بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد تقدم معنا الكلام عن بعض أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان، فتبين لنا أن من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يحرص على أكلة السحر، وكان يؤخرها ويعجل فطره، ويفطر على رطبات فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء.
وأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو إذا أفطر فيقول: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله ).
وعرفنا أن من هديه صلوات ربي وسلامه عليه كذلك أن الفجر كان يدركه أحياناً وهو جنب من جماع فيغتسل ويصوم؛ فعلم بذلك أنه لا حرج على الإنسان أن ينام جنباً وقد نوى الصيام.
وألحق بهذا أن المرأة إذا طهرت من الحيض قبيل الفجر، فإنها تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر؛ فإن الصيام لا يشترط له الطهارة.
ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أخذه بالتيسير، ومحاولته تخفيف مشقة العبادة على نفسه وعلى الناس؛ ولذلك كان يصب الماء على رأسه وهو صائم.
وقد أخذ بهذه السنة أصحابه رضوان الله عليهم؛ فكان أنس بن مالك رضي الله عنه ينغمس في حوض فيه ماء بارد وهو صائم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو من أحرص الناس على متابعة السنة، يبل ثوبه ثم يلتحف به وهو صائم.
وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان يوم صوم أحدكم، فليصبح دهيناً مترجلاً.
وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه يتمضمض ويستنشق وهو صائم، وقد أوصى لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وقال له: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).
وكان من هديه أن يستاك وهو صائم، كما قال عامر بن ربيعة رضي الله عنه: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي )، يعني: رأيته مرات كثيرة.
وأكثر العلماء على أنه لا فرق بين أن يكون السواك قبل الزوال أو بعده، وفي أول النهار أو آخره، وأنه لا فرق أن يكون بعود يابس أو عود رطب، وكذلك أقول: لا فرق بين أن يكون بعود الأراك أو بفرشاة ومعجون، لكن الإنسان يحتاط ألا يصل إلى جوفه من ذلك شيء.
ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يواصل الصيام أحياناً، وربما واصل أسبوعاً، ومنع الصحابة من محاكاته في ذلك، وأخبرهم أن هذه خصوصية له، فقال: ( إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني )، ورخص لمن أراد الوصال أن يواصل إلى السحر ولا يزيد.
وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في السفر أنه كان يصوم أحياناً ويفطر أحياناً، وقد خير حمزة بن عمرو لما سأله، فقال له: ( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر )، فلا مانع من أن يصوم المسافر أو أن يفطر، ولا ينبغي أن يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وكذلك من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه ما كان يخرج من الصيام إلا برؤية محققة أو بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً.
وقد أوصانا صلوات ربي وسلامه عليه بأن نحرص على القيام في رمضان، وأخبرنا بأن: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).
وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه لا يزيد في صلاته بالليل على إحدى عشرة ركعة في رمضان وفي غير رمضان، وكان يطيل القيام وينوع في ذلك؛ فأغلب حاله أنه كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر قبل طلوع الفجر بواحدة.
وأحياًناً كان يصلي على غير هذه الهيئة؛ ( فلربما صلى أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أوتر بثلاث )، ولربما صلى ثمان ركعات لا يجلس إلا في آخرهن، ثم يقوم فيأتي بتاسعة، ثم يصلي ركعتين، فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة.
ولربما صلى خمساً متصلات، ثم صلى ستاً يسلم بعد كل ركعتين، وهذا كله سنة.
وما كان من هديه أن يقوم الليل كله صلوات ربي وسلامه عليه، بل أخبرنا أن ( خير الصيام صيام داود ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )، وأن ( خير القيام قيام داود، كان ينام من الليل نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه ).
وكان يقسم الليل ثلاثاً، ينام في نصفه الأول ثم يقوم في ثلثه ثم ينام في سدسه الأخير؛ من أجل أن يقوم لصلاة الفجر نشيطاً.
وكان صلوات ربي وسلامه عليه يخلطه بقراءة قرآن وغيره؛ تقول عائشة رضي الله عنها: ( ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً إلا رمضان ).
