بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد توقف بنا الكلام عند قول أم رومان بنت عامر رضي الله عنها: ( يا بنية هوني عليك، فقلما كانت امرأة وضيئة عند زوج ولها ضرائر إلا كثرن عليها ).
المراد بقولها: (وضيئة) بمعنى جميلة، وقولها: (لها ضرائر) جمع ضرة، وسميت كذلك لما يحصل بها من الضرر للأخرى أو الأخريات، وأن أم رومان رضي الله عنها كان جوابها في غاية الحكمة، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وفي هذا الكلام من كمال فطنتها، وحسن تربيتها بما لا مزيد عليه، وذلك يتجلى في أمور:
أولاً: هونت على بنتها بقولها: (هوني عليك).
ثانياً: ذكرت أن هذا الأمر مشترك بينها وبين غيرها من النساء، والإنسان يتسلى إذا كانت المصيبة عامة، وهي قالت لها: ( فقلما كانت امرأة وضيئة عند زوج ولها ضرائر إلا كثرن عليها )؛ فبينت أن هذا شيء مشترك بين النساء اللائي لهن ضرائر.
ثالثاً: أثنت عليها بما يطيب خاطرها؛ فأثنت عليها بما آتاها الله من الجمال والحظوة عند زوجها صلى الله عليه وسلم، ( فقلما كانت امرأة وضيئة عند زوج ولها ضرائر إلا كثرن عليها. عائشة رضي الله عنها استعبرت فبكت، وكان أبو بكر رضي الله عنه على ظهر البيت يقرأ فسأل زوجته: ما شأن هذه؟ فقالت: قد سمعت بالذي قيل فيها، ففاضت عيناه ) رضي الله عنه وأرضاه.
قالت عائشة رضي الله عنها: ( فقلت لأمي: يا أمتاه! ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية! هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئةً عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان الله! أولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ).
هنا ذكرت رضي الله عنها: بأنها لما علمت بما يقول الناس صارت تبكي بالليل والنهار، وفي بعض الألفاظ: ( قالت: حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي )، فما عادت رضي الله عنها تهنأ بمنام، ولا يهدأ لها بال، ولا يرقأ لها دمع؛ بل تبكي بالليل والنهار.
ولما استلبث الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: تأخر الوحي- لجأ إلى عادته المباركة، وسنته المعهودة في المشاورة؛ لأن الله عز وجل أثنى عليه وعلى أصحابه فقال: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وكان عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه في كل ما لم ينزل فيه وحي، ولذلك يوم بدر قال: ( أشيروا علي أيها الناس )، ويوم أحد استشار الناس، ويوم الخندق أخذ بمشورة سلمان ، وكذلك في الأمور العائلية النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير، وعلم أصحابه ذلك، وهذا الأصل ينبغي أن يكون مطرداً في حياتنا، يعني: أن الإنسان لا يستغني عن المشاورة، وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن المستشار مؤتمن، ولذلك حتى في الأمر العائلي الخاص قال الله عز وجل: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233]، والإنسان يشاور زوجته، والزوجة تشاور زوجها، لا يستبد أحدهما بالأمر دون الآخر، وللأسف هذا غفل عنه الناس الآن، فتجد بعض النساء قد تتناول موانع الحمل وتستبد بالأمر دون زوجها، وكذلك تجد بعض الرجال ممن استحكمت فيه الجاهلية الأولى يرى أن استشارته للزوجة عيب ونقص، ويروون في ذلك حديثاً مكذوباً: (شاوروهن وخالفوهن) وهذا الكلام ليس بصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير، ولذلك يوم الحديبية لما دخل على أم سلمة رضي الله عنها مغضباً قالت: (يا رسول الله! أغضب الله من أغضبك، فقال عليه الصلاة والسلام: وما لي لا أغضب وأنا آمر فلا أطاع)، يعني: أمر الصحابة بأن يحلقوا، وهم رضي الله عنهم من شدة حزنهم لم يسارعوا إلى تنفيذ الأمر، فأشارت رضي الله عنها وقالت: ( يا رسول الله اخرج فادع بالحلاق )، يعني: لا تقل للناس: احلقوا ولكن استدعي الحلاق ودعه يحلق لك، وفعلاً خرج صلى الله عليه وسلم ودعا بالحلاق، فتتابع الناس يحلق بعضهم رءوس بعض.
فالمشاورة مطلوبة، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: ( ما رأيت أحداً أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذه شهادة منه رضي الله عنه، حتى في الأمور الخاصة لما قال له أبو بكر و عمر : ( يا رسول الله! لو اتخذت ثوباً غير هذا تلقى فيه الوفود )، ربما الآن لو قال لي بعض الناس: لو لبست ثوباً غير هذا، لاعتبرت هذا من باب الاعتداء على الحرية الشخصية، والتدخل في الأمور الخاصة وما إلى ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم من سعة أفقه، وحلاوة معشره عليه الصلاة والسلام ما غضب، ولا تضايق، وإنما قال لـأبي بكر و عمر رضي الله عنهما: ( لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما )، يعني أنا معكما، وأخذ بمشورتهما عليه الصلاة والسلام.
وهنا في هذا الأمر الخاص جداً شاور الرسول صلى الله عليه وسلم رجلين كريمين فاضلين هما منه بمنزلة الولد من الوالد، وهذا يدل على تواضعه، إذ ما استشار أبا بكر ، و لا عمر ، ولا الكبار، وإنما اختار علياً الذي صنع على عينه، وتربى في بيته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للعباس : ( يا عباس ! إن أبا طالب كثير العيال، فلو رأيت أن نخفف عنه، خذ ولداً وأنا آخذ ولداً، فأخذ العباس جعفراً ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً )، فـعلي تربى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك زوجه من ابنته، فهو منه بمنزلة الولد، والرجل الثاني أسامة رضي الله عنه، وقد كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وأيضاً تربى في بيته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح مخاط أسامة بيده عليه الصلاة والسلام، فاستشار علياً و أسامة لمزيد خصوصيتهما.
قالت رضي الله عنها: ( في فراق أهله )، والمقصود بالأهل هنا عائشة ولم تقل: في فراقي كراهية منها رضي الله عنها أن تنسب هذا الأمر إلى نفسها، فهي تكره أن يفارقها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من تمام عقلها، وكمال إيمانها رضي الله عنها، ولذلك لما نزلت الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:28] بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـعائشة فقال لها: ( يا عائشة! إني سأعرض عليك أمراً فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك -فتقول على سبيل الفخر- وكان يعلم أنهما لا يأمران بفراقه، وتلا عليها الآية، فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي؟ -يعني: هذا أمر لا يحتاج لمشورة- بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة )، رضي الله عنها وأرضاها.
قالت: ( فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة : أهلك، ولا نعلم إلا خيراً ).
وهذه مشورة أسامة رضي الله عنه، وهو في هذه الحال متجرد قال: ( يا رسول الله! أهلك ولا نعلم عليهم إلا خيراً )، أشار بمكنون نفسه أن عائشة رضي الله عنها بريئة، وأنها حصان رزان، طيبة مطيبة، طاهرة مطهرة، هذه هي مشورة أسامة رضي الله عنه.
قالت: ( وأما علي فقال: يا رسول الله! لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك ).
وهنا علي رضي الله عنه أيضاً غلب عليه إيمانه وورعه وتقاه، فلم يقذف عائشة ، ولم يتكلم عنها بسوء، ولم يصدق قول أهل الإفك، وإنما كان همه أن يزيل القلق والأسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـعلي رضي الله عنه هنا هو ابن عمه، وزوج ابنته، ويضيره ما يضير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسوءه ما يسوءه، ويعلم بأن النبي عليه الصلاة والسلام شديد الغيرة، وأن هذا الأمر سبب له قلقاً وضجراً، فأراد أن يحسم هذه المادة، فقال له: ( يا رسول الله! لم يضيق الله عليك )، يعني: أن الله عز وجل أباح لك الطلاق، وأباح لك أن تتزوج بغيرها، ( والنساء سواها كثير )، يعني: أي امرأة تتمنى أن تكون زوجاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك من تمام أدبه رضي الله عنه أنه لم يجزم، وإنما رد الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: ( وسل الجارية تصدقك )، أي: الخادمة التي تخدم عائشة رضي الله عنها، فإنها مطلعة على حقيقة الأمر، يعني كأن علياً يريد أن يريح النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى كلامه: يا رسول الله! طلقها من أجل أن تستريح، ويذهب القلق، ثم بعد ذلك فتش عن حقيقة الأمر، فإن علمت براءتها أمكنك أن تراجعها.
وهل الجارية هنا هي بريرة أو غيرها؟ ليس هذا أمراً مهماً، المهم أنها كانت جارية تخدم عائشة رضي الله عنها.
قالت: ( فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله ).
بريرة رضي الله عنها بدأت شهادتها بالقسم ( والذي بعثك بالحق )، تحلف بالله الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق، ( ما رأيت عليها أمراً أغمصه ) أي: أنكره على عائشة رضي الله عنها، ( إلا أنها جارية حديثة السن )، يعني كان عمرها خمسة عشر سنة، أو ثلاثة عشر سنة، ( أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن )، (الداجن) يعني: الحيوان الذي يؤلف في البيت، فيدخل ويخرج ( فتأكله )، قال ابن أبي جمرة رحمه الله: وهذا من بليغ الثناء.
وفي بعض الروايات بأنها قالت: ( والله ما أعلم على عائشة إلا كما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر )، والذهب الأحمر هو أرفع الذهب وأخلصه، والصائغ لا يعلم عنه إلا الخلوص والجودة.
وفي بعض الروايات أنها قالت: ( يا رسول الله! عائشة كالذهب، ولئن فعلت ما يقول الناس ليخبرنك الله )، فعجب الناس من فقهها رضي الله عنها، إذ هي أرادت أن تبالغ في الثناء على عائشة ، ما علمت عليها عيباً ولا نقصاً، إلا أنها بريئة براءة شديدة، ومن شدة براءتها أنها تعجن العجين، ثم تنام عنه، فهي من الغافلات رضي الله عنها، مثلما قال الشاعر في الثناء على صاحبته:
ولقد لهوت بطفلة بلهاء ميالة تخبرني عن أسرارها
فلما قال: بلهاء، لا يقصد بالبله التخلف العقلي وإنما يقصد البراءة، و عائشة رضي الله عنها بريئة تعجن العجين ثم تنام عنه فتأتي الداجن فتأكله.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر