إسلام ويب

حسن الخلقللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرف الله تعالى الإنسان بالخلق الذي يستطيع به التعامل مع غيره، وجعله شرفاً لمن أحسنه، واستطاع به أن ينجح في التعامل مع الآخرين وكسب ودهم والتأثير عليهم؛ وجوامع حسن الخلق ثلاثة: أن تعفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، وأن تحسن إلى من أساء إليك. وبداية حسن الخلق: كف الأذى، ويليه نفع الآخرين بقدر الاستطاعة. وأحق الناس بحسن الخلق الوالدان، ويكمل خلق الإنسان ويحسن مع مملوكه، جماداً أو حيواناً.

    1.   

    وصف النبي بحسن الخلق

    بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    فإن الله تعالى شرف الإنسان بالخلق الذي يستطيع به التعامل مع غيره، وقد جعله الله شرفاً لمن أحسنه، واستطاع بذلك أن ينجح في التعامل مع الآخرين وكسب ودهم والتأثير عليهم؛ ولهذا أثنى الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:1-4].

    وقد وصفت عائشة رضي الله عنها خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئلت عنه، فقالت: ( كان خلقه القرآن )، ومعنى ذلك: أن الناظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنما ينظر إلى قرآن أمامه، فكل ما يأمر به القرآن فهو مطبق له، وكل ما ينهى عنه فهو مجتنب له، وما في القرآن كذلك كله يظهر عليه أثره، سواءً كان ذلك عبرة أو حكماً أو غير ذلك.

    1.   

    بيان القرآن في هدي وسلوك النبي صلى الله عليه وسلم

    والله سبحانه وتعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسلوكه بياناً للقرآن، وسماه "ذكراً" كما في سورة الطلاق: ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ[الطلاق:10-11]، فالذكر هو القرآن، والرسول هو البيان، فهو بيان للقرآن؛ فكأنه قرآن.

    وهكذا في سورة الإسراء أيضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في آخر قصة موسى عليه السلام: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً * وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً[الإسراء:104-106]، وقد اختلف أهل التفسير في إعراب هذه الآية، وعلى ذلك يختلف في تفسيرها؛ لأن الأعراب مندرج تحت المعنى؛ فقالت طائفة منهم: (ما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً وقرآناً) أي: جعله الله قرآناً فهو حجة على الناس، كما أن القرآن حجة على الناس، وبذلك يكون محمد صلى الله عليه وسلم قرآناً؛ لأنه يمثل القرآن في عمله وسلوكه وهديه ودله.

    وقالت طائفة أخرى: بل قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[الإسراء:105] جملة اعتراضية جاءت في وسط الكلام على القرآن؛ فقد قال الله تعالى قبل هذا: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ[الإسراء:105]، أي: القرآن، ثم قال: ((وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ)) أي: أنزلناه قرآناً، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ[الإسراء:106]، وجاءت الجملة الاعتراضية مبينه لسر بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهي: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[الإسراء:105]، فجاءت في أثناء الكلام على القرآن.

    وعموماً على التفسير الأول يكون النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً؛ لأنه في هديه وسلوكه ودله بيان للقرآن، وكما أن القرآن كلام الله؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم معصوم بعصمة الله تعالى له؛ ليكون فعله وهديه ودله وخلقه بياناً للقرآن.

    1.   

    عفو الإنسان عمن ظلمه

    سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حسن الخلق بعد أن ذكر فضله وبيان درجة أهله، فقيل: ( وما حسن الخلق بالذي تعني يا رسول الله؟ قال: أن تعفو عن من ظلمك، وأن تصل من قطعك، وأن تحسن إلى من أساء إليك )، فهذه ثلاث جمل جامعة لحسن الخلق: أولاها: أن تعفو عن من ظلمك.

    تجاوز الله عمن عفا عن غيره

    فالعفو صفة حميدة تقتضي من الإنسان التجاوز عن حقه؛ ليتجاوز الله عنه، ولا تكون إلا عن تمام، فالإنسان التام العقل هو الذي يستطيع أن يصفح ويعفو عن الآخرين، أما ناقص العقل فإن الصفح ليس في قاموسه، ولا يدخل في تفكيره؛ لأنه مجبول على أخذ كل حقه؛ ولهذا قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:34-35]، فالذي يستطيع ذلك ويقدر عليه هو من كان ذا حظ عظيم، ويشمل ذلك تمام العقل ووفرته.

    فصفح الإنسان عن من ظلمه من العقل والتدبير؛ لأنه مزيل للضغائن.

    والإنسان في هذه الحياة مضطر لمخالطة الآخرين، ومخالطتهم تحوجه إلى الصبر دائماً، فإذا كان يريد الاقتصاص لنفسه من الآخرين في كل ما يصيبه فإنه سيحاول القصاص ممن لا يستطيع القصاص منه وهو الدهر، أليس الدهر سيشيب رأسه! أليس سيزيل قواه! أليس سيذهب بطاقاته! ولا يستطيع الإنسان القصاص منه! فإذا كان الحال كذلك لابد أن يتعود الإنسان على الصبر، ولهذا أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ[المدثر:7].

    إذاً يحتاج الإنسان إلى أن يعود نفسه على الصفح عن من ظلمه.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا كان تاجراً، فكان يدين الناس)، أي: يعطيهم الديون من ماله، ( فيرسل عماله فيقول: إذا صادفتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فلما مات تجاوز الله عنه )، فهذا الرجل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له حسنات أخرى، ولكنه كان يقول لعماله: إذا صادفتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه بذلك.

    طيب معدن من عفا عمن ظلمه

    والعفو دليل أيضاً على طيب معدن الإنسان؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عن: ( نبي من الأنبياء دماه قومه.. )، أي: جرحوه حتى سال الدم من وجهه، ( فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).

    والنبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح الله عليه مكة أظهر هذه الصفة من صفات خلقه، فلما فتح الله عليه مكة فجأة، وقد دخلها بعشرة آلاف مسلح، ولا يستطيع أهل مكة الدفاع عن أنفسهم بوجه من الوجوه نادى مناديه في الناس: (من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)، فتقدم سعد بن عبادة بن دليم، فلما غرز اللواء في الأبطح قال: (اليوم ذلت قريش وخربت)، فجاء ضرار بن الخطاب يشكو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من شعراء قريش، فوقف بين يديه فأنشد:

    يا نبي الهدى إليك لجا جي قريش ولات حين لجاء

    حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء

    والتقت حلقة البطان على القو م ونودوا بالصيلم الصلعاء

    إن سعداً يريد قاصمة الظهـ ر بأهل الحجون والبطحاء

    خزرجي لو يستطيع من الغيـ ظ رمانا بالنسر والعواء

    وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء

    قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء

    إذا ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء

    فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء

    ثم ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء

    لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء

    فانهينه فإنه أسد الأسـ د لدى الغاب والغ في الدماء

    إنه مطرق يريد لنا الأمـ ر سكوتاً كالحية الصماء

    فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ونزع منه اللواء، وأعطاه ابنه قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، فلما أخذه قيس فهم الحكمة التي من أجلها عين في منصب أبيه؛ فغرز اللواء في مكانه وقال: (اليوم عزت قريش وعمرت).

