجزاً يحول بينه وبين المعصية، ويتذكر أوقاتاً أخرى يخف فيها ذلك الحاجز فيتجرأ فيها، وحينئذ سيعلم أن إيمانه يخلق ويجد فيراقب ذلك، ويسعى لتقوية إيمانه وتجديده، ومحاولة الانقطاع عن كل ما يقتضي ضعفاً في الإيمان وخرقاً له؛ لأن المشكلة أن هذا الإيمان إذا انخرق اتسع الخرق على الراقع، وصعب على الإنسان إعادته كما كان، كما قال الحكيم:

    فهل تهاب العفو عن كل زلة فأين مقام العفو من منزل الرضا

    فمعدن ترجو زوال سواده كثوب جديد لم يزل قط أبيضا

    ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق بطريق بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق الستور داعٍ يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه. هذه الأبواب المفتحة هي الذنوب، والستور التي عليها ستر الله الذي يحول بين الإنسان وبين الوقوع فيها، فمن ولج الباب لم يستطع الخروج منه، فتزل به قدمه إلى ما وراء ذلك، نسأل الله السلامة والعافية والثبات، ومذكر الله وداعيه يذكر أهل الإيمان بهذا.

    قرناء السوء

    كذلك مما يحول بين الإنسان وبين التوبة أن كثيراً من الناس يسلط الله عليه قرناء السوء فيحولون بينه وبين الخير، فيشجعونه على المعصية والاستمرار عليها، بل إذا رأوه منكسراً تائباً حاولوا تعييره ليتجلد على معصيته، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء ستقام العداوة بينهم يوم القيامة، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29]، وقال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[الزخرف:67] .

    وكثير من الناس يأخذ هؤلاء القرناء جل وقته وجل اهتمامه، ولا يكاد يوفق لطاعة في حضرتهم، بل لا يوفق له من الطاعات إلا ما استرقه استراقاً من هؤلاء. واختلسه اختلاساً.

    الجهل

    كذلك مما يحول دون التوبة الجهل، فإن كثيراً من الناس يجهل ما أوجب الله عليه وما حرم، ولذلك إذا وقع في الذنب لم يستشعر أنه وقع في معصيته؛ لأنه لم يعرف أن هذا محرم، وإذا أهمل طاعة لم يتب من ذلك؛ لأنه لم يستشعر أنه ترك واجباً، ومما يعين على الجهل قادة الفتنة، وعلماء السوء الذين يبيحون للإنسان ما حرم الله عليه فيطيعهم بذلك اتباعاً للهوى.

    وعلى الإنسان حينئذ أن يراقب هواه؛ فإنه إن مال وراءه كان إلهاً: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ[القصص:50] ، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً[الجاثية:23]، فالذي إذا قال له ناصح: هذا حرمه الله عليك، وهو طريق من طرق النار. وقال له آخر: بل هذا من الأمور الجائزة. أو: يمكن أن أجد لك فيه رخصة. أو: قال فلان وفلان بإباحته فرأى نفسه مائلة إلى المبيح لا إلى المحرم فقد اتبع هواه بغير هدى من الله.

    طول الأمل

    كذلك فإن مما يحول بين الإنسان وبين التوبة طول الأمل، فكثير من الناس يسوف ويعقد الشيطان على قافية رأسه عقدة، ولا تزال هذه العقد تزداد، ففي كل نومة يعقد الشيطان ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم. فيستيقظ الإنسان وهذه العقد موجودة، فإذا لم يحلها ونام نومة أخرى عقد الشيطان ثلاث عقد أخرى، وهكذا حتى يكون على الإنسان شبكة من عقد الشيطان، فتكبله هذه الشبكة، وتحيط به من كل جانب، وإنما تحل العقد العقدة الأولى بذكر الله، والثانية بالوضوء، والثالثة بالصلاة، فإذا حل الإنسان العقد تخلص من شراك الشيطان وحبائله، وأصبح طيب النفس مقبلاً على الطاعة، وإذا استمر زادت عقد الشيطان وأخلد إلى الأرض ودعاه هذا إلى ترك طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا يزال الشيطان يغرَّه حتى يأتيه الموت وهو على حالة لم يكن يرضى أن يموت عليها.

    ولذلك فإن كثيراً من الذين عرفت أحوالهم عند الموت حصلت لهم عجائب جداً، فأذكر أن شاباً خرج مسافراً في سفر معصية، وقد أطال له الشيطان أمله، وأخبره أنه شاب في مقتبل عمره، وأنه ما زال أمامه عمر طويل يمكنه أن يحسن وأن يتوب وأن يرجع بعد هذا، فسافر ذلك السفر، وكان على موعد فيه مع ملك الموت وهو لا يشعر، فلما جاءه الموت انكسر انكساراً شديداً وحصل له رعب شديد، وقال: أين الأمان الذي كنت أتمناه؟! وأين المشاريع التي كنت أخطط لها؟! وأين كل الآمال التي كنت أعلقها؟! قد ذهبت خلال لحظات يسيرة!