وكان من هديه في قيام الليل أن يقوم منفرداً، فلا يقوم لصلاة جماعة إلا إذا حصل هذا اتفاقاً؛ مثلما صنع ابن عباس رضي الله عنه حين قال: ( بت عند خالتي ميمونة ، أرقب قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عليه الصلاة والسلام: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، ثم سأل: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، قال: فتناومت )، يعني: تظاهرت بأني قد نمت، ( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقمت إلى يساره، قال: فأخذني برأسي من وراء ظهره حتى أقامني عن يمينه )، فـابن عباس صلى تلك الليلة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت عن حذيفة بن اليمان رضوان الله عليهما، أنه قال: ( قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة! فأتمها، ثم افتتح النساء، فقلت: يركع عند المائة! فأتمها، ثم افتتح آل عمران حتى أتمها، ثم ركع فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، فلم يزل يقول: لربي الحمد، لربي الحمد، لربي الحمد، حتى كان قيامه قريباً من ركوعه، حتى هممت بأمر سوء، قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه ).
وكان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل منفرداً؛ مخافة أن يفرض القيام على أمته، فلما زال هذا المحظور وتوفي نبينا عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو المحدث الملهم، الموفق المسدد - لما رأى الناس يبتدرون السواري بعد صلاة العشاء، ولهم بالقرآن دوي كدوي النحل، يصلي الرجل منفرداً، وقد يصلي بصلاته جماعة من الناس، يعني: إما منفردين وإما جماعات جماعات؛ جمعهم كلهم على أقرئهم وهو: أبي بن كعب رضي الله عنه، ولربما ساعده في الصلاة تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يطيل صلاة القيام، وكذلك أصحابه.
ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحرص على الاعتكاف في رمضان.
والاعتكاف في اللغة: الإقامة والحبس، ومنه قول الله عز وجل: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ[الفتح:25]، فـ(معكوفاً) أي: محبوساً.
والاعتكاف في الشرع: أن يلزم المكلف مكاناً مخصوصاً لا يتعداه وهو المسجد، على عمل مخصوص دون سواه، على شروط أحكمتها السنة.
وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه يعتكف في رمضان من كل عام، فلم يكن اعتكافه سنة طارئة فعلها حيناً وتركها حيناً، بل كان يعتكف في كل عام، كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى فارق الدنيا، واعتكف أزواجه من بعده ).
وما ترك الاعتكاف إلا مرتين:
مرة بسبب أنه عليه الصلاة والسلام كان مسافراً، ومعلوم أن سفره صلوات ربي وسلامه عليه ما كان يتعدى أنواعاً أربعة:
إما أن يسافر في هجرة، كرحلته من مكة إلى المدينة، وإما أن يسافر في حج، ولم يحصل هذا بعد الهجرة إلا مرة واحدة.
وإما أن يسافر في عمرة، وقد حصل هذا أربع مرات كلهن في ذي القعدة، وأغلب سفره صلوات ربي وسلامه عليه للجهاد؛ فقد غزا بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه سبعاً وعشرين غزوة، قاتل في تسع منها صلوات الله وسلامه عليه.
فمرة ترك الاعتكاف لكونه مسافراً، ومرةً ترك الاعتكاف من أجل مشكلة عائلية؛ وذلك ( لما أمر بخبائه صلى الله عليه وسلم فضرب، فأمرت عائشة بخبائها فضرب إلى جوار خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت زينب فأمرت بخبائها فضرب إلى الجوار الآخر، ثم جاءت ثالثة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ما هذه الأخبية؟ قالوا: هذا خباء فلانة، وهذا خباء فلانة، وهذا خباء فلانة، فسأل صلى الله عليه وسلم سؤالاً فقال: آلبر أردن؟ )، يعني: هؤلاء أردن وجه الله بهذا الاعتكاف وهذه الأخبية، أم أنها غيرة النساء وتنافسهن على الأزواج؟ ( فأمر بالأخبية كلها فقوضت، وترك الاعتكاف )، كلهم مرة واحدة.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا فاته عمل صالح قضاه؛ ففي هذا العام الذي ترك فيه الاعتكاف من أجل الأزواج، اعتكف العشر الأول من شوال، فبدلاً من العشر الأواخر من رمضان اعتكف العشر الأوائل من شوال، وفي السنة التي ترك الاعتكاف فيها من أجل الغزو؛ اعتكف السنة التي بعدها عشرين يوماً.
لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرنا بقوله: ( إن أحب العمل إلى الله أدومه )، ( وكان عمله ديمة )، وكان إذا شرع في عمل استدامه صلوات ربي وسلامه عليه.