    وعندما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى الذين أسرهم خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح في ذلك اليوم عند الخندمة، لما دخل مكة استقبلهما عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية يقاتلان عن أهل مكة، ومعهما لفيف من الناس، فانهزموا أمام خالد وأبي عبيدة، فأخذ عدد من الأسرى منهم؛ فجيء بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن هرب الشجعان الأبطال، فـعكرمة خرج من مكة إلى اليمن، وصفوان هرب إلى جهة الطائف، وولى رجل آخر من بني مطيع يقول:

    إنك لو شهدت يوم الخندمة إذا فر صفوان وفر عكرمه

    واستقبلتنا بالسيوف المسلمة لهم نهيت حولنا وهمهمه

    لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

    جيء بأولئك الأسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليهم قال: ( أنتم الطلقاء )، فعفا عنهم؛ فسموا بعد ذلك بالعتقاء، وأصبحوا بطناً من قريش ينسب إليهم بالعتق، ومنهم عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب مالك، فهو من أولئك العتقاء الذين أعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح.

    ولذلك فإن عفوه عن أهل مكة جميعاً شمل الفارين، فـصفوان بن أمية أتاه أخوه، فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم منح المشركين أربعة أشهر يترددون فيها ليأخذوا رأيهم: هل يدخلون في الإسلام أو يخرجون من جزيرة العرب، فجاء صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يركب فرساً له، فوقف حوله فقال: ( يا محمد! زعم أخي أنك أعطيتني مهلة أربعة أشهر أدبر فيها أمري، وأشاور فيها أهل رويتي، فقال: انزل أبا أمية! قال: ما أنا بنازل، فقال: انزل أبا أمية، فقال: ما أنا بنازل، قال: قد صدقك أخوك؛ فنزل صفوان )، فما جلس ساعات حتى أدخل في قلبه الإسلام، وكذلك عكرمة تبعته زوجته إلى اليمن، فلحقته هنالك، وأخبرته أنها أخذت له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع؛ فحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهد في بقية عمره.

    فوائد العفو

    والعفو فيه كثير من الفوائد؛ فهو يقلب العداوة إلى صداقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه فيما أخرج البخاري في الصحيح: ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا رفعة ومجداً ).

    والله سبحانه وتعالى أرشد إلى العفو في عدد من الآيات، وقد صح في الصحيحين: ( أن رجلاً قتل قتيلاً، فجاء به أولياء الدم في نسعة يجرونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا قتل صاحبنا، فاسأله؛ فأقر الرجل، فأعطاه ولي الدم وقال: اذهب به فاقتله، فلما ولى، قال: أما إنك إن عفوت عنه كفرت عنك سيئاتك، فرجع الرجل فقال: ماذا قلت؟ فقال: أما إنك إن عفوت عنه كفرت عنك سيئاتك، فأطلقه بنسعته )، فكان ذلك تكفيراً عنه بالعفو.

    وكذلك فإن العفو أيضاً انتصار على النفس، لأن النفس فيها غليان شديد هو الغضب، الذي هو صفة ذميمة، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح في صحيح البخاري: ( أن رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله! إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني، فقال: لا تغضب، فردد مراراً، وهو يقول: لا تغضب)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الغضب.

    والغضب: غليان في النفس؛ ولذلك تحليله العلمي وشرحه أنه زيادة نسبة الإدرينالين، الذي هو السائل الذي تفرزه الغدة الكظرية في الدم، فزيادته في الدم تقتضي غلياناً يحصل فيه سرعة في نبض القلب وحركته؛ ولذلك يتأثر به صاحبه؛ فيحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، وقد: ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً احمر وجهه، وانتفخت أوداجه من الغضب، فقال: أما أني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ما به، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقيل للرجل: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: أبي جنون؟! )، فقد اشتد به الغضب.

    فالعفو فيه انتصار على النفس؛ لأنه يجعل الإنسان لا يطيع نفسه في غليانها؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس، وإن كان جالساً أن يضطجع، وأن ينضح على وجهه من الماء ليزول ما به من الغضب، وهذا يدل على ارتباط الروح بالجسد؛ لأن مجرد الانفعال الذي يظهر على الجسد هو من تأثيرات النفس الداخلية؛ ولذلك إذا لم يتلقه الإنسان بانفعال ظاهراً رجع الغيظ وذهب عن الإنسان، فإذا واجهه بصب الماء على وجهه، أو بالاضطجاع، أو بالجلوس من قام؛ فإن ذلك يذهبه.

    والعفو كذلك من شيم أهل الفضل، وهو يزيل الشحناء والبغضاء، وكان يعرفون ذلك في الجاهلية؛ فمن مشاهير العرب وأجودهم أوس بن حارثة بن لام الطائي، وأمه سعدى مشهورة بالكرم والجود، وقد هجاه رجل من الشعراء، فسعى لأخذه أسيراً حتى أسر فجيء به، فلما جيء به إليه قال: ما ظنك أني فاعل بك؟ فإذا هو كان يفكر في أن يقطع لسانه ويديه ورجليه، وأن يدفنه وهو حي، فقالت أمه: لا، إن شعره قد سار في الآفاق، ولا يعالجه إلا أن يمدحك بشعر أحسن منه، فينسى الناس هجاءه، ويبقى لك مدحه، فأتاه فقال: ما ظنك أني فاعل بك؟ قال: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: إن لك أن أعتقك من وثاقك، وأن أعطيك مائة ناقة؛ فأطلق وثاقه وأعطاه مائة ناقة، فأنشد فيه شعره المشهور، الذي يقول فيه:

    إلى أوس حارثة بن لام ليقضي حاجتي ولقد قضاها

    فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ولا لبس النعال ولا احتذاها

    وقد نسي الناس هجاءه له فلا أحد يذكره، وبقي مدحه له سائراً في الآفاق.

    وكذلك فإن من آثار العفو أنه يقتضي محبة لدى الناس، فالذي يتصف بالعفو معناه أنه صاحب قدرة، ومن هنا يكون مهيب الجناب، ويهابه الناس بسبب قدرته عندما يعفو، ولذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قتل والده يوم أحد شهيداً رضي الله عنه؛ لكنه قتل بسيوف المسلمين عندما اختلط المشركون بالمسلمين، ولم يكونوا إذ ذاك يعرف بعضهم بعضاً من القتال وشدة المعركة، فحمل عليه رجل من المسلمين، فصاح حذيفة: أبي.. أبي! فلم يسمعه؛ فقتل، فقال حذيفة: يغفر الله لنا ولكم، فسئل عن قتله: هل قتله المشركون؟ قال: لا، إنما قتله المسلمون، وما أود لو أنه قتله المشركون، فذكر أن عفوه أحب إليه، فلو كان المشركون قتلوه نال الشهادة في سبيل الله، لكن لم ينل حذيفة شيئاً، لكن لما قتله المسلمون نال هو الشهادة في سبيل الله، ونال حذيفة أجر العفو، فكان ذلك مضاعفة للخير.

    إحياء صفة العفو

    ومن هنا فإن إحياء صفة العفو في نفوس المؤمنين من الأمور المهمة ومن أحسن الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان، وعلى كل إنسان أن يجاهد نفسه من أجل الاتصاف بهذه الصفة، فإن الناس الآن رجعوا إلى أمر كان في الجاهلية وهو قاعدة (من عز بز)، فكل إنسان إذا غضب في مقابل أخذ حق له زجر من غضب عليه، ولو كان أحب الناس إليه من قبل، ولو كان قريباً له، فيقطع رحمه، ويتصرف تصرفات غير معقولة، ويخسر كثيراً من العلاقات التي هو في غنىً عن خسارتها، ولو عفا وأصلح فإنه سيكون أجره على الله، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وسيبقي على قرابته، بل إن مطلق يد هو آسرها، فالعرب يقولون: (غل يداً مطلقها) أي: العافي الذي يطلق الأسير قد غل يده بعد ذلك، فالذي تحسن إليه في مقابل إساءته إليك لا شك أنه إن كان فيه دم أو فيه مروءة، فسيحسن إليك بقية عمره، وسيكون مديناً لك بالخير مدة عمره، ولا يمكن أن يجازيك على إحسانك إليه.

    العفو عمن ظلم ولو عظم الظلم

    قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف حسن الخلق: ( أن تعفو عمن ظلمك )، وهذا يشمل الظلم بمختلف أنواعه سواءً كان ظلماً بالكلام، وهو أعظم الظلم، فأشد الظلم أثراً هو ظلم اللسان، ولذلك يقول العرب:

    جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان

    وبعد ذلك الاعتداء على البدن، أو الاعتداء على المال، أو نحو ذلك؛ فهذه كلها أنواع من الظلم، يشملها العفو جميعاً.

    1.   

    صلة الرحم

    ثم بعد هذا قال: ( وأن تصل من قطعك ).

    صلة الرحم من الإيمان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله لما قضى خلق الخلق تعلقت الرحم بساق العرش؛ فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة؛ فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ ).

    سوء عاقبة من قطع رحمه

    قال الله تعالى في وصف المشركين: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23]، الذين يقطعون أرحامهم أولئك الذين لعنهم الله؛ فأصمهم وأعمى أبصارهم، واللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى. وهو أعظم ما يمكن أن يجازى به المسيء؛ ولذلك جوزي به إبليس على إساءته، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ[محمد:23].

    ومن آثار اللعن: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:23]، أصمهم فلا يسمعون الحق حتى يستفيدوا من عقل من سواهم، أو من علمه، وأعمى أبصارهم فلا يعتنون بأنفسهم، ولا ينتفعون بعجائب الكون.

    أعظم درجات صلة الرحم

    ثم إن صلة الرحم درجات، فالرحم الكاشح، أي: الحاسد، الذي يحسد الإنسان صلته أعظم أجراً من صلة غيره؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل من يصل الرحم الكاشح )، فالواصل ليس بالمكافئ الذي إذا زاره قريبه يزوره، وإذا أحسن إليه يكافئه على إحسانه، فهذا ليس صلة للرحم، هذه مكافئة، لكن الواصل هو الذي يحسن إلى رحمه الكاشح، أي: الذي يحسده.

    وقد جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أن لي جيراناً أحسن إليهم فيسيئون إلي، وأكرمهم فيؤذونني؟! فقال: إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل )، أي: إن كان الحال كما تقول؛ فإنما تجعل المل وهو التراب الذي أوقدت النار عليه حتى اشتدت حرارته.

    ولذلك يحتاج الإنسان إلى صلة رحمه الكاشح، وأن يدرك أن المكافئة أمر معتاد بين الناس حتى بين من لم يكن من ذوي الأرحام؛ ولهذا فحسد الأقارب إنما جزاؤه الإحسان إليهم، فإذا هجروك فصلهم، وإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم في مقابل ذلك؛ وبهذا تبرز عليهم وتكون أفضل منهم، وقد قال الحكيم:

    يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

    ولم يدر قومي كيف أوسر مرة وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهد

    فما زادني الإقتار منهم تقرباً ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا

    أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا

    وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا

    أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا

    ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا

    لهم جل مالي أن تطاول لي غنىً وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

    وعفو الإنسان عن الحاسد من بني عمه، أو من أقاربه كذلك يقتضي منه أن يكون هذا الحسد لمصلحته، فالحسد صفة ذميمة للحاسد، لكنها قد تنفع المحسود؛ لأنه لا يحسد إلا من لديه نعمة، فمن لديه نعمة من الله تعالى هو الذي يحسد؛ ولذلك فإن الحسد كثيراً ما ينتفع به صحابه؛ لأنه يكتشف مواقع الخطأ في تصرفاته وتدبيره فيجتنبها، ويجد منافساً فيسعى لسبقه في الخير، ولهذا قال الشاعر:

    إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

    فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظاً بما يجد

    أنا الذي يجدوني في صدورهم لا أرتقي صعداً منها ولا أرد

    وكما قال الآخر:

    عداي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد عني الرحمن الأعاديا

    هم بحثوا عن زلتي فاتقيتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

    ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يقدر حسد الآخرين بهذا القبيل، وبالأخص إذا كانوا من ذوي القرابة ومن بني العم فظلمهم شديد على النفوس وقد قال الشاعر:

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهندي

    لكن الإنسان بانتصاره على نفسه وصبره لأذاه يرتفع مستواه عليهم، ويكون بذلك قد انتصر على نفسه، وانتصر عليهم هم في نفس الوقت.

    وأذى الجيران وذوي القرابة إذا صبره المؤذى به سبب لعدم انتشار ذرياتهم، وسبب لميراثه هو وذرياته لهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث: ( من آذى جاره أورثه الله داره)، والمقصود بذلك إذا صبر على ذلك الأذى، فإذا صبر على أذاه فسيورثه الله داره، وذلك بانقطاع نسله؛ فيرثه غيره، وليس هذا من جزاء الذنب، وإنما هو من شؤمه؛ وقد ذكر لكم من قبل أن الدنيا دار عمل ولا جزاء، وأن الجزاء كله أخروي، فما يناله الإنسان من الخير جراء إحسانه في هذه الدار ليس من جزاء الإحسان، وإنما هو من بركة الإحسان، وما يصيبه أيضاً من جراء إساءته في هذه الدار ليس من جزاء إساءته بل هو من شؤم إساءته، فالذنب له شؤم دنيوي وله جزاء أخروي، وكذلك الخير، فالحسنات لها بركات دنيوية ولها أجر أخروي، وبركاتها الدنيوية لا تنقص أجرها الأخروي، كما أن شؤم الذنب أيضاً لا ينقص جزاءه الأخروي، فالله تعالى يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45] هذا في الدنيا وهو من شؤم ذنبه، ((بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)) فليس هذا جزاءهم وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:46]؛ فالجزاء أخروي كله.

    1.   

    الإحسان إلى المسيئين

    ثم قال: ( وتحسن إلى من أساء إليك )، هذا منتهى مبلغ حسن الخلق؛ أن تحسن إلى من أساء إليك حتى لو كنت لا تعرفه.

    الإحسان للمسيء من تمام المروءة والانتصار على النفس

    فإحسانك إلى من أساء إليك دليل على تمام المروءة، ودليل على الانتصار على النفس. والنبي صلى الله عليه وسلم أتاه عامر بن الطفيل، وقد كان سيد بني عامر بن صعصعة من قيس عيلان، وقد اعتدى على القراء، وهم سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم إلى نجد يعلمون الناس القرآن، فاعتدى عليهم عامر بن الطفيل فغدر بهم، وقتلهم أميرهم المنذر بن عمرو، وهو نقيب من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وفيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وفيهم حرام بن ملحان وأخوه سليم بن ملحان خالا أنس بن مالك، وفيهم عدد كبير من الأنصار.

    ولما غدر بهم عامر جاء بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو وأربد ابن عمه، فلما قدما عليه بالمدينة أكرم وفادتهما وضيافتهما، فأحسن إليهما في مقابل الإساءة، ودعاهما للإسلام فلم يسلما، فلما أراد عامر الخروج كان سيئ الخلق فقال: ( يا محمد! لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً.. )، (لأملأنها عليك) أي: المدينة، (خيلاً جرداً ورجالاً مرداً) يهدده بالغزو، ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ذلك وبني قيلة، فلما خرجا من عنده قال: اللهم اكفني عامراً وأربد بما شئت )، فأما أربد فوقعت عليه صاعقة فأحرقته وجمله، وأما عامر فأخذته غدة في صدره، فمات في بيت امرأة من سلول، فقال: (أغدة كغدة البعير، وموت في بيت امرأة من سلول) وقد أرسل ذلك مثلاً، وهما في شبابهما وقوتهما؛ فــعامر هو الذي يقول:

    وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب

    فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أبي

    ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكبي

    وأربد هو الذي يرثيه لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه بقصيدته العينية المشهورة:

    بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الديار بعدنا والمصانع

    يقول فيها:

    .. ففارقني جاراً بـأربد نافع

    وما والمرء كالشهاب وضوئه يحور رماد بعد إذ هو ساطع

    وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع

    وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم رغم ما كان يشاهد من أذى اليهود ومؤامراتهم كان يحسن إليهم؛ فإذا مرض منهم مريض عاده، وإذا دعوه إلى وليمة أجاب، وقد أجاب رجلاً من اليهود دعاه إلى إهالة سنخة وخبزة ناسة، (إهالة سنخة) أي: زبد قد تغير لونه إلى الصفرة، (وخبزة ناسة) أي: بدأت تيبس، وقال: ( لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت )، وهذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك تعامله مع أعدائه: ( فإنه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبة لما أراد العمرة وهو لا يريد قتالاً، فأراد دخول مكة بركت به ناقته، فحاولوا أن تقوم فغلبتهم، فكانوا إذا وجهوها إلى غير مكة انطلقت، وإذا وجهوها إلى مكة بركت، فقال الناس: خلأت القصواء، أي: حرنت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تسألني قريش خطة تعظم فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها ).

    وعندما أتاه سهيل بن عمرو فكان يفاوضه في صلح الحديبية كان يستجيب لطلباته، فلما كان علي يكتب الصلح، كتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: بل اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يكتب: باسمك اللهم؛ كما كان يكتب أهل الجاهلية؛ امتثالاً لما طلب سهيل، قال علي: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك! ولكن اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، فأمر علياً بمحوها فامتنع، قال: والله لا أمحو اسمك من الرسالة! فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه امتثالاً لما طلب سهيل بن عمرو ).

    وعندما وقع معه الصلح إذا أبو جندل وهو ابن سهيل بن عمرو، وكان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان شاباً في مقتبل عمره، جاء مكتوف اليدين والرجلين، يرسف في الحديد، فلما رآه سهيل قال: (يا محمد! هذا أول من أعاهدك عليه أن ترده معي، فقال أبو جندل: أأرد إلى المشركين ليفتنونني عن ديني؟! فقرب إليه عمر قائم سيفه يريد أن يقتله أباه فلم يفعل؛ فقال عمر: ظن بأبيه)، فهم أنه ظن بأبيه، ولم يرد قتله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبر فإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً )، فخرج سهيل بابنه أبي جندل، فلما مكث ليلتين بمكة انحل وثاقه، وانطلق من الحديد؛ فخرج يشتد عدواً، فلحق المدينة، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم هنالك، فأرسل سهيل في طلبه رجلين، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة يذكرانه بالعهد برد أبي جندل إلى سهيل، فرده معها، فلما نزلا بالبيداء، وراء ذي الحليفة، قالا تحت ظل الشجرة، فأخرج أحدهما سيفاً جديداً لديه فقال: هذا السيف اشتريته لأجالد به محمداً وأصحابه، فقال أبو جندل: أرنيه، فأراه السيف؛ فهزه فأطار به رأسه، فهرب صاحبه؛ ( فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بقباء وقد رفع ثوبه حتى بدت عورته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد رأى هذا مفظعاً )، أي: رأى قتلاً أو شيئاً مفظعاً، فلم يرجع أبو جندل إلى المدينة، إنما خرج إلى ساحل البحر فنزل بالمروة، ثم كتب كتاباً إلى المستضعفين بمكة يخبرهم بمكانه، فلحق به عدد منهم، منهم أبو بصير وهو حليف بني زهرة، وكان من الذين حفظوا ما نزل من القرآن إذ ذاك، وكان أكبر من أبي جندل في السن، فأصبح قائد المجموعة، واجتمع عليهم ثمانون من المستضعفين من المسلمين، فقطعوا الطريق على أهل مكة، ومنعوا وصول العير من تلك الطريق، حتى جاء أهل مكة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسحبهم عنهم، ولا يريدون إرجاعهم إليهم بعد؛ لأنه هو يقول:

    أبلغ قريشاً عن أبي جندل أني بذي المروة بالساحل

    يهددهم بمكان وجوده.

    الإحسان للمسيء من تمام الاعتراف لله بالنعمة

    وكذلك فإن إحسان الإنسان إلى من أساء إليه أيضاً هو من تمام الاعتراف لله بالنعمة، فالإنسان إذا عرضت بين يديه حاجة غيره فكأنما ابتلاه الله وامتحنه بها، ولهذا قال الحكيم:

    وإذا سئلت الخير فاعلم أنها نعماء تخص بها من الرحمن

    (وإذا سألت الخير فاعلم أنها نعماء تخص بها من الرحمن) فينبغي أن تحمد الله إذ كنت مسؤولاً لا سائلاً، وإذا كانت يدك عليا لا سفلى.

    الإحسان للمسيء فيه إزالة للضغائن والحقد

    وكذلك فإن في الإحسان إلى المسيء إزالة للضغائن والحقد أيضاً.

    وقد ذكر الغزالي أن ملكاً من الملوك كان له مجلس يجلس فيه كل يوم، وكان هناك رجل من الحكماء يقف إلى جنبه فيقول: (جاز المحسن على إحسانه، وكل المسيء إلى إساءته تكفه إساءته)، فهو ينصح الملك بأن يجازي أهل الإحسان بإحسانهم، وأن يدع المسيء تكفيه إساءته، وكان وزير ذلك الملك حسوداً؛ فحسد هذا الرجل على مقامه من الملك، فأراد أن يشي به، فدعاه فسقاه عسلاً قد تغير طعمه أو رائحته، وذهب إلى الملك فقال: (إن هذا الرجل الذي يقف منك هذا الموقف يزعم أنك أبخر) أي: أن في فمك رائحة، ودليل ذلك عندما تدعه إلى المناجاة الآن فسيجعل يده على فيه، فدعاه الملك للمناجاة فوضع يده على فيه، فصدق الملك زعم ذلك الوزير، فكتب له كتاباً إلى عامل له: إذا أتاك فلان فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حياً.

    وكان الملك لا يكتب بيده إلا رقعة فيها مال جزيل، وهذا الوزير حسود كان من أهل الطمع أيضاً. فلما رأى الوزير أن الملك كتب ذلك بيده ظن أن الرقعة قد احتوت على مال جزيل، فدعا الحكيم، فراوده على تلك الرقعة، فقال: أشتري منك رسالة الملك، فقال: ما كنت لأبيعها بمال! قال: كم فيها؟ قال: لم أكن لأفك خاتم الملك، ولكنني أعرف أنه لا يكتب بيده أقل من ألف دينار، قال: أنا أعطيك ألف دينار وأعطني الرسالة، فأعطاه ألف دينار، وذهب الوزير بالرسالة إلى ذلك الوالي، فلما أتاه فتح الرسالة، فإذا فيها الأمر بقتله بتلك الطريقة البشعة، فقال: ليست الرسالة لي، وإنما اشتريتها من صاحبها، قال: لا مناص من إنفاذ أمر الملك، ففعل به ما في الرسالة.

    فلما كان من الغد، وقف الرجل مكانه فقال: (جاز المحسن على إحسانه، ودع المسيء تكفيه إساءته)، وفقد الملك وزيره، فتعجب من الرجل الذي أعطاه الورقة وقد حضر، ومن الوزير الذي كان حوله ومن أمس قد غاب عن مجلسه، فسأل الرجل عن الرسالة التي أعطاه؛ فأخبره أن الوزير راوده عليها واشتراها منه، فحزن حزناً شديداً، وأرسل إلى ذلك الأمير، فوجد الوزير قد قتل، فعرف أن القصة من أصلها كانت من كيد الوزير، فقال: (هذا الذي أقوله لك: جاز المحسن على إحسانه، ودع المسيء تكفيه إساءته)، فهذا الوزير أساء ولم يطلع الملك على إساءته في الدنيا، ولكن الله جازاه بها، فعجل له العقوبة.

    إذاً هذه الجمل الثلاث النبوية هي الجامعة لحسن الخلق مع الناس.

    1.   

    كف الأذى

    وحسن الخلق بدايته كف الأذى، فكف الإنسان أذاه عن الآخرين هو بداية ما يمكن أن يعاملهم به من حسن الخلق، وهو حق من حقوق الجيران؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره )، ومن حقوق الطريق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس: ( إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، فغض البصر وكف الأذى من حق الطريق؛ وهذا أول ما يمكن أن يعد من حسن الخلق؛ أن يكون الإنسان كافاً لأذاه عن الآخرين.

    1.   

    نفع الإنسان لغيره

    ثم بعد هذا حسن الخلق أيضاً ينظر إليه من وجه آخر، وهو سعي الإنسان للنفع بقدر ما يستطيع، فإن (الناس كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)، والساعي إلى نفع الناس دائماً على خلق، وإذا كان الإنسان يحب أن ينفع الناس فهو على خلق دائماً؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه مسلم وغيره: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) فهذا أمر بالنفع، ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً.

    1.   

    الإحسان إلى الوالدين

    كذلك فإن حسن الخلق يصنف تصيفاً آخر باعتبار من تعامله، فأحق الناس بحسن صحابتك والداك اللذان نجلاك، فلابد من الإحسان إليهما.

    وقد أمر الله بذلك وأكده في كتابه، فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً[الأحقاف:15].

    الإحسان إلى الوالدين حال الحياة والممات

    وهذا الإحسان يشمل حياتهما وبعد موتهما، فالإحسان إليهما في حياتهما بحسن المعاملة.

    بني إن البر شيء هين المنطق اللين والطعيم

    فالإحسان إليهما في حياتهما أمر ميسوراً سهل، والإنسان يمتع بهما مدة يسيرة، وسيندم غاية الندم إذا فارقاه، وإذا لم يحسن إليهما في حياتهما فقد بقيت فرصة وهي الإحسان إليهما بعد موتهما، بالدعاء لهما وإنفاذ وصيتهما، وصلة أرحامهما.

    والإحسان إليهما بعد موتهما يشمل الدعاء لهما: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً[الإسراء:24]، وصلة أرحامهما؛ لأنهما الرابط الذي يربطك بتلك الأرحام، وأيضاً الإحسان إلى أهل ودهما، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أنه خرج في الطريق بين مكة والمدينة في وقت الحر، وله حمار يستريح عليه، وعمامة يستظل بها من الشمس، فقال تحت شجرة، فأتاه رجل من الأعراب، فأمر له ابن عمر بالحمار والعمامة، فقال له نافع: رحمك الله أبا عبد الرحمن! إن هذا الأعرابي يرضى منك بدرهم أو درهمين، وقد أعطيته حماراً تستريح عليه، وعمامة تستظل بها من الشمس، فقال ابن عمر: إن والد هذا كان صديقاً لـعمر )، فمجرد صداقة أبيه لعمر اقتضت من ابن عمر الإحسان إليه، فهذا من حسن الخلق مع الوالدين.

    مقتضيات الإحسان إلى الوالدين

    وحسن الخلق مع الوالدين يقتضي ما أمر الله به في كتابه، وهذا الأمر جاء في خمس جمل عجيبة جداً، فقد قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً[الإسراء:23-24]، وهنا خمس جمل هي حسن الخلق مع الوالدين:

    فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[الإسراء:23] بدأ بالنفي قبل الإثبات؛ لأن جانب النفي هو من التخلية، وهي سابقة على التحلية، "لا تقل لهما أف" وهو كل ما يشعرهما بالتضجر منهما أو الملل، أو الاستثقال سواءً كان ذلك في نبرة الصوت في إجابتهما، أو بما كان يفهم منه ذلك؛ فهذا لا يجوز أن يعامل به الوالدان، وهو من سوء الخلق معهما، ولابد أن تكون نبرة الصوت لهما فيها رحمة وحنان.

    ومن باب أولى أيضاً النهي عن نهرهما، وهو رفع الصوت عليهما بالجواب، سواءً كان ذلك في جواب سؤال، أو عندما تطلب منهما أمراً فلا ترفعه بصيغة تؤذن بارتفاعك عليهما.

    الجملة الثالثة هي بالإثبات، فبعد أن جاءت جملتان من النفي جاءت الجملة الثالثة بالإثبات: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[الإسراء:23]، لابد أن تكون أولاً تقول لهما (وقل لهما)، وكثير من الأولاد لا يكلم والديه ولا يحادثهما؛ وهذا نقص في البرور؛ ولذلك قال: (وقل لهما).

    ثم بين حدود القول فقال: قَوْلًا كَرِيمًا[الإسراء:23]، القول الذي تخاطبهما به لابد أن يكون كريماً، والقول الكريم هو: الذي فيه غض، وفيه استجابة لأوامرهما، وفيه البحث عما يرضيهما حتى لو لم يقولاه؛ وأهل الإدارة يقولون: رغبات القادة أوامر، فمجرد وجود رغبة لدى القائد ينبغي أن تكون بمثابة الأمر، وكذلك رغبة الوالد ولو لم يأمر بها ينبغي أن تكون بمثابة الأمر؛ فإذا علمت أنه يحب أمراً ما فلابد أن تبادر إلى ذلك الأمر وأن تفعله ولو لم يأمرك به.

    ثم جاء بعد هذا بالجملة الرابعة: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[الإسراء:24]، بعد القول يأتي الفعل، والفعل يقتضي أن يكون تصرفه معهما بغاية المذلة بين أيديهما، فلابد أن ترحمهما، وأن تكون ذليلاً بين أيديهما؛ فإذا سرت مع والدك فلابد أن تكون بحيث تفسح له الطريق ولا تضايقه فيها، قال أهل العلم: (إذا سرت معه في الليل فينبغي أن تمشي أمامه، وإذا سرت معه في النهار فينبغي أن تمشي خلفه)، بمعنى: إذا كنت تمشي أمامه فإنك تقية ما في الطريق مما يخاف، وإذا كان في النهار فإنك تمشي وراءه؛ لأنه هو يرى ما أمامه في الطريق وتراه أنت. وكذلك فإن خفض الجناح لهما يقتضي التواضع بين أيديهما، وتذكر إحسانهما إليك؛ فقد أحسنا إليك وأنت صبي صغير لا يرجى منك خير، وصبرا على أذاك؛ فقد كانا يزيلان عنك الأوساخ والأقذار، ويسهران إذا سهرت، ويتعبان إذا مرضت، ويسعدان بسعادتك؛ وكل ذلك يقتضي منك المبالغة في إكرامهما.

    ثم بعد هذا الدعاء: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء:24]، أي: بتذكر إحسانهما إليك أيضاً، وقد أمر الله بالشكر لهما كما أمر بالشكر لنفسه؛ ولذلك لابد أيضاً من الشكر لهما، ولذلك فإن الإمام علي بن المديني رحمه الله، وهو من أئمة الحديث النقاد، ومن أهل الجرح والتعديل حدث بحديث عن والده، فسأله طلاب العلم عن والده فقال: اسألوا عنه غيري، فقالوا: لا يمكن أن نسأل عنه غيرك، فلما أحرجوه، قال: ليس بثقة، ثم رجع إلى والده، وسعى لزيادة الإحسان إليه، فقدم حق النبي صلى الله عليه وسلم على حق الوالد عند الإحراج؛ فهو يخاف أن يأخذ عنه طلاب العلم بمجرد أنه ولد علي بن المديني، لكن الواقع أنه غير ثقة، وحقه هو يقتضي ألا يسعى لجرحه، بل يريد أن يسأل عنه غيره حتى يصدر الجرح من غيره.

    ولذلك ينبغي للإنسان أن يتلمس متطلبات والديه ليكون ذلك من حسن خلقه.

    المنافسة في بر الوالدين

    ولابد أن ينافس إخوته وأخواته في بره لوالديه؛ لأن الأولاد لا يمكن أن يكونوا على درجة واحدة في البر في الغالب، ومن النادر جداً أن تستوي درجة الأولاد في البر، كما حصل لـفاطمة بنت الخرشب؛ فأولادها بنو زياد العبسيون سئلت عنهم فقيل: ألك بنون؟ قالت: نعم، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة! قيل لها: أيهم أفضل؟ قالت: الربيع أفضل، بل أنس أفضل، عمارة أفضلهم، كالحلقة المفرغة؛ لا يدرى أين طرفاها، فهذا النوع من النادر جداً أن يقع، فلابد أن ينافس الإنسان إخوته وأخوته في البر حتى يسعى أن يكون أبرهم، وبذلك ينال السبق والفضل عليهم.

    من قصص بر الوالدين

    وقد كان أمية بن الأسكر وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف شيخاً كبيراً قد تجاوز المائة، وكان أبر أولاده به كلاب، فخرج في الغزو مع سعد بن أبي وقاص إلى القادسية، فحزن أمية على ولده هذا حزنا شديداً، وقال شعراً تناقله الناس حتى وصل إلى عمر بن الخطاب، يقول فيه:

    يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب البنون وهذان الجديدان

    إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان

    أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان

    ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني

    يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني

    يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان

    إذا يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنئي سيان

    أمسيت هزء لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك إني راعي الظان

    انعق بضأنك في نجم تحفره من المواضع واحبسها بجمدان

    إن ترعى ضأناً قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

    فلما سمع عمر أبياته رحم هذا الوالد رحمة عجيبة، فأرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن يسفر إليه كلاباً من العراق، فجيء به إليه، فلما جاء إليه سأل عمر كلاباً عن كيفية بره لوالده، فقال: (كنت أسارع إلى مرضاته؛ فكنت أختار من إبلنا خيرها، فأغسل ضرعها بيدي، وأغسل القعب بيدي، وأحتلب له، فأمسك عليه اللبن حتى يشرب منه ما أراد)، فأرسل عمر إلى أمية فجيء به وقد كف بصره، فأمر كلاباً أن يحتلب الناقة على الهيئة التي كان يفعل، وقد كتم عنه عمر مجيء كلاب، فأمسك عليه عمر اللبن، فلما ذاق طعمه قال: "حلب كلاب ورب الكعبة!" فأمر عمر كلاباً أن يلزم أباه وألا يفارقه حتى يموت.

    ونظير هذا ما حصل للفرزدق لما أتته امرأة من بني تميم تشكو إليه أن ولدها وهو خنيس كان أبر أولادها بها، فخرج في جيش سعيد بن عثمان بن عفان إلى كابل بأفغانستان، فولى عليه سعيد بن عثمان رجلاً اسمه تميم، فسعى الفرزدق لرد هذا الولد البر بأمه إليها، فسأل عن قائد السرية التي هو فيها، فذكر له أن اسمه تميم، فسأل عن نسبه فقيل: تميم بن زيد، فكتب إليه أبياته المشهورة:

    تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهر ولا يعيى علي جوابها

    هب لي خنيساً وأحسب فيه منة لحوبة أم ما يسوغ شرابها

    أتتني فعاذت يا تميم بغالب وبالحفرة السافي عليه ترابها

    فلما جاء الكتاب إلى تميم بن زيد لم يتبين نقاط الحروف، فما عرف هل هو خنيس أو حبيش، فأمر أن يسفر إلى الفرزدق كل من في الجيش ممن اسمه خنيس أو حبيش، فكانوا خمسين رجلاً، بسبب بر هذا الولد بأمه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقدم عليكم أويس القرني في أمداد اليمن، وهو رجل كان به وضح، فشفاه الله، إلا موضع أصبع، له أم هو بها بر، فمن لقيه منكم فليسأله أن يستغفر له )، (كان به وضح) أي: بياض من البرص؛ فشفاه الله إلا موضع إصبع، (له أم هو بها بر، فمن لقيه منكم فليسأله أن يستغفر له) فدل هذا على أن البر يستجاب دعاؤه ويرجى له الخير، وقد قال البدوي رحمه الله في ذكر أويس القرني:

    وبره بأمه منعه من صحبة إذ لا تزال معه

    (وبره بأمه منعه من صحبة) فلم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان سيد التابعين، كما جاء في وصفه.

    1.   

    الإحسان إلى من أوصى الله تعالى بالإحسان إليهم

    بعد الوالدين لابد من الإحسان إلى من أوصى الله تعالى بالإحسان إليهم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:36]، فالإحسان إلى هؤلاء أيضاً هو من حسن الخلق، وعلى الإنسان أن يتلمس حاجاتهم، وأن يبادر إليها، وليحاول أن يكون ذلك من غير المنة، فإن المنة تفسد العمل، فإن لم تحبط أجره في الآخرة أبطلت ثمرته في الدنيا؛ ولهذا يقول أحد الشعراء:

    ألبان إبل تعلة بن مسافر ما دام يملكها علي حرام

    إن الذين يسوغ في أعناقهم زاداً يمن عليهم للئام

    لعن الإله تعلة بن مسافر لعناً يشن عليه من قدام

    فلهذا لابد أن يحرص الإنسان على طريقة لا يكون فيها معروفه ممنوناً، بل يحاول ستره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، وقد كان علي بن الحسين الملقب بـزين العابدين رضي الله عنهما ينفق على مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وهم لا يدرون من ينفق عليهم، فيأتي بأنواع الطعام واللباس، ويضعها على أبوابهم في الليل؛ بحيث لا يراه أحد، فلما مات انقطعت عنهم النفقة؛ فعرفوا أنه هو الذي كان ينفق عليهم.

    1.   

    المبادرة إلى نفع الناس والشفاعة لهم

    ومن حسن الخلق مع الناس إذا استطاع الإنسان أن يوصل إليهم أي نفع أن يكون من المبادرين إليه، ومن هذا شفاعة الإنسان فيما لا يستطيع قضاءه هو بنفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء )، وقال: ( إني لأؤخر الأمر أريد أن أصنعه؛ رجاء أن يشفع فيه )، فهو يؤخره وهو يريد أن يصنعه رجاء أن يشفع فيه؛ ليثاب الشافع على شفاعته.

    1.   

    حسن الخلق مع ما يملكه الإنسان

    حسن خلق الإنسان مع الجماد والحيوان

    ومن حسن الخلق أيضاً حسن خلق الإنسان مع مملوكه، سواءً كان جماداً أو حيواناً؛ فإحسان الإنسان إليه من حسن خلقه.

    فحسن الملكة في الثوب ألا يستعمله الإنسان استعمالاً مضر به، أو ألا يدع فيه الأوساخ والأقذار؛ فهذا من حسن الملكة به.

    وكذلك الفراش، فمن إحسان الملكة له ومن حسن الخلق معه ألا يدع عليه الأوساخ والأقذار.

    وكذلك البيت فمن حسن الخلق معه وأنت ممتع به مدة محددة وبيتك بعده قبرك عليك أن تحسن الخلق معه، وإحسان الخلق معه بإزالة الأوساخ والأقذار منه، وقد دخل عمر رضي الله عنه على رجل، فرأى في بيته بناء العنكبوت، فرفع الدرة على رأسه معاقبة له على ذلك، وهذا ما يغبن عنه كثير من الناس.

    وكثير من الناس ينسون أن حسن الملكة هو من حسن الخلق، وأن ما يملكونه من البيوت التي يسكنونها ينبغي أن يكون تنظيفها من عملهم، و(النبي صلى الله عليه وسلم كان يقم بيته، ويخيط ثوبه، ويخسف نعله بيده صلى الله عليه وسلم ).

    وترك الإنسان الأوساخ والأقذار في بيته أو في لباسه أو في فنائه، أو في الطريق العام المشترك بينه وبين غيره من نقص خلقه؛ فيحتاج الإنسان إلى مراعاة هذه الأمور.

    ومثل ذلك الدواب ألا تكلف ما لا تطيق، وأن ينفق عليها.

    حسن خلق الإنسان مع المماليك

    وهذا أيضاً في كل مملوك كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته بالأرقاء: (إخوانكم خولكم، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تكسون، ولا تكلفونهم من العمل ما لا يطيقون، إن الله ملككم إياهم، ولو شاء لملكهم إياكم)، فكل هذا يقتضي إحسان التملك.

    حسن خلق الإنسان مع من يعملون معه

    ومن هذا تعود الإنسان على حسن الخلق مع رعاياه؛ كالذين يعملون معه في عمل مشترك، وبالأخص إذا كان مسؤولاً عليهم، فينبغي أن يسعهم بحسن خلقه، و( إنك لن تسع الناس بمالك فسعهم بحسن خلقك ).

    فالموظفون مع الإنسان ينبغي ألا يسمعوا كلاماً نابياً، وألا يشعروا بأبهته عليهم، وأن يشعروا أنه هو المساوي لهم المشارك لهم في الأمر كله.

    ولهذا عندما ذكر علي رضي الله عنه الشورى قال: في الشورى عشر خصال:

    فيها امتثال لأمر الله تعالى في قوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]، واتصافهم بصفات المؤمنين في قول الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[الشورى:38]، وتحل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يشاور الناس في الأمر كله.

    وكذلك فيها انتصار على النفس؛ لأن الإنسان إذا كان يشاور غيره فمعناه أنه يقر بالقصور والنقص لديه.

    وفيها كذلك إشراك في الأجر للمشاور لما لا يضرك أنت؛ فقد أشركته في الأجر حين استشرته.

    وفيها أيضاً تعويد له على الخلق الطيب؛ فإذا كان الموظفون معك يعلمون أنك تستشيرهم في كل أمر، فإذا تولى أحدهم مكانك فسيتعود على هذا الخلق الحسن بالمشورة، وينقطع عن الاستبداد.

    وكذلك في الشورى أيضاً طلب للصواب؛ لأنه إذا تزاحمت العقول خرج الصواب، والإنسان كثيراً ما يكف عقله عن إدراك ما هو قريب، فإدراك الرأي هو من الرزق، والرزق يتفاوت الناس فيه؛ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ[النحل:71].

    ولذلك فإن سخيلة عرفت ما لم يعرفه عامر بن الظرب على مكانه هو فقال: (فرجتها سخيلة).

    وكذلك في الشورى أيضاً جبر للخواطر، وتقريب للناس؛ والإنسان إذا حس أنك تستشيره في أمرك فإن هذا مقتضٍ لإزالة الشحناء والبغضاء مطلقاً؛ فهو يرى أنك تشركه في أمرك وتقربه تقريباً زائداً حين تستشيره في قرارتك وشأنك.

    وكذلك في الشورى قطع للندم عند الإخفاق في القرار، فإذا كان القرار غير مصيب وكنت قد شاورت فيه فإنك لن تندم؛ لأنك لم تتحمل المسؤولية وحدك؛ فقد شاركت غيرك في الرأي، وقد قال الحكيم:

    فلابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع

    فمجرد التوجع لك تعزية لك على الإخفاق.

    والعاشر من فوائد الشورى أنها سعي لالتزام المأمور بالقرار؛ لأن القرار إذا شور فيه جميع الأفراد في المكتب فصدر عن مشاورتهم جميعاً هذا أدعى لتطبيقه وتنفيذه، بخلاف القرار الذي خرج عن استبداد، وأجبروا على تنفيذه؛ قد يحتالون عليه.

    إذاً هذه فوائد مهمة في الشورى وهي من حسن الخلق.

    1.   

    حسن الخلق مع أهل البيت

    وكذلك فإن من حسن الخلق ما يتعلق بأهل البيت، وبالأخص الأولاد الذين هم أمانة لدى الإنسان، وأخلاقهم ودينهم أمانة لديه، وإنما يأخذون عن الإنسان تصرفاته؛ فإذا كان الإنسان يكذب عليهم فيعدهم ولا يفي لهم، أو يسألونه: إلى أين تتجه؟ فيخبرهم بخلاف الواقع؛ فمعنى ذلك أنه يصدر إليهم الكذب ويعودهم عليه، ( وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تدعو ولدها فتقول: تعال أعطك، قال: ماذا تعطينه؟ قالت: تمرة. قال: أما أنك لو لم تفعلي لكان لك مكانها جمرة )، والمقصود بذلك الوعيد بالنار، فهذه القضية وهي وعد الأولاد بشيء لا ينفذه الوالد خطر عظيم في الدنيا والآخرة، فهي خطر على الأولاد تعودهم على الكذب، وخطر على الإنسان؛ لأنه متوعد بجمرة من جمر النار في مقابل ذلك، فيحتاج الإنسان إلى تعويد أولاده على الصدق وحسن الخلق معهم، وكذلك إذا كان فظاً غليظاً فإنهم سيتعودون على ذلك.

    1.   

    حسن الخلق في الأوقات الحرجة

    ومن حسن الخلق الذي ينبغي للإنسان أن يتعود عليه حسن الخلق في الأوقات الحرجة؛ وأنا أعرف أن كثيراً من الناس إذا كانوا في وقت الصوم وبالأخص في آخر النهار كثيراً يسهل الغضب وتتغير أخلاقهم، وأيضاً تحصل لديهم السرعة الزائدة، فإذا كان أحدهم يسوق سيارة يسرع؛ فيدخل ليس المدخل له، ويظلم الآخرين بأخذ حقوقهم في السير، وهذا النوع هو من التغير في الخلق، وينبغي للإنسان أن يحافظ على ما وصل إليه من حسن الخلق، والصوم مدرسة ينبغي أن تعود الإنسان على حسن الخلق.

    ومن الغريب في الأمر أن كثيراً من الناس في رمضان تسوء أخلاقهم ومعاملاتهم؛ بسبب نقص تغذيتهم، فيقع لديهم غضب وعجلة وغير ذلك من الأمور الناشئة عن سوء الخلق، وينبغي للإنسان أن يعالج هذا عن نفسه وأن يزيله بالكلية.

    1.   

    مدار حسن الخلق

    إن حسن الخلق مداره على أمر واحد ألخصه؛ وهو الإنصاف، فإذا كان الإنسان منصفاً للآخرين، وإذا كنت الآن مستعجلاً في حاجة فاعلم أن الآخرين أيضاً لهم حوائج، وإذا كنت محتاجاً إلى شيء فاعلم أن الآخرين يحتاجون إليه، وإذا كنت تشكو من أي شيئاً فاعلم أن الآخرين يشكون منه.

    والإنصاف يقتضي منك معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به، وقد قال الحكيم:

    لو أنصف الناس استراح القاضي وراح كل عن أخيه راضي

    وبعض الإخوة قد لا يسرهم استراحة القاضي، يريدون أن تقع المشكلات؛ لأنهم محامون أو قضاة، لكن مع ذلك في الإنصاف راحة نسبية للقضاء وأهله.

    لو أنصف الناس استراح القاضي وراح كل عن أخيه راضٍ

    لو عمل الناس على الإنصاف لم تر بين الناس من خلاف

    ولهذا يحتاج الإنسان إلى الإنصاف.

    والإنصاف من أوله أن يأخذ الإنسان بالدليل، فإذا نقل إليك كلام عن حبيبك وأخيك؛ فتبين هل هو حق أو كذب؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6]، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111].

    وكذلك الإنصاف يقتضي منك أيضاً الحرص على التماس العذر للآخرين كما تلتمس العذر لنفسك.

    فأنا الآن إذا التوى لساني فأخطأت في كلمة في إعرابها أو صرفها أو غير ذلك، إن لم أكن من أهل الإنصاف فسأحاول البحث لذلك عن وجه، وأقول: هي لغة من لغات العرب، وأبحث لها عن تأويل، كما كان الأولون يبحثون عن التأويلات في مثل هذا النوع، لكن إذا كان الإنسان من أهل الإنصاف ويعلم أنه خطأ، فقال: أخطأت في ذلك، الأمر ميسور، سهل جداً! أنا لست أكبر من الخطأ، فيمكن أن أخطئ، ويمكن أن أعتذر عن خطئي، فتنازل الإنسان إلى هذا المستوى هو من حسن الخلق المطلوب، وأن يكون من السهل عليه الرجوع عن القرار بعد أن يتخذه وبالأخص إذا علم أنه مخطئ فيه.

    وكثير من الناس يهجر أحبته وأقاربه، ويقطع رحمه بسبب نزغة شيطانية، ولكن مع طول الزمن يزول عنه الغضب، ثم يستمر على ذلك، وأعرف رجلاً هجر ابن عم له، أو قريباً له مدة من الزمن؛ بسبب أمر دنيوي خفيف جداً، فمات، فدعوناه إلى حضور جنازته فلم يقبل وقال: (الموت ليس صربة) أي: الموت ليس وسيلة للإرضاء!

    وهذا النوع قطعاً هو من نزغ الشيطان؛ ولذلك ينبغي للإنسان إذا وقع في قرار مثل هذا الهجر فتجاوز ثلاث ليالٍ أن يأتي فيزيل هذا القرار، فإذا هجر حبيبه أو قال: فلان مستغن عني؛ نعم، هو مستغن عنك، وأنت أيضاً مستغن عنه، لكن الرحم بينكما يقتضى الصلة، فزره في داره، ولو كنت تظن أن ذلك نقص لمروءتك أو نقص لقدرك ماذا يضرك به عفوك وإصلاحك، فأنت السابق إلى الخير.

    وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما من يبدأ بالسلام )، وقد حصل بين الحسين بن علي رضي الله عنهما وأخيه محمد بن الحنفية رضي الله عنهما شيء، فانقطع كل واحد منهما عن الآخر يوماً، فأرسل محمد إلى الحسين يقول: إنك أفضل مني، فتعال زرني، فأنا لا أستطيع أن آتيك أولاً لئلا أكون أفضل منك، فأنت أفضل مني، فجاء الحسين إلى محمد، مع أن الحسين أفضل وأكبر، ومحمد يريد ذلك؛ لأنه ليس أفضل من الحسين، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، فأراد أن يكون الحسين البادئ بالسلام.

    ولذلك لابد أن يحرص الإنسان على الرجوع عن أي قراراً مخطئ حتى لو أقسم عليه يميناً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أقسم على يميناً فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه )، حتى لو أقسم عليه بالله؛ يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، وقد أمر الله بذلك أبا بكر رضي الله عنه فقال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22].

    ولذلك على الإنسان أن يرجع عن قراراته المخطئة في هجران ذوي رحمه، ولنتذكر جميعاً قول عمر رضي الله عنه لــأبي موسى الأشعري في كتابه: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس، فراجعت فيه نفسك، فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل).

    نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يحسن أخلاقنا، وأن يوسع أرزاقنا، وأن يبارك لنا فيما أعطانا، وأن يجعل قرة عينينا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا في قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوفقنا أجمعين لرضاه، وأن يجعل عملنا كله في تقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755821915