    ومثل هذا يحصل لمن كان يؤمل آمالاً كبيرة فيفاجئه الموت دون ذلك.

    تأخير التوبة

    ومما يحول دون هذه التوبة أن كثيراً من الناس إذا اقترف الذنب حاول تأخير التوبة لغده لملذة ذلك الذنب، أو لتطويل أمل عارض، أو لانشغال عن التوبة بأمر من الأمور، فكثير من الناس ينشغلون، فينشغل تفكيرهم بانشغال أبدانهم وتعطل طاقاتهم بذلك الانشغال، ومن هنا لا يجدون وقتاً للرجوع، ولا للتوبة، ولا للتفكير؛ لأن التوبة لا تكون إلا بعد تفكر وإدراكٍ للمخاطر المترتبة على عدمها، وإدراك لعظمة من عصيت وخالفت، فكثير من الناس منشغلون عن التفكير في هذا أصلاً، كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:105-106].

    أكل الحرام

    كذلك مما يحول دون التوفيق للتوبة أكل الحرام، فالذي يعيش من حرام لا يستجاب دعاؤه، ومن دعائه الاستغفار، ولذلك كُلْ ما شئت فمثله تعامل، واصحب من شئت فإنك على دينه، فالذي يعيش من حرام كيف يوفق لتوبة الله ولأن يكون من أهل الجنة وزاده كله حرام؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب. ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك!)؟ فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ومن عاش بالحرام فإن معاشه أول ما يصل إلى جوفه منه سيكون ناراً على قلبه يحجبه عن مشاهدة أنوار التوبة، وبذلك لا يتوب ما دام الحرام في بطنه.

    كون الإنسان من أعوان الباطل

    كذلك مما يحول دون التوبة ويقتضي من الإنسان الإصرار والاستمرار أن يكون الإنسان من أعوان الباطل، فالذي هو من أعوان الباطل سيفتن بالاستمرار على ذلك حتى يندم حيث لا ينفع الندم، ولهذا أخرج عبد الرزاق وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد عليّ الحوض)هؤلاء يطردون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطرد غرائب الإبل.

    البدعة

    كذلك مما يحول دون التوبة البدعة، فالمبتدع قلما يتوب من بدعته، وإنما يتوب من بدعته من كان مغروراً بها وكان صادق التوجه من قبل. فغر بالوقوع في البدعة، أما من جاءها بقلب مستسلم فإنه سيعجب بتلك البدعة، ولا يمكن أن يراجع نفسه فيها، ولا يستطيع أن يتحمل نقداً لها ولا كلاماً فيها، ومن هنا لن يتوب منها أبداً، حتى لو كان من أهل الصلاح والالتزام؛ لأن نفسه لا تقبل مناقشة في ذلك المجال، ولو رجع هذا إلى إيمانه لوجد أن الله سبحانه وتعالى أثنى على أهل الصلاح فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18]، وليس له أن يصر على الإنكار، ولا على عدم المناقشة، بل إذا كان ما معه من الحق البين الذي عليه برهان من الله فإنه لا يخاف المناقشة فيه؛ لأنه صاحب حجة وبيان، أما إذا كان داحضاً باطلاً فهو الذي يتهرب صاحبه من المناقشة فيه، ولا يجرؤ على ذلك؛ لعلمه أنه يمسك بحبائل العنكبوت، فيخاف أن يتخرق عليه.

    عقوق الوالدين

    كذلك مما يحول دون التوبة ويمنعها عقوق الوالدين، فإن من عق والديه متوعدٌ بأن يموت على خاتمة السوء، حتى لو كان ساعياً للخير وعاملاً به فقد فرط في حق أكبر الناس عليه وأولاهم به، ومن هنا فإنه يحال بينه وبين التوبة في آخر عمره، نسأل الله السلامة والعافية.

    المن والنميمة

    ومثل ذلك المنان والنمام الذي يحمل النميمة، فإنهما لا يتوبان كذلك؛ لأنهما متوعدان بالنار على وجه الخلود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل -: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام الذي يحمل النميمة. وكذلك قال: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه ولا منان ولا نمام).

    فهؤلاء الذين لا يدخلون الجنة لا يوفقون للتوبة؛ لأن هذه التوبة بحد ذاتها ليست كفراً أكبر مخرجاً من الملة، ولكن معنى النصوص أنها مقتضية لسوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.

