إسلام ويب

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد رفع الله سبحانه وتعالى من شأن الصلاة، ورتب على أدائها أعظم الأجر، ولكن لا بد للمصلي من تعلمها وتدبرها وتأديتها على الوجه المطلوب، وذلك لا يتم إلا بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصلي كما كان يصلي، ونراعي الآداب الشرعية في أداء كل ركن من أركانها، وفي كل واجب من واجباتها.

    1.   

    فضل الصلاة ومكانتها في الإسلام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد: فإن الصلاة عماد الدين، وهي العهد بين العبد وربه، وهي الحد بين المرء والشرك والكفر، فمن تركها فقد كفر، وهي أول ما يبحث عنه من أعمال العبد يوم القيامة، فإن تمت له لا يضره ما سواها، وإن لم تقبل منه طويت كما يطوى الثوب الهمل أي: الخلق البالي، فيضرب بها على وجهه ولا ينفعه ما عداها من عمل، وهي أم الدعائم وأفضلها؛ ولذلك فإن كل الدعائم الأخرى إنما هي مكملات للصلاة، فقد جعلها الله مثالاً لحياة الإنسان كلها، فانتظام الناس فيها واجتماعهم وأداؤهم لها وانقيادهم لإمامهم لا يحرمون قبل إحرامه، ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يسلمون قبل سلامه، وانتظامهم في الصف بالتساوي كل ذلك دروس لهم في حياتهم كلها، وتنظيم لهم في شئونهم كلها.

    فهذه الصلاة إذاً هي حياة المسلم في الواقع، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها راحته من شئون الدنيا، فكان إذا تعب في أمر قال: ( أرحنا بها يا بلال ) .

    وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) .

    ترتيب الأجر على الصلاة

    وقد رتب الله عليها من الأجر والمثوبة ما لم يرتبه على ما سواها، فجعلها تكفيراً للذنوب، وتقريباً من الله عز وجل، وسبباً لعلو المنزلة في الآخرة، وسبباً لرؤية الله عز وجل يوم القيامة، وسبباً كذلك للرزق في الدنيا، كل ذلك من فوائد الصلاة.

    تكفير الصلاة للذنوب

    تنوير الصلاة يوم القيامة

    وأما تنويرها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) .

    كون الصلاة سبباً لرؤية الله

    وأما كونها سبباً لرؤية الله عز وجل يوم القيامة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن دنو الناس من رب العزة يوم القيامة إنما هو بحسب السبق إلى الصلاة ) ، ولذلك كان ابن مسعود يحرص على أن لا يسبقه أحد إلى المسجد؛ لحرصه على القرب من الله يوم القيامة، فجاء ذات يوم وقد شغل في الطريق فوجد ثلاثةً قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد.

    كون الصلاة سبباً للرزق

    1.   

    أسباب الخشوع في الصلاة

    استشعار إذن الله بالجلوس بين يديه والتحدث إليه

    والصلاة بالإضافة إلى هذا كله سعادة للإنسان يسعد بها، فيتخلص من أدران هذه الدنيا وآلامها عندما يتحرر من جميع مشاغله، فيشعر أن الملك الديان قد أذن له بالجلوس بين يديه والتحدث إليه، وأن يعرض عليه كل حوائجه، ويتطلب منه كل متطلباته، ولذلك قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً.

    إذا استشعر الإنسان أن الله قد أذن له بالسجود بين يديه، وعرض حوائجه عليه، وكلامه كفاحاً دون ترجمان، وشعر أنه قد حرم كثيراً من الناس ذلك، ومنهم من منعه من ذلك بالكفر، ومنهم من منعه بالفجور والفسق، ومنهم من منعه بالغفلة، ومنهم من منعه بنقص العقل، ومنهم من منعه بالمرض، ومنهم من منعه بالنوم، وقد أذن لك أنت أن تتذلل بين يديه، وأن تعفر وجهك لجلاله وعظمته، فهذا تشريف عظيم جداً، فإنما يتشرف العبد بتواضعه لله، وتذلـله بين يديه.

    استشعار ما يترتب على الصلاة من عظيم الأجر

    وكذلك إذا استشعر العبد ما يترتب على هذه الصلاة مما ادخر الله له عز وجل عنده، فإنه إذا تطهر في بيته خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أهداب عينيه ومن أنفه ومن تحت شعر لحيته، ومن تحت أظافره، حتى يخرج إلى الصلاة نقياً، ثم تكون بعد ذلك الخطوة، يرفع له بها درجة، وتمحى عنه بها سيئة، وتكتب له بها حسنة حتى يخرج إلى المسجد، فيتعرف عليه الملائكة الذين يتعرفون على المصلين على أبواب المساجد يكتبونهم الأول فالأول، وهذا هو التعرف على الله بالرخاء، ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) .

    استشعار تعظيم الله لمن جعله من عمار مساجده

    ثم بعد ذلك يستشعر أن الله عظمه حين جعله من عمار هذا المكان العظيم، فهذه المساجد اختارها الله من بين الأماكن وشرفها بمحبته، ( أحب البقاع إلى الله مساجدها ) ، فيختار لها أهلها الذين يعمرونها، وإذا أدرك الإنسان ذلك أحس بأنه لا غنى به عن هذه الصلاة، فهي بمثابة غذائه الذي لو انقطع عنه لمات، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تمثيله للصلاة: ( إنما هي كنهر على باب أحدكم ينغمس فيه في اليوم والليلة خمساً، فهل ترون يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا ) .

    الذي يغتسل في كل أربع وعشرين ساعة خمس مرات غسلاً كاملاً هل يبقى شيئاً من الوسخ في بدنه؟ لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلاة هي طهور للإنسان وغسل له، فيغتسل خمس مرات فتكفر خطاياه وسيئاته حتى تتحاشى عنه، ويستجاب بها دعاؤه، وتكون علاقةً بينه وبين ربه، وهي عماد دينه؛ لأنها تأمر بالخير وتنهى عن الفحشاء والمنكر، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

    استشعار الدور في تحمل الأمانة

    وكذلك فإن هذه الصلاة تقتضي من الإنسان التعاون مع إخوانه، وأن يلين في أيديهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لينوا في أيدي إخوانكم ) ، وتعوده على الانتظام واستغلال الأوقات، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62]؛ ليستطيع الإنسان بذلك استغلال وقته على أحسن هيئة، ويدرك مهمته في الاستخلاف في الأرض، وأنه خليفة لله في الأرض، وبذلك لا بد أن يكون له دور، وأن يستشعر هذا الدور ويتحمل هذه الأمانة؛ ولهذا يقوم في الصف متحملاً لأمانته، ساداً لفرجة من الفرج، ويستشعر بذلك أنه أيضاً على ثغرة من ثغور الإسلام وهو يسد فرجته، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.

