إسلام ويب

تاريخ القرآن الكريم [4]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من حفظ الله لكتابه أن هدى الصحابة إلى جمعه، فجمعه أبو بكر أولاً في اللخاف والعسيب والجلود، ثم جاء عثمان فوحدهم على مصحف واحد خشية الاختلاف، ومصحف عثمان كتب على ما أقر في العرضة الأخيرة، وقد أجمع الصحابة عليه. ومن حفظ الله له أنه هدى الصحابة لإحراق ما سواه من المصاحف؛ حسماً لأي نزاع قادم.

    1.   

    نزول القرآن على سبعة أحرف

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    فنكمل ما بدأنا فيه مما يتعلق بتاريخ القرآن، وقد وقفت بكم في اللقاء السابق فيما يتعلق بجمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت لكم جوانب من العناية النبوية بما يتعلق بجمع القرآن، سواء الجمع الذي هو تلاوته وحفظه، أو الجمع الذي هو: كتابته وتدوينه، واليوم نكمل فقرة كنت قد نسيتها بالأمس فيما يتعلق بقضية تاريخ القرآن في العهد النبوي، ثم نكمل إن شاء الله مرحلة أبي بكر و عمر و عثمان ، ثم بعد ذلك نقف في الدرس القادم إن شاء الله عند بعض المشكلات المتعلقة بتاريخ القرآن أو تاريخ المصحف.

    بقي علينا فيما يتعلق بنزول القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث عن نزول القرآن على سبعة أحرف.

    وحديث الأحرف السبعة حديث مشهور ويكاد يبلغ حد التواتر، والروايات الواردة عن الصحابة في هذا كثيرة أكتفي منها بهذا الحديث، وقد سبقت الإشارة إلى حديث غيره وهو حديث أبي بن كعب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا )، هذه إحدى روايات هذا الحديث، الذي هو حديث الأحرف السبعة، وهو حديث مشهور ومعروف عند أهل العلم.

    القراءة في العهد المكي على حرف واحد ونزول الرخصة بالقراءة بالسبعة في المدينة

    لن ندخل في المراد بالأحرف السبعة الآن فسنأتي له لاحقاً إن شاء الله، لكن المقصد من هذا من جهة التاريخ أن نعلم أنه في العهد المدني نزلت الرخصة بالأحرف السبعة، ومعنى هذا: أنه قبل نزول الرخصة بالأحرف السبعة كان القرآن يقرأ على حرف واحد، وهو الموافق للغة قريش؛ لأنه نزل بلسانها.

    ومما يستأنس به على أن نزول الرخصة بالأحرف السبعة كان في المدينة، رواية أبي بن كعب وهو مدني، ومما يدل على ذلك وهو أقوى من هذا قوله: ( كان عند أضاة بني غفار )، وأضاة بني غفار كما ذكر في (معجم ما استعجم) أنها موضع بالمدينة نزله بنو غفار فسمي باسمهم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم من حين بعث لم يذهب إلى المدينة إلا بعد هجرته، فبعد أن هاجر بدأت العلاقة بالمدينة، فكونه يكون في هذا الموضع من أضاة بني غفار فيه دلالة على أنه كان في المدينة.

    فإذاً: الأحرف السبعة نزلت الرخصة بها في المدينة، وقد استظهر الشيخ الدكتور عبد العزيز قاري في كتابه: (حديث الأحرف السبعة) أن نزول الرخصة كان في العام التاسع، الذي هو عام الوفود، وإذا صح هذا فإنه يتناسب مع هذا العام الذي هو عام الوفود؛ لأن الوفود كانت تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب أن يقرئهم بما يتناسب مع لهجاتهم مما هو نازل من الأحرف السبعة.

    يضاف أيضاً إلى أدلة حصول الرخصة بها في المدينة: استنكار أبي بن كعب -وقد سبقت الإشارة إليه- لما سمع صحابيين يقرآن بغير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه أمر جديد طارئ في العهد المدني؛ لأنه لو كان من العهد المكي لما كان منه هذا الاستنكار، فاستنكاره هذا فيه أيضاً دلالة على أن هذا كان في العهد المدني.

    ومن الدلالات المهمة في هذا الحديث التي تعنينا في هذا المجال في تاريخ القرآن: أن هذه الأحرف نزلت من عند الله، وقد سبق أن ذكرت لكم دلالة هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( هكذا أنزلت )، فهذا يعني: أنه لا يصح لأحد أن يترك النازل، ولا يصح لأحد أن يغير في النازل حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك بوحي.

    الأحرف السبعة وحي نازل من عند الله

    فإذاً: جميع ما يتعلق بالأحرف السبعة هو من الوحي النازل، لا يجوز ترك شيء منه إلا بأمر من أنزله، وهذه قاعدة في الأحرف السبعة سنحتاجها عندما نتكلم عن عمل عثمان رضي الله عنه.

    فالقاعدة: أن الأحرف السبعة نزلت من عند الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( هكذا أنزلت )، فلا يحق لأحد أن يرفع منها شيئاً إلا من أنزلها.

    1.   

    جمع القرآن في عهد أبي بكر

    نأتي الآن إلى جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ حينما نرجع إلى الحديث الذي رواه الأئمة بأسانيدهم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه نجد أنه هو الأصل الذي اعتمد في جمع أبي بكر، فجميع ما يتعلق بجمع أبي بكر موجود في أثر زيد هذا.

    يقول زيد : (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن؛ فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن)، إذاً: فـ عمر عرض على أبي بكر، ثم فتح الله على قلب أبي بكر بصحة ما ذهب إليه عمر، ثم دعوا زيداً فحصل لـزيد مثلما حصل لـأبي بكر في أول الأمر، قال: فقال أبو بكر: قلت لـعمر : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هو والله خير، قال: فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر ).

    نشأة طبقة القراء

    بدأت تنشأ طبقة عند الصحابة وهي طبقة القراء، وقد استمرت هذه الطبقة حتى في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ بدليل حديث زيد بن ثابت الأول؛ لأنه قال: (أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن).

    قال زيد بن ثابت : (و عمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، قال - أي: زيد - : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن! قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر و عمر ، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128].. إلى آخرهما).

    قال: (وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر ) هذا الأثر الوارد في جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وهو أجمع أثر فيما يتعلق بجمع القرآن.

    الداعي لجمع القرآن في عهد أبي بكر

    لو نظرنا إلى هذا الأثر وسألنا سؤالاً: ما هو سبب الجمع؟ أو ما الذي دعا إلى الجمع؟

    فإن الجواب: هو القتل الذي استحر في المواطن في قراء القرآن في عهد أبي بكر ؛ أيام حروب الردة.

    فإذاً: خشي من موت القراء فأراد أن يجمع المصحف.

    الأصل في قراءة القرآن المحفوظ لا المرسوم

    هنا مسألة لطيفة ننتبه لها أيضاً مرتبطة بتاريخ القرآن:

    فقد سبق أن ذكرت لكم قاعدة لا زلت أكررها: أيهما أغلب على الثاني: القراءة والحفظ أو الرسم؟

    مداخلة: القراءة.

    الشيخ: القراءة؛ ولهذا لم يقل: أن تذهب الصحف التي بأيدي الصحابة، وإنما قال ماذا؟

    مداخلة: يذهب القراء.

    الشيخ: يذهب القراء يعني: الأصل إذاً هو؟

    مداخلة: القراء.

    الشيخ: هذا تجعلونه ضمن الأدلة في أن الأصل في قراءة القرآن ما هو؟

    مداخلة: الحفظ.

    الشيخ: الحفظ، الأصل الحفظ؛ ولهذا خشي أن يذهب القراء.

    الصفات التي أهلت زيداً لتولي مهمة جمع القرآن

    وهناك مسألة أخرى فيما يتعلق بهذا الأثر وهي الصفات التي أهلت زيداً لأن يتولى مهمة الجمع؛ قال له أبو بكر : (إنك رجل شاب) إذاً قضية مرحلة الشباب هذه لها أثر في تحمل العمل، وهذا ظاهر.

    ومن باب الاستطراد والفائدة: بعض المؤسسات الخيرية مع جلالة من يتولى منصبها من كبار السن إلا أنك لا تجد في الغالب أن همته في الانطلاق بالمؤسسة الخيرية مثل همة الشباب؛ ولهذا من باب النصيحة: الإنسان إذا بلغ مبلغاً كبيراً في السن الأحسن في حاله أن يترك الإدارة إلى الاستشارة، يعني: لا يكون هو الذي يدير العمل، وإنما يخرج لمنطقة الاستشارة. وإلا فإن بعض كبار السن مع جلالتهم ومع حفظنا لحقهم في كبر السن والعلم والعمل أيضاً، إلا أنا نقول: إن الأمور تتجدد؛ فإذا لم يتابع فإنه يبقى بطرائق قديمة، قد تؤثر على تقدم وسير العمل، فوجوده في باب الاستشارة أنفع، فلا يترك مطلقاً فهذا أولى.

    وهذا يشير إليه أبو بكر وإلا فقد كان يستطيع أن يعطي هذا العمل من هو أمثل من زيد في الإيمان مثل عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب ، لكن كان كل واحد منهم له عمله، ولعله منشغل بأشياء أخرى أما زيد فلم تكن حاله حال المنشغل، شاب متفرغ للإقراء وهو سيد من سادات القراء.

    فقوله: (شاب) هذه واحدة، (عاقل) والعقل صفة مهمة جداً؛ فهذه إذاً الصفة الثانية، قال بعد ذلك: (لا نتهمك) إذاً فيه صفة الأمانة، فاجتمع الشباب والعقل والأمانة، ثم قال: (كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفيه إشارة إلى الخصوصية، إذاً كان عنده خصوصية كتابة الوحي، هذه الصفة الرابعة.

    حصول الإجماع على جمع القرآن في عهد أبي بكر

    لما انتهى الأمر أبو بكر الصديق من جمع المصحف، أريد أن تنتبهوا إلى استنباط هذا الأمر، هل خالف أحد من الصحابة في رأي أبي بكر في زيد بن ثابت ؟

    مداخلة: لا أحد.

