إسلام ويب

تقويم الله لغزوة أحد [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شخص الله سبحانه وتعالى الحالة النفسية للمؤمنين بعد خذلان المنافقين، فخاطبهم ليذكرهم بحالهم التي كانوا عليها من قبل في تمني الشهادة والرغبة فيها، وحثهم النبي صلى الله عليه وسلم على فضل الشهادة وما للشهيد عند الله فظهرت تضحيات كثير منهم وبطولاتهم. ومنهجية المؤمن دائماً تذكر عوامل الثبات ومعانيه عند حصول الفتنة، وذلك بتذكر قدر الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وكذلك يتذكر معاني المروءة والمسئولية والثواب العظيم للثبات على الحق مقتدياً بأهل الثبات والصبر والعزيمة.

    1.   

    مواقف من غزوة أحد

    الحالة النفسية للمؤمنين وتضحيتهم بعد خذلان المنافقين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فلا يزال هذا المقطع من سورة آل عمران في تقويم غزوة أحد، وبيان ما ترتب عليها من النتائج والآثار، فقد جاء في هذا المقطع الذي سمعتم تشخيص الحالة النفسية للمؤمنين عندما تخاذل عنهم المنافقون ورجعوا، وكانوا نصف الجيش، وجاءتهم الأحزاب، جاءتهم قريش وأحابيشها وأحلافها، فلم يبق لهم من الأنصار في ذلك المكان إلا إيمانهم وسيوفهم؛ ولذلك قال كعب بن مالك رضي الله عنه:

    الناس إِلْب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وَزَر

    فقال الله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

    خاطب أهل الإيمان بتذكير حالهم قبل المعركة، وهو أن الإنسان إذا سمع الوعد الوارد من الرب الكريم للشهداء في سبيل الله، وعرف المنزلة التي نالوها، والمحلة التي نزلوها من الإسلام، يتمنى أن يلحق بهم، وأن يصل إلى مستواهم، فقد قتل من المسلمين يوم بدر نفر قليل، ومع ذلك فقد نالوا درجة عالية في الجنان، ودرجة عالية في الإيمان كذلك، فكانوا في المقام الثالث بعد مقام الأنبياء والصديقين، فنزل الشهداء في ذلك المقام.

    وفي يوم بدر ضحى أقوام من متفاوت الأعمار والمستويات، فمنهم عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان شيخًا كبيرًا قد تجاوز الثمانين، ولما تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة يريدون البراز، تقدم إليهم رجال من الأنصار، فعرَّفوهم بأنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد بني عمنا، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وحمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فتقدموا إليهم، وكانوا يجتمعون جميعًا في عبد مناف، فـعتبة وأخوه شيبة ابني ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فلما تقدموا إليهم حصل بينهم الخصام في ذات الله، وقد قال علي رضي الله عنه: (أنا أول من يجثو للمخاصمة يوم القيامة)، وفيهم أنزل قول الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحج:19-21].

    فتقدموا إليهم فحسمت المعركة لصالح المسلمين، فقتل الكفار الثلاثة، وضرب عتبة ساق عبيدة بن الحارث فأطن ساقه، فحمله صاحباه، فجاءا به إلى رسول الله عليه وسلم، فكان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله لوددت أن أبا طالب حي؛ حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

    كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا ولـما نقاتل دونه ونناضل

    ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

    فامتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث.

    تضحية عمير بن الحمام وحارثة

    وكان فيمن قتل ذلك اليوم عمير بن الحمام ولم يبلغ الحلم بعد، فقد اختلف في سنه وقت استشهاده، فقيل: كان في الثالثة عشرة من عمره، وقيل: كان في العاشرة من عمره، ومنهم كذلك حارثة ، وكان شابًّا ليس لأمه ذكر ولا أنثى سواه، هو وحيد أمه، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، فكان بيده تمرات، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (تقدموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال عمير: بخ بخ عرضها السموات والأرضّ؟! إنه لعمر طويل إن عشت حتى آكل هؤلاء التمرات، فرمى بهن فقاتل فقتل)، ولما قتل حارثة جاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( يا رسول الله، أخبرني عن مكان ابني حارثة أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي، إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها).

    تسابق المؤمنين للشهادة

    وسمع أهل الإيمان- من شهد منهم المعركة ومن لم يشهدها- ما أنزل الله تعالى في حق الشهداء، وما شهد لهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وعدهم الله تعالى من الخير الكثير الجزيل الذي لا انقطاع له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه ويزوج بسبعين من الحور العين)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم منزلتهم في الإسلام، وأنهم يعرضون على الله فيقول: ( تمنوا، فيتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، فيقول: ولمَ؟ فيقولون: حتى نقتل فيك عشر مرات )، لما يرون من فضل الشهادة في سبيل الله، لا يريدون أن يرجعوا إلى الدنيا للحياة، إنما يريدون الرجوع إليها للموت.

    فلما حصل ذلك تمنى كثير من المؤمنين الشهادة في سبيل الله، وذكرهم الله بذلك في هذا المقام في وقت الانهزام ووقت الشدة والضائقة، فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ[آل عمران:143].

    ما كان الناس يتمنونه لما سمعوا الوعد العظيم للشهداء في سبيل الله، وما كانت عليه نفسياتهم في ذلك الوقت من الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وطلب الشهادة في سبيله، كل ذلك يغيب عن الأذهان في وقت المشكلات والهزات.

    1.   

    الثبات عند الفتن

    تذكر معاني الثبات عند حصول الفتنة

    وهذا درس عظيم ينبغي أن يأخذ منه المؤمنون العبرة، فإن الإنسان في كثير من الأحيان إذا تغير الحال الذي كان عليه تذهب قناعته، ولا يدري أين ذهبت من شدة الهول الذي هو فيه.

    فالمؤمن مقتنع بمبادئه، وبأن ما عند الله خير وأبقى، ويعلم أن موتته التي كتب الله عليه واحدة وسينالها مطلقًا في أي مكان كان، وأن أشرف موتة يموتها هي الموت تحت ظلال السيوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كفى ببارقة السيوف شا )، أي: كفى ببارقة السيوف شاهدًا.

    ولهذا فإن عامر بن فهيرة رضي الله عنه، وكذلك حرام بن ملحان، كلاهما لما أحس بوقع السيف في رأسه، قال: فزت ورب الكعبة، واغترف الدم على وجهه، يغترف دم نفسه على وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة.

    فهذا الحال يحصل للإنسان عند سماع الوعظ، وعند الصلاة، وعند المرققات، وعند قراءة القرآن.

    ولكن إذا جاء وقت الفتنة ووقت الهزة، يبقى مع الذين يثبتهم الله سبحانه وتعالى، فيتذكرون هذه المعاني والقناعات في وقت الحاجة إليها، وتزول عن أقوام آخرين لا يتذكرونها، فمنهم من لا يتذكرها مطلقًا، وهم المفتونون الذين لم يرتضِ الله لهم هذا المقام، ولم يريد لهم هذه المكانة العالية، فمقامهم أدنى من هذا، ولا يستحقون مثل ذلك ولو كانوا يقتنعون به، فليس مقامهم واصلًا إلى هذا المستوى، وآخرون يفوتهم ذلك في أول الأمر، ثم يتذكرونه فيما بعد، فيراجعون أنفسهم ويرجعون إلى قناعاتهم؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لما انهزم المسلمون عنه أمر العباس أن ينادي في آثارهم فنادى: يا أهل السمرة. فنادى في آثارهم يذكرهم ببيعتهم على الموت تحت شجرة الرضوان، فنادى العباس بأعلى صوته: يا أهل السمرة. فمن لم يستطع أن يثني فرسه أو دابته قفز عنها ورجع.

    فتذكروا تلك المعاني وبيعتهم لله وما عاهدوا الله عليه وما أنزل الله فيهم في كتابه؛ فلذلك راجعوا قناعاتهم، ورجعوا إلى صوابهم بعد أن استزلهم الشيطان.

    وهذا ما حصل لبني سلمة رضي الله عنهم، فإنهم في يوم أحد كذلك استزلهم الشيطان في وقت المعركة، فانشلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا المدينة أو كادوا، تذكروه فرجعوا، فقالوا: لا خير فيكم بعده. فرجعوا، وهذا ما أنزل الله تعالى فيه في كتابه: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران:122].

    وقد قال جابر بن عبد الله: فينا أنزلت بني سلمة، وما أود لو أنها لم تنزل؛ لأنها ليست عيبًا، فقد قال الله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا[آل عمران:122].

    فتولى الله أمرهم في الدنيا والآخرة؛ فلهذا ذكرهم الله بهذه المعاني، وهذا التذكير ليس لأولئك الذين شهدوا معركة أحد فحسب، بل هو تذكير للمؤمنين في كل زمان ومكان، فكل يوم من أيام الدنيا كما بينا هو مثل يوم بدر، أو يوم أحد، أو يوم الأحزاب، أو يوم الفتح، أو يوم حنين، أو غير ذلك من الأيام، منذ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم من الأيام إلا وهو مثل أيامه في العدو، وإنما تختلف الأيام باختلاف رجالها وقناعاتهم؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى وذكركم جميعًا بهذه المعاني، فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

    فالمؤمن إذا قرأ الوعد الوارد أو قرأ الوعيد في مقابله، فإن ذلك يحفز نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله، سواء أكان ذلك بالتضحية بنفسه أو بماله أو بوقته أو بجاهه أو بغير ذلك، وهو يعلم أن ما فاته وما أخذ منه في سبيل الله مخلوف لا محالة، وأنه ميت لا محالة، وخير موتة يموتها هي أن يموتها في سبيل الله مقبلًا غير مدبر، ولا يموت إلا بأجله، لا يمكن أن ينتقص شيء من أجله، ولا من رزقه.

    فذكرنا الله تعالى بهذا تثبيتًا لأهل الإيمان وبيانًا لأن هذه المعاني ينبغي أن يتذكرها الإنسان، وأن يراجعها في كل وقت، فالإنسان عرضة للفتن وهو عرضة في كل وقت لأن ينسى مبادئه أو أن ينسى قيمه، فذكره الله تعالى بذلك.

    1.   

    تمني الشهادة في سبيل الله ونيل مقام الحق والخير

    فقال: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ[آل عمران:143]، أي: تتمنون الموت؛ أي: الشهادة في سبيل الله.

    مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ[آل عمران:143] أي: من قبل أن تواجهوه.

    ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) فأتيحت لكم الفرصة لتحققوا أمنياتكم، وتصلوا إلى رغباتكم.

    ولذلك فإن أنس بن النضر رضي الله عنه فاته يوم بدر فأسف لذلك أسفًا شديدًا، ونوى أن أول معركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يموت فيها شهيدًا، وعندما اتجه إلى جبل أحد قال لسعد بن معاذ: يا سعد- أو قال: يا أبا عمرو- والله إني لأجد ريح الجنة دون هذا الجبل. فاستشهد، وكان في آخر من استشهد في المعركة، حتى شهد على المعركة بكاملها.

    وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ[آل عمران:143]، ومثل الموت في ذلك كل الفرص، فالإنسان قد يتمنى أن ينال مقامًا يحتاج له فيه في نصرة الحق، أو أن يجد مقامًا يقول فيه كلمة الحق فتكون مشرفة له، يبيض لها وجهه يوم القيامة، أو أن يجد مقامًا يقرض الله فيه قرضًا حسنًا، فيقدم إليه بعض ما أنعم به عليه من المال، أو أن يجد مقامًا هو فيه في وجه العدو، يصبر ويصابر، كل هذه المقامات يتمناها الإنسان؛ لأنها فرص لا تعوض، وقد لا يجدها كثير من الناس، فيتمناها الإنسان قبل أن يجدها؛ فلذلك ذكرنا الله بها، فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ[آل عمران:143]، فأتيحت لكم فرصة التضحية في سبيل الله، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143] تأكيد للرؤية، فهنا قال: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ[آل عمران:143]، والمقصود بالرؤية هنا: المقابلة وليست رأي العين، فالمقابلة تسمى رؤية، حتى في الجمادات، ومن ذلك قول الشاعر:

    أيا نخلتي لوذ يرى الله أنني أحبكما والجذع مما يراكما

    أيا نخلتي لوذ جرى النخل فيكما مع البان والرمان حتى علاكما

    فهنا قال: والجذع مما يراكما؛ أي: مما يقابلكما.

    فكذلك هنا قال: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: قابلتم الموت؛ ولذلك كان قوله: (وأنتم تنظرون) تأسيسًا على ذلك، فالمقابلة الحاصلة بالمواجهة مؤكدة أيضًا برأي البصر، وهذا النظر ليس إلى الموت الذي هو ملك الموت الذي يقبض الأرواح، ولكن هو نظر إلى سبب الموت، وهو السيوف والرماح والسهام، فهذا سبب الموت وقد شاهدوه ورأوه، والعرب تطلق السبب على الـمُسبَّب والـمُسبَّب على السبب، فمن إطلاق السبب على الـمُسبَّب قول جرير:

    ولقد قتلتك بالهجاء ولم تمت إن الكلاب طويلة الأعمار

    ولقد قتلتك بالهجاء؛ أي: تسببت في قتلك، بالهجاء ولم تمت، إن الكلاب طويلة الأعمار.

    وكذلك من تنزيل المسبب منزلة السبب قول الشاعر:

    أكلت دماً إن لم أَرُعْكِ بِضَرَّة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

    أكلت دمًا: أي أكلت مسبَّب الدم، فالدم المقصود به، قتل قريب له ومسبَّبه: هو الدية، وأكل الدية كان عارًا وعيبًا لدى العرب في الجاهلية؛ لأنهم يرون أن الثأر من الشرف، أن يثأر الإنسان لدمه من الشرف، فيدعو على نفسه بأن يأكل الدية وهي مسبب الدم؛ فلذلك نزَّل المسبَّب منزلة السبب.

    وكذلك قال هنا: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) فنزَّل السبب منزلة الـمُسبَّب، فالسبب: هو السيوف والرماح والسهام، وقد رأيتموها مُشْرَعة في نحوركم.

    وهذا المقام لا يمكن أن يثبت فيه إلا من كان من أهل اليقين والصبر، وكما قال أبو الطيب في سيف الدولة:

    وقفت وما بالموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم

    تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً ووجهك وضَّاح وثغرك باسم

    فهذه المقامات هي مقامات الصدق، وهي التي جاء ذكرها في حديث وفد الأَزْد، أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس عشرة خصلة، خمس منها تخلَّقنا بها في الجاهلية، وخمس أمرَتْنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمَرْتنا أن نعمل بها، فسألهم عن الخمس التي تخلقوا بها في الجاهلية، فذكروا منها: والصدق في مواطن اللقاء.

    فالصدق في مواطن اللقاء: أن يكون الإنسان صادقًا عند الضرب، وعند التقاء الصفين، فالإنسان الثابت الذي هو موقن بمبادئه، ويعلم أن الموت آت لا محالة، ويعلم أن الهرب لا ينجي من الموت: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78]، فإنه سيثبت في وجه العدو، ويكون ثباته شجاعة له، فقد سئل علي رضي الله عنه عن الشجاعة، ما هي؟ فقال: صبر ساعة.

    الشجاعة أن يصبر الإنسان ساعة واحدة، فإذا صبر الإنسان ساعة فسيأتي الفرج بعدها، فأمر الله سبحانه وتعالى في هذ ا الكون نافذ بين الكاف والنون، يقلب الأمر كله في كل طرفة عين، ومن هنا قال الحكيم:

    قد يموت الجبان في آخر الصف وينجو مُقارِع الأبطال

    ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كَحَلِّ العِقَال

    فيأتي الفرج من حيث لا يتوقعه الإنسان؛ ولهذا فإن الذين تعودوا على الصبر في مواطن اللقاء هم الذين يدركون قيمة المبادئ؛ لأنه لا يدرك الإنسان قيمة المبدأ حتى يضحي في سبيله، ولهذا قال أحد شعراء فلسطين في مرثيته للشيخ جمال الدين القاسمي- قائد الجهاد في فلسطين رحمة الله عليه- يقول فيه:

    إن الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة والطريق أمان

    فالوقت الذي يستطيع الصابر فيه التقدم في وقت الحرج، لا يمكن أن يقوم به كل الناس، إنما يقوم به أهل الصدق وأصحاب المبادئ وأربابها، وأما مَن سواهم فيمكن أن يتزعموا في وقت الراحة، ووقت الأمن والطمأنينة، ولكن هيهات أن يقع ذلك في وقت الهزات والأزمات، فحينئذٍ يعرف الرجال، ويعرف الرواحل الذين يمكن أن يتحملوا على كواهلهم أعباء المسئوليات، وأن يصدقوا فيما بايعوا الله عليه، وما أبدوه من الحق، وهم ينتظرون الجزاء عند الله تعالى؛ ولهذا فإن طلحة بن عبيد الله في هذا اليوم خرج من كفه عشرة سهام، وهو يرد بكفه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فشلت يمينه، شلت يمينه والسيف في يساره يقاتل به، فجعل يده بمثابة الدرقة يرد بها السهام عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وأولئك القوم الذين صمدوا وصبروا كانوا مثالًا للمؤمنين في كل زمان ومكان، وإذا تذكر إنسان حالهم وتذكر قيامهم بالحق الذي بايعوا الله عليه، وعرف أنهم الأسوة الصالحة، وأنهم المثل له الذي ينبغي أن يأتسي به ويقتدي به، هم أولئك النفر الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، فأثنى الله عليهم في كتابه، هم وأولئك الذين لا يمكن أن يرغب أحد بنفسه عنهم؛ ولهذا فإن رجلًا من الأنصار في يوم بئر معونة سولت له نفسه الفرار، أن يفر، فلما خرج فارًّا قال: أأرغب بنفسي عن مكان قُتل فيه المنذر بن عمرو؟! فرجع، فكان ذلك سببًا له للرجوع والمصابرة إلى أن لقي الشهادة في سبيل الله، فمكان قتل فيه المنذر بن عمرو لا يرغب مؤمن- وهو يعرفه- بنفسه عنه.

    1.   