    تعلم الصلاة وتدبرها وتأديتها على الوجه المطلوب

    إن هذه الصلاة التي جعلها الله بهذه المنزلة تحتاج منا إلى أن نتعلمها ونتدبرها، وأن نعرف هيئاتها وأركانها وشروطها، وأن نؤديها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، فإذا أديت على الوجه الصحيح كما شرع الله عز وجل كانت طهوراً للإنسان، وعلواً لمنزلته، ولم يضره ما سواها، وإلا كانت حسرةً عليه ووبالاً، ولذلك قال أحد مشايخنا:

    أصلي صلاة كالثواني تعودت بلا سائس يحذو فكيف نجاتي

    وكيف خلاصي من ذنوبي في غد إذا كان أجنى ما جنيت صلاتي

    إذا كان أخوف ما تخافه من ذنوبك صلاتك فأنت لا تؤديها على الوجه الصحيح، فماذا يقال فيما سواها من الأعمال والسيئات؟ فلذلك على الإنسان أن يتقنها ويؤديها على الوجه الصحيح حتى لا تكون حسرةً عليه وندامةً بين يدي الله، إن الوجه الصحيح الذي يمكن أن تؤدى عليه الصلاة هو ما بين النبي صلى الله عليه وسلم وشرع، ولذلك كان يقول للناس: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، وكان يظهرها للناس حتى يتعلموا منه الصلاة، فكان يصعد على المنبر ليؤدي أركان الصلاة حتى يشاهده كل من في المسجد، وكان إذا دعاه أي أحد للصلاة في بيته أتاه فسأله عن المكان الذي يحب أن يصلي له فيه، فإذا أراه ذلك المكان صلى له فيه ليتعلم منه هيئة الصلاة، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليمها للناس غاية الحرص.

    إنزال الصلاة مكانتها التي أنزلها الله

    فلذلك علينا أن ننزلها مكانتها التي أنزلها الله، وأن نحرص على تعلم هيئة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نؤديها كما أرانا صلى الله عليه وسلم وبينا لنا، فإن الله عهد إليه بهذه المسئولية، وأمره أن يبين لنا ما أنزل إليه من ربه، وقد فعل ذلك بأقواله وأفعاله وهديه، فلهذا علينا أن نلزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نعلم أنه لا ينال بالتمني ولا بالتظني، ولا يمكن أن يعرف بمجرد التقليد، وما أدرك الإنسان عليه الناس؛ لأن هذا ليس عليه أثارة من علم، ولهذا يحتاج الإنسان إلى التعلم، وأن يتواضع حتى يتعلم ما جاءه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إذا تعلمه بعد ذلك احتاج إلى رياضة شاقة ومجاهدة طويلة حتى يأطر نفسه على الحق أطراً، فكم من إنسان يعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، لكن لاحظوه عندما يحرم فإذا هو يخالف الهدي الذي يعرفه، لا يقوم كهيئة القيام، ولا يركع كهيئة الركوع، ولا يسجد كهيئة السجود، ولا يجلس كهيئة الجلوس، ولا يقرأ كهيئة القراءة، ولا يدعو كهيئة الدعاء، بل يختل عليه ذلك؛ فيسرق الشيطان صلاته ويذهب بها، ( وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم، ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه ) .

    1.   

    الاستعداد للصلاة

    الموقف من هيئات الصلاة المختلفة

    إن النبي صلى الله عليه وسلم في هديه في الصلاة كان يأتي ببعض الهيئات تشريعاً ليبين للناس سعة الدين، وهذه الهيئات لا ينبغي أن تكون مثاراً للخلاف بين الناس، بل أي هيئة بينها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تنسخ وثبتت فإنها هيئة من الهيئات التي صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا تنكر على أحد، ومن أدى الصلاة عليها فقد برئ.

    فلذلك إذا ذكرنا هيئة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فسنبدأ أولاً بما كثرت روايته عنه وكثر ترديده له، ثم بعد ذلك نذكر مع كل مسألة ما صح معها من الهيئات الأخرى التي لا ينكر على من فعلها، ويمكن أن يفعلها الإنسان بين الفينة والأخرى، فإنه لم يجعل هيئة الصلاة حالةً واحدةً مضطربة، فأول ذلك ما يتعلق بالطهارة والإعداد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد للصلاة قبل دخول وقتها، وحرص الناس على ذلك، وبين ما في الوضوء قبل دخول الوقت من الأجر، وأن من لم يزل على طهارة كان ذلك سبباً لحسن الخاتمة، وبين كذلك ( أن السواك مع كل وضوء مطهرة للفم، ومرضاة للرب ) .

    التبكير عند سماع النداء

    وكذلك فيما يتعلق بإجابة المنادي إذا نادى، إذا كان الإنسان أول مجيب فلا يستوي قطعاً هو ومن يتأخر حتى يسمع الإقامة، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، فالذين استجابوا لنداء الله أول ما سمعوه مثل الذين استجابوا لدعائه عندما دعا للإسلام، فهم وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، لا يمكن أن يتساوى الذي يأتي عندما يسمع حي على الصلاة، والذي لا يأتي إلا إذا سمع الإقامة أو سمع التكبير، فالبون شاسع بين الطائفتين.

    أخذ الزينة عند كل مسجد

    كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن مما ينبغي للإنسان الذي يقصد الصلاة أن يتجهز به ما يتعلق بنظافته وملابسه، وقد أرشد الله إلى ذلك في قوله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وأخذ الزينة للمساجد إنما هو بنظافة الثياب، واستعمال الإنسان من طيب بيته إن كان له طيب، وإلا فالماء خير الطيب، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب لها، وأمر بذلك في الجمعة؛ لأنها الوقت الذي عادةً يكون كل إنسان فيه متهيئاً لها فارغاً من شغله، فأمر أن يشهدها الإنسان في خير ملابسه وهي البيض، وأن يتطيب من طيب بيته، وأن يغتسل لها، وهذا مثال إذا أتقنته في صلاة واحدة سهل عليك إتقانه في الصلوات الأخرى، إذا تذكرت أنك إذا ذكر لك أنك ستستقبل وفداً شريفاً كريماً فستأخذ أحسن ملابسك وتتطيب وتتطهر، فإنك في الصلاة يستقبلك الديان سبحانه وتعالى، والله ( وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) ، وستستقبل إخوانك المسلمين الذين يعمرون المساجد، فلذلك لا بد من النظافة والعناية بها، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم على من أكل من الشجرة الخبيثة من الثوم أو الكراث أو نحو ذلك من كل ذي رائحة كريهة أن يقرب المسجد؛ لئلا يؤذي المصلين، قال: ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا -أو مساجدنا- يؤذينا بريح الثوم ) .

    فعلى هذا حمل أهل العلم كل ما هو منفر للناس فمنعوه، سواءً كان ذلك من الألوان أو الروائح، فالثوب المتسخ لا تشهد به الصلاة، وحاول أن يكون لك ثوب مختص تشهد به الصلاة.

    أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع

    فاجتهد أن تكون ثيابك طاهرةً نظيفةً لا تؤذي من يصلي إلى جنبك، ولا يتحرج إنسان أن يلصق منكبه بمنكبك، وأن يلصق ساقه بساقك في الصلاة؛ لأن ثيابك نظيفة طاهرة، ليس فيها رائحة كريهة، وليس فيها لون يكرهه الناس.

    التهيؤ لاستقبال الملك الديان

    ثم بعد هذا: إذا دخلت المسجد فاعلم أن الفريضة تحتاج إلى بردعة قبلها وهي التهيؤ لاستقبال الملك الديان بالاستغفار والتوبة والذكر لعلك تتقن شيئاً من صلاتك، فالذي يخرج من هموم الدنيا ومشاغلها ويدخل في فريضة الله مباشرةً هذا لم يتأهب للصلاة، ولم يتأهب للخشوع، ولذلك تجده ينقرها نقراً، ولا يعي شيئاً مما يصنع فيها، ولا يدرك شيئاً من عمله، لكن إذا علم أنه يقدم على أمر عظيم، ولزم الاستغفار والتوبة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وراجع عقد الإيمان في قلبه، وعلم أنه ربما كان مودعاً لهذه الصلاة، ربما كانت آخر صلاة يصليها، فإن تلك التهيئة تعينه على الخشوع في الصلاة.

    تهيئة القلب للفريضة بالتنفل قبلها

    وكذلك فإن مما يعين على كمال الفريضة أن يصلي الإنسان قبلها من النوافل ما يجعل قلبه مستعداً لها، فالنوافل هي رياضة في الصلاة التي تسبقها، تسخين يسبق الصلاة، فيتهيأ الإنسان قلباً وقالباً لاستقبال الفريضة، ويؤدي قبلها ما تيسر من النوافل، وقد شرع الله ذلك في الصلوات التي قبلها وقت إباحة، فقبل الفجر يصلي الإنسان ركعتين، وقبل الظهر يصلي أربعاً، وقبل العصر كذلك إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، وقبل العشاء أن يحيي المسجد أيضاً، فبهذا تقبل نفسه على الصلاة ويتأهب لها، ثم بعد ذلك يكملها باللواحق البعدية إذا كان ما بعدها وقت إباحة، فيصلي بعد الظهر أربعاً، ويصلي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وبعد الجمعة ركعتين في بيته، وبهذا يكمل ما حصل من نقص في صلاته وما غاب فيه ذهنه منها، فإن الله تعالى يقول يوم القيامة لملائكته إذا عرضت صلوات العباد: ( انظروا هل لعبدي من نفل فتكملون له به فرضه ) ، فالنوافل هي التي تكمل خلل الفرائض وما يقع فيها من النقص، ولذلك ورد في حديث ليس بالقوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيئوا صلاتكم؛ فإن كثرة السي تدل على قوة الحشك ) ، والمقصود بذلك أن يجعل الإنسان قبل فريضته شيئاً من النوافل وبعدها شيئاً من النوافل، فيكون ذلك سياجاً لها كبداية الدرر الذي يظهر في ضرع الناقة فيأتي في البداية شيء من اللبن في الضرع، فإذا حصل دل ذلك على قوة الحشك أي: قوة الدراري إذا درت، فكذلك الإنسان إذا استعد للنوافل قبل الصلاة دل ذلك على إتقانه للفريضة.

    1.   

    صفة الصلاة وآدابها

    استقبال القبلة وآدابه

    ثم في هيئة الصلاة نفسها لا بد أن يتقن الإنسان الاستقبال، وأن يستشعر فيه أن الله أذن له بأن يستقبل البيت الحرام وشرفه بذلك في الوقت الذي أضل فيه أقواماً عن استقباله، وارتضى لنا هذه القبلة وشرفنا بها، فقد بين لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيوليه قبلةً يرضاها، وارتضى له البيت الحرام، فيتهيأ الإنسان لاستقبال البيت الحرام بذلك، ويجتهد في استقباله.

    الاعتدال في الصف وصفته وآدابه

    ثم إذا كان في الصف يجتهد كذلك على الاعتدال في الصف، وعدم الخروج أمامه أو التأخر وراءه، والاستواء تماماً، ولا يقع الاستواء إلا بالكعاب، فإن الكعب وسط الإنسان الإنسان، يقابل مخ الساق الذي عليه قامت الإنسان، فليس الاستواء برءوس الأصابع أو بآخر الأقدام؛ لأن أقدام الناس متفاوتة في الطول والقصر، وإنما الاستواء بأن يناظر الإنسان كعبه مع كعب جاره، فالكعب وسط الإنسان، وبه يحصل تمام الاستواء، وإذا قام الإنسان في الصف تذكر العرض على الله واستقبال الملك الديان يوم القيامة، وتذكر أنه الآن ينافس الملائكة ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟! ) .

    تحضير النية والإخلاص لله فيها

    ثم بعد ذلك في استعداده للصلاة يتهيأ حتى لا يفوت حرف واحد من حروفها قبل أن تحضر النية والإخلاص لله فيها، فأول عمل يبدأ به تحضير قلبه وإخلاص نيته، والنية تشمل تحديد الصلاة المعينة، وتحديد أن يكون الإنسان إماماً أو أن يكون مأموماً، وتحديد الأداء والقضاء أي: ما يتعلق بالوقت، وكذلك تهيئة الإنسان نفسه للإخلاص لله وحده للعبادة، وأن لا يجعل فيها حضاً ولا نصيباً لأحد، وقد ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام يلتفت إلى الناس فيقول: إن المصلي يناجي ربه، فلينظر أحدكم بما يناجيه ) ، إنها مناجاة بينك وبين الملك الديان، فحضر نفسك لهذه المناجاة، (فلينظر أحدكم) ليفكر قبل الإقدام على الصلاة بماذا سيناجي الله عز وجل.

    تكبيرة الإحرام وآدابها

    إن الذي يأذن له الملك في المناجاة لا يمكن أن يناجيه وهو غافل القلب لا يدري ما يقول، ولا يمكن أن يناجيه بكلام لا يفهم معناه، لا بد أن يحضر ذهنه ونفسه للمناجاة، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، وقال: ( تحريمها التكبير، وتحليلها السلام ) ، وهذا التكبير مناسب جداً لافتتاح الصلاة لما فيه من تعظيم الله عز وجل والثناء عليه، فالإنسان إذا قال: الله أكبر ملأت ما بين السماء والأرض، وإذا استعظم أي شيء فذكر عظم الله عز وجل وعظمته وجلاله صغر عنده ذلك الذي استعظمه، فلهذا يقول: الله أكبر، ويجتهد الإنسان في إصلاح ألفاظها، وتدبر معانيها، فإن كثيراً من الناس يلحن فيها فيقتضي ذلك فساداً لمعناها، والذي يقول: الله أكبار ويمد أخطأ خطأً فادحاً، وغير المعنى، وإن قصد ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- فهو متعرض للوعيد الشديد، فلا بد أن يتقن الإنسان النطق بها، يقول: الله أكبر، ولا يقول: آلله كما يفعل بعض الناس بصيغة الاستفهام، يقول: الله أكبر، وإذا أتى بتكبيرة الإحرام ونوى معناها واستشعر أنه ينطق بهذا اللفظ الذي يدل على عظمة الله وجلاله وإقراره هو بذلك فهذا هو تحريم الصلاة وافتتاحها، وهو بذلك قد دخل حريم الصلاة.

    دعاء الاستفتاح وآدابه

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد التكبير: ( الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً ) ، وكان يقول في بعض الأحيان أيضاً: ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ) ، وكان يقول أيضاً في سكوته بعد تكبيرة الإحرام: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من الخطايا بالماء والثلج والبرد )، وهذا الذكر الذي يسمى دعاء الاستفتاح يحضر الإنسان به نفسه للمناجاة، فإنه عاجز عن خطاب الله بما هو أهله من الثناء، فيستعين بدعاء الله على مناجاته، فيسأله بين يديه أن يعينه على مناجاته على الوجه الصحيح، فلذلك هو بتكبيره لله عز وجل يثني عليه بعده، وسكوته بعد التكبير قليلاً لرد النفس وللتأهب لقراءة الفاتحة، وهو أيضاً معين له على الخشوع في قراءتها.

    قراءة الفاتحة وآدابها وتفسير بعض معانيها

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ الفاتحة يقف عند كل آية منها، فالوقوف على رأس كل آية من آيات الفاتحة مما يعين على الخشوع، وبالأخص إذا تذكر الإنسان أن ربه سبحانه وتعالى يجيبه عن كل آية منها.

    فقد أخرج مسلم في الصحيح، و مالك في الموطأ، وأصحاب السنن، وأخرجه البخاري كذلك في القراءة خلف الإمام ولم يخرجه في الصحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال العبد: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) .

    فإذا كان الإنسان يقف عند رأس كل آية ينتظر جواب الله عز وجل فهذا مما يعينه على الإمساك بقلبه حتى لا يذهب به الشيطان، يقف عند كل آية ينتظر الجواب، وبهذا يستحضر معنى هذه الخطبة العظيمة التي هي أعظم سورة في كتاب الله، تضمنت كل معارف القرآن وعلومه، وهيأنا الله سبحانه وتعالى بها لمناجاته، فإن العبد إذا وقف بين يدي خالقه سبحانه وتعالى لا يدري ماذا يقول؛ لأن ثناءه لا يبلغ ثناء الخالق سبحانه وتعالى، فقد كان الناس يحيون الملوك، وكل ملك يتخذ لنفسه تحية، فمنهم من يحيا فيقال: أبيت اللعن، ومنهم من يقال له: عم صباحاً.. إلى غير ذلك، وأنت تعلم أن التحيات لله، فلا يمكن أن تدعو له بشيء منها؛ لأنه هو الذي يجزئها وهو الذي يعطيها لمن شاء، فكيف تناجيه وكيف تكلمه؟ أنعم عليك بأن علمك هذه الخطوة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وافتتحها بالثناء على نفسه، ثم بعد ذلك جعل أواسطها في إقرارك له بالعبودية، واستعانتك له على أداء ما افترض عليك، ثم ختمها بعد ذلك بسؤالك أنت لما أنت محتاج إليه من الهداية، وهذه الفاتحة سميت في هذا الحديث بالصلاة، فهي الصلاة بكاملها إذا أتقنها الإنسان حصل له الخشوع المطلوب في الصلاة، فإن الخشوع روح الصلاة، والأركان الظاهرة هي جسم الصلاة، فلا خير في جسم لا روح فيه، الجسم الذي لا روح فيه ميت، فلذلك تحتاج إلى هذا الخشوع الذي هو روح الصلاة، وإنما يأتي هذا الخشوع باستحضار هذه المعاني، فإذا قلت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فقد حمدت الله وميزته وأثنيت عليه بما هو أهله، وكذلك إذا أثنيت عليه برحمته فقلت: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] فقد أثنيت عليه كذلك ثم تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] فعبادتنا كلها لك، ولا نشرك معك أحداً، ثم تقول: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: لا نستعين بأحد سواك، ومعنى ذلك: أننا نستعين بك على جميع أمورنا ومنها عبادتك، فلا عون للإنسان على طاعة الله واجتناب ما حرم الله عليه وامتثال ما أمره به إلا بعون الله له على ذلك، فإذا أعانه الله على ذلك حقق المراد، وإن لم يعنه فإن أول ما يجني عليه من ذلك اجتهاده هو، كما قال الحكيم:

    إذا كان عون الله للمرء صاحباً تهيأ له من كل صعب مراده

    وإن لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

    فبعد ذلك تذكر حوائجك، وأهم حاجة تسألها هي الهداية، والهداية قسمان: هداية توفيق وهداية إرشاد، فهداية التوفيق أن تسأله أن يأخذ بناصيتك إلى ما يريد منك، أن يأخذ بناصيتك إلى الخير.