    الشيخ: ما أحد خالفه في رأي زيد بن ثابت ، وهل خالف أحد أبا بكر في جمعه لهذه الصحف؟ تنتبهون لهذه أيضاً لأننا سنتفيد منها فيما بعد، نلاحظ أنه من خلال التاريخ لا يوجد أي اعتراض على فعل أبي بكر ، بل مدحه الصحابة في ذلك، مدحه علي بن أبي طالب وغيره.

    لا نجد أي اعتراض على اختيار زيد بن ثابت ، ولا نجد أي اعتراض على الصفات التي ذكرها في زيد بن ثابت ؛ لأنه يذكرها والصحابة متوافرون، ما أحد اعترض على زيد بن ثابت بأنه كذا أو كذا؛ إذاً هذه قضايا مهمة.

    وإنما نتكلم بهذه الطريقة لأننا نحن المسلمين يجب أن يكون عندنا الثقة المطلقة -وإن كانت موجودة ولله الحمد- لكن كونها تكون مدعمة بالدليل أقوى.

    فالصحابة رضي الله عنهم وهم متوافرون اتفقوا جميعاً على ما فعل أبو بكر وأيضاً على ما قاله؛ ولهذا جاءوا سراعاً إلى هذا المشروع وقدموا ما عندهم كما يقول زيد : (فتتبعت القرآن من..) إلى آخره.

    والطرائق التي عملها تدل على أنه قد عاونه جميع الصحابة، فكانوا يداً واحدة في إنجاح هذا المشروع.

    إذاً: هذا عمل جماعي وليس عمل فرد، صحيح أن القائم به، المشرف عليه زيد بن ثابت أولاً ويساعده عمر بن الخطاب كما في بعض الآثار، لكن العمل هو عمل جماعي للكل. ولو أردنا أن نمثله بمثل مقارب فنقول:

    لو جئنا إلى قرية تعدادها مثلاً ثلاثون نسمة وقلنا لهم: إنا سنبني مثلاً مسجداً والمشرف على المسجد هو فلان، وجمعوا ما يستطيعونه؛ وأعطوه هذا المشرف، ثم بدأ بالمشروع، هل المشروع هذا هو عمل المشرف هذا فقط، أو عمل الجماعة كلها؟ هو في الحقيقة عمل الجماعة كلها، لكن هو كان له حق الإشراف المباشر، وهذه نفس قضية جمع المصحف. والدليل على ذلك: أنه لم يعترض واحد من الصحابة على هذا العمل، ولا على ما في مصحف أبي بكر الذي جمع، وهذه القضية مهمة يجب أن ننتبه لها وهي معتبرة ، يعني: الأصل فيها الاعتبار؛ لأنه اعتبار الإجماع، فضلاً عن أنه جاءت آثار عن علي بن أبي طالب وغيره تمدح هذا العمل على وجه الخصوص.

    حضور زيد بن ثابت العرضة الأخيرة

    وهناك مسألة أيضاً يحسن أن نتنبه لها وهي: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يذكر كون زيد بن ثابت حضر العرضة الأخيرة، مع أنه اشتهر أنه ممن حضر العرضة الأخيرة، لكن كون زيد بن ثابت هو الكاتب الخاص للوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه لا خلاف فيها، لكن نحتاج إلى دليل مستقل صريح وصحيح في أن زيد بن ثابت قد حضر العرضة الأخيرة.

    وحضوره العرضة الأخيرة معناه: أنه يحضر وهو يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على جبريل، ولا يلزم أن يرى جبريل، لكن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم.

    مصادر جمع زيد بن ثابت القرآن

    عندنا المسألة الثالثة فيما يتعلق بمصادر زيد في الجمع؛ لأن زيداً يقول: (فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب..) الرقاع والأكتاف والعسب كلها تمثل المسطور يعني: المكتوب، هذه أدوات الكتابة؛ فإذاً هذا القسم الأول، يعني: يتتبعه في المكتوب.

    ثم قال بعد ذلك: (وصدور الرجال..) أي: يتتبعه في المحفوظ، إذاً: مصدر الجمع هو: المكتوب والمحفوظ.

    قال: (حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ[التوبة:128])، وهما بالنسبة له أمر معلوم، هو يعرفها، لكنه من باب زيادة التوثيق كان يحرص على أن يوجد إما شيء مكتوب وإما شيء محفوظ، وإما مكتوب ومحفوظ معاً، بحيث يجتمع في هذا المكتوب مع المحفوظ ولا يكتفي بمحفوظه هو فقط، وإلا فيستطيع هو أن يكتب القرآن كاملاً؛ لأنه كان يحفظ القرآن كاملاً، وهو الكاتب الخاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مع ذلك أراد الزيادة في التوثيق؛ جمع ما بأيدي الناس من المكتوب وسمع ما عند الصحابة من المحفوظ.

    وتأمل مشقة هذا العمل، كل صحابي حافظ يأتيه ويسمع منه كل ما يحفظ، إذاً عمل وجهد يجب أن ننتبه له في ذلك الزمن، فهو جهد جبار جداً.

    وكما قلت سابقاً: ارجعوا بالزمن لهذه الفترة، التي هي فترة الصحابة رضي الله عنهم وتخيلوا ذلك العدد من الصحابة رضي الله عنهم وتخيلوا هذا العمل و زيد بن ثابت جالس ليس عنده شغل شاغل إلا هذا العمل، الذي هو جمع القرآن في مصحف واحد؛ فلا شك أن هذا العمل يعتبر عملاً جباراً، وليس عملاً سهلاً؛ ولهذا قال: (لو كلفتموني نقل جبل من الجبال لكان أسهل)، وقد صدق، فأنتم تخيلوا الحدث هذا؛ فستجدون أنه بالفعل عمل يستحق أن يقال عنه: إنه من الأعمال الجبارة، الكبيرة جداً، التي تنوء بحملها الرجال.

    1.   

    ملامح جمع القرآن في عهد أبي بكر

    بعد ذلك ندخل إلى ما يتعلق بملامح هذا الجمع، وقبل ذلك فقد أشرت إلى حديث خزيمة ؛ لأنه سيقع فيه إشكال لعلنا إن شاء الله نناقشه لاحقاً، لكن نلاحظ أن زيد بن ثابت ما قبله إلا وعنده فيه خبر، فليست آية لا يعلمها هو يقول: (آيتان من سورة التوبة) هو يعرفهما أنهما من سورة التوبة، وهو يعرف أنهما آيتان، لكنه ينتظر أن يأتي بها أحد كي يثبتها، ولا يثبتها فقط مما يحفظه هو؛ فهذه أيضاً قضية مهم أن ننتبه لها في طريقة جمع زيد بن ثابت ؛ لأن الجمع فيه إجمال، هل كان زيد بن ثابت يكتفي بشاهدين من الحفظ أو شاهدين من الكتابة؟ أو بشاهدين حفظاً وكتابة، أو بشاهد واحد مع ما عنده من الحفظ، هذه كلها محتملة، النص لا يعطي بدقة شيئاً من هذا، لكن مع كل الاحتمالات حفظه هو شيء والشاهد الذي يأتي به من الخارج شيء آخر، مع أنه اعتمد حفظه وما يأتيه من غيره؛ هذا بلا ريب، وهذا واضح من الأثر، لكن لكي يثبت كم عنده من الشهود؛ هل يكتفي بشاهد أو شاهدين؛ هذه قضية أخرى محتملة للأخذ والرد.

    ما هي ملامح هذا الجمع؟

    القرآن المجموع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان متفرقاً، ونقول أيضاً: إن المجموع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كان مع زيد وهذا أيضاً توثيق آخر، يعني: الوثيقة التي كتبت أمام النبي صلى الله عليه وسلم هي مع زيد ، يعني: معه حفظه، والذي كتب عند النبي صلى الله عليه وسلم، والذي كتبه الصحابة، والذي حفظه الصحابة، فهذه أربعة مصادر، الذي كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أغلب من كتب هو زيد ، والذي حفظه زيد ؛ لأنه الكاتب الخاص وشاهد العرضة -على أحد الأقوال-، والذي كتبه الصحابة رضي الله عنهم، والذي حفظوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو كتبوه عند النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً المكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -كما سبق بالأمس- كان متفرقاً؛ فإذاً أبو بكر عمله كان جمع المتفرق، فهذه قاعدة في عمله.

    بعد ذلك لما جمع هذا المتفرق في مصحف واحد فإنه يسمى قرآناً.

    دخول المنسوخ وعدم دخوله في جمع أبي بكر

    هل الذي جمعه أبو بكر هو القرآن الثابت فقط الذي ثبت في العرضة الأخيرة أو أدخل معه المنسوخ أيضاً؟ هذه المسألة فيها خلاف، فقد ذكر بعض العلماء أن جمع أبي بكر جمع المنسوخ وغير المنسوخ، لكن أقول فائدة مهمة ننتبه لها: كل ما يتعلق بجمع أبي بكر لا يمكن إثباته جملة ولا نفيه جملة، يعني: المسألة في الإثبات والنفي متساوية، فنحتاج إلى أن نرجع إلى مرجحات خارجية يستأنس بها أكثر من أن تكون حجة قاطعة.

    أبو بكر أراد أن يجمع القرآن، خشية أن يضيع القرآن، وهذا القرآن أليس يتلى على مسامع الصحابة آناء الليل وأطراف النهار؟ أليسوا يقرءون به في المحاريب؟ فإذاً: هل سيجمع كل ما نزل أو ما ثبت؟ المتصور عقلاً أنه أثبت الناسخ والمنسوخ فيه، يعني: (والشيخ والشيخة)، و(وبلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) كله جمعه..