    عوامل الثبات

    ولذلك فإن المصبرات التي تقتضي من الإنسان الثبات متعددة متنوعة، فمنها:

    تذكر قدر الله سبحانه وتعالى

    تذكر الإنسان لقدر الله سبحانه وتعالى، وأن الأمر قد كتب وحسم، وأن الأقلام قد رفعت، وأن الصحف قد جفت، وأن ما هو كائن قد كتب:

    أيتها النفس أجملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا

    اقتداء الإنسان بغيره

    والمثبت الثاني: هو ائتساء الإنسان واقتداؤه بغيره من الذين سبقوه، فله فيهم أسوة حسنة صالحة، والموت ليس عارًا ولا عيبًا على الإنسان، فقد سبقه إليه الأنبياء، والشهداء، والصديقون، والصالحون في كل القرون؛ فلذلك ليس عيبًا، وبالأخص إذا حال الأجل فلا منجى منه.

    تذكر المروءة

    كذلك مما يثبت الإنسان في مثل هذا الوقت: تذكر مروءته، وأنه إذا هرب بأي وجه يلقى الناس، بأي وجه يلقى الآخرين. ومثل هذا: الهروب المعنوي، وهو الانهزام والخوف والجبن، فهو هروب وإن كان هروبًا معنويًّا، فالحاصل واحد والنتيجة واحدة؛ ولذلك فإن معاوية رضي الله عنه قال: (والله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

    أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمة بالثمن الربيح

    وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح

    وقولي كلما جشئت وجاشت مكانك تُحمدي أو تستريحي

    لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح

    تذكر المسئولية

    وكذلك من هذه المثبتات التي تثبت الإنسان: تذكره لمسئوليته عمن وراءه، كما حصل لـأبي الأعلى المودودي رحمه الله، عندما أُطلق الرصاص في القاعة وهو يحاضر فيها، فقال الناس له: اجلس. قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟! فجعل من نفسه مثلًا لإخوانه الذين يقتدون به من بعده.

    تذكر الجزاء العظيم

    وكذلك من هذه المثبتات أيضًا: تذكر الجزاء العظيم، ومن يجتمع الإنسان بهم، فأنت لا شك محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحب للقاء به، وإذا كان الحال كذلك، فإذا كنت صادقًا، فيمكن أن تفطر معه في هذا اليوم من صومك، وهذا ما قاله يحيى عياش رحمة الله عليه في فلسطين لأولئك الشباب الذين كان يربيهم على الشهادة في سبيل الله، يقومون الليل ويصبحون على الصيام، فإذا تعالى النهار وهم في حلقة الذكر والقراءة، قال لهم: من يترشح منكم اليوم للإفطار على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللقاء به؟

    وحينئذٍ يتحمسون للشهادة في سبيل الله، وينطلقون إلى ذلك الموعد الذي لا يخلف، فـابن رواحة رضي الله عنه لما تقدم للشهادة، قال: غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه.

    فذلك الموعد الذي لا يخلف، فالإنسان إذا قتل شهيدًا في سبيل الله، مقبلًا غير مدبر، صابرًا محتسبًا، لابد أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك جاء هذا التثبيت العجيب في هذه الآية: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

    تذكر المصيبة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ثم بعد ذلك جاء تثبيت آخر، وهو أعظم من كل هذه المذكورات، وهو قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144].

    كان من أسباب النكبة التي حصلت يوم أحد: أن الشيطان صاح بالناس لما قتل مصعب بن عمير: إن محمدًا قد قتل، وكان مصعب بن عمير يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سببًا لهزيمة بعض المؤمنين، فإن من عادة الله سبحانه وتعالى: أن القائد له تأثير على أتباعه؛ ولذلك كانت القيادة مركزية في كل الأعمال، فالقائد يلتف من حوله الناس، فيكون مركز ثقل وتوازن؛ ولهذا فإن العرب يقولون:

    وألف ثعلب يقودها أسدْ خير من الف أسد إن لم تقد

    فيحتاج إلى قيادة يسلم لها الناس أنفسهم، وتلك لا شك لم تتمثل في الأرض قط كما تمثلت في النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القائد الذي تسلم له النفوس؛ فلذلك لا عار إذا حصل انهزام في نفوس بعض الناس إذا قيل: إن هذا القائد العظيم قد قتل، لكن جاءت التسلية عجيبة جدًا، فخاطب الله أولئك بقوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[آل عمران:144].

    فيجوز عليه ما يجوز على الرسل من قبله، فقد قتل بعضهم وأهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بني إسرائيل، ونشر زكريا بالمنشار حتى قسمت جثته، وقتل عدد كبير من الأنبياء في الجهاد في سبيل الله، ومن سواهم من الأنبياء ماتوا؛ فلذلك قال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[آل عمران:144].

    فما هو بملك، ولا هو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، إنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل، فهو لا شك سائر على آثارهم، ((قد خلت من قبله الرسل)) وهذا تعزية للناس عن موته صلى الله عليه وسلم، فهو ميت لا محالة: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر:30].

    فكان هذا تسلية وتعزية من الرب الكريم للمؤمنين جميعًا لهذا المصاب الذي لا يمكن أن تصيبهم مصيبة أعظم منه، وهو المصيبة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[آل عمران:144].

    فليس ربًا ولا معبودًا حتى تتعلق به الآمال، إنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيسلك أثرهم لا محالة. أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144]، وهنا بيَّن الله سبحانه وتعالى ما يجيزه العقل والعادة في حقه من الموت والقتل، فكل ذلك جائز عقلًا وعادة، وإنما بدئ بذكر الموت لأنه الذي سيجري في علم الله، في علم الله أنه لا يقتل في معركة، وإنما يموت شهيدًا بالسم الذي جعله له اليهود عليهم لعائن الله في الشاة المسمومة؛ فلذلك قال: أَفَإِيْن مَاتَ[آل عمران:144]، ثم قال: أَوْ قُتِلَ[آل عمران:144]، ترديدًا؛ ليعلم المؤمنون أن الأمر سهل، وأن القتل في سبيل الله ليس عارًا ولا عيبًا، فهو يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن دونه؟!

    أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144]، هل موته أو قتله يقتضي منكم الهزيمة، وأن تنقلبوا على أعقابكم؟! فالحل حينئذٍ ما هو؟ قال: أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144]، فمن كان هذا حاله ومآله فإن مصيره هو ما توعد الله به، وهو لا يضر إلا نفسه؛ فلذلك قال: أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا[آل عمران:144].

    1.   

    ضروب الانقلاب وقت الفتن

    وهذا الانقلاب على العقبين ينقسم إلى قسمين: إلى انقلاب حسي، وانقلاب معنوي:

    فالانقلاب الحسي: كالفرار من الزحف، وكالهزيمة أمام العدو.

    والانقلاب المعنوي: كما يحصل في كثير من الناس من الرجوع إلى مصالحهم الخاصة، والاهتمام بها والحذر عليها؛ كالحذر على وظائفهم ومناصبهم وأموالهم، والحذر على عافيتهم العاجلة التي يُؤْثِرونها على العاقبة الآجلة، فكل ذلك هو من الهزيمة ومن الانقلاب، من انقلاب الإنسان على عقبيه، مَن آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وأراد تنمية ماله ووظائفه، وأراد الاستمرار على هذه الحياة العاجلة في مقابل ما وعده الله سبحانه وتعالى، فقد انقلب على عقبيه، وما أكثر المنقلبين على أعقابهم في زماننا هذا! فلذلك لابد إخواني أن نجعل هذه الآية مقياسًا بين أعيننا، وأن ننظر إليها، وننظر إلى أنفسنا على ضوئها، فهي خطاب لنا جميعًا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144].

    على أي طريق تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يتركنا على طريق الإيمان والعمل والجهاد في سبيل الله؟ ألم يتركنا وبأيدينا السيوف في وجه العدو؟ هذا الحال الذي تركنا عليه، من تركه فقد انقلب على عقبيه؛ فلذلك قال: أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144]، فعهد ما بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحال الذي تركنا عليه، وهو الذي ارتضاه الله لنا، وأكمل لنا الدين عليه، فمن ترك ذلك الحال ورغب بنفسه عنه، فقد انقلب على عقبيه على كل حال؛ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا[آل عمران:144].

    وهذه الآية بليغة في التحذير من الفرار، فإنه جعله انقلابًا، والانقلاب لا يرضى به الإنسان: الانقلاب أن ينكس الإنسان فيجعل رأسه في أسفله، فترتفع أسافله وتنخفض أعاليه، هذا لا يرضاه الإنسان لنفسه، هذا هو الانقلاب، وهذا الانقلاب أيضًا بيَّن خسته بقوله: عَلَى عَقِبَيْهِ[آل عمران:144]، فالعقبان: هما مؤخرتا القدمين، والذي يسيل دمه على عقبه دليل على انهزامه، كما قال الشاعر:

    ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدم

    فلذلك حذر الله سبحانه وتعالى من هذا الانقلاب، وبيَّن قبحه، وربط ذلك بالعبارة المؤذنة بالاشمئزاز منه، فالإنسان لا يرضى لنفسه أن ينقلب، ولا يرضى إذا قُدِّر عليه الانقلاب أن ينقلب على عقبيه إلى الخلف.

    فلذلك كان هذا اللفظ المعجز بيانًا للتنفير من الهزيمة مطلقاً، وبيانًا للتحذير منها على كل حال، فقال: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا[آل عمران:144].

    فالبيعة إذًا ليست مع النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هي مع الله تعالى؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[الفتح:10].

    والذي ينفق ماله في سبيل الله لا ينفقه من أجل الناس، وإنما يقدمه إلى الله، والله ينظر إليه حين يوقع الشيك، وحين يدخل يده في جيبه لإخراج النقود، أو حين يتقدم بحر ماله لله تعالى، فالله ينظر إليه في ذلك الوقت، وهو أكرم الأكرمين، وإذا كان صادقًا مع الله فلا يمكن أن يخسر في صفقته أبدًا؛ ولهذا فإن هذه البيعة مع الله سبحانه وتعالى تقتضي ألا يرتبط الإنسان بمخلوق، فالتوكل على الخالق وحده، وأنت مكلف من قبل الخالق بأداء وظيفة وعمل، سواء تقدم لها الناس أو تراجعوا عنها، فعليك أنت أن تقوم بها مهما كلف ذلك؛ ولهذا حتى لو تواترت المصائب، ولو تتابعت، ولو قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مات، فذلك لا يقتضي من المؤمن تراجعًا أو نكثًا لبيعته مع الله سبحانه وتعالى، بل يقتضي منه استمرارًا وزيادة في الطريق، كما حصل لأصحابه رضوان الله عليهم.

    فالصحابة لا شك كانوا يضحون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويبذلون، لكن لا يمكن أن يختلف اثنان في أن تضحيتهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كانت أكبر وأعظم من تضحيتهم في حياته؛ ولذلك فتحت الأمصار وتضاعفت الرقعة الإسلامية التي تركهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقام عليها دولة الإسلام، تضاعفت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين فقط، لم تمض سنتان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد فتح أكثر العراق وأكثر الشام، وكانت التضحيات الجسيمة العجيبة التي أبداها أولئك الصحابة الذين أسفوا كل الأسف على ما فاتهم من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن أهل مكة لما تذاكروا موت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام، تذكروا أنهم لم يشهدوا أيامه الأولى، ولا غزواته المشهودة، وأنهم فرطوا فلم يشهدوا تلك المعارك، فأرادوا أن يدركوا من سبقهم، فخرجوا بأنفسهم وأموالهم في الغزو في سبيل الله، ومنهم الحارث بن هشام بن المغيرة، ومنهم كذلك سهيل بن عمرو، فهذان الرجلان خرجا بأهلهما ومالهما إلى الشام، فقتلا وقتل أهلهما ولم ينج من كل أسرة من الأسرتين إلا فرد واحد، فنجا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ونجت الشريدة بنت سهيل بن عمرو، ولما قدما إلى المدينة وهما صبيان، قال عمر بن الخطاب: أنكحوا الشريد بالشريدة لعل الله أن يخرج منهما الذرية الصالحة، فخرج منهما عشرة أولاد.

    فتلك التضحية التي بذلها أولئك القوم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنهم استوعبوا هذا الدرس وانتبهوا، وعرفوا أن الخطاب لهم، فبادروا إليه، فكان ذلك سر فتح الأمصار، وسر تلك المشاهد التي لا حصر لها، وإذا عددنا غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه، فإنها لا تصل إلى مائة، اختلف فيها فقيل: خمسة وسبعون، وقيل: خمسة وتسعون، لكن لم يقل أحد بوصولها إلى المائة، وغزوات الصحابة بعده في أيام أبي بكر وعمر، والفتوحات التي فتحت عليهم، فكانت بالمئات، كانت قرابة الألف، ما ذكره الواقدي منها فقط كان قريبًا من الألف، من المشاهد والمعارك التي كانوا فيها.

    ولهذا فإن على المؤمنين أن يستوعبوا هذا الدرس، وأن ينتبهوا له؛ ولذلك فإن أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد لما قيل: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاح بذلك الشيطان، قام هو فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فتقدم فقاتل حتى قتل.

    وكذلك أعاد هذا الدرس على مسامع المؤمنين أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرضه التي بالعوالي، فجاء فوجده مسجًى بثوب، أي: مستورًا بثوب في بيت عائشة، فكشف عن وجهه، فإذا هو يتلألأ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقبله بين عينيه، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حيًا وميتًا، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها، ثم وقف في الناس فقرأ هذه الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144]، فقال عمر بن الخطاب: لكأني لم أسمعها قبل اليوم، كأنه ما سمع هذه الآية قبل قراءة أبي بكر لها، فثبت الله المؤمنين بذلك، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عند موته كالمِعْزَى المَطِيرة، كما وصفهم أنس بن مالك رضي الله عنه، فمنهم من اعتقل لسانه فلم يستطع الكلام، ومنهم من اعتقلت ركبتاه فلم يستطع القيام، كـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم من فقد عقله كـعمر بن الخطاب، تأثروا تأثرًا بالغًا لهول هذه المصيبة، فثبت الله أبا بكر الصديق، فقام بالحق في هذه الفتنة، فصبر وصمد ووقف في وجه الردة حتى ردها الله به.

    ولذلك قال أبو داود سليمان بن الأشعث رحمه الله: (ثبت الله الأمة في أيام فتنة الردة بـأبي بكر، وثبت الله الأمة في أيام فتنة القول بخلق القرآن بـأحمد بن حنبل)، فإن أحمد بن حنبل أيضًا ثبت، فقد سجن ثمان عشرة سنة وهو في القيود، وجلد خمسمائة سوط، ولم يزل صابرًا مستمرًّا على مبدئه لا يتذبذب عنه، ولا يحول عنه بحال من الأحوال، حتى جاء الفرج، فأزال الله تلك الغمة عن المسلمين وردها، ولو استجاب هو لها لكانت هزيمةً كبرى لأهل السنة جميعًا.

    وقد ذكر أحمد أنه لما جيء به في الحديد إلى الواثق ببغداد، جاءه شيخ كبير السن في شكل حارس للسجن، كأنه يجمع القمامة، وما فعل ذلك إلا ليدخل على أحمد بن حنبل، فلما دخل عليه قال: يا أحمد، أنت اليوم رأس فاثبت، فإنك إن ثبتَّ ثبت الناس. فقال أحمد: ما شاء الله، ما شاء الله، فقال: ثبتني الله بهذه الكلمة حين سمعتها.

    فهي كلمة عظيمة جدًّا، إذا استحضرها المؤمن وتذكر أن صموده لا يغير شيئًا مما كتب، وأن القدر نافذ لا محالة، فهذا سبب لصموده واستمراره على طريق الحق؛ ولذلك فإن الذين يتذكرون مثل هذه الدروس هم الذين يصمدون صمودًا عجيبًا.

    (فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أهل البيت يأتي إلى المسيح الدجال، فيقول: إنك لَلمسيح الدجال الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيأمر به فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق فرقتين ويمشي بينهما المسيح الدجال، ثم يدعوه فيقوم، فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقينًا).

    إن كثيرًا من الطاغين يظنون أن التهديد أو الأذى يمكن أن يؤثر في أولئك الجبال الثابتين الصامدين الذين لا تهزهم الرياح، ولا يمكن أن يتفيئوا وراء كل ناعق، فهذا الرجل قال: والله ما ازددت فيك إلا يقينًا، فثبت على حاله، فأراد المسيح الدجال ذبحه، فجعل الله ما بين ذقنه وترقوته نحاسًا فلم يسلط عليه.

    وكذلك، فإن الذي يشهد مثل هذه المواقف، أو يتعلمها ويقرؤها، تكون عونًا له على الثبات في كل الأزمات، فإن عبد الله بن المبارك رحمه الله، قال: قصص الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ[هود:120]، فكان ذلك تثبيتًا لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم بعد هذا قال: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144]، وهنا يستغرب الإنسان ختام هذه الآية، وهي في وقت التنبيه على الصبر، لا وقت التنبيه على الشكر، فهنا لم يقل: ((وسيجزي الله الصابرين))، بل قال: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144].

    فبالإمكان أن يسأل الإنسان عن نكتة ذلك البلاغية، فإنه في معرض الحض على الصبر، لكن نكتة ذلك: أن الإنسان إذا تعدى مقام الصبر بالمشاهدة يصل إلى مقام الشكر؛ لأنه يعلم أن ما اختار الله له فهو الخير على كل حال؛ ولذلك فإن الشيخ سيديا رحمة الله عليه لما أنشده ابنه الشيخ سيدي محمد قصيدته التي يحث فيها على الجهاد في سبيل الله، وعلى جهاد النصارى، عند أول قدومهم على هذه البلاد، قرأ عليه قصيدة أخرى، قال:

    باختيار المليك لا باختياري

    فغضب الشيخ غضبًا شديدًا، قال: (باختيار المليك وهو اختياري).

    فلابد أن يكون اختيار الإنسان تابعًا لاختيار الله سبحانه وتعالى وأن يكون راضيًا بما قدر الله له، وهذا الرضا هو سر الثبات والاستمرار؛ ولذلك قال: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144].

    ثم بعد هذا جاءت التسلية والتعزية، فقال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا[آل عمران:145].

    ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ)) فيدخل في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن دونه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ[آل عمران:145].

    لا يمكن أن يموت أحد إلا بأجله وبأمر الله له، والإذن هنا المقصود به الأمر، وقد جاء الإذن بمعنى الأمر في القرآن في عدد من المواضع، كقول الله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ[مريم:64] بأمر ربك: هذا تفسير لما جاء في الإذن في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ[القدر:4].