وكان من هديه: أنه يتقلب في الاعتكاف بين العشر، ( فتارة اعتكف العشر الأوائل من رمضان، فنزل عليه جبريل فقال له: يا محمد! إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فنزل عليه جبريل فقال له: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواخر وأثبت تلك السنة ) أي: أن الاعتكاف يكون في العشر الأواخر.
وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في الاعتكاف: أن يأمر بخبائه فيضرب في المسجد؛ من أجل أن يخلو بنفسه، ولا يتشاغل بالناس، ويقبل على ربه جل جلاله بكليته، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة حصير؛ قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس )، لما علت أصواتهم ما بين تال وداع ومستغفر ومصل وذاكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام رفع تلك الحصيرة، وقال: ( أيها الناس! ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض )، يعني: لا يشوش أحدكم على الآخر؛ وإنما كل يناجي ربه؛ كما قال ربنا: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً[الأعراف:55]، وقال: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً [مريم:2-3]، فهذا هو الهدي النبوي.
ومكان اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن محفوظ معروف في المسجد النبوي، فمن زار قبره الشريف عليه الصلاة والسلام فإنه سيجد عموداً مكتوباً في أعلاه: هذه اسطوانة السرير، فهذا المكان حيث كان يعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من هديه دخوله معتكفه عند غروب شمس يوم العشرين من رمضان، بمعنى: أنه كان يستهل ليلة العشرين وقد دخل معتكفه صلوات ربي وسلامه عليه، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين، رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وإنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر )، أي: بدلاً من اعتكافه العشر الأواسط اعتكف العشر الأواخر، ( فمن كان اعتكف معي، فليثبت في معتكفه )، أي: من كان قد اعتكف العشر الأواسط فليثبت حتى يعتكف العشر الأواخر.
ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يحرص وهو معتكف على نظافة جسده، وطيب ريحه، وحسن منظره، ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرجل شعره وهو معتكف، كما ورد في الحديث الصحيح: عن عروة بن الزبير رضي الله عنه، قال: ( أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه، وهي في حجرتها، فترجله وهي حائض.
قال علماؤنا -رحمهم الله- ومنهم الحافظ ابن حجر : وفي الحديث جواز التنظف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل.
والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد، فلا مانع للمعتكف أن يغتسل ويتطيب ويتزين، ويرجل شعره، ويسرح لحيته، وأن يأتي بخصال الفطرة بما لا يتناقض مع حرمة المسجد وبما لا يسبب للمسجد قذراً أو انتهاكاً لمنزلته.
وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في معتكفه أنه لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[البقرة:187]، ومن نواقض الاعتكاف: مباشرة النساء.
قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ).
ومثال ما لا بد منه: لو كان لا يوجد في المسجد -مثلاً- مرافق ولا حمامات؛ فالإنسان يخرج من أجل أن يقضي حاجته ويتوضأ.
أو لم يجد في المسجد طعاماً، فلا بأس أن يخرج الإنسان فيبتاع حاجته من الطعام، ثم يرجع فيأكله في المسجد، ولا يحل له أن يجلس في السوق فيأكل؛ وإنما يأتي به إلى المسجد.
ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه زيارة أهله له وهو في المعتكف أحياناً فقد كان بعض أزواجه يأتين إليه وهو معتكف، فيزرنه ويسمرن معه؛ ويدل على ذلك حديث صفية رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيت أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت )، وتتمة الحديث: ( فقام صلى الله عليه وسلم يشيعني )، أي: يشيع صفية رضي الله عنها، ( فجاء رجلان من الأنصار يمشيان، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سواد امرأة أسرعا )، أسرعا حياء، على عادة الإنسان الحيي، لئلا يتضايق منه صاحبه إذا كان معه زوجته، وليس كما يصنع بعض الناس.
فمثلاً: إنسان معه زوجته في السيارة، فيشير إليك لكي تكلمه، ثم تأتي من الناحية التي فيها زوجته فتدخل رأسك فتكلمه! فهذا لا يصلح!
( فأسرع الرجلان؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: على رسلكما يا عباد الله! إنها زوجتي صفية ، فقال الرجلان: سبحان الله يا رسول الله! )، يعني: لا نحتاج إلى مثل هذا الكلام؛ فأنت النبي المكرم والرسول المعظم فوق كل شبهة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً فتهلكا )، وقال: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ).
وهاهنا فائدة لغوية: قالوا: الأصل أن يقال: زوجي، كما في قول الله عز وجل: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35]، وقال عز وجل: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، ولكن لا مانع أن يقول الإنسان: زوجتي، وهي لغة فصيحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنها زوجتي صفية )؛ ومنه قول جرير :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
فالمقصود من هذا الكلام: أنه لا مانع أن تأتي إلى المعتكف زوجته، فتزوره أحياناً وتحدثه؛ وهذا يدل على أن الاعتكاف ما ينبغي أن يحول بين الإنسان وبين اطلاعه على أحوال أهله وتفقده لشئونهم.
ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يخرج بعض جسده الطاهر من المعتكف لحاجة؛ ويدل على ذلك حديث: ( أنه كان يدخل رأسه لـعائشة رضي الله عنها وهي في بيتها فترجله )، لأن حجرة عائشة كانت مجاورة للمسجد؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أغلب جسده في المسجد ويدني رأسه لـعائشة رضي الله عنها فترجله وهي حائض.
ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه تركه الاعتكاف في رمضان لمصلحة، كما سبق أنه ترك الاعتكاف مرتين: مرة بسبب السفر في جهاد، ومرة بسبب الأزواج رضوان الله عليهن، فجمع صلى الله عليه وسلم بين الحسنيين وحصل المصلحتين حين قضى تلك الأيام التي لم يعتكفها، فاعتكف مرة بعد رمضان ومرة في رمضان من السنة التي تليها، فبدلاً من أن يعتكف عشراً اعتكف عشرين صلوات ربي وسلامه عليه.
إن سنة الاعتكاف مهجورة في هذه الأيام عند أكثر الناس، وهذا الهجر منذ زمن قديم، حتى قال ابن شهاب الزهري رحمه الله: عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
فـابن شهاب الزهري رحمه الله يتعجب من زهد الناس في هذا السنة، وإعراضهم عنها؛ مع أن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم واظب عليها، وحرص على التلبس بها كل عام من رمضان.
ولا بد أن ننبه إلى أن كثيراً من الناس اعتكافهم ليس إلا محض لعب، وليس فيه انقطاع عن الدنيا؛ فأكثر الناس يستصحب معه الهاتف الجوال، ويقضي سحابة نهاره وجزءاً من ليله في مكالمات، ولربما يدير أعماله من المسجد، فيحرض على القبض على فلان ومطاردة فلان؛ لأنه ما سدد الشيك أو الصك الذي وجب عليه، ولربما يرفع صوته على فلان ويغضب من فلان، وغير ذلك، وبعض الناس وجد في المعتكف وهو يلعب بالهاتف الجوال، ويتابع الألعاب التي في الهاتف، -ما شاء الله!- الرجل معتكف ويلعب الألعاب المعروفة! وبعض الناس يجلس بالمعتكف وليس عنده هم إلا القيل والقال؛ وكأنه في رحلة! وبعضهم يقضي عامة النهار نائماً، ويقول: أنا معتكف! فهذا كله ليس اعتكافاً.
فالاعتكاف هو: حبس النفس على طاعة الله عز وجل في مكان مخصوص، أي: أن يلزم المكلف مكاناً مخصوصاً ولا يتعداه، على عمل مخصوص دون سواه، فيكون في حالة ذكر وقرآن وصلاة ودعاء واستغفار، وقراءة في كتب العلم، وإكثار من التوبة والاستغفار، وما إلى ذلك، فهذا هو الاعتكاف الحقيقي.
ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان اجتهاده في العشر الأواخر؛ فكان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها.
وكان إذا دخلت العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله وجد وشد المئزر صلوات ربي وسلامه عليه، وكان يتحرى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي من خصوصيات هذه الأمة.
وسميت ليلة القدر؛ لأنها ليلة عظيمة، وهي من قول العرب: فلان ذو قدر؛ لأنها ليلة ذات قدر، أنزل الله فيها كتاباً ذا قدر، على نبي ذي قدر، على أمة ذات قدر.
وقيل: سميت ليلة القدر؛ لأنها تقدر فيها المقادير خلال عام كامل؛ فإننا نعرف أن هناك التقدير الأزلي الذي حصل قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
ثم هناك التقدير العمري، وهو الذي يكون حين نكمل في بطون أمهاتنا أربعة أشهر؛ فيرسل الملك فينفخ الروح ويؤمر بأربع كلمات بأن يكتب الرزق والأجل والعمل، وشقياً أنت أم سعيداً؛ فهذا التقدير العمري.
ثم هناك التقدير الحولي ويكون في ليلة القدر، وهي من رمضان بإجماع المسلمين؛ لأن الله قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وهناك قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185]، فمن مجموع الآيتين يعلم أن ليلة القدر في رمضان.
ثم هناك التقدير اليومي؛ فالملائكة عليهم السلام ينقلون من اللوح المحفوظ ما يكون خلال اليوم، كما قال ربنا جل جلاله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].
فعندنا تقدير أزلي، وتقدير عمري، وتقدير حولي، وتقدير يومي، فليلة القدر سميت ليلة القدر؛ لأنها تكتب فيها مقادير حول كامل: من يولد، ومن يموت، ومن يصح، ومن يسقم، ومن يغتني، ومن يفتقر، ومن يعزه الله، ومن يذله، يعني: هذه الأحداث التي جرت خلال هذا العام كتبت في رمضان الذي مضى.
فمن أذلهم الله ونزع عنهم الملك، ومن آتاهم الله الملك، هذا كله كتب خلال ليلة القدر.
قال أهل التفسير: يكتب في تلك الليلة أسماء الحجيج، فلا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً.
ولذلك نجد بعض الناس ينهي إجراءاته ويحزم أمره، ويعد حقائبه ويجهز ثياب إحرامه، ثم بعد ذلك يطرأ طارئ فلا يحج، وبعض الناس ليس الحج على باله وفجأة يجد نفسه في العرصات المقدسة، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
فمن لم يحج، نقول له: لا تأس، فالأمور مقدرة عند الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ[التغابن:11]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22-23].
إذاً: سميت ليلة القدر؛ لأنها ليلة ذات قدر، أنزل الله فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، أو سميت ليلة القدر؛ لأنها تقدر فيها المقادير.
وقيل: سميت ليلة القدر، من القدر الذي هو التضييق؛ قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ[الطلاق:7]، وقال الله عز وجل: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ[الفجر:16]، قالوا: ليلة القدر تتنزل فيها الملائكة، ولا يعلم عددهم إلا الله، فتضيق بهم فجاج السكك، فلو أذن الله أن نرى الملائكة وهم من عالم الغيب؛ لما استطعنا أن نمشي، فستجد أمامك ملك ومن ورائك ملك، وعن يمينك ملك وعن شمالك ملك، كما قال ربنا: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5].
فهذه الليلة المباركة، ليلة القدر، ينبغي للموفق أن يتحراها وأن يحرص على عبادة الله فيها ويحافظ على المغرب والعشاء مع جماعة المسلمين في المسجد.
والذي عليه جمهور العلماء أن ليلة القدر متنقلة في ليال الوتر الخمسة، ( في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في واحدة تبقى ).
أي: في ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع وعشرين، والموفق من يجتهد في العشر كلها، ومن كان أعظم توفيقاً يجتهد في الشهر كله، أما المسدد فإنه يجتهد العام كله.
وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، بمعنى: إن الذي يقوم بالليل في السنة كلها سيصادف ليلة القدر، 100%! وهذا من ابن مسعود تشجيع للناس على القيام.
يقول الضحاك رحمه الله: من صلى المغرب والعشاء في رمضان فقد أصاب من ليلة القدر حظاً وافراً؛ لذلك على الإنسان أن يحرص على هاتين الصلاتين المباركتين في رمضان وخاصة في العشر الأواخر.
وكان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان مدارسة القرآن مع جبريل عليه السلام؛ لأن العناية بالقرآن مفتاح الصلة بالله عز وجل؛ قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
وكان بعض إخواننا الصالحين من أهل العلم يقول لي: عندي معلومة، فقلت له: وما هي؟ قال: لو أن الإنسان عانى من وجع في ضرسه فإنه يضع يده على موضع الألم، ويقرأ قول الله عز وجل: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، قال: فضرسه يسكن، قلت له: وعندي لك معلومة، قال: وما هي؟ قلت له: إذا أردت أن تستيقظ من غير منبه، فانو في نفسك الوقت الذي تريد، ثم اقرأ الآيات الأواخر من سورة الكهف، قال لي: هل هذا صحيح؟ قلت له: نعم، فذهب فجربها فوجد الأمر كما كان، ثم قال لي: أتدري أي دليل يدل على هذا؟ قلت: ما هو؟ قال لي: بركة القرآن، قال الله عز وجل: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ[الأنعام:155]، وقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فهذه بركة القرآن.
فإن الإنسان المبارك هو الذي يتصل بالقرآن دوماً، وله بالقرآن عناية مخصوصة في رمضان.