    هذا الفهم مشكل، والصحيح أنه جمع المثبت؛ لأن زيد بن ثابت يعرف الثابت من غيره، فهو كاتب الوحي الخاص، وكان هو المشرف على العمل، ولم ينقل بنقل صحيح أن أبا بكر الصديق جمع شيئاً من ذلك، الذي هو المنسوخ؛ فبقينا على الأصل وهو جمع الثابت فقط، والقول بأنه جمع غير ذلك يحتاج إلى دليل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب كتب الثابت الذي استقر عنده في العرضة الأخيرة، وأقرأ زيداً الثابت الذي استقر في العرضة الأخيرة؛ لأنه لا يتصور أن يكون أقرأهم ثم هم يختارون؛ لأنا قلنا: أنزل القرآن على سبعة أحرف؛ فهو كله مرتبط بحفظ الله سبحانه وتعالى؛ فالأقرب أن يكون أبو بكر جمع الثابت من القرآن فقط، لم يدخل معه غيره.

    إشكالية رسم ما فيه أكثر من وجه قرائي

    ستأتينا إشكالية وليست كبيرة لكنها تحكى وهي أنه: إذا كان في الكلمة أكثر من وجه قرائي، كيف يرسمها أبو بكر ؟ هذا لا نستطيع نحن أيضاً أن نثبت ولا ننفي، مثل: (وصى) و (أوصى)، يحتمل أن يكون كتب: (وصى)، ويحتمل أن يكون كتب (أوصى)، ومثل: (تجري تحتها الأنهار) ويحتمل أن يكون كتب: (تجري من تحتها الأنهار)، لكن القارئ حينما يقرأ بمحفوظه الثابت؛ هل سيقرأ (أوصى) وهي مكتوبة: (وصى) أو سيقرأ كما هو عنده في حفظه؟

    الجواب: كما هو عنده في حفظه.

    إذاً: الرسم عنده لا يؤثر في المحفوظ؛ لأنا قلنا: إن الأصل هو المقروء المحفوظ، والرسم مجرد صورة له، فهذه يجب أن نستحضرها في الذهن.

    فإذاً: الأقرب أن يكون المجموع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم متفرقاً، والمحفوظ عند زيد هو المجموع في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

    وأن الأوجه التي وردت في القراءة فيما يكون الرسم يحتمل أكثر من وجه لو اكتفي بأحد الأوجه منها لما أخل بالوجه الآخر؛ لأن الوجه الآخر الأصل فيه المحفوظ، والمصحف المقصود منه ضبط هذا المحفوظ؛ لكي لا يضيع فقط، وإلا الأصل عندنا أنه هو محفوظ، ما فيه إشكال، هو سالم من الضياع في محفوظيته في الصدور، لكن من باب زيادة التوثيق؛ كتب، وخشية أن يضيع فعل أبو بكر ما فعل.

    ولهذا نلاحظ الدليل على ذلك -سيأتينا إن شاء الله- أنه هل استفيد من مصحف أبي بكر في عهد أبي بكر وعهد عمر فقط؟

    لم يستفد منه مباشرة في عهدهما وإنما كان لمجرد الحفظ فقط، والصحابة كانوا يقرءون من خلال ما حفظوه، كما سيأتي بعد قليل.

    هذه مسألة مهم جداً أن ننتبه لها، وهي مرتبطة بالفرق بين عمل أبي بكر وعمل عثمان، ولعلنا نأتي إليها، في: (سارعوا) و(وسارعوا) (أوصى) و(وصى)، وفي: (ليهب) و(لأهب)، وغيرها كما في: (الصراط) و(بظنين).

    ثم هل كان يثبت ما له أكثر من وجه في الهامش؟

    الجواب: الله أعلم، احتمال أنه أثبته في الهامش واحتمال أنه لم يثبت؛ لأننا لا نستطيع إثباتها، وهذه مجرد احتمالات وافتراضات.

    ثم هي كلمات قليلة، والخلاف فيها لا يؤثر على نقل القرآن، وسنأتي -إن شاء الله- إلى تفصيلها حينما نتكلم عن جمع عثمان رضي الله عنه.

    السؤال: ألم يكن زيد حضر العرضة الأخيرة؟

    الجواب: بلى، فإذا كان زيد حضر العرضة الأخيرة فمعناه أنه يعرف ما الذي بقي من القرآن قطعاً، هذا بلا خلاف.

    عندنا إذاً القاعدة التي ذكرتها لكم قبل قليل فيما يتعلق بمصحف أبي بكر يجب أن نستصحبها.

    ترتيب السور في جمع أبي بكر

    فمن ذكر من العلماء أن مصحف أبي بكر لم يكن مرتب السور، وإن كان باتفاق مرتب الآيات؛ فهذا أيضاً لا دليل صريح يدل عليه، فلو أنك تبحث في جميع الآثار فإنك لا تجد دلالة صريحة على أن جمع أبي بكر كان غير مرتب بالسور، من أين جاء هذا الرأي؟ هذه تحتاج إلى تتبع، وأنا سبق أن طرحت قديماً أن بعض مسائل علوم القرآن تذكر في الكتب وليس لها ما يسندها من الأثر الصحيح إطلاقاً، وهذا منها، يعني: لا يوجد دليل صحيح مباشر يدل على ذلك، وإنما هو قول لبعض العلماء بنوه على ما فهموه من عمل عثمان رضي الله عنه.

    ولهذا أقول: إن الأصل أنه مرتب بالسور، لا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل؛ لأنهم سيتتبعون عمل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل أيضاً في ترتيب السور أنه توقيفي، وإن كان فيه خلاف، لكن أنا أرى أنه توقيفي، وأن كل عمل مرتبط بالمصحف وبالآيات هو مرتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فبين لهم السور وبين لهم مواطن السور ووضع لهم الآيات في أماكنها، وما مات صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن قد اكتمل ووضحت معالمه لهم.

    وعمل أبي بكر هو مجرد حفظ لهذا الذي كان موجوداً ومقروءً من النبي صلى الله عليه وسلم، وبين يديه على حسب الترتيب الموجود في اللوح المحفوظ على حسب ما قدر الله سبحانه وتعالى بعد ترتيب المصحف.

    هناك أثر يمكن أن يستأنس به وهو: ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن عباس عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا و شداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما؛ فقال شداد بن معقل : ( أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين، قال: ودخلنا على محمد ابن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين )، يقصدون المصحف، قد يقول قائل: قول ابن عباس وقول محمد ابن الحنفية: ما ترك إلا ما بين الدفتين؛ أصلاً لم يكن بين دفتين إلا بعد أن جمعه أبو بكر ؟

    فنقول: ويستأنس منه أن ما بين الدفتين الذي جمعه أبو بكر هو نفسه الذي كان في عهد الرسول، لكن كان مفرقاً ثم صار بين دفتين، فعبر ابن عباس وعبر محمد ابن الحنفية الذي هو ابن علي عبروا عن ما آل إليه ولم يعبروا عن ما كان عليه، وما كان عليه هو نفس ما آل إليه ولم يختلف، وهذه تنتبهون لها؛ لأنها في النقد، قد يقول قائل: ما ترك إلا ما بين الدفتين، أي: لما انتهى واكتمل، نقول: صحيح أنهم عبروا عما آل إليه، كونه بين دفتين ولكن ما آل إليه هو عين ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يتغير منه شيء؛ فهذا مما يستأنس به في أن الذي فعله أبو بكر هو جمع لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، لم يغير فيه شيء، بنفس ترتيب السور، ولا زيد فيه آية ولا نقص منه آية، ولا زيد فيه حرف ولا نقص منه حرف.

    البيهقي في شعب الإيمان يقول: (وأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمع القرآن ونقله إلى مصحف، ثم اتخذ عثمان من ذلك المصحف مصاحف، وبعث بها إلى الأمصار ولم يعرف أنه أثبت في المصحف الأول ولا فيما نسخ منها شيء سوى القرآن؛ فلذلك ينبغي أن يعمل في كتاب كل مصحف أو في كتابات كل مصحف).

    إذاً المصحف الأول، الذي هو مصحف أبي بكر ومصحف عثمان لم يكن فيهما إلا القرآن فقط، وهذا دلالة عامة، القرآن بحيث إنه لا يدخل فيه غيره، لكن نقول: حتى الذي نسخ لم يدخل في مصحف أبي بكر .

    هذه تقريباً بعض القضايا المرتبطة بمصحف أبي بكر .

    1.   

    خطأ قراءة تراث المسلمين بمنهجية غير إسلامية

    ومن باب الفائدة نقول: من هو المحكم في قبول الآثار؟ هل هم المستشرقون ومن بدأ يقرأ تراثنا الإسلامي بقراءات غربية، أو هم أهل هذا الشأن الذين صنعوا له المناهج التي يدرس بها؟

    الأصل أنهم أهل الشأن، الذين صنعوا المناهج التي يدرس بها.

    إذا درست هذه الآثار بغير هذه الطريقة؛ فقطعاً ستحدث عندك شبهة وخلخلة.. إلخ، دعوني أضرب لكم مثالاً آخر الآن؛ لكي نفهم كيف تقع الخلخلة:

    الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، ألم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم أن المنقول من آثار بني إسرائيل ليس فيه أسانيد وليس فيه خطام ولا زمام؟

    الجواب: بلى.

    إذاً: نشأ علم الجرح والتعديل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أليس كذلك؟ وأرسيت قواعد دراسة الأسانيد وقواعد علم الجرح والتعديل، ثم حكمت هذه فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصاً في أحاديث الأحكام، التي هي الحلال والحرام، أليس كذلك؟

    الجواب: بلى.

    لو أخذنا هذه المنهجية، التي هي منهجية دراسة الأسانيد في الحلال والحرام في مادة الأحكام وطبقناها على مرويات بني إسرائيل؛ كم الناتج يساوي؟ أخشى أنه يكون تحت الصفر وليس صفراً فقط، بل قد يكون تحت الصفر؛ لأنه لا يمكن أن تثبت رواية إسرائيلية على طريقة المحدثين، وعلى طريق دراسة الأسانيد الحديثية، إطلاقاً؛ لأنك أمام سلسلة من المجاهيل غير معروفين، ما أقصد الذين رووا من المسلمين الذين هم من بني إسرائيل، يعني: ممن رووا هذه القصص، من هم؟ هذه يجب أن تنتبهوا لها كقاعدة علمية.

    إن تطبيق منهجية علم ما بحذافيرها على علم آخر تفسد العلم الآخر، وتخرج بنتائج خطأ قطعاً، هذه قاعدة تضعونها في أذهانكم.

    لكن الاستفادة من منهجية هذا العلم، من أشياء منه نعم، ويجب أن نفرق بين الأمرين، أعيدها مرة أخرى لحساسيتها، ولأن بعض من حدثته بهذا لم يفهم عني هذا؛ فنقل نقلاً مغايراً:

    فأقول: تطبيق منهجية علم بحذافيره على علم آخر؛ يفسد العلم الآخر، ويوصل إلى نتائج خطأ، لكن الاستفادة منه -يعني: من منهجية العلم الأول في بعض قضاياه- في العلم الثاني؛ ممكنة، وهذا طبقه في دراسة الأسانيد في التفسير. عندما يأتينا واحد ويقول: ندرس أسانيد التفسير مثلما ندرس أسانيد الحلال والحرام؟ نقول له: هذا ليس بصحيح، لكن يقول: نستفيد من منهجية علماء الحديث في دراسة الأسانيد وندرس فيها؟ ... نقول: نعم.

    بقي أن هذه الاستفادة لها مناط محدد ومعروف؛ لأن قبول مرويات التفسير ليس كقبول مرويات أحاديث الحلال والحرام، والدليل على ذلك هو عمل المحدثين أنفسهم، وكذلك عمل المفسرين المحققين أصحاب الرواية والدراية، ولا أريد أن نطيل فيها لكن كمثال، كي تنتبهوا له.

    فكيف إذا جاء من يريد أن يقرأ تراث المسلمين بمنهجية مغايرة لمنهجية المسلمين، ماذا سيحصل؟ قطعاً يحصل الخلل في النتائج، فإذا جئنا أمام مستشرق يدرس كتاب ابن أبي داود مثل ما فعل المحقق المستشرق، أو يأتي آخر ويكتب وعنده منهجية مستقلة؛ نجزم يقيناً أنه سيقع في الخلل؛ لأنه لن يفرق بين الموضوعات والأباطيل وبين الصحاح، ولن يفرق بين ما هو حجة ومقبول وبين ما ليس بحجة ولا بمقبول، بل إنه -بحسب المعطيات الخاصة عنده والمعطيات التاريخية التي يظنها كذلك- قد يقدم الموضوعات والأباطيل على الصحاح، وهذا واقع في الدراسات التي وقعت في تاريخ القرآن عند هؤلاء، إما عن حسن قصد -هذا إن أحسنا الظن- وإما عن سوء قصد ونية مبيتة أصلاً للإفساد، وهذا عند - كما قلت لكم - بعض المستشرقين موجود، بلا ريب، مهما ادعى الحيادية وادعى وادعى.. لكنه يعرف عند الوصول للنتائج التي هي ضد ما اتفق عليه المسلمون، وبعد ذلك يأتي من يقول: والله هذا لا‍! والله هذا أحسنوا الظن فيه! هذا باحث حيادي وهذا أنتم فهمتموه خطأً.

    ونقول: نحن نفهمه خطأً لو كانت المسألة التي خرج بها واحدة، أما إذا كانت كل مسائله على خلاف ما اتفق عليه المسلمون، فكيف نحسن به الظن؟ هذا نوع من الغباء، نحن لا نسيء إليه، بل نبين ذلك بالأدلة من عمله.

    فإذاً: يجب أن نفرق بين هذا وذاك.

    هذا أمر مهم يجب أن ننتبه له ونحن ندرس هذه القضايا المرتبطة بتاريخ القرآن، فلا يوجد جمع قبل عمل أبي بكر الصديق إلى عمل عثمان البتة.

    وما ذكر إطلاقاً أن هناك جمعاً آخر، جمع في مصحف؛ والذين يزعمون أن علي بن أبي طالب جمع، فهذا لا يثبت إطلاقاً؛ نرجع إلى دراسة الأسانيد ونبطل مثل هذه الأمور بالمنهج العلمي في دراسة الأسانيد، ولو كنا مثل هؤلاء لصار -كما قلت لكم في أول درس- ما في كتاب الأغاني عندهم مثل ما في صحيح البخاري ! سواء بسواء، وهذا لا شك أنه سيحدث البلبلة والإشكالات التي ذكرت جزءاً منها.

    ضعف ما روي أن عمر جمع القرآن أيضاً

    انتهينا من عهد أبي بكر الصديق ، يعني لاحظنا الآن أن الصحف الخاصة ما زالت بأيدي الصحابة، يقرءون بما كانوا يقرءون به على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقع إلزام بمصحف أبي بكر، هذه حقائق من خلال التاريخ الذي كان في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

    هل تغير شيء من أمر جمع القرآن في عهد عمر بن الخطاب؟ لو رجعتم إلى كتاب ابن أبي داود ستجدون بعض الآثار الغريبة في أن عمر جمع المصحف، ولكن واضح جداً أن فيه نكارة؛ لأن الاتفاق واضح على أن الذي جمع هو أبو بكر ؛ فمثل هذه الآثار التي فيها غرابة لا تقوم أمام الآثار الصحيحة المتفق عليها، التي تكاد تكون بلغت حد التواتر في أن الذي جمع المصحف هو أبو بكر ، وما حاجة عمر أن يجمع المصحف بعد أن جمعه أبو بكر ولم تقم الحاجة؟! يعني: الحاجة التي ستقوم في عهد عثمان لم تقم في عهد عمر ولا كانت المشكلة موجودة، فإذاً لم يكن هناك أي حاجة.

    موقف عمر من قراءة أبي بن كعب قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم ...)

    لاحظوا الآن هذا الأثر وأحب أن تعطوني جزءاً من عقولكم في مناقشته:

    (روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب : (أبي أقرؤنا..) الذي هو أبي بن كعب ، هذا مدح الآن لـأبي (وإنا لندع من لحن أبي ..).

    أبي ما يقول: أنا أخرجته من كيسي أو قرأت بالمعنى؛ لا، بل يحتج، فيقول: ( أنا أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يعني: من فمه مباشرة (فلا أتركه لشيء)، فيحتج عمر بقول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106].

    ماذا نستفيد من هذا الحديث؟ الآن نحن في عهد عمر ، من خلال هذا الحديث هل نفهم أنه ألزم بمصحف أبي بكر ؟ لا يفهم أنه ألزم بمصحف أبي بكر . هذه واحدة.

    وما دام أنه ما ألزم بمصحف أبي بكر، فهل بقي الصحابة يقرئون بما قرءوا به عند الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا؟

    الجواب: نعم. وهذه الثانية.

    الثالثة: هل عمر يعرف أن شيئاً مما يقرأ أبي قد ترك أو لا؟ لاحظ هذا الأثر وهو قريب من الأثر الذي سنذكره الآن: قال: (كان أبي يقرأ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ[الفتح:26] (ولو حميتم كما حموا أنفسهم لفسد المسجد الحرام) فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ[الفتح:26]) فالزائد عندنا: (ولو حميتم كما حموا أنفسهم لفسد المسجد الحرام). قال: فبلغ ذلك عمر فاشتد عليه، يعني: ثقل عليه مثل هذا الأمر فبعث إليه فدخل عليه؛ فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت، وهذه من سياسات عمر ، فقال: من يقرأ منكم سورة الفتح؛ قال: فقرأ زيد على قراءتنا اليوم، وقرأ أبو إدريس الخولاني نفس قراءة أبي ، فغلظ له عمر ، لكي يكون في مشهد من الصحابة، يعني: أنت عندك جملة زائدة، هذه متروكة، ما قال: ما هي بقرآن، لكنها متروكة، فغلظ له عمر ؛ فقال أبي: (أأتكلم؟ قال: تكلم، قال: لقد علمت أني كنت أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقربني وأنت بالباب..) احتجاج، يقول: أنا أدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم ويقربني وأنت واقف في الباب، ما يدخلك.

    (فإن أحببت أن أقرئ الناس على ما أقرأني أقرأت، وإلا لم أقرئ حرفاً ما حييت؛ قال: بل أقرئ الناس).

    لاحظ! هذا فيه فقه في التعامل كبير جداً: (لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)، أولئك الذين يختصمون على مسائل أو فروع من فروع العقائد، أو أحياناً بعض العقائد أو غيرها؛ هذا الآن خصام في كلام الله سبحانه وتعالى، وانظر كيف أدب أمير المؤمنين الوالي، الذي يمكن أن يلزم سيد القراء أبي بن كعب ، وهذا هو الأسلوب والمنهج الذي يجب أن نتبعه، وليس أسلوب الخصام والدخول في النيات وأن فلاناً يقصد كذا أو.. أو.. إلخ، ومع الأسف نجد قوماً يسكنون في مكان واحد، ويمكن أن يمر فلان على فلان ويجلسون سوياً لشرب قهوة أو بعد العشاء، ويأخذون في الخصام العقيم، وينتهون من مشكلات كثيرة، ولكن كما أخبر الرسول: ( الشيطان ما وجد إلا أن ينزغ بين أهل الإيمان ).

    خذوا هذا الأثر، طبعاً رواه النسائي و ابن أبي داود و الحاكم ، و ابن خزيمة روى بعضه.

    فوائد من قصة عمر مع أبي بن كعب في قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم ...)

    هذا الأثر إذا تأملناه نجد أولاً: أن عمر بن الخطاب استنكر على أبي هذه القراءة، ولم يقبلها.

    ثانياً: أن عمر بن الخطاب لم ينه أبياً أن يقرأ بما قرأ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    فإذاً: ما زلنا في مرحلة عمر بن الخطاب ، ما زالت المرحلة مرحلة مفتوحة في الإقراء، يقرأ بما ثبت وبما ترك، بما ثبت في العرضة الأخيرة، وبما ترك، والقضية مهمة جداً تنتبهون لها في تاريخ القرآن.