    وهداية الإرشاد تحصل بمجرد إقامة الحجة ببعث الرسل، وبتعليم الإنسان ما أمر به، والمقصود هنا بالدعاء هداية التوفيق لا هداية الإرشاد فتقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهنا لم ينسب هذا الصراط لأحد بل وصفه بالاستقامة ليعلم أن الحق يعرف بالحق، ولا يعرف بالرجال، وأن الرجال يعرفون بالحق فلو قال: (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم) لكان هذا الصراط منسوب إلى الذين أنعم الله عليهم فعرف بهم، فلم يقل ذلك وإنما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

    ثم بعد أن عرفنا الحق وعرفنا الصراط المستقيم قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، فعرفهم هم بانتسابهم إلى هذا الصراط، ولم يعرف الصراط بهم، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، وهذه هي نكتة التكرار في هذه الآية، فالفاتحة ليس فيها تكرار إلا في هذا الموطن وحده اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، ونكتة التكرار النكتة البلاغية في التكرار هنا أنه لو قال في البداية: (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم) لظن الناس أن الحق يعرف بالرجال، فإن رأوا من يعجبون به على ذلك الطريق التزموه، وإن لم يروه عليه تركوه، فأهمل ذلك وقضى على هذا التصور بالكلية فقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، ثم بعد ذلك قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، والمغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    التأمين وآدابه

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته كلها يقرأ قراءةً متأنيةً ليس فيها هذرمة ولا تمطيط، فيمكن أن تعد كلماته من خلال القراءة كما قالت أم سلمة رضي الله عنها، وكان يقول بعدها: ( آمين، وقال: ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين ) ، فآمين إذا قالها المؤمنون جميعاً واتفقوا فيها فإن اليهود يحسدونهم على ذلك؛ لأنهم لا يريدون أن يجتمع المسلمون على أمر يتفق فيه الإمام والمأموم وكل الناس يستوون فيه، ( فما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين ) ، وآمين تقولها الملائكة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السماء: ( إذا قال الإمام: ولا الضالين، قالت الملائكة في السماء: آمين، فمن صادف تأمينه تأمين الملائكة غفر له ) .

    فعلى الإنسان أن يؤمن وأن يمد بها صوته حتى يصادف تأمينه تأمين الملائكة، سواءً جهر بها أو أسر، فلا حرج في ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أمن بعد الفاتحة، فإذا أمن الإمام جهراً فعلى المأمومين أن يتأخروا حتى يقولها، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فإذا قال: آمين فقولوها ) ، فكل ذلك ثابت عنه أن يكون تأمين المأمومين بعد (ولا الضالين) وأن يكون بعد (آمين)، فإذا جهر الإمام بـ (آمين) تأخر المأمومون حتى يتمها ثم يؤمنون أيضاً، وإذا لم يجهر بها أمنوا بعد قوله: (ولا الضالين).

    القراءة بعد الفاتحة وآدابها

    وهنا بعد الفاتحة يأتي الإنسان بسورة أخرى من كتاب الله يقرؤها، وهي تختلف باختلاف الصلوات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل السورة في صلاة الصبح عوناً للناس على إدراك الركعة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رتلها تأثر الناس بها وبكوا من قراءته، وكثير منهم يحفظ سور القرآن معه من قراءته يحفظونها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ومن في خلفائه الراشدين، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقرأ في صلاة الصبح بالبقرة وآل عمران قراءةً بطيئة، فيقال له: كادت الشمس تطلع، فيقول: لو طلعت ما وجدتنا غافلين. وكان عمر كثيراً ما يقرأ كذلك في صلاة الصبح بسورة التوبة وسورة يونس، وكذلك كان عثمان رضي الله عنه يقرأ في الصبح كثيراً بسورة يوسف، وقد أخرج مالك في الموطأ عن الفرافصة قال: ما حفظت سورة يوسف إلا من كثرة قراءة عثمان لها في الصبح.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة كثيراً ما يقرأ بسورة (الم) السجدة وسورة الإنسان.

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم في أغلب الأحيان يتم السورة وقد لا يتمها، لكن إذا قرأ بعد الفاتحة يبتدئ من مقدمة السورة، إلا أنه في مرة من المرات صلى صلاة المغرب بطول الطوليين يقسمها بين الركعتين، أي: بسورة الأعراف يقسمها بين الركعتين، فاستأنف بعد الفاتحة بوسط السورة، ولم يكن يكثر ذلك، فلم يكن يفتتح بعد الفاتحة إلا برأس سورة من القرآن، لكنه قد لا يكملها كما حصل له عندما قرأ سورة المؤمنون، فلما بلغ ذكر موسى و هارون أخذه سعلة فركع صلى الله عليه وسلم.

    وفي القراءة ينبغي التدبر لمعاني القرآن، والاتعاظ بما فيه من المواعظ، وعرض هذا القرآن على النفس، فإن طريقة القراءة أن يعرض الإنسان نفسه على القرآن، فالأذن تستمع إلى اللسان، والقلب يستمع إلى الأذن، فإن وجدت أمراً عرضته على نفسك هل أنت مطيع لهذا الأمر؟ فهي نعمة تستحق الشكر فبادر بالشكر، أو أنت عاص لهذا الأمر؟ فهي معصية تستحق التوبة فتبادر إلى التوبة، وكذلك إذا جاء نهي عرضت عليه نفسك، فإن كانت النفس مجتنبةً لذلك النهي فهي نعمة تستحق الشكر، وإن كانت النفس غير مجتنبة له فهي معصية لا بد فيها من المبادرة بالتوبة، وهكذا حتى يكمل الإنسان قراءته، وهنا ينبغي للإنسان في تدبره للقرآن أن لا يمله، وأن يعلم أنه كلام الله عز وجل، وبقدر محبته لله تكون محبته لكلامه، فالذين يملون سماع القرآن لم يتدبروه ونبا عن قلوبهم وختم على قلوبهم، أما الذين لا يملون سماعه، ولا يشبعون منه، وإذا سمعوه ازداد حسناً في آذانهم، وازداد فهمهم له وتدبرهم له وإعجابهم به فهؤلاء هم المؤمنون الذين يفرحون بالقرآن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح به فرحاً شديداً، وفي ذلك أنزل الله تعالى في سورة يونس: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

    صفة التكبير ورفع اليدين وآدابهما

    ثم بعد ذلك ينحط الإنسان للركوع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه، فعند تكبيرة الإحرام يرفعهما حذو أذنيه أو حتى يبلغ بهما فروع أذنيه..

    وبالنسبة للسكوت الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو بعد تكبيرة الإحرام قبل الفاتحة، لكن ثبت عن عدد من أصحابه السكوت بعد الفاتحة، والسكوت أيضاً بعد قراءة السورة، ولم يثبت ذلك بأسانيد صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أصحابه لم يكونوا ليفعلوا هذا الأمر إلا إذا كانوا رأوه يفعله، وهو من التعاون على البر والتقوى؛ لأنه معين للمأموم كذلك على قراءة الفاتحة، وقد صح عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال: إن للإمام ثلاث سكتات، فاجتهد أن تكمل فيهن الفاتحة.

    ثم إذا رفع يديه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفعهما حذو أذنيه، فلرفع اليدين ثلاث صور:

    الصورة الأولى: أن يكون كالنابذ ينبذ الدنيا وراء ظهره، فيخرج من الدنيا متجرداً في رحلته إلى الملك الديان سبحانه وتعالى.

    الصورة الثانية: أن يكون كالراغب وهو الذي يسأل فيجعل بطون يديه إلى السماء.

    والصورة الثالثة: أن يكون كالراهب وهو الذي يجعل ظهورهما إلى السماء، لكن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو سورة النابذ وهو أن يجعل رءوسهما إلى السماء ينبذ الدنيا وراء ظهره.

    أما ما بعد تكبيرة الإحرام من التكبيرات فلم يبلغ بهما حذو أذنيه وإنما كان يرفعهما إلى حول منكبيه أو ثدييه، فليس الرفع بعد تكبيرة الإحرام كالرفع في وقت تكبيرة الإحرام، وقد كان ينحط للركوع انحطاطاً سهلاً، ويسوي ظهره فيه حتى لو وضع عليه كوز ماء لم تقطر منه قطرة، وقد كان ركوعه قريباً من قيامه، فكان الركوع أقل قليلاً من القيام، لكنه قريب منه، فإن أطال القراءة أطال الركوع، والاعتدال في الركوع من تمام الصلاة، فلا صلاة لمن لم يسوي ظهره في الركوع، وهذا الاعتدال المطلوب فيه يقتضي من الإنسان نصب الركبتين كما ينصبهما في القيام، فلا بد أن ينصب الإنسان ركبتيه، وأن لا يبرزهما، وأن لا يثني منهما أي شيء، بل يترك ركبتيه قائمتين كما كان في حال القيام، ثم إذا ركع مد ظهره تماماً حتى يحصل التساوي فيه، ثم يمد لحيته مع رقبته ليستوي ظهره كله من بدايته من الرأس إلى نهايته، فإن من رفع رأسه هكذا لا يمكن أن يستوي ظهره، فلا بد من حصول مد الظهر بهذه الطريقة، هكذا الإنسان كان قائماً معتدلاً، فيثني ظهره أقصد يحصره، ثم يمد ظهره إلى الأمام حتى يحصل له التساوي، فلا يطأطئ رأسه أخفض من ظهره، ولا يرفعه كذلك، فإن فعل هكذا لم يكن معتدلاً، وإن فعل هكذا لم يكن معتدلاً، وإنما يكون معتدلاً إذا كان هكذا فكان الرأس مؤخرته مع الرقبة مع الظهر بالاعتدال والتساوي، وهذا لا بد أن يتعلمه الإنسان وأن يتعود عليه، ويمكن أن يظن كثير منا أنه يركع ركوعاً معتدلاً، لكنه إذا لم يكن عرضه على غيره فإنه لا يكون ركوعه صحيحاً؛ ولهذا كان من هدي السلف الصالح أنه كان الرجل يسافر إلى أحد العلماء ليريه هيئات الصلاة، فيركع أمامه فيقول له: زد هنا، وارفع هنا، حتى يعتدل ركوعه تماماً، فلذلك ينبغي لكل واحد منا أن يسأل إخوانه وأن يركع أمامهم: هل اعتدل في الركوع أم لا؟ حتى نتعود على ذلك، وأن نعلم أن الأمر إنما ينال بالرياضة والتدريب.

    أذكار الركوع

    وكذلك فإنه كان صلى الله عليه وسلم في الركوع يذكر أذكاراً مختلفة، فكان تارةً يقول: ( سبحانك ربي وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك ) ، وكان يقول فيه كذلك: ( سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم ) ، وكان يقول فيه: ( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ) ، والركوع كله لتعظيم الرب عز وجل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه لأنفسكم بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) ، وقال: ( نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ) ، والاستغفار وإن كان من الدعاء إلا أنه أيضاً تعظيم لله، فلهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في الركوع: ( اللهم اغفر لي ) ، فالاستغفار فيه تعظيم، فليس هو من الدعاء المحض، بل فيه تعظيم أيضاً؛ فلذلك يجوز الاستغفار في الركوع، وكان صلى الله عليه وسلم يلقم يديه ركبتيه، ويفرق أصابعه إذا ركع، فيمكن اليدين من ركبتيه، ويفرق أصابعه ليكون ذلك أكمل لثبات اليدين على الركبتين.

    صفة الرفع من الركوع وآدابه

    ثم إذا رفع من ركوعه رفع باستواء كذلك حتى ترجع الأعضاء إلى محالها، ويستوي قائماً، ويقول في الرفع من الركوع: ( سمع الله لمن حمده ) ، وكان يقول بعد أن يقف: ( ربنا ولك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) .

    وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً يقر من أثنى على الله بلفظ غير هذا، ( فقد سمع رجلاً من الأنصار يقول بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ) ، زاد النسائي : ( كما يحب ربنا ويرضى ) ، وهذا الحديث كذلك في الصحيحين والسنن، ( فقال: من القائل؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: لقد رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرون كتابتها ) ، فهذا إقرار منه لهذا الثناء.