    هجران المساجد

    كذلك مما يمنع من التوبة هجران المسجد، فالذي لا يشهد الجماعة في المساجد لا يوفق للتوبة من كثير من معاصيه؛ لأن عدم شهود الصلاة في المساجد مدعاة لسوء الخاتمة، كما أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود: (من سره أن يلقى الله مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى).

    قتل النفس التي حرم الله بغير حق

    كذلك مما يقتضي عدم التوبة قتل النفس التي حرم الله بغير حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والله تعالى يقول في كتابه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء:93]، والخلود يقتضي من الإنسان الموت على الكفر وسوء الخاتمة،فمعناه أن من تجاسر على قتل مؤمن دون حق فهو -نسأل الله السلامة والعافية- سيوفق للموت على خاتمة السوء ويقاد لها، ومن هنا لا يوفق للتوبة.

    إذاً فهذه عوائق تحول دون التوبة، وينبغي أن نعلم أن التوبة يمكن أن تتم مع التكرار، كمن وقع في ذنب استزله الشيطان إليه فبادر بالتوبة وأحسن توبته، ثم بعد فترة استزله الشيطان ثانية للوقوع في ذلك الذنب من غير أن يكون عازماً على مراجعته فتاب وأحسن، فتوبته مقبولة، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد يذنب فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي. فيقول الله: قد فعلت. ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي. فيقول الله: قد فعلت. ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي. فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً)، فيحل الله عليه رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده.

    1.   

    التغيير والتحسن في الطاعة مطلوب من العبد

    وكذلك ينبغي أن يعلم أن التذبذب في الأعمال كلها ممقوت شرعاً، وهو مقتضٍ لعدم القدرة على الاستمرار في الطريق، ولهذا فالتطور إلى الأحسن، وتغيير ما في النفس أمر مطلوب شرعاً، والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن هنا فالإنسان الذي يتعود على عادة معينة ولا يستطيع مخالفة تلك العادة ولا خرقها فهو مأسور بها، فينبغي أن يتهم نفسه، وأن يتهم تلك العادة لعل فيها ما يلجئه إلى التوبة وهو لا يشعر به.

    والإنسان الذي يستطيع تطوير نفسه وعلاج أخطائه ويعلم أنه غير معصوم، وأنه قابل للخطأ والصواب، هو الذي يوفق للتوبة.

    ومن هذا المنطلق على الإنسان أن يحاول في كل فترة تمضي عليه من الزمن أن يكون عامه الجديد خيراً من عامه الماضي؛ لأنه ما زال في فسحة، فيمكن أن نكون في مثل هذا الوقت من العام الماضي قد سمعنا كلاماً مثل هذا، ولكن ما الذي أحدثناه؟! وهل عامنا هذا كان خيراً من عامنا الماضي؟! لا بد أن يحاول الإنسان الذي يريد أن يكون تائباً توبة نصوحاً أن يكون لاحقه خيراً من سابقه، وأن تكون سريرته خيراً من علانيته، وأن يزداد في الإيمان والعمل والتضحية وفي البذل في سبيل الله، فإذا قارن الإنسان بين سابقه وبين لاحقه فوجد سابقه خيراً من لاحقه فهذا مؤشر بسوء الخاتمة، وعليه أن يبادر بالتوبة منه والاستغفار.

    فإذا كان الإنسان في عامه الماضي أنفق مبلغاً معيناً في سبيل الله، فراجع نفسه وحساباته في هذا العام فوجد إنفاقه في سبيل الله أقل من إنفاقه في العام الماضي فهذا مؤشر يقتضي منه أن يبادر بالتوبة، وأن يتدارك الوضع قبل أن يزداد سوءً.

    كذلك إذا كان الإنسان في عامه الماضي قد وفق لطلب العلم، وحضر عدداً كبيراً من الدروس، وحفظ بعض الأحاديث والآيات، ووجد نفسه في هذا العام قد تراجع، وكان سيره أقل من سيره في العام الماضي، فهذا مؤشر، وعليه أن يبادر إلى التوبة قبل أن يختم له بالسوء.

    وهكذا في كل الأمور، ومن هنا أوجه نداءً للأخوات المسلمات أن يطورن أنفسهن، وأن لا يرضين باليسير، وأن لا يكون هذا الكلام للتشهي ولا يصحبه عمل، ولهذا فينبغي أن يكون عامنا خيراً من سابقه، وأن تكون كل جلسة لنا مقتضية للإحسان فيما بعدها، وأن يكون ذلك خيراً مما سبق.

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونياتنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا توبة نصوحاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً، وأن يحسن خواتمنا أجمعين.

    اللهم! اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

    وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755785173