    فـعمر كان يعلم ما ترك في الأولى يقول: إن أبياً يحتج علينا بأنه قرأ أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذها من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: (لا أترك شيئاً أخذته) فيحتج عمر عليه بقول الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا[البقرة:106]، إذاً: هناك آيات نسخت وتركت.

    لاحظ ماذا يقول ابن حجر ! يقول: وكان أبي بن كعب لا يرجع عما حفظه من القرآن الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أخبره غيره أن تلاوته نسخت قال: لأنه إذا سمع ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم حصل عنده القطع به، فلا يزول عنه بإخبار غيره أن تلاوته نسخت، وقد استدل عليه عمر بالآية الدالة على النسخ وهو من أوضح الاستدلال في ذلك.

    إذاً: هذه مسألة خلافية، كان عمر رضي الله عنه يخالف أبي بن كعب في هذا، ويقول: إن عملك غير صحيح؛ لأن الذي تقرأ به متروك.

    ويستفاد من هذا الأثر فوائد:

    منها: أن عمر بن الخطاب لم يلزم بمصحف أبي بكر ولا بغيره، وأن ما كان يقرأ به الصحابة كان منتشراً، وقد تركهم على ذلك مثل ما حدث مع أبي .

    فهذه المرحلة هي مرحلة تابعة لمرحلة أبي بكر تماماً، ولم يبدأ وجود الإشكال والاختلاف إلا بعد؛ لأنه في عهد عثمان ، الذي سيأتينا بعد قليل، المرحلة الثالثة غير عهد أبي بكر وغير عهد عمر ، فعهدهما لم يكثر التابعون فيه بالكثرة التي كانت في عهد عثمان .

    1.   

    تدوين القرآن في عهد عثمان

    ننتقل الآن إلى مرحلة عثمان رضي الله عنه:

    الأصل في جمع أبي بكر حديث زيد ، والأصل في جمع عثمان حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه أنس بن مالك ، قال البخاري بسنده عن ابن شهاب : إن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل العراق في فتح أرمينيا وأذربيجان، و ابن حجر رحمه الله وضع تقريباً لوقت هذه الغزة؛ التي هي غزوة أرمينيا وأذربيجان، في نهاية العام الرابع والعشرين وبداية الخامس والعشرين، بالكثير في عام 25هـ كانت هذه الغزاة، والمشكلة أيضاً حدثت في هذا العام تقريباً، وهذا لا بد من تخيله في التاريخ.

    يقول: كان يغازي مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلاف في القراءة؛ فقال حذيفة لـعثمان : يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى؛ فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخ منها المصاحف، أو ننسخها في المصاحف، أحب أن تنتبهوا للألفاظ، وبقي كيف جاءت الصحف إلى حفصة؟

    الصحف كانت عند أبي بكر ثم عند عمر ، ثم بعد ذلك انتقلت إلى حفصة أم المؤمنين، فلم تأت إلى حفصة فقط؛ لأنها بنت عمر ، بل لأنها أقرب الناس إلى عمر وهي أيضأ أم المؤمنين.

    قال: أرسلي لنا بالصحف ننسخها في المصاحف.

    إلى هذا الوقت كان مصحف أبي بكر لا دور له سوى الحفظ؛ أنه حفظ وانتهى، ولهذا لم ينتقل إلى دار الخلافة، يعني: ما انتقل من بعد عمر إلى عثمان ، بل بقي عند حفصة ، وما عندهم فيه أي مشكلة، ولا أحد استشكل لماذا هو عند حفصة وليس عند عائشة ؟ لماذا لم يكن عند علي بن أبي طالب ؛ لأن علي ابن عم النبي.. ما كان عندهم هذه الإشكالات إطلاقاً؛ لأن المسألة لم تكن ذات بال عندهم في هذا الأمر، أهم شيء أن الكتاب محفوظ فيما بينهم.

    العبارة التي أحب أن تنتبهوا لها قوله: (أرسلي إلينا بالصحف..) ماذا نفعل؟ (ننسخها في المصاحف..) ضعوا خطاً أخضر على لفظة (ننسخها) هذه، ما نحب الأحمر يكون أحياناً علامة خطأ، خط أخضر، (ثم نردها إليك)؛ لأن مسألة الصحف هذه -كما قلت لكم- ما كانت ذات بال كبير عندهم.

    قال: (فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ) فأمر زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم)، قال: ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف من المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ؛ فأرسل إلى كل أفق مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، لكن لم يحرق مصحف أبي بكر ؛ لأنه موافق، فتنبهوا لهذا؛ لأن المسألة مرتبطة بقضية التاريخ، لماذا لم يحرق مصحف أبي بكر ما دام حرق المصاحف كلها؟ يدل هذا على أنه ما كان هناك خلاف بين مصحف أبي بكر ومصحف عثمان .

    سبب جمع القرآن في عهد عثمان

    نأتي الآن إلى الفوائد في هذا من خلال تاريخ هذا العمل، وسبب الجمع هو اختلاف القراء في القراءة وتخاصمهم، وليس فقط اختلافاً أدى إلى التخاصم، بل حتى كفر بعضهم بعضاً.

    فإذاً: المقصد أن الاختلاف كان هو سبب جمع عثمان للمصاحف، ولو قابلناه بعمل أبي بكر ، ما كان سبب عمل أبي بكر ؟

    مداخلة: حفظ القرآن ...

    الشيخ: الحفظ، يعني: أنه اختلف السبب أو ما اختلف؟

    مداخلة: اختلف.

    الشيخ: اختلف.

    وأيضاً ألا تلاحظون أن عثمان لما نسخ هذه المصاحف رد المصحف إلى حفصة ؛ لأنه لا يخالف مصحفه، فليس عنده فيه أي مشكلة.

    المسألة الثانية: ما هو القصد من عمل عثمان ؟

    عبارته: (أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك).

    إذاً: العمل الذي سيقوم به عثمان ليس فيه إضافة جديدة إنما هو مجرد نسخ، كما يفهم من خلال عبارته رضي الله عنه: (ننسخها في المصاحف) فقط.

    واللجنة التي تكونت اختلفت لكن اتفقت في شيء واختلفت في شيء، ما هو المتفق عليه بين اللجنتين؟ وجود زيد بن ثابت ، لكن لما كان المقصد مختلفاً اختلفت اللجنة، في عهد أبي بكر كان المقصد فقط جمع القرآن فكانت اللجنة: زيد بن ثابت ومعه عمر يساعده، وكانت كافية لجمعه، لكن في جمع عثمان نسخ ومعارضة، فجعل عثمان مع زيد ثلاثة، وجعلهم من قريش، لقصد ما ذكره في قوله: (إذا اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه بلسانها نزل).

    المنهج المتبع في جمع عثمان

    المنهج المتبع في الرسم حال الاختلاف؛ عثمان أعطاهم منهجاً؛ قال: (إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه..) لاحظ (فاكتبوه بلسان قريش) يعني: باللهجة التي توافق لهجة قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، قال: ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة.

    الآن إذا اختلفوا في لفظة قد يقول قائل: كيف يختلفون وأمامهم المصحف الذي ينقلون منه؟! كيف يختلفون؟

    الجواب: لما جاء معه القرشيون، فالرسم مظنة اجتهاد.

    إذاً: هذه فائدة مهمة تنتبهون لها: الخلاف الذي سيدور بين زيد والقرشيين في كيف ترسم الكلمة، وليس في قضية القراءة؛ لأن زيداً أعلم بالقراءة من هؤلاء كلهم.

    إذاً: الخلاف الذي سيقع هو في المرسوم، وليس في المقروء. والدليل على ذلك: أن الآثار التي وردت تتعلق بالمرسوم ولا تتعلق بالمحفوظ، فمثلاً: (التابوت) هي (تابوت) واختلف هل تكتب بالتاء المربوطة، أو بالتاء المفتوحة، لغة زيد وقومه (التابوه)، ولغة القرشيين (التابوت) إذا وقف عليها، اختلفوا فيها فكتبوها بلغة قريش.

    هذا الذي يريده عثمان ، قال: إذا اختلف الرسم عندكم فاكتبوا الرسم الموافق لقريش، ليس الموافق لغيره.

    اعتماد المحفوظ

    من خلال كل هذا العمل الذي قام به عثمان، هل الأصل عنده رضي الله عنه في المقروء المحفوظ أو المرسوم؟

    ما زلنا في دور اعتماد المحفوظ، فالمعتمد هو المحفوظ، والمرسوم في المرتبة الثانية، فالمرسوم معاضد للمحفوظ وليس أصلاً إلى عهد عثمان .

    تعميم مصحف أبي بكر

    تعميم مصحف أبي بكر هو دور عثمان، فالعمل الحقيقي لـعثمان هو هذا؛ لأنه قال: ننسخ، و زيد يقول: نسخنا المصاحف من مصحف أبي بكر؛ فإذاً الدور الذي قام به عثمان هو تعميم مصحف أبي بكر، أما كونهم يختلفون في رسم كلمة -كما قلنا قبل قليل- فهذا لا يؤثر على أصل المصحف وكماله، المسألة مرتبطة بقضية الرسم، وليس بقضية أن هذه الكلمة موجودة أو غير موجودة.

    عدد المصاحف التي كتبها عثمان

    عثمان كم نسخ من المصاحف؟ فيه خلاف، لكن الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنها ستة مصاحف: مصحف يسمى المصحف الإمام الأول الذي هو مع عثمان، ومصحف لأهل المدينة مع زيد بن ثابت ، ومصحف لأهل مكة، ومصحف لأهل الكوفة، ومصحف لأهل البصرة، ومصحف لأهل الشام. وإذا تأملتم هذه المواطن تجدون أن أغلب القراء كانوا فيها، وعد الآي خرج منها، وكله مرتبط بهذه المناطق.

    أرسل عثمان إلى هذه الجهات ولم يرسل إلى غيرها لأسباب، لعلنا نشير إليها لاحقاً، لكن المقصد الآن أن نعرف أن الذي عمله عثمان هو ستة مصاحف.

    مقارنة بين عمل عثمان وعمل أبي بكر

    لو أردنا أن نقارن بين عمل عثمان و عمل أبي بكر الذي سبق قبل قليل أن استشكلناه: كيف يكتب أبو بكر في مصحفه الوجوه القرائية التي تعددت في الرسم مثل: (أوصى) و (وصى)، ومثل: (تجري تحتها) و(تجري من تحتها) إن كنا قلنا: إن مصحف أبي بكر لم يكن فيه فرصة لهذا العمل؛ ففي مصحف عثمان سيكون هناك فرصة، إذاً الفرصة في مصحف عثمان أكثر.

    لقد جاء في قراءات ثابتة: (وصى) و(أوصى)، (سارعوا) (وسارعوا) في عهد أبي بكر نقول: هناك احتمال أن يكون كتبها كلها بالهامش أو بأي طريقة أخرى، واحتمال أن يكون كتب وجهاً، لكن في عهد عثمان إمكانية كتابة الأوجه موجودة؛ لأن عنده ستة مصاحف، فيكتب في مصحف: (وصى) وفي مصحف: (أوصى)، ويكتب في مصاحف: (تجري تحتها) وفي مصحف: (تجري من تحتها) على حسب التوزيع، أي: أن عندهم فرصة في نشر الخلافات المرتبطة بالرسم.

    نشر أوجه القراءات في جميع المصاحف

    لا يلزم أن كل خلاف مرتبط بالرسم نشر في جميع المصاحف، والدليل: أن العلماء لما اطلعوا على أصول هذه المصاحف مثل: أبي عبيد القاسم بن سلام ، و أبي حاتم السجستاني ، و الغازي بن قيس وغيرهم، ذكروا اتفاق المصاحف على رسم واختلاف القراءة فيهم، مثال ذلك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] بالصاد، وقرئت بالسين وقرئت بإشمام الصاد زاياً، وهذه قضية أدائية لا تكتب، لكنها قرئت هكذا.

    أيضاً: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24] بجميع المصاحف بالضاد أخت الصاد، وقرئت أيضاً: (بظنين) بالظاء أخت الطاء.

    أيضاً اتفقت المصاحف على: لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا[مريم:19]، وقراءة ورش و أبي عمرو : (ليهب)، والهمزة هذه لا يمكن أن تكون ياء.

    تقديم القراءة على الرسم

    هذه الاختلافات وغيرها مما اتفقت عليها المصاحف واختلفت في القراءة، وهي التي جعلت بعض العلماء يقول: موافقة الرسم ولو احتمالاً، فتوسعوا في مسألة الاحتمال، لكن نحن نقول: لا يلزم، ما دام الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في أن ينشروا شيئاً من الفروق وتركوا بعضاً منها فهذا يدلنا على أن القراءة قاضية على الرسم، يعني: مقدمة عليه، ولا زلت أكرر هذه القضية لتكون ثابتة عندكم، والدليل على أن المقدم عندهم القراءة أيضاً وليس الرسم: الأثر الذي روى عن إبراهيم عن علقمة قال: (قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي. قلت: من هذا؟ قال أبو الدرداء ، فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فيسرك لي. قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟

    وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان، أوليس فيكم صاحب سر رسول الله الذي لا يعلمه أحد غيره؟ ثم قال: كيف يقرأ عبد الله (والليل إذا يغشى) فقرأت عليه: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى). قال: والله لقد أقرأنيها رسول الله من فيه إلى في فما زال هؤلاء حتى كادوا يستنزلوني).

    فهذا دل على أن المعتبر عند أبي الدرداء المسموع، فلو افترضنا جدلاً تعارض المسموع والمكتوب أيهما يقدم؟ المسموع يقدم؛ لأن المكتوب هو صورة توضيحية للمسموع وليس المراد منها أنه حاكم؛ لأن الصحابة لا ينطلقون من الرسم، قاعدة لا بد ندركها وهي: أن الصحابة لم ينطلقوا يوماً من الرسم، ولم ينطلق التابعون من الرسم، ولم ينطلق أتباع التابعين من الرسم، الأغلب أن انطلاقهم من المحفوظ، وإنما جاءت قضية الرسم والاعتماد عليه فيما بعد، أما في هذه العصور فما زالت المسألة مرتبطة بالقراءة.

    ودليل آخر واقعي: لو تخيلت هذه العصور المرسوم عندهم كم نسبته أمام المقروء؟ فالحفاظ أمام الذين عندهم مصاحف، والذين عندهم مصاحف كاملة أمام الذين عندهم مقاطع من مصاحف قليل جداً؛ لأن أدوات الكتابة في ذلك الزمان لم تكن مثل هذا الزمان، ولا زلت أقول لكم: إننا أحياناً عن غفلة منا نتخيل في عهد الصحابة والتابعين وأتباع التابعين أن الأمر مثل ما هو عندنا الآن ما شاء الله! الأوراق في كل مكان؛ والواقع غير، فالحصول على مثل هذه الأمور فيه جهد وكلفة. فكونه يوجد أحد يكتب وعنده أدوات الكتاب هذا شيء عزيز ونادر، صحيح في عهد عمر بدأت الدواوين وغيرها، لكن قسها أنت بمجموع الناس لهذه الرقعة المتسعة من الدولة الإسلامية، فستجد أن الأصل في القرآن بالذات هو المقروء المحفوظ، وأن الناس لا زالوا يأخذونه مقروءاً محفوظاً.

    شبهة في الرسم والجواب عنها

    وأريد هنا أن أنفي شبهة يتطرق إليها بعض المستشرقين والمنصرين حينما يأتي برسم من رسوم الصحابة القديمة ويأتي في بعض شاشات التلفاز ويقول: انظر هذا! هذا كيف يقرأ؟ أو بلهجة المصريين: يقول له: (ازاي حيقرأ ده؟!) لأنه يحتمل عنده بزعمه ستين وجهاً من القراءة، هذا غباء، لماذا غباء؟ لأنه يفهم أن الصحابة والتابعين انطلقوا من هذا المرسوم، هم ما انطلقوا من هذا المرسوم، إذ ليس المرسوم هو الأصل، ثم بدءوا ينظرون فيه ويقرءون، الذي يقع الخطأ منه مثلي ومثلك الذين نعتمد الآن المرسوم؛ ولذلك يقول العلماء: لا تأخذوا القرآن من مصحفي؛ لأنه يصحف. ويوم الجمعة لو تجلس أمام واحد كبير المقدار، صاحب جاه إذا كان ما تلقى القرآن واستمعت له وهو يقرأ سورة الكهف، ستجد عشرة أخطاء جلية وليست خفية، ما نتكلم عن إدغام أو إظهار، إنما عشرة أخطاء جلية في جلستك الواحدة هذه، والسبب أنه يقرأ من المرسوم، مع أن المصحف مضبوط بالشكل ومعتنى به تمام العناية، ومع ذلك تجده يقرأ خطأ؛ لأنه يقرأ من مرسوم.

    أما في عهد الصحابة والتابعين وأتباع التابعين فلم يكن هذا هو الأصل، نعم هو موجود، لكن لم يكن هو الأصل، وأريد أن تنتبهوا لهذه الحيثية وهي مهمة جداً في الرد على كثير من المطاعن التي ترد فيما يتعلق برسم القرآن.

    سبب عدم نقط عثمان للمصحف

    يقع سؤال عند بعض المتخصصين يقول: لماذا لم ينقط عثمان المصاحف؟ بما أنه أمر برسمها فلماذا لم يضع النقط؟ لماذا لم يضع مثلاً على النون نقطة، والياء نقطتين والتاء نقطتين.. إلخ؟

    الجواب: أولاً: النقط لم يكن في عهد الصحابة بالإجماع، الصحابة لما كتبوا في عهد عثمان ما كان النقط موجوداً؛ فكيف يصح أن يقال: عثمان يعرف النقط لكن تركه! هو -كما قلت لكم- ما كان موجوداً، فلم يوجد بعد، ولم يخلق، وهذه من الأخطاء العلمية الكبيرة التي أرى أنها كبيرة إذا قلنا بها.

    لكن لما تقدم العهد وجاءت نهاية عهد الصحابة وبداية عهد التابعين كانت بداية النقط؛ أما في عهد الصحابة فما كان النقط معروفاً، والدليل على ذلك: أن جميع ما كانوا يكتبونه سواءً في رسائلهم وغيرها لم يكن منقوطاً، والشواهد التاريخية تدل على ذلك.

    عندنا الآن -ولله الحمد والمنة من نعمة الله- شواهد مكتوبة، منسوبة إلى القرن الأول، بل بعضها منسوب إلى سنة خمسين وقريب منها، عندما تطلع عليها لا تجد فيها نقطاً، مما يدل على أن النقط لم يكن أصلاً قد وجد، فعندما نقول: إن عثمان قصد ذلك؛ فكيف قصده وهو أصلاً ما وجد؟!

    نحن لا ننطلق من المرسوم، وأنا استغرب؛ لكونها غفلة من بعض من الباحثين عندما يتكلم عن هذه الحيثية.

    النقط بدأ شيئاً فشيئاً في بعض الألفاظ لكنه متأخر. وحتى لا يكون هناك شبهة، وجد سد في الطائف مكتوب عليه: هذا السد بناه عبد الله معاوية بن أبي سفيان، ووجد نقط في بعض الأحرف؛ فنقول: هذا فيه احتمال أن يكون بداية تطور في إحداث النقط، ثم اكتمل على يد يحيى بن يعمر و نصر بن عاصم اللذين هما تلميذا أبي الأسود الدؤلي ، أما في العهد الذي كان يكتب فيه عثمان فما كان موجوداً.

    احتمال القراءات وعلاقته بالنقط

    فإن قيل: هل ترك عثمان النقط من أجل احتمال القراءات؟

    فيقال: هذه قضية مهمة، بل هي تثبت عندي أن القرآن لم يكن يعتمد على الرسم عند الصحابة والتابعين، الرسم لحفظ هذا الملفوظ فقط.

    فإذا قلنا بهذا الآن ما يقع عندنا مثل هذا الإشكال: إنه والله ترك النقط لأجل أن يحتمل؛ لأن الاحتمال ليس قصداً كلياً عند الصحابة، ما الدليل على أن الاحتمال للقراءات كلها ليس قصداً كليا؟

    الذي ذكرناه قبل قليل: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24] و (الصراط) و (لأهب) لو كان قصداً كلياً لوجدنا في مصحف: (لأهب) وفي مصحف: (ليهب) ووجدنا في مصحف: (بضنين) وفي مصحف: (بظنين) ووجدنا على الأقل في مصحف: (السراط) وفي مصحف: ( الصراط) بالصاد.

    فما دام أنهم أحياناً يقصدون وأحياناً لا يقصدون؛ فالأمر فيه سعة، فأحياناً قد يقصدون لهذا وأحياناً قد لا يقصدون لهذا، وهذا كله يدل على أن الأصل عندهم القراءة، لكن في كل الأحوال ما سقط من القرآن كلمة، حتى الخلاف في: (تجري من تحتها) و (تجري تحتها) ما سقط؛ لأن من قرأ: (تجري تحتها الأنهار) قرأ قرآناً كاملاً، ومن قرأ: (تجري من تحتها الأنهار) قرأ قرآنا كاملاً، يعني: هذا وجه وهذا وجه؛ فليس هذا من اختلاف التضاد، وإنما هو من اختلاف التنوع؛ فلم يسقط شيء من القرآن، وأنا أحب أن تفهموا هذه لأنها مهمة جداً، النقط لم يكن في عهد عثمان ؛ لذا لم يقصده ولم يقربه، لا من قريب ولا من بعيد.

    ولأنه ما ترك النقط لأجل أن تحتمل القراءات؛ لأن قضية احتمال القراءات لم تكن قصداً كلياً وأقول: كلياً لكي يفهم عني ما هو المقصود لما مر، فأحياناً يقصدون هذا وأحياناً لا يقصدونه، والدليل على أنهم لا يقصدونه: (أوصى) و(وصى) (سارعوا) و(سارعوا) (سابقوا) (وسابقوا) وضعوها في مصحف هنا ومصحف هنا، لكن مثل هذه ما وضعوها.

    المحفوظ هو الأصل المعتمد عليه

    وكل شبهة تثار حول الرسم فهي محجوجة، ولا يمكن أن يقوم أي اعتراض على رسم الصحابة، لو قام أنا أجزم بأن الذي يفهم تطور الرسم كفيل بأنه يرد كل شبهة، مستشرق ألماني أو انجليزي يأتي ويقول: الصلواة فيها خطأ؛ لأن القارئ يقرأها: (الصلواة)، هل سمعتم واحداً منا يقرأ: (الصلواة) أو يقرأ: (الصلاة)؟

    الجواب: الصلاة؛ لأنه يعرف أن هذه الواو زائدة، إشارة إلى أصل الألف ولا تنطق، يعني: تكتب ولا تنطق، وينطق الألف بدلاً عن الواو، هذا عرفناه بالسماع، وعندما نأتي ننظر كلمة (الصلاة) يمكن أن يقول أحد: يا أستاذ! هذه مكتوبة بالواو، كيف نقرؤها؟ يقول: لا، هي تقرأ كذا، وهي كذا، يشرح لك؛ فإذا استشكلت أنت المكتوب شرح لك، وإلا فأنت تقرأ من المحفوظ، بل أنت أحياناً تحفظ غلطاً ربما من الصغر، وتجدك يصير عمرك - إن مد الله بعمرك - ستين، سبعين، ثمانين؛ وأنت تقرأ من دون ما تستشعر؛ ترجع إلى غلطك الأول الذي حفظت عليه أيام الابتدائي، مثل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[المسد:1]، أو: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ[قريش:1-2] تأتي تكلمه وهو يقول: (إلا فهم) ما يقول: (إِيلافِهِمْ)، لماذا؟ لأنه حفظ في الصغر: (إلا فهم) كذا، ويبقى عمره ستين عاماً، ثم قد يعلم أنها: (إِيلافِهِمْ) ويقرؤها كذلك، لكن قد يرجع إلى خطئه فيقول: (إلا فهم، رحلة الشتاء والصف)؛ لأنه المحفوظ القديم، فإذاً الحفظ هو الأصل.

    لم تكن العمدة على المرسوم إلى أن جاء علماء الرسم فبدأوا يرجعون إلى المرسوم ويقعدون قواعده.. إلخ، ولعلنا إن بقي معنا وقت أن نشير إلى هذا.

    1.   

    فائدة المرسوم بالنسبة للمقروء

    ما فائدة المرسوم بالنسبة للمقروء عند من أرسل إليهم: (تجري تحتها الأنهار) ستكون قراءة عامة هذا القطر: (تجري تحتها الأنهار) لكن لا يعني أنه لا يوجد من يقرأ: (تجري من تحتها الأنهار)؛ ولهذا عندما ترجع إلى خلاف المصاحف يقول لك: في المصحف الشامي كذا..

    وستجد قراءة عامة القطر الذي ذهب إليه ذلك المصحف هو بهذه القراءة، لكن لا يعني أن كل أهل القطر يقرءون بهذا، قد يأتي من قرأ بقراءة أخرى وهي صحيحة، لكن على الأقل نقول: المرسوم هذا حدد قراءة هذا القطر، فالكوفيون قرءوا من خلال ما رسم لهم بهذا المرسوم الذي وصلهم، والمكيون.. إلخ، لكن لا يعني هذا أنهم ينطلقون من المرسوم مثل ما قلت، وإنما حدد لهم الوجه القرائي الذي يقرءون به، هذه الفائدة من المرسوم الذي أرسله عثمان رضي الله عنه.

    الفائدة من عمل عثمان في الوقت الحاضر

    قد يقول قائل: ما الفائدة الآن من عمل عثمان ؟ ما دام أنه فقط نسخ مصحف أبي بكر ووزعه على الأقطار، ما الفائدة ونحن نجد هناك خلافات ما زالت؟

    يمكن أن نقول: هذا الذي بقي مما بقي من العرضة الأخيرة.. قصدي مما بقي من الأحرف السبعة هو الذي عمله عثمان والتزم الناس به، يعني التزم الناس بالخلاف المتنوع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلاف المتنوع الذي قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه تركه أزاله.

    قراءة أبي الدرداء و ابن مسعود : (والذكر والأنثى) ما نجدها في المصحف، لكن نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها، ونثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها؛ لأنها ليست موجودة عندنا في المصحف الذي بين أيدينا؛ إذاً عمل عثمان هو تثبيت الخلاف المتنوع، وليس هناك تضاد، فالذي عمله هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة وترك ما عداه مما ترك في العرضة الأخيرة.

    فإذاً: أي قراءة نقرؤها منسوبة لعهد قبل عهد عثمان رضي الله عنه نعلم أنها من الوجوه، إذا ثبتت بسند صحيح، نعلم أنها من الوجوه الصحيحة التي قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها دخلت في قوله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا[البقرة:106] كما أخبر عمر ، بمعنى أنها تركت.

    وأي قراءة قرئ بها على أحد هذه المصاحف وموافقة لأحد هذه المصاحف فإننا نجزم أنها من العرضة الأخيرة التي ثبت بها القرآن على تنوعه المعروف في القراءات المعروفة، وسنأتي إلى تفصيل القراءات لاحقاً.

    ومن خلال الواقع لو خرج كوفي وخرج بصري وخرج شامي ومكي ومدني؛ خمسة التقوا وكل واحد قرأ؛ سيقرءون بقراءات يتفق بعضهم مع بعض في شيء، ويختلف الآخر مع الآخر في شيء، المفيد اتفاق واختلاف.

    الأول يقول: أقرأني فلان والثاني يقول: أقرأني فلان، فليس هناك مرجع محدد، لكن عندما يقرأ الكوفي يقول: أنا قرأت على القارئ الذي أرسله عثمان، والثاني يقول: قرأت على القارئ الذي أرسله عثمان، والثالث يقول: قرأت على القارئ الذي أرسله عثمان ، كلهم قرءوا على القارئ الذي أرسله عثمان ، وهؤلاء كلهم صدروا من المدينة؛ إذاً معنى هذا أن هذه القراءة التي تقرءون بها هي القراءات الثابتة بتنوعها، ما يقع خلاف؛ فيعلم أن هذا الذي قرأ حق، وأن الذي أنا أقرؤه حق، والذي يقرؤه فلان حق، والدليل على ذلك أنك لو رجعت إلى آثار السلف ستجد أن بعض التابعين مثل الشيخ ابن حوشب يأتي عند قراءة: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24] فيقول: أما قراءتنا فكذا، وأما قراءتكم فكذا، يعني: في خلاف القراءات، وكلهم كانوا يتكلمون في خلاف القراءات؛ فإذاً زال الإشكال بتحديد الخلاف الصحيح الثابت، وأنه صادر بإجماع من الصحابة أن هذا هو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وسلم هذا في عهد عثمان .

    أما في عهد أبي بكر و عمر فلاحظنا أنه لم يكن هناك أي إلزام بأي نوع من أنواع هذه المصاحف أو القراءات، حتى أبي -كما لاحظتم- أعرض، فقال له: اقرأ ولم يمنعه.

    تحريق عثمان للمصاحف وسببه

    نأتي الآن إلى مسألة مرتبطة بقضية المصاحف التي حرقها عثمان رضي الله عنه:

    لماذا حرق عثمان المصاحف؟

    الجواب: لئلا ينشأ الخلاف بين المسلمين في القرآن، لو رجعنا إلى المصاحف سنجد أن فيها زيادات غير موجودة في مصحف أبي بكر الذي نسخ منه عثمان ، هذه الزيادات هل نستطيع أن ننفيها ونقول: ليست في القرآن؟ نقول: لا، نلاحظ أن أبياً يقول: أخذتها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنا سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرؤها، وأنت يا عمر! تريد أن أتركها! لن أتركها.

    إذاً: ما قرأه أبي نجزم يقيناً أنه كان قرآناً، لكن هل بقيت قرآنيته أو تركت ونسخت؟ تركت ونسخت، لو بقيت المصاحف تلك موجودة فمن يضمن لـعثمان أن الأمر سيكون ويتطور على حسب ما تطور عندنا الآن وانضبط؟ من يضمن لـعثمان أن المصاحف ما تختلط مرة أخرى بتحديث المشكلة؟ ومن يكون المرجع آنذاك؟ فكان من رحمة الله بالأمة أن جمع عثمان هذه المصاحف التي فيها خلافات في القراءات لم تثبت وأحرقها، فأحرق تلك المصاحف وهذه الصحف التي كانت معهم، سواءً كان فيها قرآن ثابت وصحيح ونقلوه أو لم يكن، أو كان فيها زيادات مما نسخ وترك، جمعها كلها وأحرقها مرة واحدة، وهذا باتفاق أمام الملأ كلهم، فقد خطب بهم وقال: اجمعوا لي كل الذي عندكم وأحرقوه، والذي ما يحرق يزال بالماء.

    إلا مصحف أبي بكر تركه -كما قلنا-؛ لأنه ليس فيه مخالفة لمصحف عثمان .

    أما ما فعله الحجاج من طلب المصحف من عبد الله بن عمر وإحراقه؛ فهذا عمل الحجاج وليس حجة مثل عمل الصحابة، وإنما ظن أن يكون في مصحف أبي بكر ما ليس في مصحف عثمان ، فلا يأتي أحد يحتج يفعل الحجاج في إحراقه مصحف أبي بكر ، ولكن أيضاً لما حرق مصحف أبي بكر كان منتشراً وموزعاً في مصاحف عثمان فما كان هناك إشكال، ومصحف أبي بكر لم يكن في إحراقه أو إزالته إشكالية بخلاف ما لو كان أزيل قبل ذلك فيرجع العمل من جديد مرة أخرى في جميع المصاحف.

    إذاً: كان التحريق خيراً لاتفاق المسلمين على المصحف أو القرآن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    إجماع الصحابة على فعل عثمان ودفع الشبه حول ذلك

    أي دعوى على عثمان رضي الله عنه بهذا فهي محجوجة بإجماع الصحابة ومنهم علي بن أبي طالب الذي قال: لا تقولوا في عثمان إلا خيراً، ولو كنت مكانه لفعلت مثل ما فعل.

    وقد يعترض أحد من المعترضين فيقول: فما قولك في اعتراض ابن مسعود ؟ فيجاب عن ذلك بأن اعتراض ابن مسعود محجوج بأمور:

    الأمر الأول: أن ابن مسعود لم يعترض على فعل أبي بكر رضي الله عنه، وما فعله عثمان هو عين ما فعله أبو بكر في تعيين زيد بن ثابت .

    ويدل على ذلك: أن ابن مسعود كان موجوداً في عهد أبي بكر في المدينة ولم يكن خارجاً عنها.

    الأمر الثاني: أن احتجاج ابن مسعود -وسنأتي إليه مفصلاً- لم يكن على قضية علمية، وإنما كان على قضية أخرى، لما قال: إن زيد بن ثابت له ذؤابتان.. سنأتي إليها لاحقاً إن شاء الله.

    الأمر الثالث: أنه لو ثبت أن ابن مسعود خالف وعارض ومات وهو مخالف معارض فإن مخالفته رضي الله عنه مع جلالة قدره ومعارضته لا تقوم أمام الحجة من الصحابة، يعني: كل الصحابة في جهة و ابن مسعود في جهة، فلا يصح أن يقدم قول ابن مسعود على الصحابة كلهم، هذا ما يتصور عقلاً.

    فلو افترضنا جدلاً أن ابن مسعود مات وهو غير راض بما فعل عثمان ، فإنه لا يؤثر على عمل عثمان إطلاقاً، وهذا بمقتضى العقل وليس بمقتضى الآثار، لو تدخل على قرية كلهم متفقون على أمر ويأتي واحد مخالف لهم؛ تقول: والله هذا الذي معه الحق وهؤلاء كلهم على باطل؟! ما يمكن، فاجتماع جمهور الناس على هذا الشيء ويأتي واحد يخالف ما يمكن، خاصة في أمور مشاعة ومنظور فيها أمامهم، وليست بشيء خفي يحتاج إلى عقل فيلسوف؛ لكي يصل فيه إلى دقائق.

    ولو كان فإنه يبقى أن عمل ابن مسعود رضي الله عنه محجوج بإجماع الصحابة منذ عهد أبي بكر على هذا.

    1.   

    الأسئلة

    مدى وجود مصحف كامل عند الصحابة غير مصحف عثمان

    السؤال: هل كان عند بعض الصحابة مصحف كامل، ولماذا سميت مصاحف؟

    الجواب: ما ورد أن أحداً منهم كان عنده مصحف، وإنما سميت مصاحف أو صحفاً لأنها تجمع شيئاً من القرآن، فتسمى مصاحف، لكن ما ثبت أن أحداً منهم كان عنده مصحف كامل، حتى في عهد عثمان ، سنأتي إليه إن شاء الله.

    إجماع الصحابة على ما فعل أبو بكر

    السؤال: -وسبق أن ذكرته لكم-: هل اعترض أحد من الصحابة على فعل أبي بكر رضي الله عنه؟

    الجواب: لم يقع أي اعتراض؛ إذاً كان هناك إجماع على عمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإجماع على كل ما يتعلق بهذا الجمع من اختيار زيد بن ثابت ، ومن طريقة زيد بن ثابت ، ومن الأوصاف التي وصف بها زيد بن ثابت ، ومن جمع القرآن بالطريقة التي جمعها زيد بن ثابت ، الصحابة كلهم متفقون على ما فعل أبو بكر .

    الإلزام بمصحف أبي بكر

    السؤال: هل ألزم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمصحفه؟

    الجواب: لم يلزم؛ لأنه ليس من مقصده نشره بين الناس، إنما مقصوده حفظ القرآن فقط.

    ولما جاء عمر لم يلزم أيضاً بمصحف أبي بكر حتى صدر من خلافة عثمان كما سيأتي، ثم نأتي إلى المرحلة الأخيرة في الجمع.

    القراءة من مصحف أبي بكر

    السؤال: هل كان الصحابة يقرءون من مصحف أبي بكر مباشرة؟ يعني: يرجعون إلى المصحف ويقرءون منه؟

    الجواب: أيضاً لا؛ لأن هذا المصحف لم تكن مهمته هذا، وإن كان يمكن أن يقرأ منه، لكن ما كانت المهمة التي جمع من أجلها المصحف هي هذه؛ فلهذا المصحف كان لا يزال باقياً محفوظاً فقط، لم يقرأ منه.

    رجوع الأكتاف والرقاع إلى أصحابها بعد تمام الجمع

    السؤال: هل بقيت صحف الصحابة الذين جاءوا بما معهم من صحف ومن أكتاف ورقاع.. إلخ رجعت إليهم أو ما رجعت؟

    الجواب: رجعت إليهم؛ إذاً بقيت الصحف واللخاف والعسب وغيرها بين يدي الصحابة.

    فإذاً: بقي عند الصحابة في عهد أبي بكر ، وكذلك في عهد عمر ما كان عندهم من المصاحف المنشرة بينهم، أو من الأدوات التي كانوا يكتبون بها القرآن.

    وهذه الصحف التي عندهم كانوا يقرءون بها، يعني: أنه لم يقع إلزام بما جمع به أبو بكر ؛ فكان كل واحد يقرأ بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وستأتي الدلالة على ذلك في الأثر الصحيح، إن شاء الله بعد قليل؛ ولكن تنتبهون لهذه: أن كل واحد كان يقرأ بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم.

    القول بوجود جمع غير جمع أبي بكر للقرآن

    السؤال: هل كان هناك جمع آخر غير جمع أبي بكر في عهد أبي بكر أو في عهد عمر؟

    الجواب: ستجدون في كتاب المصاحف لـابن أبي داود آثاراً ضعيفة جداً، فيها إشارات إلى جمع؛ ولهذا قد استفاد منها بعض المستشرقين وغيرهم، حيث ذكروا أن هناك جمعاً غير جمع أبي بكر استدلالاً بهذه الآثار، وهذه الآثار لا تقوم بها حجة.

    مقولة جمع عثمان الناس على حرف واحد

    السؤال: هل جمع عثمان الناس على حرف واحد؟

    الجواب: هذه شبهة محتملة، وهي التي جعلت بعض كبار العلماء رحمهم الله يميلون إلى هذا؛ مثل الطبري وغيره، فقالوا: إن عثمان جمعهم على حرف واحد، وهذا ليس موافقاً لتاريخ القراءات كما سيأتي إن شاء الله، وسأبين لكم أين موطن الإشكال الذي وقع، ومن أين خرج القول بأنه على حرف واحد، لقد خرج من الأثر الآتي، ولا علاقة له بالأحرف إطلاقاً، و عثمان لم يتكلم في الأحرف إنما تكلم في المرسوم قال: إذا اختلفتم أنتم و زيد فاكتبوه بلسان قريش، فالقضية إذاً قضية مرتبطة بالرسم وليست مرتبطة بالأحرف أو القراءة.

    والقضية المهمة جداً التي أريد أن أعيدها مرة أخرى وأنبه عليها، وستأتينا أيضاً لاحقاً في هذا: أن نفهم أن الصحابة بينهم اختلاف تنوع. فبعضهم يكتب (التابوه) وبعضهم يكتب (التابوت)، فالرسم كان فيه اختلاف تنوع عند الصحابة، ما الدليل عليه؟ هذا أحد أدلته، حيث اختلفوا في (التابوت) كيف تكتب؟

    القراءة بـ(التابوت) و(التابوه)

    السؤال: هل تتغير القراءة من (التابوت) أو (التابوه)؟

    الجواب: لا، ما يلزم، لو كتبت (التابوت) وكانت صحت القراءة بـ(التابوه) لقرئت (التابوه) ولو كتبت (التابوه) وكانت صحت القراءة بــ(التابوت) لقرئت (التابوت) وسنأتي لتحريرها إن شاء الله.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755903862