بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمداً، كثيراً، طيباً، مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
يقول ربنا جل جلاله: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26]، جاءت هذه الآية المباركة في ختام الآيات التي زكى فيها ربنا جل جلاله أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرأها مما رماه بها أهل النفاق، وتكلم به كذلك بعض المؤمنين وهم لا يدركون عاقبة ما يقولون، فزجرهم الله عز وجل، ووعظهم موعظة بليغة حين قال سبحانه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وتهدد ربنا جل جلاله أولئك الذين يستطيلون بألسنتهم في أعراض المؤمنين والمؤمنات، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25].
فمن هي عائشة أيها المسلمون؟! عائشة رضي الله عنها هي أحب زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وأعظمهن شأناً عنده، وآثرهن لديه.
تزوجها صلوات ربي وسلامه عليه وهي صغيرة بنت تسع سنين، تقول رضي الله عنها: (إني لفي أرجوحة مع صويحبات لي، إذ صرخت بي أمي فأتيتها وأنا ألهج، فأمسكت بي حتى سكن نفسي، ثم دعت بماء فمسحت به وجهي، ثم أسلمتني إلى نسوة من الأنصار فأصلحنني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل علينا ضحى، فقال: أولئك النسوة على الخير والبركة وعلى خير طائر يا رسول الله! بارك الله لك في أهلك، فدعا صلى الله عليه وسلم بعس من لبن، فشرب ثم دفعه إلي فشربت، ثم دفعه إلى أولئك النسوة)، ومن ذلك اليوم المبارك في شهر شوال بدأت عائشة مسيرتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاشت معه تسع سنوات كلها خير وبركة، وعلم وفضل، وهدى ورحمة.
وقد جاء في فضلها عليها من الله الرضوان نصوص كثيرة، من ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه: ( أن عمرو بن العاص سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة ، قال: من الرجال؟ قال: أبوها )، يعني: أحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأحب الرجال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضوان الله عليهما.
وورد في فضلها قوله صلوات ربي وسلامه عليه: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء سوى مريم بنت عمران ، و خديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ).
قال ابن حجر رحمه الله: فضل الثريد على سائر الطعام أنه أيسر مضغاً وأسهل بلعاً، وكذلك كانت عائشة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبلغ من حب النبي صلى الله عليه وسلم إياها: ( أنه كان يدفع إليها العرق فيه اللحم -يعني: العظم فيه شيء من اللحم، تقول رضي الله عنها-: فأتعرقه -أي: آكل منه- فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل من حيث أكلت )، وكان يدفع إليها الإناء فتشرب، فيأخذ عليه الصلاة والسلام فيضع فاه الشريف من حيث شربت فيشرب عليه الصلاة والسلام.
وبلغ من حبه لها عليه الصلاة والسلام: أنه كان يعرف ما في دواخلها، يقول لها: ( يا عائشة ! إني لأعرف رضاك عني، وسخطك علي، قالت له: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: إن كنت راضية تقولين: لا، وإله محمد! وإن كنت ساخطة تقولين: لا، وإله إبراهيم! فقالت رضي الله عنها: ما أهجر إلا اسمك ).
وعائشة رضي الله عنها هذه الحصان الرزان، الطيبة، المباركة، عرف الناس مكانتها وفضلها، فكانوا يتحينون بهداياهم ليلتها، يعني لو أن إنساناً عنده هدية يريد أن يتحف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتحين الليلة التي يكون فيها عليه الصلاة والسلام عند عائشة حتى عرف ذلك زوجاته.
تقول رضي الله عنها: (كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم حزبين، حزب فيه عائشة و حفصة و صفية و سودة ، وحزب فيه أم سلمة وبقية أزواجه، فكلمن أم سلمة ، قلن لها: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا إليه في سائر الأيام -أي: يطلب من الناس ما يتحينون به ليلة عائشة فيأتون به في سائر الأيام- فذهبت أم سلمة فكلمته، فقال لها صلى الله عليه وسلم: لا تؤذيني في عائشة فوالله ما نزل الوحي على فراش امرأة منكن سواها)، يعني: ما نزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام وهو في فراش امرأة سوى عائشة .
ثم كلمن فاطمة رضي الله عنها، ( فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله! إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، مر الناس يهدوا إليك في سائر الأيام، فقال لها: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟! قالت: بلى يا رسول الله! قال: فأحبي هذه )، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأن تحب عائشة ، ولم يكن ليحب إلا طيباً صلوات ربي وسلامه عليه.
تقول رضي الله عنها: (فضلت بعشر خصال: لم ينكح رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، ونزل الملك بصورتي في كفه في سرقة من حرير، وكان الوحي ينزل عليه وهو في فراشي، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، ونزلت براءتي من السماء في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي ليلتي، وكان رأسه بين سحري ونحري، ودفن في بيتي. وكان من فضل الله علي: أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل وفي يده سواك يستن به، فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم نظره، فعلمت أنه يحبه، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم! قالت: فأخذته، ولينته ثم دفعته إليه، فاستن به، فما رأيته استن استناناً أحسن من يوم ذاك، ثم رأيته يشير بأصبعه إلى السماء، ويقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، فعلمت أنه قد خير فاختار، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر ساعة من ساعات الدنيا). هكذا كانت مكانتها عند النبي عليه الصلاة والسلام، (حتى أنه لما كان في مرض موته عليه الصلاة والسلام كان يكثر أن يسأل: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)، فعلم نساؤه أنه يحب أن يكون عند عائشة فأذن له أن يكون عندها، وهذا من فضلهن رضوان الله عليهن.
ولما نزل قول ربنا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28-29]، وكان سبب نزول هاتين الآيتين: شكوى نساء النبي عليه الصلاة والسلام من شظف العيش، وخشونة الحياة، وقلة الزاد، فنزلت هذه الآيات تخيرهن: من شاءت أن تبقى في الزهد والقناعة، وقلة المال، وقلة الزاد فلتبقى، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس من أهل الدنيا، ومن أرادت أن تتوسع فإنه يمتعها، أي: يزودها بما تحتاج إليه من مال ويسرحها سراحاً جميلاً، ( فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بــعائشة ، قال لها: يا عائشة ، إني سأعرض عليك أمراً، فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك )، تقول رضي الله عنها من باب الفخر: (وكان يعلم أن أبوي لا يأمراني بفراقه، فعرض عليها صلى الله عليه وسلم، قرأ عليها الآيات وقال لها: إن الله يخيرك بين البقاء مع شظف العيش، أو التسريح ولك ما تشائين من مال)؟ فقالت رضي الله عنها جواباً يدل على سعة علم، وعظم فقه، وشدة تقوى، ورغبة فيما عند الله، (قالت: يا رسول الله! فيك أستأمر أبوي؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة)، وما احتاجت أن تستشير أبا بكر ولا أم رومان .
ثم رجعت إليها طبيعة النساء رضي الله عنها، بعد تلك اللحظة الإيمانية العظيمة، ( قالت: يا رسول الله! أتخير الأخريات )؟ أي: الأخريات ستخيرهن أم ستسرحهن؟ ( فقال عليه الصلاة والسلام: بل سأخيرهن، قالت: إذاً لا تخبرهن بما اخترته )، أي: لا تعلمهن أنني اخترت البقاء معك، ( فقال عليه الصلاة والسلام: بلى، والله لأخبرهن، فإن الله ما بعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً، ميسراً )، عليه الصلاة والسلام، فاخترن كلهن البقاء معه صلوات ربي وسلامه عليه.
أيها الإخوة الكرام! توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنها، وبقيت بعده أكثر من أربعين سنة تعلم الناس وتفتيهم وتوضح لهم ما أشكل عليهم، حتى قال العالم الفذ والصحابي الجليل أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث إلا وجدنا عند عائشة منه علماً، وقال مسروق بن الأجدع وهو تلميذها: أحلف بالله! ما رأيت أعلم بفقه ولا شعر ولا طب من عائشة ، ولقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يأتونها فيسألونها عن الفرائض والأحكام.
وهذه المرأة المباركة رضوان الله عليها كانت آية من آيات الله في الجود، كانت كريمة معطاءة، بعث إليها معاوية بقلادة من سبعين ألف دينار فقسمتها في أمهات المؤمنين، وإنها لترقع جيب درعها، يعني: تلبس ثياباً مرقوعة رضي الله عنها.
وبعث إليها عبد الله بن الزبير بمائة ألف درهم، فجعلت تضم هذه في صرة، وهذه في صرة، وتبعث بها إلى فقراء المدينة، وكانت صائمة رضي الله عنها، فلما غربت الشمس قالت لجاريتها: قربي إلي فطوري، فقربت إليها خبزاً وزيتاً، فرحمتها الجارية، يعني: رقت لحالها، فقالت لها: يا أم المؤمنين! هلا اصطفيت لنفسك درهمين ابتاع لك بهما لحماً، فقالت لها عائشة : لو ذكرتني لفعلت، ما تتذكر نفسها رضي الله عنها من طيبات الدنيا.
( وقد بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببشارة عظيمة، سألته يوماً: قالت: يا رسول الله! من من أزواجك معك في الجنة؟ قال: أنت منهن )، فهي من المبشرات بالجنة عليها من الله الرضوان.
وهذه المرأة الصالحة لما نزل بها الموت، وكان عند رأسها ابن أخيها عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر رضوان الله عليهم، جاء عبد الله بن عباس يستأذن، فقيل لها: إن ابن عباس في الباب؟ قالت: ما لي بــابن عباس حاجة، يدخل علي، فيثني علي، يعني كانت رضي الله عنها متواضعة، لا تريد من الناس ثناء ولا شكوراً، ولا تريد لأحد أن يزكيها، فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إن ابن عباس من صالحي ولدك، دعيه يدخل، فقالت له: إن أحببت فأذن له، فدخل عليها ابن عباس رضي الله عنه، وكان فقيهاً، عالماً، ومن فقه الإنسان أنه إذا حضر إنسان وهو في السياق، في سكرات الموت يبشره برحمة الله، يبشره بعفو الله، يبشره بأنه سيقدم على رب كريم.
دخل ابن عباس رضي الله عنه، فقال لــعائشة : أبشري يا أم المؤمنين! ما بينك وبين القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تفارق روحك جسدك، كنت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وما كان يحب إلا طيباً، وأنزل الله براءتك في قرآن يتلى في محاريب المسلمين إلى يوم القيامة، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليها وسلم ليطلبها، فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها، فأنزل الله آية التيمم بسببك، قالت له: إيه، يا ابن عباس ! ليتني كنت نسياً منسياً. انظر ما غرها هذا الثناء رضي الله عنها، ولا تلك التزكية، بل قالت تلك الكلمة: يا ليتني كنت نسياً منسياً.
وهذه الآيات في سورة النور دليل قاطع على أن أمنا رضي الله عنها حصان، رزان، وأن أمنا مبرأة مما رماها به أهل النفاق، وقد توعد الله ابن سلول لعنه الله، فقال: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]، فلا يحب عائشة ، ولا يثني عليها، ولا يهوى سيرتها إلا مؤمن طيب، ولا يبغضها، ولا يذكرها بسوء إلا منافق شانئ.
أسأل الله أن يرزقنا حبها.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر