إسلام ويب

مظاهر الحرب على الإسلامللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يجعل الله الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، وإذا كان من شأن الكفار محاربة الإسلام فإن المتأخرين منهم أشد حرصاً وأكثر دهاءً وتوظيفاً لكل الوسائل في محاربة المسلمين، أما مظاهر الحرب على الإسلام فهي أكثر من أن تحصى، وأما ما يجب على المسلمين فهو الوقوف لأعدائهم بكل سبيل.

    1.   

    الصراع بين الحق والباطل

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى هو القوي المتين: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقد أراد بحكمته البالغة أن يجعل هذه الدنيا مسرحاً للتعارض بين الحق والباطل، فهي كلها مسرح لهذا الصراع الأبدي المستمر الذي لو شاء الله لم يقع، ولو شاء كذلك لحسمه بإرادة وقوته، فلا معقب لحكمه، ولكنه أراد أن تبقى هذه الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    الحكمة من الصراع بين الحق والباطل

    وقد بين أن هذا الصراع لو توقف لحظة لفسدت الأرض، فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، وذلك أن حياة الناس على الأرض حياة عمل ولا جزاء، وحياتهم في الآخرة حياة جزاء ولا عمل، فإذا توقف العمل على هذه الأرض فقد فسدت؛ لأن الحكمة التي من أجلها خلقت وعليها بنيت لم تبقَ موجودة.

    فلذلك لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل صولة، لا ستحق أهل الأرض أن ينقلوا إلى الجنة، وإلى الجزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبقَ للحق صوت كذلك لا ستحق أهل الأرض سخط الله عز وجل الأكبر، الذي يقوض الدنيا، وقد قال سبحانه وتعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

    لذلك فليس مستنكراً ولا غريباً أن يتألب أهل الباطل على الحق، وأن يسعوا إلى مضايقته وتقويضه بما يستطيعون، لكن المستنكر الغريب أن يتراجع أهل الحق عن تحمل مسؤولياتهم في مقابل ما يقدمه أهل الباطل، فتراجع أهل الحق ليس له أي مبرر، فهم يعملون أن النتيجة حتمية، وهي محسومة لصالحهم، وهم يعلمون كذلك أن ما هم عليه هو الحق الذي لا غبار عليه، وهم يقتنعون به، ويدينون به، وهم يعملون كذلك أن ما يصيب أهل الباطل في سبيل باطلهم، زيادة وبال ونكال عليهم، وأن ما يصيب أهل الحق في سبيل حقهم رفع لدرجاتهم وتكفير لسيئاتهم ولا يضرهم شيئا، إن أهل الحق إذا راجعوا أنفسهم ومواقفهم وعرفوا أن ما هم عليه هو الذي من أجله خُلقوا، وهو الذي اختارهم الله له، واختاره لهم، وهو الذي ربط الله به رفع الدرجات في الدنيا والآخرة، وهو الذي علق عليه الثواب الجزيل والخير الكثير، وعلموا كذلك أن ما يصيبهم على سبيله وفي طريقه كله مكتوب محسوم من قبل، رفعت الأقلام وجفت الصحف عنه، فلا يمكن أن يصيب الإنسان أية مصيبة إلا وقد كتبت في سابق الأزل، كما قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23].

    رفع الدرجات بالابتلاء

    ومن هنا فإن الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم لم يضرهم ما حصل بأي نوع من أنواع الضرر، وما أحسوا من الموت إلا كوخز الإبر، وقد رضي الله عنهم وأرضاهم، فبلغوا ما يمكن من درجات الكمال، وكان قدوة وأسوة لأهل الدنيا كلها، وقد تحدث الله عن حاله في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

    وشهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذهب إلى أصحاب أحد قبل موته بثمانية أيام، فصلى عليهم وقال: إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه )، فإخوانهم الذين بقوا وراءهم، هل عاشوا إلى اليوم، وإن كان قد صار الأمر إلى أن يدركوهم في جنان النعيم، وأن يلحقوا بهم في ما نالوا من الخير والثواب، فلذلك لا يمكن أن يأسف أحد من الذين نالوا الشهادة في سبيل الله على ما حصل، ولا يمكن أن يندم على فراق شيء من هذه الحياة الدنيا.

    وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في كتابه إلى عدي بن عدي : إن للإسلام فرائض وسنناً وحدوداً، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، كذلك كل من نال الشهادة في سبيل الله ليس بحريص على صحبة الناس في هذه الحياة، ومن هنا فإن كيد أعداء الإسلام كلما ازداد واشتد، كلما رغب أهل الإيمان في التضحية في سبيل الله، وكلما أقدموا وزادوا تضحيةً وبذلاً وصدقاً مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعلمون أن وقت الشدة هو وقت الأرباح المضاعفة، فأنتم تعلمون أن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، قد فضلوا على بقية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى في محكم التنزيل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـخالد بن الوليد رضي الله عنه: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).

    فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه السابقين الأولين كعبد الرحمن بن عوف الذي كان هذا الحديث وارداً فيه، فإنه أسلم وجاهد وأنفق من قبل الفتح، ولذلك فضل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الطبقة على من بعدها من أصحابه، فالخطاب هنا لـخالد بن الوليد وأصحابه من الذين أسلموا قبل فتح مكة، ولكنهم لم يشهدوا من الشدة ما شهده أصحاب عبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلهذا قال: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فمد من الشعير أو من التمر، ينفقه أحد السابقين الأولين، وأحد الذين أنفقوا من قبل الفتح، هو أرجح عند الله سبحانه وتعالى من مثل جبل أحد من الذهب، لو أنفقه أحدنا من الذين لم ينفقوا ولم يجاهدوا من قبل الفتح، فإذاً هي فرصة عظيمة أن يشهد الإنسان هذا الحال الذي نحن فيه، حيث اشتدت المضايقة على دين الله، واشتد الضيق على أهل الإسلام، وتكالب أعداء الدين على أهل هذا الدين، فهذا فرصة يتيحها لله سبحانه وتعالى للباذلين المضحين الصادقين ليصدقوا الله ما عاهدوه عليه، وليدركوا الذين سبقوهم، فأولئك السابقون لا وسيلة لإدراك ما قدموا، ولا يمكن أن يدرك ما بذلوا، إلا إذا كان الإنسان في وقت السوق المضاعفة كحال الإسلام اليوم.

    مضاعفة العمل في هذا الزمان

    فهذا الوقت يضاعف فيه العمل بأضعاف مضاعفة لا يمكن أن تخطر على قلب أحد، ومن هنا كان البذل فيه فرصة نادرة، ويوشك أن تتغير فأحوال الدنيا لا تدوم، والضيق الذي يشهده أهل الإيمان سرعان ما يزول، فكل ذلك بتقليب أمر الله سبحانه وتعالى، يقلب الأمر بين الكاف والنون، فإذا أراد امتحان عباده المؤمنين واختبارهم جاء بالضيق، وإذا نجحوا وصدقوا رفعه فجاء بالسعة، وكل ذلك من أمره، له الحكمة البالغة: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    في زماننا هذا اشتد الكرب على أهل هذا الدين، وتكالب عليهم أعداؤهم، فلم يرضوا منهم إلا بأن يكونوا تابعين مذللين مخيسين، لا يستطيعون التفكير إلا فيما يفكر فيه أعداء الدين، ولا يستطيعون القناعة والاعتقاد إلا بما يعتقده أعداء الدين، ولا يستطيعون العمل بأي وجه من أوجه العمل إلا بما يحسن لدى أعداء الدين، ومظاهر هذا واضحة للعيان، فكل يوم يشاهد كثير من هذه المظاهر، يظن كثير من البلهاء المغفلين أن الغربيين يدينون بحرية الاعتقاد والتفكير، وأنهم ليسوا أعداء للدين بأصله، وإنما يحرصون على مصالحهم ويريدون تحقيق أغراضهم الدنيوية، وهذا التصور باطل، والواقع يكذبه، فكل يوم من أيامنا هذه نشهد تكذيباً له بما لا يدع مجالاً للشك، فالذين يظنون أن الحرب التي قامت في هذا العام وسابقه وما زالت تدو رحاها الآن في العراق، كانت حرباً من أجل المصالح ومن أجل النفط، كاذبون في تصورهم، وقد سبقتها حرب أخرى في أفغانستان أعلن فيها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقائد النظام العالمي الجديد، أنها حرب صليبية، وهو يعي ما يقول، فإذا أعلن أن الحرب صليبية فمعناه: أنه يرتبط بتاريخ مضى، كان الصليبيون فيه يريدون تقويض الإسلام وإزالة دولته، وقد خرجت حملاتهم لذلك من أوروبا كلها، وغزوا بلاد الإسلام واحتلوا بيت المقدس، وعاثوا في الأرض فساداً، واحتلوا كثيراً من أطراف مصر كالإسكندرية ودمياطـ، وهدموا كثيراً من مدن الشام، واحتلوا بعضها وما زالت بقاياهم إلى الآن في بعض مدن الشام التي احتلوها، فنصارى الشام الموجودين الآن في لبنان وفي سوريا وفي فلسطين كثير منهم هم من بقايا الصليبيين الغازين، فإن النصارى الذين كانوا في الشام عند الفتح، دخل كثير منهم في الإسلام، ولم يبقَ هناك من ذرياتهم على دينهم المحرف المبدل أحد، بل بادروا للدخول في الإسلام لما رأوا به من حسن معاملة المسلمين، ولما اقتنعوا به من أمور هذا الدين المقنعة، ولذلك فإن والياً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه: إن بيت المال قد أفلس؛ لأن أهل الجزية قد أسلموا، فقلب عمر الورقة وكتب عليها ويلك إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابيا، فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي لهداية الناس، لا الجباية منهم، لهذا قال: ويلك إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً.

    1.   

    مظاهر الحرب على الإسلام والمسلمين

    أما الذين ينتشرون الآن في بلاد الشام من النصارى فما هم إلا من بقايا الغزاة الوافدين الذين جاءت بهم الحملات الصليبية، فاستقروا في تلك البلاد، ووقع الصلح معهم على بعض الأمصار، كعكة وغيرها من الأمصار التي بقيت تحت أيدي النصارى وبقوا أكثرية فيها إلى وقتنا هذا، وعندما جاء الفاتحون وانهزمت أمامهم الحملات الصليبية، حافظوا على العهد الذي أبرم مع أولئك النصارى وعاملوهم المعاملة الحسنة، ولم يضايقوهم بأي نوع من أنواع المضايقة.

    احتلال بلاد المسلمين

    عندما جاءت الحملة الصليبية الماضية التي ظهرت فما يسمى بالاستعمار، واجتاحت البلاد الإسلامية على حين غفلة من المسلمين، وعلى حين ضعف وتراجع في الدعوة وانحسار للعلم في وقت تكالب ملوك المسلمين على خيرات الأرض واتباعهم للشهوات، وغفلتهم عن مصالح العباد والبلاد، وانقطاعهم عن الدين، جاء المستعمرون فاحتلوا بلاد الإسلام وقطعوها إرباً إرباً، واستخرجوا ما فيها من الخيرات، ووزعوا هذه الخيرات أملاكاً بينهم، كما يسمونها تركة الرجل المريض، يقصدون به الدولة العثمانية، وبعد ذلك عندما أرادوا الانسحاب من بلاد المسلمين أخذوا جلة من أبناء المسلمين، فعلموهم بتعاليمهم وشحنوا أذهانهم بقوانينهم وتربيتهم، حتى كانوا لا ينظرون إلا بعين المستعمر، ولا يفكرون إلا بعقله، وقد سبقت إلى عقولهم حضارة المستعمر وبهروا بها، وانساقوا وراءها، فحالهم حال الشاعر إذ يقول:

    عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياَ فتمكن

    أو كحال الآخر الذي يقول:

    كلانا ناظر قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني

    فهم لا ينظرون إلا بعين المستعمر ولا يفكرون إلا بتفكيره، ولا يهتمون إلا بمصالحه، ومن هنا فالحضارة عندهم هي ما يعيش فيه الغربيون، والرفاه والرقي هو ما يعيش فيه الغربيون، إذا فكر حاكم منهم في مصالح بلاده يوماً من الإيام، لو قدر أن يقع ذلك، فلن يفكر إلا في الأمور الدنيوية، ولن يفكر إلا في الكازنوهات، والمراقص والملاعب، والأسواق، والفنادق؛ لأن هذا الحال هو ما انغمس فيه الغربيون وغرقوا فيه، فطلابهم وتلامذتهم يظنون أن الرفاه هو هكذا.

    صنع حكام للمسلمين بمواصفات غربية

    ومن هنا لا تستغربوا أن يكون حكام المسلمين الذين تربوا على أيدي الغربيين ودرسوا في مدارسهم وامتلأت أشربة قلوبهم بمحبتهم والولاء لهم، وامتلأت ذاكرتهم بتاريخ الغربيين، وحضارتهم وآدابهم، لا تستغربوا أن لا يدور أمر الآخرة في خلد أحد منهم، وأن لا يخطر على قلب أحد منهم أنه مسؤول عن أمر الدين، وأن لا يخطر على قلب أحد منهم أن يشهد المساجد وأن يتقدم للصلاة، وأن يخطب على المنبر كما كان أئمة المسلمين يفعلون، فإن رؤساء الغرب لا يفعلون هذا وهو يقتدي بهم في أمورهم.

    ومن هنا يذكر أن رئيساً من رؤساء العرب سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية فرأى أبواب البيت الأبيض الأمريكي، وهي من زجاج مكتوب عليها PUSH، معناها ادفع الباب، فظن أنه كتب عليها بوش اسم الرئيس، فلما رجع هو إلى بلاده، اتخذ قراراً بأن يكتب على كل أبواب قصره اسمه هو، فهذا التقليد الأعمى حقيقة لا يحتاج إلى التنكيت، وهو واقع، كذلك في نفوس ضعفة النفوس.

    محاربة الحجاب الشرعي في فرنسا

    ومن هنا فما تسمعون اليوم من تحريم فرنسا، وعلى لسان رئيسها لاتخاذ الفتيات المسلمات للحجاب الشرعي، وتغطية رؤوسهن في بلاد الحرية، كما يزعم لها، ما هو إلا مظهر من هذه المظاهر، فما الذي يهدد اقتصاد فرنسا، أو سياستها، أو مصالحها، لو غطت فتاة مسلمة شعر رأسها، ما علاقة هذا بمصالح فرنسا، هل هذا يهدد شيئاً من أمنها؟ إذاً ما فعلو ذلك إلا عداءً لهذا الدين ومظاهره؛ لأنه يريدون للمسلمين أن تكون قناعتهم تابعة لقناعة الغربيين، فلا يريدون أن تكون لديهم أية قناعة ليست مستوردة من بلاد الكفر، فأي قناعة حتى لو لم يكن فيها أي ضرر بالمصالح الغربية، محرمة ومذمومة، ولا يمكن أن تقبل بوجه من الوجوه، وتصوروا لو أن بعض الفتيات الكافرات اتخذت موضة مثلاً بالعري المطلق، أو بما هو قريب منه كما يشهد في كل الاحيان، فهل سيمنعها قانون فرنسا من ذلك؟ لا يمنعها من ذلك أبدا، ومن هنا فإن نداءهم بالحرية يكال فيه بمكيالين، فالحرية إذا كانت ناشئةً عن أفكار الغربيين وتابعة لتقاليدهم وعاداتهم وأعرافهم، أو لقناعتهم أو أيديولوجياتهم، فهي محترمة، وإذا كانت ناشئةً عن فكر آخر، فهي غير محترمة ولا معتبرة.

    يبلغ عدد المسلمين في فرنسا أربعة ملايين، وهم أيضاً ليسوا كغيرهم من أفراد الشعب الذين فيهم من هو عالة على الدولة، فأكثر المسلمين في فرنسا من المنتجين إما من الاطباء وإما من المهندسين، وإما من الدكاترة والأستاذة في الجامعات، والمتخصصين في التخصصات النادرة، فلا يستقر هناك ولا يسمح له بالبقاء غالباً إلا من هو منتج، ترغب الدولة في استقراره لديها، ولذلك لاحظوا أن الطلاب الموريتانيين النابهين الأذكياء، إذا تخرج أحد منهم وهو يحمل الدكتوراه في أي تخصص نادر في فرنسا، أو في أمريكا أو في غيرها، لا بد أن تقام عليه الضغوط؛ من أجل الاستقرار والبقاء، وأن تفتح أمامه الأبواب ليستقر هنالك، وتعرض عليه العروض المغرية من أجل بقائه وتذليله في تلك البلاد، ومن هنا فإنهم يمنحون الجنسيات للمتفوقين، والموهوبين.

    فإذاً المسلمون المستقرون هنالك ليسوا من الغثاء، ولا هم من العالة الذين يتكففون الناس، وإنما هم من المنتجين من الأذكياء، إما من الدكاترة، أو المهندسين، أو غير ذلك من التخصصات المهمة، ومع ذلك لم يحترم لهؤلاء دينهم ولم يحترم لهم ما يعتقدونه ويقتنعون به، ولو لم يكن به أي ضرر لسيادة فرنسا، أو سياستها أو مصالحها، والحال كذلك بالنسبة لكل البلاد الغربية الأخرى، وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى اليوم لتدارك ما فاتها من قبل، من ولاء الشعوب.

    الهيمنة الأمريكية وازدواج المعايير

    الأمريكان وجدوا أنفسهم في مؤخرة الركب فيما يتعلق بالسيطرة على الشعوب، وظلمها واضطهادها، فقد وجدوا أن أوروبا تحتل كثيراً من بلاد العالم، وقد نشرت مدارسها وثقافتها ومقرراتها وقوانينها في هذه البلاد، فأصبحت تلك البلاد أجزاءً منها سواءً نالت استقلالها المزيف، أولم تنله، وأنتم تعرفون أن الدستور الفرنسي في الجمهورية الخامسة كان يتضمن أن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا ، فأرادت أمريكا أن تدرك ما سبق إليه الغربيون الآخرون من الأوروبيين، فأرادت من جديد أن يكون لها مستعمرات، وأن تكون لها بلاد تابعة لسيطرتها، ونفوذها المباشر، عرفت أن ما كانت تناله من الكسب المادي من خلال سيطرتها على العالم كشريك، ورأس ثان في مقابل الاتحاد السوفيتي، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لا بد أن يتغير، وأصبحت المطامع أكبر من ذي قبل، فقد كانت المطامع أيام الحرب الباردة، هي مجرد أن تقام أنظمة دائرة في فلك أمريكا ومحققة لمصالحها، وتكفل لها وتضمن لها مصالحها، وأما اليوم وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فلم يعد ذلك مقنعاً ولا كافياً لدى الولايات المتحدة الأمريكية، بل أصبح ساستها يفكرون في ابتلاع العالم جميعاَ، وبناء القواعد العسكرية في أنحاء المعمورة، والسيطرة عليها بغزوها المباشر، ولا يخلو بلد من هذا إلا إذا كان ذلك البلد غير مرغوب فيه لذاته.

    ومن هنا فهم يريدون في كل بلد ظهرت فيه بوادر للنفط، أو ظهرت فيه بوادر أي معدن آخر من المعادن الثمينة أن تستقر فيه قوة عسكرية ضاربة مباشرة للولايات المتحدة الأمريكية، ويريدون كذلك استيعاب المحيطات والبحار بحاملات الطائرات التي هي قواعد متكاملة، ومن هنا سيكون الطرف المقابل، والطرف الذي يريد مصلحة في مقابل هذا ضعيف المقام، يفاوض من أدنى الدرجات، فأنتم تعلمون أن المفاوض إذا كان مهزوماً مهزوزاً، وقد سلط على رأسه السيف، لا يستطيع أن يطالب بعشر حقه، فكيف يطالب بحقه كاملاً.

    يريدون للشعوب إذاً أن لا تطالب بأي شيء من حقوقها، بل يريدون التفاوض استسلاماً وانقياداً لكل ما يأتي من عندهم، فما تسمعونه من ما يفرح به بعض الفلسطينيين والمنهزمين المستسلمين من خارطة الطريق والمبادرة الأمريكية كله استسلام، فخارطة الطريق اسم قديم في التوراة، وهو ضمان قديم لسيطرة اليهود، وهذا الاسم اسم ديني مرتبط بالكتاب المقدس لدى اليهود، فلذلك سموا به هذا الاستسلام؛ لأنه انقياد كامل لما يريدونه، هو تحقيق للتنازل عن بلاد الله المقدسة، ليملكها اليهود، وتسمعون من مظاهر هذا أنه في هذا اليوم الذي نحن فيه، يعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية شجبه واستنكاره للعملية الاستشهادية التي قامت بها فتاة فلسطينية بالأمس، فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها الثالثة والعشرين من العمر، وأصابتها الغيرة على دين الله، وهي ترى هدم البيوت على أهلها، وتقتيل الشيوخ الركع، والصبيان الرضع، بدم بارد، فقدمت نفسها لله سبحانه وتعالى وجاهدت، فكانت عمليتها مزعجة جداً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وأعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن استنكاره وشجبه لهذه العملية، ولم يستنكر تهديم مدينة نابلس بكاملها، ولا تهديم مدينة جنين بكاملها، ولم يستنكر من قبل أن يأتي عسكري كبير ذو رتب عالية في الجيش الاسرائيلي فيدخل مسجد إبراهيم خليل الرحمن عند صلاة الفجر، والناس ساجدون في الصلاة، فيقتلهم تقتيلاً، ويضخهم بالرصاص، لم يستنكر هذا، ولم يجعله أمراً مهماً؛ لأنه ناشئ كما يزعمون عن تصرف فردي، ولذلك فأي تصرف يقوم به مسلم، لا بد أن يفسر على أنه تصرف أيديولوجي، ناشئ عن معتقده وقناعته، وأي تصرف يتصرف به من ليس من أهل الإسلام، فلا يمكن أن يوصف ذلك بأنه تعصب أو تطرف أو إرهاب، أو أنه ناشئ عن قناعتهم وأيديولوجياتهم، إنما هو تصرف فردي، أو على أساس أنه مجنون، أو نحن ذلك.

    ومن هنا فالشاب قاتل رابين ، وهو ينتسب لحزب شاس اليميني المتشدد، اعتبر مجنوناً أو متأثراً بحبوب يشربها، ولم يعد تصرفه على حزبه، ولم يعتبر هذا تطرفاً ولا إرهاباً، إنما عد على أنه تصرف فردي ناشئ عن تأثير المخدرات، أو الحبوب التي يتناولها، بينما لو قام مسلم بالدفاع عن حوزته بأي وجه من الوجوه، فسيعتبر ذلك إرهاباً وتطرفاً، كما تشاهدون.

    وكذلك فإن الدولة الصهيونية كل يوم تقيم التجارب على أنواع من الأسلحة الفتاكة غير معروفة لدى العالم كله، والولايات المتحدة الأمريكية ترفدها بكل التقنيات المحرمة، وبكل المواد والمال الضروري لتطوير الأسلحة، ومع ذلك فإن الجريمة الكبرى في عالمنا اليوم، حتى لدى كثير من قادة المسلمين وساستهم هي امتلاك سلاح، فامتلاك أية دولة اسلامية لسلاح هو جريمة كبرى، ولذلك اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية بعض قادة العرب بطلاً وتائباً عندما سلمها أسلحة بلاده، ومصانعها وما أنفقت عليه الأموال الطائلة؛ من أجل تطوير بعض الأسلحة التي هم بحاجة إليها، وحتى تطوير بعض المواد التي يحتاج إليها في الأمور السلمية، فاعتبروه بطلاً بهذا، واعتبروا أن ما قام به توبة نصوح، ودليل على صدق نيته، لكن مع ذلك خدعوه بهذه العبارات، وجددوا عليه الحصار من جديد؛ لأنهم يعلمون أن ذلك الرئيس لا يتأثر بالحصار المفروض على بلاده، فهو يعيش فيما يعيش فيه من بلاهلية ورفاه، لكن الشعب المسكين الفقير هو الذي يتأثر بذلك الحصار، وهذا الشعب لا بد أن يجوع، ولا بد أن يذل، حتى لا يخرج فيه مثل عمر المختار من جديد؛ لأن الذي يخافون منه، هو المجاهد الصادق الذي لا يقتنع بآرائهم وأيديولوجياتهم، ويضحي ويبذل من أجل قناعته هو المنبثقة من عقيدة، ومن تراثه وثقافته، فهذا الذي يكرهونه، أما أية ثورة أخرى، تنشأ عن أية أيديولوجية، ليس لها تعلق بكتاب ولا بسنة، ولا بتراث أمة، فهذه لا ترهبهم، فيمكن التعامل معها كما تشهدون، فالذي كان بالأمس ثائراً بطلاً، وكان ينادي بالعداء المطلق لأمريكا هو اليوم الذي يسلم إليها خيرات شعبه ومصانع السلاح التي يملكها، ويكشف لها كل ما لديه من الإسرار.

    انكشاف الحرب على الإسلام

    ولذلك فإن الحرب على الإسلام اليوم أصبحت مكشوفة واضحة وقد بلغت أوجها عندما أعلن أحد السنتورات في الولايات المتحدة الأمريكية في الأسبوع الماضي عن العزيمة على تغيير المقررات والمناهج في البلاد الإسلامية، ليحذف فيها بعض القرآن الكريم، فهم يريدون إلغاء كثير من القرآن حتى لا يدرس، ولا يحفظ ولا يتدبر، ولا يعرف معناه؛ لأنه يولد الإرهاب عندهم، وهذا المستوى من التدخل في الشؤون الداخلية لم يستنكره أحد، هل سمعتم أحداً من المسلمين من قادتهم أو من شعرائهم أو من أدبائهم أو من الصحفيين منهم يستنكر هذا، هذا حدث عادي جداً يتقبله الناس بكل بساطة؛ لأنه عندهم صادر من المرجع الأساسي الذي لا يرد له أمر، صدر من عقول الأمريكان، وهي عندهم معصومة منزهة، فما صدر منها، مأخوذ به على كل حال.

    ولذلك نسمع في مناقشات بعض البرلمانات العربية اليوم، من يبادر إلى طرح رأي في البرلمان، في برلمان بلاده لتغيير المناهج حتى تكون صالحة للعصر، وحتى لا تكون مهيجةً للشعوب مثيرة للإرهاق، ونسمع كذلك المناقشات التي تعقد لها المؤتمرات من أجل تعديل المناهج التعليمية، وبيان أوجه الخلل فيها، فهؤلاء القوم ليس لديهم أي شيء صحيح، ولا مستقيم إلا ما هو موجود في المناهج من الإسلام، فلما خربوا كل شيء إلا بعض المناهج التعليمية التي فيها وحي منزل لا يستطيعون تخريبه، ظنوا أن الجميع صالح إلا المناهج، فكانت عدوهم الأول، وهم يريدون تخريبها وتغييرها، وسبب ذلك أن التجارب التي خاضها الغربيون في إقامة مدارسهم، وتقرير مقرراتهم، آتت أكلها حين كونت النخب التي تملك القرار في البلاد الإسلامية، فالنخب التي تملك القرار قطعاً مستجيبة لا تعرف لا، لا تعرف لا، ولو في التشهد، ليست مثلما قال الفرزدق في استثنائه:

    ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم

    لا يعرفون لا، فلذلك نجح فيهم التدجين الذي تدربوا عليه في مدارس الغربيين، فأرادوا أن يعلموا هذا المنهج، وأن يربوا عليه الأجيال الأخرى، حتى تكون الشعوب جميعاً مثل هذه النخب التي ترونها، يريدون أن يكون سواد الشعب جميعاً كالنخب التي اختاروها ودرسوها في مدارسهم، ومن هنا يسعون لأن تكون الشعوب مصطنعة على أيديهم وفي قرة أعينهم، وتكون تابعة لهم في كل أمورها.

    الاحتلال المباشر لبلدان المسلمين

    كذلك فإن من مظاهر هذه الحرب، ما نشهده اليوم من احتلال مباشر، فالأمريكان وحسب خطة معلنة نشروها في الأنترنت، وفي غيرها، خططوا في بداية هذه الألفية لاحتلال ستة وعشرين بلداً من البلاد الإسلامية احتلالاً مباشرا، ولا تظنوا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت السبب وراء الحرب التي قامت في أفغانستان، والحرب التي قامت في العراق، والحرب التي تقوم غداً في سوريا، أو في السعودية أو في اليمن أو غيرها، بل هذه الحادثة إنما جاءت ردة فعل على بعض استفزازات الأمريكان، وبعض سياساتهم التي أظهروها وبينوها، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر إنما هي ردة فعل، ومن هنا فقد سبقها الأمريكان، ولو لم تحصل هذه الأحداث لفعلوا ما أرادوا، ولذلك فأنا سمعت اليوم عضواً في الكونجرس الأمريكي: ينتقد رئيس الولايات المتحدة الامريكية في قضية حرب العراق، ويقول: أنه سوق هذه الحرب على الكونجرس بخلاف الواقع، فقد كذب حين أبدى أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، والعراق لا يمتلك أسلحة، وقد احتلت أرضه ومن أشهر، والولايات المتحدة الأمريكية تجوبها يميناً وشمالاً وتفتش بيوتها بيتاً بيتاً، وتمارس فيها سياسة الأرض المحروقة في المربعات، ولم يبقَ فيها مختبئ حتى صدام حسين قد أخذ، ومع ذلك لم يطلعوا على أي سلاح من الأسلحة التي يطلبونها.

    كذلك سمعت في الأسبوع الماضي في مجلس العموم البريطاني عضواً كذلك في هذا المجلس ينكر على رئيس الوزراء توني بلير مشاركته في هذه الحرب التي يبين أنها حرب ضد الإنسانية، وأنها أضرت ببريطانيا أكثر مما نفعتها، فقد عرضت مصالحها للخطر وقتل بسببها كثير من جنودها وعطل بسببها كثير من آلياتها، وهم هنا كما سمعتم لا يتكلمون من منظار منصف، ولا عادل، حتى لو كانوا معارضة، ففي الولايات المتحدة لم ينكروا الحرب على العراق؛ لأنها حرب على بلد مستقل، وعضوٍ في الأمم المتحدة، بل أنكروها؛ لأنه ليس لديه أسلحة الدمار الشامل، وهذا أمر لا يمكن أن يعرف إلا بعد احتلال العراق، وإزالة دولته.

    وكذلك في مجلس العموم البريطاني لم ينكروا الحرب؛ من أجل أنها حرب غير عادلة، وغير خارجة من الشرعية الدولية، وليس لها أي مبرر قانوني، لكن أنكروها من أجل أنها عرضت بعض مصالحهم للخطر.

    عدم السماح بقيام الحضارة الإسلامية

    وهذه الحرب كذلك على الإسلام ليست مختصةً بالرسميين من أعداء الدين، بل حتى كثير من الشعوب والمثقفين لديهم هذه الفكرة، وهم يدافعون عنها، ومن هنا فإن ميخائيل الذي هو رئيس مركز الأبحاث الأمريكي في فكرته التي هي صراع الحضارات، ذكر أن الحضارة الغربية والنظام العالم الجديد لا يمكن أن يسمح بقيام حضارة إسلامية، ولا يمكن أن تكون في موازاته حضارة ذات أيديولوجيات أخرى، ولها معتقدات ومقتنعات خارج ما يعتقده الغربيون.

    وكذلك ففي الأسبوع الماضي جاء متعصب متطرف إنجليزي إلى أحد المساجد الكبرى في الأردن وأحرق المسجد وعاث فيه فساداً، وأحرق بعض المصاحف التي فيه والكتب، وهذا تصرف معتاد جداً وقد يحصل نظيره إن لم يكن بصفة يومية، فلا أقل بصفة أسبوعية في الولايات المتحدة الأمريكية ، فهذا التعصب لدى الغربيين هو وليد ثقافتهم ومدارسهم ومقرراتهم ومناهجهم، فمناهجهم التعليمية يتعلم فيه الفرد أن حياته هي هذه الحياة الدنيا، وأنه ينبغي أن يكون سيداً فيها، وينبغي أن يحقق كل آماله ومآربه في هذه الحياة قبل أن يموت، وحتى في مقرراتهم في العلوم الدنيوية، كما اطلعت على دراسة في ذلك، يقولون: ينبغي أن يكون عام ألفين وعشرين، عاماً يصل فيه معدل عمر الإنسان العادي في أمريكا وأوروبا مائة وخمسين سنة، ويصل فيه معدل عمر الإنسان العادي في بلاد العالم الثالث أو في بلاد العالم المتخلف أربعين سنة، وذلك أنهم حصروا أسباب الوفيات، أسباب الموت عندهم، فما كان منها من الأمراض خططوا للقضاء عليه، كما يزعمون أنهم قضوا على مرض الجدري، ومرض السل الرئوي، وغير ذلك من الأمراض التي لم تعد تهدد العالم وليس فيها خطر اليوم في بلاد العالم، يفكرون في أن يلحقوا بها بقية الأمراض الأخرى، التي تنتشر في بلادهم، ويرون أن التغذية عامل أساسي في طول العمر، وأن الرفاهة والراحة النفسية كذلك عامل أساسي في صحة البدن، ومن هنا فهم يفكرون في القضاء على أسباب الموت إلا الكوارث التي لا يقدرون على مدافعتها ومكافحتها، فيريدون أن يكون معدل العمر مائة وخمسين سنة بالنسبة للغربيين، أما العالم الآخر، فيخططون لأن يكون معدل العمر فيه أربعين سنة، وهذا النوع من التعصب واستغلال خيرات العالم، والسعي من أجل إقصاء الآخر، كما تعلمون لا يقبله عقل ولا يمكن أن يرضى به شريك، وقد حضر في يوم من الإيام رجل من الساسة الأمريكان في مؤتمر عربي في عاصمة الثقافة في العالم العربي إذ ذاك، تكلم أحد الدكاترة، أظن أنه محمد عمارة ، فقال: إن الأمريكان والغربيين يأخذون من خيرات بلادنا خمسين بالمائة، وأنهم لا يتركون لنا إلا خمسين بالمائة، فتكلم هذا القائد الأمريكي، فقال: عفواً المعلومة غير صحيحة، فنحن نأخذ من خيرات العالم خمسة وثمانين بالمائة، ونترك لكم خمسة عشر بالمائة صدقة، بكل صراحة يقول هذا أمام مؤتمر في بلد عربي في عاصمة الثقافة العربية، فيعلن أنهم يأخذون من خيراتنا خمسة وثمانين في المائة، ويتركون لنا فقط خمسة عشرة بالمائة، لكن يبرر ذلك بأنهم يأخذونها من خيرات العالم جميعاً، وأنهم أهل لذلك، فهم أهل السيادة، وهم الذين فجروا الخيرات في الأرض، وهم الذي رفدوا الأرض بالأفكار والحضارة، هذا الذي يعتقدونه، إن هذا التعصب المقيت، هو الذي يدعو إلى تغير المناهج، أيهما أولى بالتغيير مناهجنا التي تدعو إلى المسالمة وإلى تذكر الدار الآخرة، وإلى إيثار الآخرة على الأولى، أو مناهجهم التي تدعو لمثل هذا التعصب الذي سمعتم، أيهما أولى بالتغيير والإصلاح؟

    فلذلك ما هذا إلا مظهر واحد من مظاهر الحرب على هذا الدين، وهذه المظاهر لا تتوقف، فإنهم لا يرضون أبداً إلا باتباعهم الاتباع الكامل، كما قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فلا يمكن أن يحصل الإنسان الراغب في رضاهم المتطلع إلى ما عندهم على رضاهم إلا إذا بدل دينه وغيره، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217].

    سياسة تجفيف المنابع

    من مظاهر حربهم على الدين: ما نسمعه اليوم من سياسة تجفيف المنابع التي أرادوا بها قطع روافد هذا الدين بالكلية، فأنتم تعلمون أن الإسلام دين شامل كامل، وأنه يدعو إلى اتحاد الكلمة، وإلى التعاون على البر والتقوى، وإلى التكافل الاجتماعي، ولذلك فإن الركن الثالث من أركان الإسلام، هو ركن الزكاة، الذي حكمة مشروعيته إشراك الفقراء في مال الأغنياء، هذا الذي لا يتفهمه الغربيون ولا يقبلونه، فحضارتهم ومناهجهم لا تؤدي إلى هذا أبداً، فأنتم تعلمون أن كثيراً من بلاد العالم اليوم، فيها مجاعة يموت الناس فيها بالجوع، ومع ذلك فالولايات المتحدة الأمريكية وبعض بلدان أمريكا الأخرى، تتلف في كل عام جزءً كبيراً من محصولها من القمح والحبوب، وتصبه في البحر، أو تحرقه، لئلا يتأثر السوق؛ لأنهم يريدون الحفاظ على سعره، على سعر الإنتاج؛ لأنه داخل في التخفيض في الدخل القومي والناتج القومي للبلد.

    وإهلاك الحرث والنسل عادة قديمة للكفار، وهي معروفة عنهم: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205].

    كذلك فإن سياسة تجفيف المنابع اليوم انتهجت منهجاً متعصباً، أريد به إغلاق كل المؤسسات الخيرية الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي، ومنعها من مزاولة أعمالها، ومنعها من وسائل التمويل التي من خلالها تكفل اليتامى والأرامل والفقراء، وتعالج المرضى، وتقدم الخير للناس، فهذه المؤسسات التي ليس لها أي هدف سياسي، وأيضاً كثير منها ليس له هدف دعوي مباشر، أو أغلبها كذلك، مع هذا تلصق بها تهمة الإرهاب، وتغلق وتصادر أموالها، ويمنع نشاطها ويحرم، فأنتم تعلمون أن العراق منذ احتل، وقد جرى فيه من أنواع الخوف والجوع والنقص في الأموال والثمرات والأنفس الشيء الكثير جداً، فقد أكل الناس الكلاب في مدينة البصرة؛ من الجوع، في أيام حصارها، ومع ذلك لم تسمح الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الغربي معها بدخول أي هيئة من الهيئات الإسلامية لإنقاذ الناس، إنما يسمح بالمؤسسات التنصيرية التي لا تقدم شيئاً إلا مشروطاً، ولا تسعى لأي خير، وإنما تسعى من أجل تغيير واقع الناس وصرفهم عن ديانتهم وما هم عليه، وليس هذا مختصاً بالبلاد المنكوبة نكبة مباشرة، بل هو موجود كما تشهدون حتى في بلادنا، فالمنظمات الخيرية الإسلامية تغلق وتصادر، والمنظمات التنصيرية يسمح لها وتفتح لها الأبواب، وليس هذا سياسة محلية داخلية، بل هو سياسة مستوردة عالمية، ويمكن أن تسمى بالدين المستورد، فالدين المستورد اسم وضع في غير موضعه، فإنما هو ما يستوردونه هم من مصالح الغربيين وخدمتهم، فهذا الدين المستورد، فهو دين فعلاً، وهو مستورد؛ لأنه جاء من أمريكا أو من أوروبا .

    إن إغلاق المؤسسات ذات النفع العام، سواء كانت تعليمية أو خيرية، ما هو إلا مظهر من مظاهر الحرب على الإسلام، والتخويف بالحرب على الإرهاب، وسجن الناس واختلاق التهم المفتعلة، التي ليس لها أي أساس، لا يقوم عليها أي برهان، إنما هو من أجل إسكات الناس، والحيلولة بينهم وبين ما يقولونه من الحق، أو ما يعتقدونه من العقائد الصحيحة، فكل ذلك هو من مظاهر هذه الحرب العالمية على دين الله، التي يقصد بها إطفاء نور الله، لكن ليست أول مرة يتكالب فيها أعداء الله عز وجل لإطفاء نوره، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:32]، لكن ذلك لا يطفئ نور الله أبداً، فنور الله مستمر ولو كره الكافرون، ولوكره المشركون، الله متم نوره ولو كره المشركون.

    فهذه المظاهر البارزة للعيان، وإن لبست ببعض التلبيس في بعض الأحيان، وإن جاءت كذلك من أيادٍ مسلمة، لكنها تسعى لخدمة ساداتها في بلاد الإسلام في كثير من الأحيان، وبنفس المظاهر، فما أشبه الليلة بالبارحة، ما يحققه مثلاً رئيس دولة إسلامية كبرى في وزن باكستان وقوتها لأمريكا والغربيين عموماً، وما يضمن لهم من المصالح، وما كفل لهم من إدخال قواتهم لتدمير أفغانستان مثلاً من جارتها، والبلاد الإسلامية المجاورة لها، كل هذا وإن كان بيد مسلمين منتسبين للدين، إلا أنه هو نفس المظهر الذي يقوم به أعداء الإسلام في خارج الرقعة الإسلامية، وما تشهدونه اليوم كذلك من التفاوض بين الهند وباكستان من أجل القضاء على القضية الكشميرية، ومن أجل منع الكشميريين من حقوقهم المشروعة، وقد تعرضوا للإبادة والأذى، وأحرقت بلادهم طيلة هذه الفترة السابقة بكاملها، أكثر من أربعين سنة، وهم تحت الاضطهاد والإهانة والأذى، وهم يعانون ما يعانون، وحالهم حال كثير من الشعوب الأخرى، كالمسلمين في جنوب الفلبين، وكالمسلمين في القرن الأفريقي في أرتيريا وأثيوبيا، وكالمسلمين في أروبا الشرقية، فكل هذا من مظاهر هذه الحرب، وقد قال أحد علمائنا:

    وشيوخاً في الشرق يدعون إلى الحق فيلقون في ظلام السجون

    إخوة ما ذكرت ما يعتليهم من شؤن إلا استهلت شؤني

    إخوة ما ذكرت ما هم عليه من هوان إلا وجن جنوني.

    1.   

    سبل مواجهة الحرب على الإسلام

    فهذا الاضطهاد الدائم لهذه الشعوب، وهذا التذليل المستمر، ما هو إلا مظهر من مظاهر الحرب والعداء على دين الله، والغريب في الأمر أنهم لم يعودوا يتسترون في كثير من الأحيان بالستار الذي انتهجوه في بداية الأمر، بل أصبحوا يريدون فرض أفكارهم وآرائهم بالقوة، فأحد الساسة الأمريكان يقترح أن يقسم موسم الحج، فيجعل مرتين في السنة، لتخفيف الضغط، ولنقص عدد الحجاج؛ لأنه يزعجهم أن يجتمع هذا الكم من المسلمين، فيريد أن يجعل موسم الحج مرتين في السنة، حتى يقل العدد، ويقل الخطر.

    عدم السكوت والاستسلام والمذلة

    إذاً هذه المظاهر من مظاهر الحرب على الإسلام، لا ينبغي أن نقابلها بالاستسلام والسكوت، ولا بالخنوع والمذلة، فنحن أمة لم تكتب علينا المذلة ولم تضرب علينا المذلة، إنما ضربت على اليهود، فاليهود هم الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، أما نحن فقد كتب الله لنا العزة، كما قال الله تعالى: وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، فلماذا نخنع ونذل؟ ولماذا نستسلم؟ إن علينا في مقابل هذه الحرب التي شاهدنا مظاهرها وسمعناها ونحن نعلم أنها صدق وحق، وليس شيء مما سمعنا كذباً ولا مبالغاً فيه، لا بد في مقابلها من أن تكون لنا عزة وغيرة على ديننا، وتمسك به، في مقابل الحرب عليه، فهل هذه الحرب التي رأيتم مظاهرها أشد من الحرب يوم الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد وصف الله حالهم بقوله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:10-12].

    شتان بين حالنا الآن وحال الصحابة يوم الخندق في كل شيء، ففي الشدة كانت الشدة عليهم أقوى، وفي القوة والإيمان والعزة كانت عزتهم وقوتهم أقوى، وهذا لا مجال للنقاش فيه، لكن علينا نحن أن نأتسي بهم، وان نقتدي بحالهم، وأن نعلم أن هذا إنما هو امتحان من الله سبحانه وتعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فمن صدق مع الله سبحانه وتعالى، وأرى الله من نفسه خيراً، فلا بد أن يكتب الله له العزة والنصرة والتمكين، كما قال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وكما قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وكما قال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

    عدم الانجرار إلى التطرف

    إن ما كتب الله لنا من العزة، ينبغي أن نحيه في نفوسنا، وأن لا تؤدي بنا هذه المظاهر وهذه الاضطهاد إلى التطرف أو الخروج عن معتقداتنا وقناعاتنا، فنحن أصحاب قيم، وأصحاب مبادئ، وديينا يدعونا إلى الحرص على هداية الناس، والحرص على هدايتهم، ولا يدعونا هذا الدين أبداً للإفساد في الأرض، إنما يدعونا هذا الدين لإصلاح الأرض، وهداية الناس، ورعاية أهل الأرض جميعاً، والسعي في إصلاح حالهم وتغيير ما هم به، ولذلك لا بد أن نعلم أن ما نشاهده من الاضطهاد والإذلال والعدوان، لا يمكن أن يكون حاملاً لنا على مقابله من العدوان، فقد قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فلا اعتداء ولا عدوان، لكن أيضاً لا مذلة ولا قبول للهوان، فنحن لا نقبل الظلم والاضطهاد، ولا نقبل المذلة، بل لا بد أن نتمسك بالعزة التي كتب الله لنا، وإنما يكون ذلك بالتمسك بالدين، والصدق مع الله سبحانه وتعالى، والوفاء له بما عاهدناه عليه، وبذل ما نستطيعه، فلا نكلف إلا المستطاع: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لكن ببذلنا للمستطاع يغير الله الحال.

    بذل المستطاع من وسائل الدفاع

    وقد سبق قبل سنوات قليلة أن حصل اتفاق بين رئيس دولة عربية والولايات المتحدة الأمريكية على فتح بلاده لإقامة قواعد عسكرية في تلك البلاد، وتلك البلاد هي قريبة من بلاد الحرمين الشريفين، وقريبة من جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين منها، وقال: ( لا يبقى في جزيرة العرب دينان )، وقال: ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب )، فعلم المسلمون في تلك البلاد بهذا الخطر الداهم الذي يهددهم، فما كان من علمائهم إلا أن قاموا بالحق الواجب فأعلنوها سافرة بالنداء إلى جميع الشعب بعدم قبول هذا الاتفاق، والوقوف ضده، فلم يكن من تلك الدولة إلا أن تراجعت عن قرارها بعد أن أبرمته، لأسباب أمنية؛ لأنها تخاف أن يتطور الحال، فلذلك تراجعت عن ذلك القرار، وهنا لم يبذل المسلمون كبير عناء، ولا جهد في الوقوف دون تلك القواعد وغزوها لتلك البلاد التي هي قريبة من البلاد المقدسة، لكن عندما بذلوا ما يستطيعون، وأخلصوا لله رفع الله عنهم الغمة، وهذا نظير ما حقق الله للمسلمين يوم الأحزاب، فقد قال الله تعالى: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].

    تحقيق العهد مع الله والصدق معه

    فلذلك لا بد أن يكون أهل الإسلام دائماً أصحاب أمل في الله سبحانه وتعالى وصلة به، وتحقيق للعهد معه وصدق في التعامل معه، وأن يبذلوا ما يستطيعونه، فالعجز هو الذي يحول بين الإنسان وبين بذل ما يستطيعه، أنت يا أخي لا تكلف إلا المستطاع، لكن عليك أن تبذل المستطاع، فما الذي يحول بينك وبين بذل ما تستطيعه من مجرد كلمة، فالوسائل السلمية التي تؤدي إلى التغيير والإصلاح، إذا انتهجها المسلمون فإنها ستوصلهم إلى المراد، وتحقق لهم كثيراً من أهدافهم، إذا كانوا عاجزين عن غيرها.

    ومن هنا فإن المؤامرات أيضاً التي قامت في كثير من البلدان التي احتلت بالفعل، باءت بالفشل، بسبب بذل المسلمون لما يستطيعون، وأنتم تعلمون أنه في الأيام الماضية أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن هرب أكثر من ثلاثة آلاف مجند من الجيش الأفغاني، كانت قد دربتهم ودججتهم بالسلاح، ولكن كان فيهم بقية من خير، فلم يقبلوا المذلة للأمريكان فهربوا، هم لا يستطيعون قتالهم، لكن على الأقل يستطيعون الهرب، فهربوا وانسحبوا.

    إحداث وعي عام لدى الناس باستهداف الأعداء للدين

    فهذا النوع مما يحصل من العداء للدين ومن الحرب عليه، لا يمكن أن يقابل بالسكوت والاستسلام، ولا أن يقابل كذلك بجهله وتجاهله، فتجاهل المسلمين للحرب على دينهم، كانت السبب وراء تغلغل هذا الكيد في بلاد الإسلام، ووراء استغلال كثير من أبنائهم له، فكثير من المسلمين لا ينتبهون لمثل هذه المصائب والمشكلات حتى تصل إليهم، وإذا وصل إليهم السيل، لا يستطيعون الخلاص منه بعد أن وصل، إنما يستطيعون الهرب والدفاع قبل أن تصل إليهم الغمة، وقبل أن يدخلوا فيما يدخلون فيه.

    ولذلك لا بد من إحداث وعي عام لدى الناس، بأن الحرب قائمة على أشدها ضد دين الله، وأن مظاهرها واضحة كل يوم تزداد جلاءً للعيان، وأنه في مقابلها لا استسلام، ولا ظلم، ولا تطرف، وإنما مقابلها هو الأخذ بعزة الإسلام، والتمسك به، وبذل ما نستطيعه، واستنكارنا لتخاذل أهلنا من المسلمين، وتوعيتنا لهم، حتى يفهموا ما يكاد لدينهم.

    نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل عملنا كله خالصاً لوجه الكريم، وأن يجعلنا جميعاً من الصادقين، وأن يجعلنا في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحقق رجاءنا ويستجيب دعاءنا، ويصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755911954