    ثم قد كان في بعض الأحيان يطيل في الرفع من الركوع حتى يقال: هل سها؟ وما ذلك إلا للقنوت يدعو فيه للمسلمين، إن كان للمسلمين غزو أو جيش، أو حصلت نازلة من النوازل يدعو لهم في الرفع من الركوع.

    صفة السجود وأذكاره وآدابه

    ثم بعد هذا ينحط للسجود فيكبر له، ويكبر في انحطاطه صلى الله عليه وسلم، وقال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين ) ، فهذه هي أعضاء السجود التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد عليها، فكان يمكن جبهته من الأرض، ويباشر بجبهته وأنفه الأرض، ويبسط يديه ويجعلهما حذو أذنيه، وكان يجافي بضبعيه عن جنبيه، فلا يبسط ضبعيه بجنبيه بل يجافي حتى يرى بياض إبطيه، وكانت المجافاة أيضاً متوسطةً، فالمجافاة الشديدة التي تنصرف فيها اليدان عن جهة القبلة لم يكن يفعلها، بل يجعل يديه إلى جهة القبلة، ويجافي بضبعيه وهما ذراعاه عن جنبيه، أي: عن ضلوعه، وكذلك كان يبعد بطنه عن فخذيه، وكان صلى الله عليه وسلم ينصب فخذيه أي: يجعل الركبتين إلى الأرض بنصب الفخذين، فلا يجعلهما مائلتين إلى الإمام ولا إلى الخلف بل ينصبهما نصباً، وينصب قدميه فيجعل أصابع الرجلين إلى الأرض، فهذه هيئة السجود، وكان يقول في سجوده: ( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) ، وقال: ( من قال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه وذلك أدناه، ومن قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فقد تم سجوده وذلك أدناه ) ، وكان يجعل السجود قريباً من الركوع، وكان يكثر من الدعاء فيه، وقال مالك : أصح ما بلغني: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ) .

    فالدعاء في السجود يختلف باختلاف أحوال الإنسان وحاجاته طولاً وقصراً وكثرةً، ثم بعد هذا يجلس صلى الله عليه وسلم، والجلوس بين السجدتين ورد فيه عنه صلى الله عليه وسلم ثلاث هيئات:

    الهيئة الأولى: هي أن يفترش رجله اليسرى، فيجعلها تحت إليته اليسرى، وينصب رجله اليمنى ويجعل أصابعها إلى الأرض مستقبلاً بها القبلة، ويجعل يديه على فخذيه مبسوطتين، ولا يفرق بين أصابعه، فهذه هي الهيئة التي كثرت روايتها عنه صلى الله عليه وسلم في الجلسة بين السجدتين.

    الصورة الثانية: أن ينصب رجليه معاً، ويجعل أصابعهما إلى جهة القبلة، ويجلس على عقبيهما، وهذه هي التي تسمى بالإقعاء، وقد روي عنه أيضاً أنه كان يفعلها.

    والصورة الثالثة: أن يفترش رجليه معاً، فيصرف رجله اليسرى إلى اليمين، ورجله اليمنى إلى اليسار، ويجلس عليهما بافتراش، فقد كان يفعل ذلك أيضاً في بعض الأحيان، لكن أشهر ذلك هو الصورة الأولى أن يفترش رجله اليسرى، وأن ينصب رجله اليمنى ويجعل أصابعها إلى الأرض.

    صفة الجلوس بين السجدتين وأذكاره وآدابه

    وقد كان يقول في الجلوس بين السجدتين بعد التكبير: ( ربي اغفر لي، ربي اغفر لي، ربي اغفر لي ) ، وكان يقول فيه أيضاً: ( اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واسترني، واجبرني، وارزقني، واعف عني، وعافني، وارفعني ) ، هذه تسع كلمات تارةً يدعو منها بخمس، وتارةً يدعو بسبع، وتارةً يدعو بتسع، لكن آخرها تسع، ( اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واسترني، واجبرني، وارزقني، واعف عني، وعافني، وارفعني ) ، هذه التسع آخر ما بلغ بين السجدتين، لكنه كان تارةً يختصر منها على خمس، وتارةً على سبع، وتارةً يكمل التسع، ثم بعد هذا يسجد السجدة الثانية وهي دون الأولى، ولم يكن يطيل كثيراً بين السجدتين، الجلوس بين السجدتين لم يكن يطيله، وهذه السجدة الثانية يفعل فيها ما فعل في الأولى، وبهذا تتم ركعة تامة من صلاته، وهذه الركعة هي مثل غيرها يقاس عليها غيرها من الركعات، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يركد في الركعتين الأوليين، أي: يطيل الأركان في الركعتين الأوليين، ويخف في الركعتين الأخريين، وكان ركوعه وسجوده أطول من رفعه منهما، فالركوع أطول من الرفع من الركوع، والسجود أطول من الرفع من السجود، ولذلك قال أنس رضي الله عنهما: ( ما صليت وراء أحد أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يقصد عمر بن عبد العزيز - كان يطيل الركوع والسجود، ويقصر القيام والجلوس ) .

    وكذلك في الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال: ( والله إني لأصلي لهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أركد في الأوليين، وأخف في الأخريين ) ؛ وذلك لأن الأوليين فيهما سورة في القيام والأخريان ليس فيهما سورة، وإن كانت فيهما سورة كانت أقصر من الأولى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما جهر بالآية أو الآيتين في السرية ليسمع الناس السورة التي يقرأ بها، وكان كذلك صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر يقرأ في بعض الأحيان بالفاتحة وثلاثين آيةً بعدها كسورة الملك، ثم في الركعة الثانية كذلك بالفاتحة وثلاثين آية، ثم في الركعة الثالثة بالفاتحة وخمس عشرة آية، ثم في الركعة الرابعة بالفاتحة وخمس عشرة آية، وفي العصر يقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة وخمس عشرة آية، وفي الثانية كذلك بالفاتحة وخمس عشرة آية، وفي الثالثة بالفاتحة وسبع آيات، وفي الرابعة بالفاتحة وسبع آيات، وسواءً اقتصر الإنسان على الفاتحة وحدها في الأخريين، أو أضاف إليها لا بد أن يكون ذلك أقل من الركعتين الأوليين، والركعتان الأخريان لا تكونان على قدر الأوليين.

    صفة جلوس التشهد وأذكاره وآدابه

    ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد الركعتين كان يجلس جلوسه للتشهد، فإن كانت الصلاة رباعيةً أو ثلاثيةً فهو الجلوس الأوسط، وإن كانت ثنائيةً فهو جلوس السلام، وهذا الجلوس مثل الجلوس بين السجدتين، يجلس فيه الإنسان مفترشاً أي: يفترش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وأصابعها إلى الأرض كما بينا، وكان يتشهد فيه بالتشهد الذي كان يعلمه الناس كما يعلمهم السورة من القرآن، وقد روي عنه في التشهد هيئات كثيرة، ومن أصحها حديث ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في التشهد الذي علمهم: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) .

    وكذلك تشهد ابن عباس وهو قريب من هذا: التحيات لله والطيبات والصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وكذلك تشهد عمر الذي كان يعلمه الناس على المنبر وهو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    والتحيات جمع تحية وهي من أصل الحياة ومنه قول الشاعر:

    أبني إن أهلك فإني قد بنيت لكم بنية

    وتركتكم أبناء سادات زنادكم وريه

    من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية

    أي: إلا التعمير والبقاء، وتطلق التحية كذلك على ما يحيا به الإنسان ويخاطب به عند قدومه، وهذا المقصود هنا، والتحيات لا تمد، لا يقال: التاحيات كما يفعله العوام، فهو لحن فيقول الإنسان: التحيات -جمع تحية- لله، فلا يمكن أن تحييه بشيء من التحيات التي هي له، وإنما تحييه بما شرع لك.

    الصلاة على النبي وآله في التشهد وصيغها

    فإذا ذكرت هذا التشهد وأكملته فحينئذ يشرع لك أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صلى الله عليه وسلم عليه، وأخبر عن ملائكته بالصلاة عليه كذلك، وأمرنا أن نصلي عليه، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صلى علي مرةً صلى الله عليه بها عشراً ) ، فلذلك تصلي عليه في بداية الدعاء، وأفضل الصلاة عليه الصلاة الإبراهيمية التي علمها أصحابه كما في حديث كعب بن عجرة وحديث أنس ، وحديث عبادة بن الصامت وغيرهم، وقد جاءت الصلاة الإبراهيمية بألفاظ متقاربة، فمنها: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) .

    ومنها: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد ) .

    ومنها: ( اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد ) .

    فأية صيغة صلى بها الإنسان أجزأته من هذه الصلوات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ المصلي بالله من أربع، ( أن يستعيذ بالله من فتنة القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المسيح الدجال ، ومن فتنة المحيا والممات ) ، يستعيذ بالله من أربع؛ وذلك أنها أعظم الفتن التي يتعرض لها الإنسان، فيستعيذ بالله منها لينجو من الفتن كلها.

    صفة التشهد الأوسط وأذكاره وصفة القيام منه

    وفي التشهد الأوسط يقتصر الإنسان على التشهد ولا يدعو بعده، واختلف في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأوسط، ولم يرو في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوجبها الحنابلة، ورآها غيرهم مندوبةً، ومنهم من لا يراها مشروعةً أصلاً في التشهد الأوسط، وإنما يرى الاقتصار فيه على (عبده ورسوله).

    ثم بعد هذا يقوم فإن شاء كبر في الانتقال إلى القيام من الجلوس الأوسط، وإن شاء ترك التكبير حتى يستقل قائماً فيكبر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع من الجلسة يعتمد على يديه، وهذا الاعتماد ورد فيه ثلاث صيغ:

    الصورة الأولى: أن يضعهما على فخذيه قرب ركبتيه، فيعتمد عليهما في القيام.

    والصورة الثانية: أن يفعلهما على موضع سجوده أو أمامه فيضعهما على الأرض ويعتمد عليهما وبطونهما إلى الأرض.

    الصورة الثالثة: أن يعزل بهما، أن يقبضهما كالقبضتين ويعزل بهما على الأرض، وحديث العزل لم يصل إلى درجة الصحة، لكنه قد اشتهر بين الناس، فإذا قام فإنه أيضاً تارةً يرفع يديه مع التكبير في حال القيام، وتارةً يرفع يديه وهو جالس، وتارةً يرفعهما عند استوائه قائماً، ولا حرج في ذلك فهذا الرفع للتكبير من الجلوس للإنسان فيه اختيار إن شاء فعله مع التكبير، وإن شاء فعله بعد الاستقلال قائماً، ويفعل في الركعتين الأخريين ما بينا، وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد خمس هيئات في اليدين: في اليد اليمنى وهيئتان في اليد اليسرى، فالهيئات الخمس في اليمنى أنه كان يجعل يده اليمنى على فخذه اليمنى، فيقبض هاتين الإصبعين الخنصر والبنصر، ويحلق بهاتين أن يجعلهما حلقةً هكذا، ويمد المسبحة وهي السبابة، ويضعها على فخذه هكذا، ويشير بها يشير بالمسبحة، هذه الإشارة اختلف: هل هي تحريك دائم كما جاء ذلك من حديث زائدة بن قدامة ، وقد جاء لفظ الإشارة في الصحيح، والإشارة هي الإشارة في التشهد، أو الإشارة في الدعاء، فهذه المسبحة يدعى بها، مثلما تدعو بيديك معاً تدعو كذلك بالمسبحة وحدها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة إذا وقف على المنبر لا يرفع يديه في الدعاء إلا بالاستسقاء وحده، لكنه يرفع إصبعه في الدعاء، يسبح بها وحدها يرفعها في الدعاء، وكذلك كان أصحابه يفعلون يدعون بها، والناس اليوم قل فيهم من يدعو بمسبحته، كثير منهم من يدعو بيديه معاً لكن قليل من يدعون بالمسبحة، وهي سنة ينبغي للإنسان أن يتعود عليها.

    ويروى عن قتيبة بن مسلم -وهو من قادة بني أمية أنه حين لقي الترك وكان في جيشه محمد بن واسع فجعل يكثر السؤال عنه، فأخبر أنه في ناحية من الجيش متكئاً على سية قوسه رافعاً إصبعه إلى السماء ينضنض بها، فقال قتيبة : لأصبعه تلك أحب إلي من عشرة آلاف سيف.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755977463