فقد جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ )، يعني: حتى يخرج، ( يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن )، يعني: هناك ختمة في كل رمضان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين جبريل عليه السلام، أي: مدارسة ليس مجرد قراءة فقط.
( فلما كان العام الذي توفي فيه صلوات ربي وسلامه عليه )، فكان آخر شهر صامه وهو رمضان من السنة العاشرة من الهجرة؛ ( نزل عليه جبريل فعارضه القرآن مرتين، فقال عليه الصلاة والسلام: وما أراني إلا قد حضر أجلي ) وكأنه علامة، والنبي عليه الصلاة والسلام فهم منها أن أيامه في الدنيا معدودة، فلما نزل عليه قول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، وفتحت مكة، وبدأت وفود العرب تأتي، ودخل الناس في دين الله أفواجاً؛ نزل عليه جبريل فعارضه القرآن مرتين، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الحج، فقال لهم: ( فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )، وكان ذلك فلم يعش بعدها إلا إحدى وثمانين ليلة، ولما خرج يودع معاذاً رضي الله عنه، وهو ذاهب إلى اليمن، قال له: ( يا معاذ ! لعلك لا تلقاني بعد هذا أبداً، ولعلك تمر على قبري، فبكى معاذ رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ! لا تبك؛ فإن الجزع من الشيطان ).
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان عنده علامات؛ ولذلك أسر إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها: ( بأن جبريل عارضه القرآن مرتين، فقال: وما أراني إلا قد حضر أجلي ).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: والحديث يدل على استحباب مدارسة القرآن، وعلى مزية القراءة بالليل على النهار؛ لأن جبريل كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة، ومعلوم أن لليل مزية على النهار؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وهناك قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً[الإسراء:1]، وقال: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ[الإسراء:79]، وقال: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [المزمل:1-2].
قالوا: والليل هو مظنة الفيوضات الربانية، والفتوحات الإلهية، حين تسكن الأصوات، وتخف الحركات، ويخلو الإنسان بربه جل جلاله.
والحديث يدل على استحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان، وأن زيادتها توجب زيادة الخير، وأن الجليس الصالح ينتفع الإنسان بمجالسته، والجليس الصالح للنبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام.
وكما مر معنا بأن السلف رحمهم الله؛ كالإمام الزهري وغيره، كانوا يقولون: إذا دخل رمضان فإنما هما خصلتان: إطعام الطعام، وقراءة القرآن.
إذاً: في رمضان أطعم الطعام واقرأ القرآن، اقرأ القرآن ماشياً وراكباً وجالساً وواقفاً ومضطجعاً، اقرأ القرآن بالليل والنهار، اقرأ القرآن وأنت وحدك، أو بين الناس، وأنت تقود سيارتك، أو في المواصلات، اقرأ القرآن من المصحف، ومن حفظك؛ فلك بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا أقول: (( الم )) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ).
والسلف رضوان الله عليهم عادتهم في ختم القرآن مختلفة، فمنهم من كان يختم القرآن في كل ثلاثة أيام ختمة؛ فله في كل يوم وليلة عشرة أجزاء، فإذا دخلت العشر الأواخر ختمه في كل يوم وليلة مرة.
ومن السلف من كان يختم القرآن في كل أسبوع مرة، كما يقول علماء القرآن: (فمي بشوق)؛ فيبدأ الليلة الأولى من الفاتحة، ثم التي بعدها من المائدة، ثم التي بعدها من يونس، والتي بعدها من بني إسرائيل، والتي بعدها من الشعراء، والتي بعدها من: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً [الصافات:1]، ثم أخيراً من: ق)) إلى الناس، فيكون قد ختم القرآن في سبع ليال.
ومنهم من كان يختم القرآن في كل ليلة مرة، كما صح ذلك عن عثمان عليه من الله الرضوان، وذكر الذهبي رحمه الله: أن الشافعي كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة، فله في كل يوم ختمة، وفي كل ليلة ختمة، فرحمة الله على الجميع.
ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاله في رمضان التواضع والزهد.
أما زهده صلوات ربي وسلامه عليه فقد مضى الكلام عنه، وأما تواضعه عليه الصلاة والسلام، فقد كان أعظم خلق الله تواضعاً وأعدمهم كبراً، كان متواضعاً لربه جل جلاله، يخر ساجداً، فيمرغ جبهته في التراب، ويطيل السجود صلوات ربي وسلامه عليه، ويطيل الركوع؛ تواضعاً لربه وذلاً بين يديه.