    فقوله: ((بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)) فسرت بقوله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ[مريم:64]، فدل هذا على أن الإذن معناه الأمر. وكذلك هنا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ[آل عمران:145]، أي: إلا بأمر الله.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (كتابًا مؤجلًا)

    ((كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) وذلك ما كتبه الله سبحانه وتعالى في سابق قدره، فكل ذلك هو كتاب مؤجل؛ أي: مرتبط بالأجل، وهذا الكتاب يشمل ثلاثة كتب:

    ما كتبه الله عنده في أم الكتاب في الصحف التي عنده فوق عرشه، وهذا غير مربوط بالشروط ولا بانتفاء الموانع، وليس فيه محو ولا تبديل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].

    والكتاب الثاني ما يكتبه الله في اللوح المحفوظ في ليلة القدر من كل عام: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا[الدخان:4-5].

    والثالث ما يكتب مع الجنين وهو في بطن أمه، ثم يُرسَل إليه ملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.

    فلذلك قال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا[آل عمران:145]، ثم بعد هذا جاء الترغيب والترهيب؛ ليحث الإنسان على التضحية والبذل مع قناعته العقدية التي جاء تثبيتها بما سبق، بعد تثبيت القناعة العقلية بما سبق من الاعتقاد جاء بعد ذلك ما يتعلق بالترغيب والترهيب الذي يزيد الإنسان طمأنينة ويقينًا، فقال: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:145].

    هذا وعد عظيم من الله سبحانه وتعالى، فالخير كله بيد الله سبحانه وتعالى، والشر ليس إليه؛ ولذلك فهو الذي يكتب ما يشاء، لا معقب لحكمه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2].

    فلهذا يهب ما يشاء لمن يشاء، فالذي يرغب في الخير العاجل في الحياة الدنيا ليس له مطلب إلا إلى الله، فالله هو الذي يرزق به، والذي يرغب في الخير الآجل في الدار الآخرة، أو فيهما معًا، فليس له ملجأ إلا إلى الله، فهو الذي يُطلب ذلك منه وحده، وبهذا فهو الذي يستحق وحده أن يُتعامل معه، وإذا كان الإنسان صادقًا في التوجه إلى الله تعالى وفي التعامل معه، فإنه لا يخيب ولا يخسر أبدًا: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:145]، وعد آخر معطوف على ما سبق، وهو التزام الله تعالى بالجزاء الذي لا حدود له للشاكرين الذين شكروه على ما أعطاهم من النعم، فإنه تعهد لهم بالزيادة في الدنيا، وتعهد لهم بالجزاء في الأخرى؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7].

    فقد تأذن الله أي: تعهد بالزيادة من النعم لمن شكر نعمته عليه في الدنيا، ثم بعد ذلك تعهد بالجزاء في الأخرى، فقال: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:145].

    والشاكرون: هم الذين يصرفون نعمة الله تعالى في مرضاته، فلا يصرفون شيئًا منها في غير ما يرضي الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    أقسام الناس في شكر النعمة

    وقد ذكرت لكم من قبل أن الناس في النعم على أربعة أقسام:

    القسم الأول: لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا من الشاكرين.

    والقسم الثاني: يعرفون النعمة بوجودها، ولكن لا يعرفون من أين أتت، فيظنون أنها من كسبهم وكدهم، أو أنهم يستحقونها، كحال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78]، وهؤلاء أيضًا لا يمكن أن يكونوا من الشاكرين.

    والقسم الثالث: يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم مشغولون بالنعمة آناء الليل وأطراف النهار، كحال الأعراب: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا[الفتح:11]، وحال هؤلاء حذر الله منه؛ إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ[المنافقون:9].

    فلذلك كان القسم الرابع: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولا ينشغلون بالنعمة عن شكرها، بل يصرفون كل ما أنعم الله عليهم به في مرضاته، كانوا أقل عباد الله؛ لذلك قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ[سبأ:13].

    فلهذا وعد هؤلاء بالجزاء الذي لا حدود له، فقال: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[آل عمران:145].

    1.   

    دور قصص السابقين في التسلية والثبات

    وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146]، هذا نوع آخر من التعزية والتسلية، وهو بيان القصص، فقد قص الله علينا قصص الماضين، فقال: ((وَكَأَيِّنْ)) وهي لفظ يدل على التكثير والمبالغة، مثل: كم وكائن وكذا كلها ألفاظ تدل على المبالغة في العدد، أي أن ذلك العدد غير محصور لكثرته، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146].

    ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)) أي: كم من الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم قاتل معه ربيون كثير، وفي القراءة الأخرى: (قُتل معه ربيون كثير)، ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) جاهدوا معه في سبيل الله، وفي هذه القراءة: (قُتل معه ربيون كثير)، فكان ذلك تسلية لنا نحن وتعزية، فإذا كان الأنبياء قد قتلوا وهم أكرم على الله منا، فلا يمكن أن نريد نحن النجاة مما أصيب به الأنبياء، فنحن قطعًا لسنا أكرم على الله من النبيين، وإذا كان الحال كذلك فقد قتل أنبياء الله، وأوذوا في سبيل الله، فكانوا أسوة لمن سواهم: (وكأين من نبي قُتل معه ربيون كثير)،

    والربيون: هم المنسوبون إلى الرب، أي: العباد الزهاد المنقطعون لعبادة الله سبحانه وتعالى، وهم الربانيون أيضًا، وقراءة: قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146] يترتب عليها ما بعدها من قوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[آل عمران:146]؛ لأن القتال يقتضي نتائج كثيرة تترتب عليه، كهذه النتائج المترتبة على غزوة أحد في هذه الآيات، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[آل عمران:146].

    والوهن: هو ضعف القلب؛ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا[آل عمران:146]، والضعف هنا: ضعف البدن، (وما استكانوا): والاستكانة: هي المذلة، ((وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)) أي أن هؤلاء من الصابرين، فقد أحبهم الله تعالى، وهو يحب الصابرين جميعًا، وهذا ربط للماضي بالواقع، فالقرآن دائمًا ينزل على واقع الناس حتى لو كان الحديث في قصص الأنبياء السابقين، يردنا الله بالخطاب إلى واقعنا نحن، فلم يقل: (والله يحبهم)، بل قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146]؛ لتشرئب نفوسكم لأن تكونوا منهم، فهي فرصة متاحة إلى يوم القيامة لكل من يريد اللحاق بالأنبياء والربِّيين؛ فلذلك قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146].

    ومحبة الله سبحانه وتعالى جائزة عظيمة لا يمكن أن تعدلها جائزة، فمن أحبه الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يحله بدار هوان، لا يمكن أن يعذبه؛ فلذلك قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146].

    وهذا الصبر هو في الواقع ثلاث شعب، هي: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره، والمناسب للمقام هنا: ما يتعلق بالصبر على قضاء الله وقدره، فالإنسان إذا علم أن الله تعالى قادر على الانتقام من أعدائه جميعًا، وقادر على هدايتهم جميعًا، وإنما يبتلي الناس بما يحصل، فإنه بذلك يستعد للصبر، فقد قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4]، ويعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يريد منا أن نحسم المعركة بأن يُقتل جميع الكفار، فهذا غير ممكن، فقد أراد الله تعالى بسننه الثابتة أن تبقى هذه الأرض مسرحًا للعمليات، مسرحًا للصراع بين حزب الله وحزب الشيطان، ولا يمكن أن يقضى على أحد الحزبين فيها أبدًا.

    الذين يتوقعون أو يريدون لحزب الله أن يلقي السلاح، وأن يتراجع وينهزم أمام انتفاشة الباطل وانتفاخته، مغرورون، فما حصل هذا في تاريخ البشرية. نعم، قد يقل حزب الله، وقد تخف وسائله وتنتقص، لكن لهم في ذلك عبر سابقة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249].

    فلذلك قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146].

    وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي اليوم الموالي لهذه المعركة، وهو الغد منها، نادى مناديه في الناس: حي على الجهاد في سبيل الله، ونادى مناديه أن لا يخرج معه من لم يخرج معه بالأمس، فخرج المؤمنون وجراحهم تدمى ولم يأذن لأحد لم يشارك في معركة أحد إلا لـجابر بن عبد الله- وقد سبقت قصته- فخرجوا في غزوة حمراء الأسد، وأسروا بعض المشركين، ومنهم أبو غزة الشاعر، وكان من شعراء المشركين، وكان يحض المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ أسيرًا يوم بدر، فقال: يا محمد، امنن علي فإني ذو عيال وذو بنات، وليس لهن من يكد عليهن سواي، فأخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد ألا يكثِّر عليه سوادًا، وألا يغزوه، فأخلف ذلك فجاء في غزوة أحد، فسلط الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، فأخذه أسيرًا في غزوة حمراء الأسد، فقال: يا محمد، امنن علي فإني ذو عيال وذو بنات، وليس لهن من يكد عليهن سواي، قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، فكانت مثلًا، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وفي هذه الغزوة كذلك وجدوا أبي بن خلف، وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأصاب ترقوته بالسيف، فخرج يخور ومات في الطريق، فوقفوا عليه، على جثته في غزوة حمراء الأسد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أشقى الناس من قتل نبيًا أو من قتله نبي)، فمن قتل نبيًّا أو قتله نبي فهو أشقى الناس، وأبي بن خلف كان من أشقى الناس بمكة، وأشدهم عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نال جزاءه، فضربه رسول صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.

    وبعد هذا قال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ[آل عمران:147]، أي: ما كان قول هؤلاء الأنبياء والربيين الذين قاتلوا في سبيل الله أو قتلوا في سبيل الله، فعلى قراءة: (قَاتَلُوا)؛ أي: ما كان قولهم عند حصول القرح والاصابة فيهم، يقول الأحياء منهم ذلك، وعلى قراءة ((قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) المقصود أن هذا هو اعتقادهم، فالقول يطلق على الظن، والظن بمعنى اليقين:

    علام تقول الرمح يثقل عاتقي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

    (علام تقول الرمح)؛ أي: تظن الرمح يثقل عاتقي.

    لذلك يقول ابن مالك رحمه الله في الألفية:

    وكتظن اجعل تقول إن ولي مستفهمًا به ولم ينفصل

    بغير ظرف أو كظرف أو عمل وإن ببعض ذي فصلت يحتمل

    وأجري القول كظن مطلقا عند سليم نحو قل ذا مشفقا

    فلذلك في قراءة: ((قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ))، ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)) أي ما كان اعتقادهم إلا ذلك.

    وعلى قراءة ((قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) فهذا قول الأحياء منهم، الذين لم يُقتلوا.

    وهذه الأفعال الثلاثة المنفية يقابلها اعتقادهم؛ لأن هذه الأفعال الثلاثة المنفية كلها يترتب عليها تأثير في شخصية الإنسان، فقد قال: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[آل عمران:146]، وبدأ بالوَهْن؛ لأنه ضعف القلب وهو شر أنواع الضعف، ثم قال بعد ذلك: وَمَا ضَعُفُوا[آل عمران:146]، وهذا ضعف البدن، فإذا خارت قوى البدن، فذلك سبب أيضًا للضعف، وهو ثغرة يُدخَل على المؤمن منها.

    ((وَمَا اسْتَكَانُوا)) فالاستكانة أمام العدو، والإشفاق من بأسه وبطشه أيضًا ثغرة من الثغرات التي يدخل على الإنسان منها، فالإنسان- حتى لو كان وحيدًا- إذا لم يصب بالمهانة والهوان فإنه سيستمر على شجاعته وتضحيته، وإذا أصيب بالهوان فستهون عليه نفسه كما قال الحكيم:

    من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام

    ولهذا، فإنه قال: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا[آل عمران:146].

    فالاستكانة أمام العدو خطر عظيم وهو يقتضي من الإنسان التنكر لكل مبادئه وأموره؛ ولذلك فإن زهير بن أبي سلمى يقول في زيد الخيل عندما قاتلهم:

    وإن لا يكن مالي بآتٍ فإنه سيأتي ثنائي زيدًا ابن مهلهل

    فما نلتنا غدرًا ولكن لقيتنا غداة التقينا في المضيق بأخيل

    تفادى حماة القوم عن وقع سيفه تفادي بغاث الطير عن وقع أجدل

    وهذا النوع هو الذي حصل أيضًا لـمحمد بن حميد، الذي رثاه أبو تمام بقوله:

    كذا فليَجِلَّ الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم تُرِق ماءها عذر

    توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَّفَر السَّفْرُ

    وما كان إلا زاد من قَلَّ زادُه وذخرًا لمن أمسى وليس له ذخر

    تردى ثياب الموت حمرًا فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر

    وما مات حتى مات مضربُ سيفِه من القوم واعتلَّت عليه القنا السُّمْر

    فتًى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إذ فاته النصر

    كأن بني نَبْهان إذ يفقدونه نجوم سماء خَرَّ من بينها البدر

    فهذا الحاصل الذي حصل هو واقع يتكرر، وهو سنة هؤلاء الأنبياء والربيين؛ فلذلك قال: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146]، في مقابل ذلك ماذا حصل لهم؟ فليس النفي المطلق مدحًا، النفي المطلق ليس مدحًا، فنحتاج إلى إثبات في مقابله، وأنتم تعلمون أن البلاغة كلها تجمع بين النفي والإثبات، فكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) جامعة بين النفي والإثبات، والنفي المحض ليس توحيدًا، وليس فيه فائدة؛ فلذلك قال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران:147]، أربعة أمور كانوا يسألونها الله تعالى ويضرعون إلى الله في تحقيقها فحققها الله لهم.

    ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)) وهذا في اعتقادهم، وهو أيضًا دعاؤهم الذي يدعون به ويلهجون به.

    وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا[آل عمران:147]، فهم قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا))، يسألون الله تعالى المغفرة لذنوبهم، وذلك خشية أن يكونوا قصروا أو فرطوا، فالذي يدرك فيما بينه وبين الله ما حصل منه من التفريط والتقصير في جنب الله، لابد أن يحرص على مغفرة سيئاته حتى في مقام الشهادة في سبيل الله، وكلنا يعلم ما فرط فيه في جنب الله، كلنا يعلم كثيرًا من التقصير والقصور في جنب الله وفي التعامل معه، وإذا أدرك الإنسان ذلك حرص كل الحرص على المغفرة؛ فلهذا قال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا[آل عمران:147]، فيسألون الله تعالى أن يغفر ذنوبهم، والمغفرة: هي ستر الذنب في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، كما سبق بيانه.

    ((وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) الذنب ينشأ عن التقصير، وفي مقابله يقع عكسه، وهو الإفراط والتجاوز (وهو الإسراف)، فالذنب من التقصير، والإسراف من الزيادة، وكلاهما مذموم شرعًا، فبين الإفراط والتفريط المنهج السوي المعتدل، وهو الاستقامة التي لا ميل فيها ولا زيغ، ولا وكس فيها ولا شطط، فهذه هي سبيل الحق، وهؤلاء يخشون أن يكونوا قد زادوا بالإسراف، أو أن يكونوا نقصوا بالتفريط، فسألوا الله تجاوز ذلك كله، فقالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا[آل عمران:147].

    ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) هذا أمر آخر يريدونه، وهو ثبات الأقدام، وثباتها يقتضي ثبات القلوب؛ لأن الجهاز العصبي إنما يتحرك بعد أمر القلب له بذلك، فلا يمكن أن يتحرك الإنسان- أن تتحرك قدماه- إلا بعد حركة القلب؛ فلهذا قالوا: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا[آل عمران:147]. وهذا السؤال يقتضي أنهم يسألون الله تعالى الشجاعة؛ فهي صفة من الصفات الممكنة، والله يرفد بها من يشاء، فهم يسألون الله تعالى التثبيت.

    1.   

    أقسام التثبيت

    والتثبيت ثلاثة أقسام: تثبيت في الدنيا، وتثبيت في البرزخ، وتثبيت يوم القيامة:

    التثبيت في الدنيا

    أما التثبيت في الدنيا: فهو أن يعمل الإنسان على وفق قناعته الشرعية، وأن يبقى ثابتًا على ذلك، لا يهزه التخويف، ولا يهزه الترهيب، ولا يتنازل عن شيء مما اقتنع به، فهذا إنما يحصل لمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا، فمن كان ثابتًا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، فحالات الزمان عليه على تناوبها واختلافها غير مؤثرة فيه:

    وحالات الزمان عليك شتى وحالك واحد في كل حال

    فلذلك يثبت في حال الضراء ويثبت في حال السراء، ويستقيم على كل حال، لا يزداد في حال السراء تطرفًا أو تعصبًا، ولا يزداد في حال الضراء كذلك تراجعًا أو تساهلًا، بل حاله واحد على كل حال؛ ولذلك فإن أحد كبار السن من الأئمة الذين اعتقلوا في ماضي هذا القرن، قال لبعض الذين يحاكمونه: أنا موقفي قد حدد فيما أحفظه من القرآن بين جنبيَّ، ولا يمكن أن يطرأ عليه تعديل، فلا يمكن أن أتطرف ولا أن أتعصب، ولا يمكن أن أتساهل ولا أن أتنازل، هذا موقف ثابت في قلبي بهذا القرآن الذي أحفظه. وبذلك فالمؤمن يعلم أن أحوال الزمان متقلبة، وتقلبها هو من أمر الله سبحانه وتعالى، فعليه أن يثبت عندها، وألا تستفزه الفتن، وبالأخص إذا تذكر فتنة المسيح الدجال، وهي أعظم فتنة بين خلق آدم وقيام الساعة، وأنتم تنتظرونها الآن، فالمسيح الدجال خارج في هذه الأمة قطعا، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون أن يخرج فيهم خوفًا شديدًا، فإذا ذكروه بكوا بكاءً شديدًا خوفًا من هذه الفتنة.

    فإذا كان المؤمن يعلم أنه أمامه فتن عظمى، ومنها فتنة المسيح الدجال، فعليه أن يثبت في الفتن، وألا يهتز كيانه أمام أي ضغط أو إغراء، وأن يعلم أن كل ذلك تأثيره زائل، تأثير كل ذلك زائل.

    فـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أضربت أمه عن الطعام حتى كادت تموت، أخذ بأذنها فقال: يا أماه، لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفسًا بعد نفس على أن أرجع عن ديني هذا ما رجعت عنه، فمُوتي أو فاحيي. فتبيَّن لأمه أن الضغط لا يؤثر عليه.

    وكذلك تخويف عمرو بن سعيد لما قال له أبوه، وهو أبو أحيحة سعيد بن العمامة، قال لابنه هذا، وقد كان يعذبه على الإسلام، قال: لئن رفعني الله من مرضي هذا، لا يعبد رب ابن أبي كبشة بمكة أبدًا. فقال عمرو: اللهم لا ترفعه. قال ذلك لأبيه بين يديه، قال: اللهم لا ترفعه. فمات في مرضه.

    فهؤلاء القوم لم يعودوا يتأثرون بالضغوط، ولا المفاوضات، ولا يمكن أن يركنوا إلى أي شيء من هذه الأمور التي يتنافس فيها الناس، لا يمكن أن يتراجعوا أمام أي ضغط من أمور الدنيا؛ ولهذا فقد جُرِّب مصعب بن عمير وهو فتًى حدث صغير السن، ولم يكن في وجهه إذ ذاك شعرة، وقد أودعته أمه في السجن، وكلفت به أشداء يجلدونه في الصباح وفي المساء وهو في سلاسل الحديد، ويعرضونه للشمس، ويبطحونه على الحجارة المحماة، لا يتراجع عن شيء من أمره ولا يكلمهم ببنت شفة، لا يكلمهم بكلمة واحدة.

    ومثل هذا الحال أيضًا ما حصل لـحبيب بن زيد رضي الله عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب، فإنه كان يسأله: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فيقول: نعم أشهد، فيقول: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم أشهد، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: أنا أصم. فيقطع منه عضوًا، ثم يعيد عليه المسألة فيجيبه، فيقطع منه عضوًا آخر، حتى قطعه إربًا إربًا، وهو ثابت على شهادته.

    فلذلك كانت هذه الآيات عبرة للمعتبرين، ودرسًا في الثبات، في ثبات الإنسان في الحياة.

    التثبيت في البرزخ

    والثبات البرزخي: هو الثبات عند المسألة إذا سأله منكر ونكير: ما ربك، وما دينك، وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فمن كان من أهل الإيمان، فيثبته الله بالقول الثابت، فيقول: ربي الله وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثًا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعناه.

    الثبات يوم القيامة

    والثبات يوم القيامة إنما هو بالثبات على الصراط، بأن ينطلق الإنسان عليه كالبرق الخاطف، أو كالريح المرسلة، أو كأجاويد الخيل والإبل، وينجو من عقباته ونكباته، فهذا هو الثبات الأخروي.

    وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا[البقرة:250]، وهذا الدعاء شامل لأنواع الثبات الثلاثة، شامل للثبات في الدنيا، والثبات في البرزخ، والثبات يوم القيامة.

    1.   

    طلب المؤمن لرضا الله والنصر على الكافرين

    ثم بعد هذا: وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[البقرة:250]، سألوا الله تعالى النصرة، وهذه النصرة ليست هدفًا مطلوبًا للمؤمنين، فأهل الإيمان هدفهم وغايتهم السعي إلى رضوان الله، فهم يحرصون على شيء واحد، وهو الذي يطلبونه بكل أعمالهم، كل الذي يطلبونه هو رضا الله، وإذا رضي الله عنهم، فلا يبالون بما سوى ذلك، لا يبالون بأي شيء آخر، ولو اقتضى ذلك تقطيعهم إربًا إربًا، كما حصل لـحبيب بن زيد رضي الله عنه، وإذا لم يحصلوا على رضوان الله فلا يمكن أن ينفعهم أي شيء آخر، فأهدافهم فيما سوى ذلك لا عبرة بها، فأهل الإيمان لو فتحت لهم خزائن الأرض، وفتحت عليهم أمصارها جميعًا، ولكن لم يرضَ الله عنهم، لا يبالون بذلك؛ لأنه لا نفع فيه.

    وإذا رضي الله عنهم، ولو لم يتحقق لهم أي هدف، فلا يضرهم ذلك شيئًا، لكن مع هذا جبلت القلوب والنفوس على محبة الفتح، كما قال الله تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ[الصف:13].

    فلما كانت النفوس مجبولة على ذلك ولو لم يكن هدفًا، سألوه الله تعالى، فقالوا: وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[البقرة:250]، وهذا النصر منه التمكين في الأرض بميراثهم، فالأرض: لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128].

    والله تعالى تعهد بالنصر لمن ينصره: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر:51]، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ[الحج:40]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7].

    فهذا وعد لا يخلف، وأهل الإيمان يجزمون به، وهم ينتظرونه، ويعلمون أنه متأكد لا محالة، لكن هذا النصر درجات: فمنه التمكين في الأرض وميراثها، ومنه التمكين في القلوب بحصول المحبة فيها، ومنه كذلك تحقيق الأهداف والوصول إليها، ولو استشهد الإنسان في سبيلها، فـحمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، ومن معهم من المؤمنين الذين قتلوا يوم أحد، قد نصرهم الله نصرًا مبيناً، وإن كانوا لم يشهدوا ذلك النصر، فهم لا يريدونه لأنفسهم؛ هم يريدون انتشار هذا الدين وانتصاره، فبلغ هذا الدين المكان الذي تجلسون فيه اليوم بعد أن كانوا محصورين في المدينة في ذلك الحال، فتحقق ما كانوا يرجونه.

    ولهذا، فإن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما غزا القسطنطينية في الجيش وجرح فكان يجود بنفسه عند الموت، أتاه أمير الجيش فقال: يا أبا أيوب، أوصني بأية وصية في الدنيا تريدها، سأنفذها؟ فقال: هل ستنفذها؟ قال: نعم. قال: فإذا أنا مت، فشدني على فرسي، واتركها تمضي يومًا في أرض العدو، وادفنوني حيث بلغت بي. قال: وما حاجتك إلى ذلك؟ قال: أريد أن أكون في مكان تتعلق به نفوس المؤمنين؛ حتى تصل إلي سنابك خيلهم.

    فدفن عند سور القسطنطينية، وبني عند قبره مسجد، وهو مسجد أبي أيوب الأنصاري اليوم بعد فتحها، ولما فتحت القسطنطينية على محمد الفاتح رحمة الله عليه، ذهب إلى قبر أبي أيوب، ووقف عليه مسلمًا، فهو يعلم أن أمنية أبي أيوب قد تحققت، فسنامك خيل المسلمين وطئت ذلك المكان الطاهر الذي دفن فيه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

    وهذا أمر عظيم جدًّا، وهو أن المضحين يحتاجون إلى مثل وأسوة، سواء كان حيًّا أو ميتًا، فيحتاجون إلى شيء يطالبون به، أو إلى حدود يريدون الوصول إليها، فكانت الحدود قبر أبي أيوب الأنصاري، فتعلقت نفوس المؤمنين بالوصول إليه، فقاتلوا وصبروا حتى وصلوا إليه.

    ولذلك فإن أهل الحروب ينتهزون مثل هذا النوع من الحيل، فالمختار بن أبي عبيد الثقفي لما حارب قتلة الحسين رضي الله عنه، جاءه عبيد الله بن زياد في جيش من أهل الشام تعداده أربعون ألفًا، وكان جيش المختار بن أبي عبيد أربعة آلاف فقط، فأخرج المختار كرسيًّا قديمًا كان لديه، فأخرجه للجيش، فقال: هذا كرسي علي بن أبي طالب. وهو كاذب؛ فليس الكرسي لعلي، وكان المختار كذابًا، وقد جاء في الحديث: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فالمبير؛ أي: القاتل وهو الحجاج، والكذاب: هو المختار بن أبي عبيد، لكنه كان صاحب حيلة وعقل ودهاء، فأخرج لهم ذلك الكرسي فقال: هذا كرسي علي بن أبي طالب. فأرسل به فارسًا فرماه في الجيش، في جيش الغزاة، فقاتل الناس حتى وصلوا إلى ذلك الكرسي، فقطع دونه من الأيدي الشيء الكثير حتى وصلوا إليه، وكانت حيلة من حيله.

    وكان من حيلته أيضًا: أنه أخذ حمامًا أبيض، فجعله في صناديق، فحمله معه في المعركة، فلما كان في مواجهة العدو قام في الناس خطيبًا فقال: إني لأجد في الكتاب المنزل أنكم ستلقون عدوكم فتحيصون أمامهم حيصة؛ أي: تنهزمون أمامهم، فيرسل الله الملائكة في شكل طير أبيض دوين السماء، فينهزم العدو أمامكم. فصدقه الناس فيما قال، فلما التأمت المعركة ورأى هزيمة أصحابه، أرسل الطير في الهواء، فقال الناس: الملائكة، الملائكة! فانهزم أهل الشام.

    وقد خدعه أحد الشعراء، وفي ذلك يقول:

    أُري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات

    هذه كلها ترهات، كلانا عالم بالترهات؛ فلذلك كان من وسائل الثبات: أن يكون الإنسان يقاتل عن مبدأ، ويحمي قضية معينة، وقد قال أحد الدعاة المشاهير في هذا العصر: من كيد الله تعالى للمسلمين ورحمته بهم: أن جعل قضية فلسطين في وقت تفرقت فيه الأمة الإسلامية إلى دويلات وإلى قوميات، في الوقت الذي بدأت فيه القومية العربية، والقومية الزنجية، والقومية التركية، والقومية الفارسية، وقسم المستعمر الرقع الإسلامية فجعلها دويلات، لم يبق للمسلمين شيء يجمعهم (قضية واحدة تتعلق بها نفوسهم جميعًا)، فجعل الله قضية فلسطين في هذا الوقت، فكانت سببًا لاجتماع كلمة المسلمين، فهي قضية لا يتنازل عنها مسلم، سواء كان زنجيًّا أو عربيًّا أو فارسيًّا أو تركيًّا أو روميًّا، هم جميعًا يتفقون على هذه القضية، فهذا من كيد الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تحقيق الله لمراد عباده المؤمنين

    فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ[آل عمران:148]، حقق الله لهم مرادهم، فآتاهم ثواب الدنيا بما عجل لهم من الفتح في أعدائهم، وحسن ثواب الآخرة: وهو ما وعدهم من الجنة التي عرضها السموات والأرض، ومن لذة النظر إلى وجه الله الكريم، والاجتماع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشرب من حوضه بيده الشريفة، (فآتاهم الله ثواب الدنيا) وثواب الدينا غير ممدوح عند الله تعالى، ولو كان من فضله ورحمته ونعمته، لكن لا يقارن بثواب الآخرة؛ فلذلك قال: ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)).

    فثواب الآخرة الذي آتاهم الله هو أحسن ما يمكن أن يتصور، ولا يمكن أن يخطر على بال: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

    ((وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذا وصف لهم بالإحسان، فقد جعلهم الله تعالى من المحسنين، وحقق لهم ذلك بمرادهم.

    وهذا المقطع يؤخذ منه كثير من الدروس الواقعية، فإن الناس اليوم إذا سمعوا الدروس والعبر، أو قرءوا معركة من معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمنوا أن يكونوا من المجاهدين الذين يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنتم جميعًا، أنا متأكد أنكم حين سمعتم قصة طلحة بن عبيد الله ودفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، تمنيتم جميعًا أن يكون كل واحد منكم مكان طلحة يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، أليس كذلك؟

    والأخوات المستمعات أيضًا لما سمعن قصة أم عمارة نسيبة رضي الله عنها وما كانت تحمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تجاهد بالسيفين بين يديه، تمنين كلهن أن يكن مكانها أيضًا، أنا لا أشك في هذا.

    فإذا كان الحال كذلك، فإن تمني التضحية والبذل في سبيل الله، إنما يكون عند وقت سماع الإنسان لمثل هذه الدروس والعبر، لكن عليه أن يتخذ ذلك زادًا، وأن يؤثر في حياته: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:143].

    1.   

    دور المؤمن في المعركة القائمة مع الكفار

    فاليوم المعركة القائمة إنما هي على الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليست المعركة على الفلسطينيين، ولا على العراقيين، ولا على الأفغان المساكين، ولا على الكشميريين، ولا على الشيشانيين، إنما هي معركة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يريد أن يكون حياديًّا فيها، فهو كالذي يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشارع والناس يقاتلونه، وهو يتفرج ويسكت.

    هل فيكم أحد يستطيع أن يقف هذا الموقف، يرى النبي صلى الله عليه وسلم والناس يرمونه، وهو متفرج ساكت؟ لا يمكن أن يقع هذا من مؤمن، فالله سبحانه وتعالى يقول: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ[التوبة:120].

    فلذلك لا يمكن أن يرغب أحد منا بنفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المعارك القائمة هي معركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يضحي فيها بما يستطيع.

    كذلك، فإن كثيرًا من الناس اليوم إذا حصل استحرار للقتل في المؤمنين، أو قتل بعض قيادات الدعوة والجهاد في سبيل الله، كما حصل في الأيام الماضية، قتل الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، ثم قتل بعده الشيخ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي رحمة الله عليه، ومن قتل قبلهم من المجاهدين الأفذاذ، وقتل أبو الوليد الغامدي كذلك في هذه الأيام في الشيشان، وقتل قبله خطاب، وكذلك قتل في فلسطين عياش، وأبو هنود، وعماد، وغيرهم من الذين نالوا الشهادة في سبيل الله، نحسبهم والله حسيبهم، نسأل الله أن يتقبلهم أجمعين شهداء.

    كثيرًا ما يؤدي هذا إلى بعض الهزيمة في نفوس الضعفاء، فيظنون أن الأمر قد توقف، وأنه لم يعد أحد يحمل هذا اللواء وقد كان يحمله أولئك القوم، وهذا خطأ في التصور، فأين كان الدين قبل وجود هؤلاء؟

    قد كان شعر الورى صحيحًا من قبل أن يولد الخليل

    إن الدين جاء به جبريل من عند الله، ونزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلائق إن مات أو قتل ضربه الله مثلًا لكم، فكيف بمن سواه؟ فهذا تشجيع لكم جميعًا معاشر المؤمنين أن تعلموا أنه لو قُتل كل الذين تعرفون أسماءهم، ومن لا تعرفون اسمه، لو قتلوا جميعًا، أو أسروا، أو فتنوا، أو ارتدوا عن دين الله، فهذا لا ينقص شيئًا من القضية، ولا ينقص بيعتكم لله سبحانه وتعالى، ولا ينقص المسئولية التي في رقابكم جميعًا.

    إن كثيرًا من الناس يعلق الآمال بالرجال، فيتعلقون ببعض الأبطال الذين كانت لهم تضحيات وبذل في سبيل الله الآن، ولكن يمتحنهم الله تعالى بموت أولئك، فيقتلون إذا تعلقت بهم الآمال، وظن الناس أن الأمل كله مربوط بهم، يبتليهم الله تعالى باستشهاد أولئك، وحينئذٍ سيكون أهل الإيمان في موقع التجربة، ويعرفون أنهم قد جربوا من قبل، ففقدت الأمة أشرف الخلائق صلى الله عليه وسلم، وفقدت بعده خليفته أبا بكر، وفقدت بعد أبي بكر عمر، وفقدت بعد عمر عثمان، وفقدت بعد عثمان علياً، وفقدت بعدهم قادتها في كل زمان، وماذا حصل؟!

    لذلك لابد من الانتباه لهذا الدرس العظيم، وبالأخص في مثل واقعنا هذا، فـمحمد فال بن بابه رحمة الله علينا وعليهم أجمعين يقول في مرثيته للشيخ سيدي بابه رحمة الله عليهم أجمعين:

    تقلبت الدنيا كأن ليس حادث وما اختل من صرف الزمان نظام

    فالناس في ذلك الوقت كثير منهم كانوا يعقدون آمالًا كبيرة بشخص الشيخ بابه، ولم يكن إذ ذاك قد تقدمت به السن، بل ما زال في قوته وأَيْده، وما زال أمره نافذًا في كل الأمور، فيقبضه الله تعالى، وكأن شيئًا ما حصل! مات كما مات مَن قبله، وكما مات من بعده، ولم يتغير شيء في نظام الدنيا، فالشمس تطلع من المشرق وتغرب إلى المغرب، وهكذا نظام الدنيا كله.

    وهذا الحال ينبغي أن نتذكره مقترنًا بكل إنسان، كل فرد من الأفراد هو عرضة لأن يُقتل أو أن يؤسر ويسجن، أو أن يفتن نسأل الله الثبات. وإذا كان الحال كذلك، فعلينا ألا نعرف الحق بالرجال، وأن نعرف الرجال بالحق، وأن نكون دائمًا عند حد التحدي، وأن نعلم أن البيعة مع الله، لا مع الناس، والمطلوب في تربيتنا أن يكون كل فرد منا يتوقع اليوم الذي يكون فيه هو المسئول عن حمل لواء الإسلام وحده.

    عليكم جميعًا أن تتوقعوا اليوم الذي تسكت فيه المنابر جميعًا وتخرس، ولا يوجد من يتكلم فيها، وحينئذٍ عليكم أنتم أن تبادروا، وأن تقوموا بالكلام، عليكم أن تتوقعوا اليوم الذي يُقتل فيه كل المجاهدين في سبيل الله، وتبقى المسئولية عليكم، هل ترضون حينئذٍ بتعطيل المنابر أو بإسكاتها؟ هذه أمور لا يرضاها المؤمنون؛ فلذلك لابد أن تكون تربية المؤمنين على التوقع، وأن يتهيأ كل إنسان منهم ليسد مسدًّا للأمة في وقت الحاجة إليه، وقد قال الحكيم:

    يمثِّل ذو اللب في لُبه مصائبه قبل أن تنزلا

    فإن نزلت بغتة لم تَرُعْه لما كان في نفسه مَثَّلا

    وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا

    فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا

    فلذلك لابد أن يكون كل إنسان منا مستعدًا لأن يسد لهذه الأمة أي مسد على قدره هو، أن يسد أي مسد، ويكفيه أن يكون قطرة وقود ينطلق بها القطار ولو للحظة واحدة، أو أن يكون لبنة واحدة في هذا البناء الشامخ، يكفيه شرفًا أن يكون لبنة واحدة، أو قطرة وقود ينطلق بها القطار، إذا كان الحال كذلك فهذا هو معنى استيعاب الدروس، وهو فائدة تقويم هذه الغزوة العظيمة من غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا، وإخلاصًا، وصدقًا، وأن يجعل سرائرنا خيرًا من علانياتنا، وأن يجعل علانياتنا صالحة، وأن يجعلنا في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يبعثنا في زمرته، وأن يسقينا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيئةً لا نظمأ بعدها أبدًا، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756272369