وكذلك كان متواضعاً للناس، ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقبل على جليسه بوجهه، وأنه كان يتبسم في وجوه الكبار والصغار، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، مختلطاً بأصحابه، وما رئي مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له قط، وكان يجيب دعوة من دعاه، و( ربما دعي إلى إهالة سنخة، فأجاب ).
( وكان إذا صافحه رجل لا ينزع يده حتى يكون الآخر هو الذي ينزع )، وكان إذا استدناه أحد الناس يكلمه يرخي رأسه، ولا يتنحى حتى يكون الآخر هو الذي يتنحى.
وكان من تواضعه صلوات ربي وسلامه عليه أنه يركب الحمار ويردف خلفه، وتستوقفه المرأة العجوز، فيقف معها طويلاً.
وكان من تواضعه عليه الصلاة والسلام أنه يقبل على الأعراب الجفاة الغلاظ، وعلى جهال الناس يعلمهم ويتبسط معهم.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام في رمضان أنه كان يصلي الليل على حصير؛ كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعاً، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت له حصيراً فصلى عليه )، فلم يكن يصلي على سجادة فاخرة، ولا فراش وثير.
وكذلك معتكفه كان متواضعاً، فقد اتخذ له بيتاً من سعف، ومعتكفه عليه الصلاة والسلام، هو: القبة التي كان يعتزل فيها عن الناس، وكانت من سعف، وكان يسيل ماء المطر في المسجد عليه صلوات الله وسلامه عليه، فيسجد في ماء وطين، وقد رئي أثر الطين على جبهته وأرنبة أنفه عليه الصلاة والسلام.
وفي الرواية الأخرى، في حديث أبي سعيد : ( بصر عيني نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماء ).
ومن تواضعه: تواضع في فطوره وسحوره، وكما مر معنا الكلام بأنه كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تميرات فإن لم يجد لا هذا ولا ذاك حسا حسوات من ماء، صلوات ربي وسلامه عليه.
وكان طعامه قليلاً؛ فقد جاء في حديث ضمرة بن عبد الله رضي الله عنه، عن أبيه عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، قال: ( كنت في مجلس بني سلمة -وأنا أصغرهم- فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ وذلك صبيحة ليلة إحدى وعشرين من رمضان، فخرجت فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، ثم قمت بباب بيته فمر بي، فقال: ادخل، فدخلت، فأتي بعشائه -يعني: بفطوره- فأتي بعشائه، فرآني أكف عنه من قلته )، يعني: عبد الله بن أنيس رضي الله عنه استحى أن يمد يده من قلة الطعام الذي وضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هديه أنه كان يكثر في رمضان من البر والصدقة، كما وصفه ابن عباس بقوله: ( فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة )، يجود بعلمه وبوقته، وبجاهه وبطعامه، وبثيابه وبماله عليه الصلاة والسلام، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في الزاد.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان: الجهاد.
وكانت أعظم غزواته في رمضان، فغزوة بدر قال تعالى فيها: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ[الأنفال:41]، وكانت في السابع عشر من رمضان.
وغزوة الفتح الأعظم أي: فتح مكة كانت في العشرين من رمضان، إذ خرج صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من رمضان، وفتح الله عليه مكة في العشرين من رمضان.
ومنصرفه من غزوة تبوك عليه الصلاة والسلام وجيش العسرة ما عاد منها إلا في شهر رمضان.
وأما السرايا والبعوث في رمضان فكثيرة:
فمنها: سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر؛ لاعتراض قافلة قريش التي كانت عائدة من الشام، ومنها: سرية عبد الله بن أبي عتيك رضي الله عنه؛ لقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق تاجر الحجاز الذي كان يحرض الأحزاب، ويؤزهم أزاً على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: سرية خالد بن الوليد إلى العزى؛ ليهدمها في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، ومنها: سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع؛ ليهدمها في ذات السنة، وهذا كله مع اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العبادات الأخرى.
وكان من هديه أن يخالف أهل الكتاب في رمضان؛ ولذلك أمرنا بتعجيل الفطر؛ لأن أهل الكتاب لا يفطرون إلا إذا اشتبكت النجوم، فأمرنا صلى الله عليه وسلم بأن نعجل الفطر متى ما غربت الشمس.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر