إسلام ويب

التعليق على كتاب فصول في أصول التفسير [3]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن طرق التفسير متنوعة، فمنها تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة النبوية، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، ولكل طريق تفصيل تم بيانه من قبل الشارح حفظه الله.

    1.   

    تابع تفسير القرآن بالقرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

    نراجع بإيجاز أول طريق من طرق التفسير، ثم نكمل ما بقي، وندخل في الطريق الثاني.

    فأول قضية كانت في عدد طرق التفسير، وقلنا: الطرق المكتوبة عندنا مدونة ستة، وضعنا عليها ملحوظات، تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال السلف، ثم باللغة، والرأي والاجتهاد يكون أداة، ولا يعد مصدراً.

    الحالة التي يجب فيها قبول تفسير القرآن بالقرآن

    وفي تفسير القرآن بالقرآن لا يلزم قبول كل تفسير قرآن بقرآن إلا إذا كان وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان مما لا يقع فيه خلاف، هذا أيضاً لأنه يكاد يكون برتبة الإجماع، وكذلك إذا كان قول واحد من العلماء الصحابة مثل عمر أو غيره ممن هو مشهور بالتفسير، فرتبة هؤلاء تكون مدعاةً لقبول قولهم، وخصوصاً إذا لم يوجد من يخالفه من الصحابة.

    وأيضاً ذكرنا قضية أخرى وهي أنه لا يلزم أن يكون كل ربط بين آيتين حينما يربط المفسر آية بآية أن يكون من باب تفسير القرآن بالقرآن، إنما الذي يطلق عليه تفسير القرآن بالقرآن هو ما كان فيه بيان، فإذا وقع إشكال في آية وبينته آية أخرى فنعتبره تفسير قرآن بقرآن، لكن إذا لم يقع بياناً فإنه يكون من علوم القرآن المرتبط بالآية، وليس من باب تفسير القرآن بالقرآن مثل ما يقع في كتب الوجوه والنظائر مثلاً، فتجد من يقول لك: البعل في القرآن على وجهين: البعل بمعنى الزوج، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228]، وقوله أيضاً: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً [هود:72]، فنحن جمعنا في معنى البعل بمعنى الزوج بين هذه الآية وهذه الآية، فلا يعني هذا أن هذه الآية تفسر هذه الآية، إنما اشتركت الآيتان في المعنى فقط، وهذا يسمى نظائر، يعني هذا المعنى في هذه الآية نظير هذا المعنى في هذه الآية.

    فالوجه الأول في معنى البعل: الزوج.

    والوجه الثاني: البعل بمعنى الرب، وهو في قوله: أَتَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات:125]، أي: أتدعون رباً، فيكون إذاً: البعل بمعنى الرب، والبعل بمعنى الزوج وجهان، والبعل بمعنى الرب لا يوجد فيه إلا آية واحدة، وهي هذه الآية آية الصافات، أما البعل بمعنى الزوج فموجود في أكثر من آية، فلما نجمع الآيات التي تدل على أن البعل بمعنى الزوج لا يكون هذا من باب تفسير القرآن بالقرآن إنما هذه نظائر، كذلك ذكرت مثالاً فيما يسمى بموهم التعارض، فهذا أيضاً لما نجمع الآيات لا يكون فيها بيان، إنما يكون فيها إشكال يحتاج هذا الإشكال إلى حل وتوضيح، فإذاً: نخرج بتلخيص أن الذي يطلق عليه صراحةً أنه تفسير قرآن بقرآن هو ما كان فيه بيان مباشر عن معنى الآية. أما ما لم يكن به بيان مباشر فلا شك أنه من علوم القرآن المعتمدة على شيء آخر، فمثلاً في موهم التعارض نحتاج إلى دلالات أخرى توضح لنا هذا، وفي جمع النظائر ليس عندنا إلا أن معنى هذه اللفظة قد ورد في هذه الآية وفي هذه الآية وفي هذه الآية، فعندنا أصل قبل ذلك هو المدلول اللغوي لمعنى البعل، ثم ركبنا عليه هذه الآيات التي تناسبت في هذا المعنى.

    الخلاصة أنه لا يلزم أن يكون كل ربط بين آيتين من باب تفسير القرآن بالقرآن، لكن عمل العلماء رحمهم الله تعالى على أن ربط كل آية بآية يعتبرونه من تفسير القرآن بالقرآن، خصوصاً الشنقيطي رحمه الله تعالى لما أورد في كتابه جملة من أنواع البيان التي ذكرها، ولو حررناها بالطريقة التي ذكرت فسيخرج كثير مما ذكره عن باب تفسير القرآن بالقرآن، لكن أن يكون القرآن مصدراً في التفسير نعم؛ ولهذا أحياناً يقول عندما يقع في الآية خلاف: ويشهد لأحد الأقوال قرآن، فيكون للمفهوم من الآية قرآن يبينه، فأنواع البيان التي عددها الإمام رحمه الله تعالى هي من باب التوسع في إطلاق تفسير القرآن بالقرآن، ولا مشاحة في ذلك؛ لأنه من باب تحرير المصطلحات، ويكون ضابط البيان معنا أنه إذا كان فيها بيان فهي من تفسير القرآن من القرآن، وإن لم يكن فيها بيان فلا شك أنها مما يتعلق بعلوم الآية، ولا يلزم أن تكون من هذا الصنف.

    أمثلة لأنواع تفسير القرآن بالقرآن

    وننظر الآن إلى الأمثلة الواردة عندنا هل هي بالفعل من باب تفسير القرآن بالقرآن؟

    الأول: بيان المجمل في قوله سبحانه وتعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، فقوله: (إلا ما يتلى عليكم) مجمل، فما هو الذي يتلى علينا؟ بينه قوله سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، الآية، فهذا الذي في هذه الآية بيان لما يتلى عليكم فنعتبرها تفسير قرآن بقرآن.

    الثاني: تقييد المطلق: في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]، هذا الحكم.

    قال بعض العلماء: يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، وهذا التفسير يشهد له: وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]، فالإطلاق في الآية الأولى قيدته هذه الآية، فهذه فيها أيضاً بيان.

    الثالث: تخصيص العام: في قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، هذا عام في جميع المطلقات، والمطلقات أنواع، فمن المطلقات: المطلقة الحامل فإذا طلقت المرأة وهي حامل فلا تتربص ثلاثة قروء، بل لها حكم آخر، مذكور في قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فإذاً: خرجنا من هذه الآية، وهذه فيها بيان.

    الرابع: تفسير المفهوم من آية بآية أخرى كقوله: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، الآن كون المفهوم من هذه الآية أن المؤمنين يرون ربهم، ودل على الرؤية قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فهذا لا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن المفهوم لا يدخل في باب التفسير، فمن باب أولى ألا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، فهذا توضع عليه هذه الملحوظة: أن المفهوم من الآية لا يدخل في حد التفسير، فما بني على شيء لا يدخل في حد التفسير فهو أيضاً غير داخل في باب تفسير القرآن بالقرآن.

    الخامس: تفسير لفظة بلفظة، قوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74]، لفظة (سجيل) فيها غموض، فجاءت آية: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات:33]، وجعلنا نفسر هذه بهذه كونها وردت في قصة واحدة في شأن قوم لوط، فهذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن فيها بياناً.

    بيان المراد باللفظة في السياق، في قوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، حيث فسر بعض العلماء الرتق والفتق بقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق:11-12]، فيكون الفتق هو: فتق السماء بالماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات، والرتق هو: ألا تكون السماء ممطرة، وألا تكون الأرض منبتة، فهذا فيه بيان.

    السادس: تفسير معنىً بمعنى، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ [النساء:42]، ومعنى (تسوى بهم الأرض) أي: يكونون تراباً مستوين مع الأرض، فيكونون هم والأرض سواء.

    يقول الله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].

    فقوله: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، هو معنى قوله: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [النساء:42]، فهذا فيه بيان، وهنا أحياناً الإنسان وهو يقسم قد تخرج عنده بعض التقسيمات يمكن أن يدخل بعضها في بعض، فهذا الآن القسم الذي هو تفسير معنى بمعنى هل هو مستقيم أم أن عليه ملحظ؟ وهل هو الآن تفسير للفظ أم لمعنى؟ فالجملة (تسوى بهم الأرض)، ما معنى (تسوى بهم الأرض)؟ أي: يكونون هم والأرض سواء، وقوله: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أنها تبين معنى (تسوى بهم الأرض)، سليم فهل هذا تفسير معنى بمعنى؟ نعم، ما فيه إشكال.

    وأنا في نفسي من هذا شيء، يعني قضية تفسير معنى بمعنى، وأنه هل يمكن أن تدخل في شيء آخر أو تكون مستقلة؟ لكن على العموم أهم شيء أن يكون ظاهر فيها البيان، وهذه الجملة لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ [النساء:42]، يكون فيها شيء من الغموض تحتاج إلى بيان.

    السابع: تفسير أسلوب قرآني في آية بآية أخرى: أيضاً هذا في النفس منه شيء، يعني الآن قوله سبحانه وتعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: دخولنا ذلك حطة، مثل قوله: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً [الأعراف:164]، يعني: الأسلوب في (قولوا حطة) مثل الأسلوب في (قالوا معذرة)، فهذا ليس فيه بيان.

    ما بان (قولوا حطة) لكنه الأسلوب، يعني الآن أي: موعظتنا إياهم معذرةً، فالأسلوب في الآية متشابه في قول: (حطة) و(معذرة)، وهو ليس تفسيراً للألفاظ بل هو تفسير للأسلوب.

    وليس داخلاً في حد التفسير، وعموماً أنا في نفسي من هذا شيء وكذا الذي قبله. فلو لم يذكر فإنه ليس فيه إشكال، ولا يدخل فيه، وهو نعم مفيد في التفسير لكن ليس من هذا الباب؛ لأننا نحتاج إلى أن نفهم قوله: (قولوا حطة)، ثم نفهم قوله: (معذرة) ففي إشكال بين هذه وبين هذه، وأن هذه مفهومة وتلك غير مفهومة، فلا يفسر هذا هذا، إنما هذا يشبه هذا، يعني أشبه بالنظائر التي ذكرناها قبل قليل، فهذا داخل في باب النظائر، فيخرج عن البيان؛ لأن (قولوا حطة) يحتاج إلى بيان، و(قالوا معذرة) يحتاج إلى بيان، وكل واحد منهما يحتاج إلى بيان مستقل، فلما عرفنا الأسلوب هنا والأسلوب هنا جعلناها من باب النظائر، فهذا هو الأقرب.

    وكذلك الأمثلة الأخرى كلها داخلة في باب النظائر، فقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5] هذا فيه التفات، كذلك قوله: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ [يونس:22] هذا خطاب فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ [يونس:22]، هذا خطاب مباشر، ثم (جرين) خطاب الغيبة، مثل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4-5]، نفس الأسلوب في الخطاب، فكان خطاب عن غائب ثم خطاب لحاضر، فالمسألة مسألة نظائر في الالتفات، فليست داخلة في هذا.

    كذلك ما بعدها وما نطيل فيه، إذاً: هذا مما يلغى في هذه الجزئية، ففيها رأي، لكن كونه ورد فيها أكثر من قول لا نقول: إن هذا القول هو الصحيح؛ لأنه ورد في القرآن بكذا؛ لأنه يلزم أن نتفق على أن هذه الآية بالفعل تفسر هذه الآية، وأن المراد به، إذا حصل هذا انتهى المقام، صار هو المرجح. فهذا تقريباً ما يتعلق بتفسير القرآن بالقرآن، فإذاً: نحن نخلص هنا إلى أنه يكون عندنا ضابط أو حد وهو البيان فهو الذي يجعلنا ندخل هذا في تفسير القرآن بالقرآن أو نخرجه.

    1.   

    تفسير القرآن بالسنة النبوية

    الموضوع الثاني في طرق التفسير: تفسير القرآن بالسنة النبوية.

    أقسام التفسير النبوي للقرآن

    ولو جئنا ننظر إلى علاقة ما ورد في السنة النبوية بالقرآن، فيمكن أن نقسمها إلى قسمين عامين:

    القسم الأول: التفسير النبوي المباشر. وهذا وارد في رقم واحد وهو بيان المجل ورقم اثنين وهو تقييد المطلق ورقم أربعة التأكيد فيمكن أن يدخل في هذا الباب إذا كان فيها بيان.

    والقسم الثاني: التفسير بالسنة بعمومها، وهذا التفسير بالسنة بعمومها أيضاً يمكن أن نقسمه إلى أقسام، من أهمها: ما يكون من كلامه صلى الله عليه وسلم مطابقاً لمعنى الآية، وهو الذي يوجد في رقم ثلاثة: أن يذكر في كلامه ما يصلح أن يكون تفسيراً للآية.

    فنأخذ هذا الموضوع، فلو سأل سائل: لماذا نرجع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولم لا نكتفي بالقرآن ما دام تفسير القرآن بالقرآن هو أبلغ التفاسير؟ فنقول: ليس جميع الآيات فيها تفسير قرآن بقرآن، وكذلك ليس كل تفسير قرآن بقرآن متفق عليه، لكن لماذا لم نرجع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن الجواب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوكلت له مهمة البيان في قوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فما الذي نزل إليهم؟ القرآن، وهذا المنزل يحتاج إلى بيان، فإذاً: هناك جزء كبير من القرآن والذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجعنا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم فسنجده على هذين القسمين اللذين ذكرت:

    القسم الأول: البيان المباشر، وقصدنا من المباشر أنه يقصد إلى تفسير الآية.

    والنوع الثاني: البيان العام، وهذا يشمل جميع السنة، كما قيل: إن السنة شارحة للقرآن.

    النص على تفسير آية أو لفظة

    ونأخذ الأنواع المذكورة عندنا قال: [ أن ينص على تفسير آية أو لفظة وله أسلوبان ].

    الأول: مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، فسر هذا الود حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فينادي في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، وإذا أبغض الله عبداً نادى: يا جبريل! إني أبغضت فلاناً فينادي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض )، فهذا يفسر معنى الود، إذاً: هذا تفسير مباشر.

    الثاني: أن يذكر الآية ثم يذكر التفسير، مثل قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، لما أخبر عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على المنبر يقول: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي )، فهذا تفسير مباشر، سواءً ذكر الآية وفسرها، أو ذكر التفسير ثم ذكر الآية أياً كان من الطريقين، فالمقصد في النهاية أن التفسير مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذا أشكل على الصحابة فهم آية فيفسرها لهم

    الثالث: إذا أشكل على الصحابة فهم آية، مثل الآية المشهورة عندنا ( لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، فشق على المسلمين فقالوا: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ليس ذاك، إنما هو الشرك، ألم تسمع ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ).

    فهذا كله من باب التفسير المباشر.

    أن يذكر في السنة ما يصلح أن يكون تفسيراً للآية

    نأتي الآن لنتأمل قوله سبحانه وتعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، لاحظ حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها )، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الخبر هل ذكره في مجرى التفسير، أو ذكره في كلام مستقل؟

    الجواب: ذكره في كلام مستقل، فهذا الكلام المستقل رأى المفسر أنه يفسر هذه الآية وله بهذه الآية ارتباط، فذكر هذا الكلام النبوي الموافق لمعنى هذه الآية، فهذا استفادة من السنة. لكن الذي ربط بين الآية والحديث المفسر وليس النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: هذا النوع يعتبر من القول بالرأي فهو من عمل المفسر.

    لكن الأنواع التي قبل ذلك دور المفسر فيها يقتصر على النقل.

    كما قلت: إنه يتفق الصحابي مع غير الصحابي في هذه الحيثية في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل مهماتهم في النقل، لكن يتميز الصحابي بأنه أخذ مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن هذا النوع لا، وهو الذي يكثر في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، النوع الثالث وهو أن يذكر من الأحاديث ما يوافق معنى الآية، ويصلح أن يكون بيان للآية، هذا كثير جداً، ولا أعرف أحداً من المفسرين حصل له مثل ما حصل لـابن كثير في ربط الأحاديث النبوية بالآيات القرآنية، فهو كثير جداً عنده.

    فإذاً: المقصد من هذا أن ننتبه إلى أن هذا النوع وما شابهه وأنه من اجتهاد المفسر، مثال ذلك: ابن عباس عند قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ [النجم:32]، قال: ما رأيت أشبه باللمم مما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( العينان تزنيان وزناهما البصر، والأذنان.. ) الحديث، هذا الحديث ابن عباس يقول فيه: ما رأيت أشبه باللمم. فجعل هذا الحديث مفسراً للمم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث لم يذكره تفسيراً للمم، إذاً: اجتهد ابن عباس في بيان اللمم وأنه هذا النوع من الذنوب، فهذا من عمل المفسر، وكما قلت: هذا هو موطن الاجتهاد عند بعض المفسرين حيث يجتهد في ربط السنة بالقرآن.

    تأول القرآن والعمل بما به من أمر

    النوع الرابع: أن يتأول القرآن فيعمل بما به من أمر، فالتأول بمعنى الفعل أو الترك، أن يفعل أو أن يترك، فقوله سبحانه وتعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3]، لما نزلت عليه هذه الآية تقول عائشة رضي الله عنها: ( ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ).

    وفي رواية عند البخاري ، عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن )، قوله: (يتأول القرآن) أي: يعمل بأوامره، فهذا الفعل النبوي لا نعتبره تفسيراً. وهذه المسألة ناقشناها في البداية، وإلا في أول درس، وأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره كاملاً؛ لأن هناك أشياء واضحة للصحابة، وهناك أشياء فسرها بفعله صلى الله عليه وسلم، وما أشكل عليهم فسره لهم.

    نريد أن نناقش هذا المفهوم، هل هذا المفهوم تفسير؟ بمعنى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا يعتبر تفسيراً أو لا؟ وهل ندخل تطبيق أوامر القرآن في التفسير؟ قلنا: التفسير بيان المعاني، فهل يحتاج لأن نعرف معنى قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3] إلى عمل؟ ولو لم تذكر لنا عائشة رضي الله عنها هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم هل نفهم المعنى أو ما نفهمه؟ الجواب: نفهم المعنى، فما دام أننا نفهم المعنى من دون هذا، يعني هذا لو انعدم عندنا ما تأثر المعنى، فهذا لا يدخل في التفسير.

    قلنا: إن التفسير هو البيان، ولما نقول: حده البيان لا يعني أن هذه الأمور لا علاقة لها بالآية، أو لا علاقة بالقرآن، بل قد تكون مقوية للمعنى، والمقوي للمعنى لا يلزم أن يكون من المعنى، فالسؤال الآن لو نحن افتقدنا هذا الأثر فلا يتأثر فهمنا لمعنى قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3] فما دام ما يتأثر إذاً: هذا خارج عن حد التفسير، لكن وجوده يقوي التفسير، إذاً: هذا من الأمور التي تأتي بعد التفسير، وهي تقوي التفسير؛ لأن عندنا معلومات لو فقدناها ما تؤثر على التفسير.

    والمعلومات التي لو فقدناها ما تؤثر على التفسير على نوعين، هناك معلومات إذا وجدت فهي تقوي التفسير، ومعلومات إذا وجدت ليس لها أثر، فوجودها وعدمها سواء، فإذا قلنا بهذا القول فسيأتي السؤال الذي يرد: هل فسر النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً، أو فسر قليلاً منه.

    إذا أدخلنا هذا المفهوم فسيكون ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، لكنه فسره بفعله، لكن (أقيموا الصلاة) لا يتجه إلى الدعاء؛ لأن عندنا الصلاة هنا الصلاة الشرعية، والمعنى الشرعي مقدم، لكن معنى (أقيموا الصلاة) إذا جئنا نفسرها من باب بيان المعنى أي: أدوا الصلاة كما أوجبها الله سبحانه وتعالى، هذا معنى إقامة الصلاة، لكن كيف نقيم الصلاة؟ هذه مسألة خرجت عن التفسير، وجاءت في قضية كيف نؤدي الصلاة؟ فأنا في رأيي أن كيف نؤدي الصلاة؟ هذه ليست من التفسير، بل خرجت عن حد التفسير؛ لأني كما قلت: إننا رابطين أنفسنا بأن التفسير هو البيان المعنى، فإذا اختل هذا القيد يمكن أن ندخل فيه هذه الأشياء، فمن أدخلها فإنه يوسع مدلول التفسير لأن يشمل أشياء كثيرة، والمسألة مسألة اصطلاحية ليس فيها إشكال، ولا يعني أننا لما نقول: هذا ليس من التفسير، أي: لا فائدة فيه، لا، له فائدة، وقد يكون من علوم الآية، لكن لا يعني ذلك أنه داخل في حد التفسير فقط؛ لأن كلامنا عن مصطلح.

    1.   

    تفسير القرآن بأقوال الصحابة

    نكتفي بهذا، في قضايا أخرى في السنة، ونأخذ التفسير بأقوال الصحابة، طبعاً التفسير بأقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين كما قلت: يمكن أن يطلق عليه أنه تفسير السلف، أن نجمعه بتفسير السلف، نأخذ الآن موضوع كما هو موجود هنا، ثم بعد ذلك نلخص الموضوع على تفسير السلف.

    السبب في الرجوع إلى تفسير الصحابة

    فلماذا نرجع إلى تفسير الصحابة؟ الجواب: أنهم شهدوا التنزيل وعرفوا أحواله، وأنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وأنهم عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن من العرب واليهود، وكذلك سلامة مقصدهم وحسن فهمهم، وحسن الفهم بسبب هذه المعلومات التي عندهم، وسلامة المقصد؛ لأنهم خلوا من المذهبيات والبدع؛ ولهذا إذا ورد تفسير عن الصحابة فهو أولى التفسيرات بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.

    مصادر الصحابة في التفسير

    نأتي إلى المصادر التي كان يرجع إليها الصحابة، فأول مصدر هو القرآن. والمصدر الثاني: السنة. وهذه ما فيها إشكال أنهم كانوا يرجعون إلى السنة، ويرجعون إلى القرآن. والمصدر الثالث: اللغة. وهذا كثير في تفسير الصحابة. والمصدر الرابع: أهل الكتاب. والمصدر الخامس: الفهم والاجتهاد، وهذا المصدر نعدله ونقول: إنه أداة، إذاً: نقول: هذا ليس مصدراً إنما هو أداة يعمل بها في هذه المصادر.

    مصدر القرآن الكريم

    لاحظ مثلاً من كون تفسيرهم للقرآن بالقرآن في قوله سبحانه وتعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] ورد عن علي أنه قال: إنها السماء، وقال: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء:32]، فجعل (السقف المرفوع) هي السماء، واستدل بهذه الآية.

    فكونهم يفسرون القرآن بالقرآن هذا واضح في تفسيراتهم، وإن كان قليلاً.

    وأيضاً عمر رضي الله عنه في الآية السابقة التي ذكرتها.

    مصدر السنة النبوية

    وأما السنة النبوية فهم إما أن يسندوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما يسألون عن آية أو شيء، مثلما سأل مسروق وغيره من تلاميذ ابن عباس عن حياة الشهداء، فنبه ابن مسعود : أننا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، ثم أخبرهم عن حياة الشهداء، فهذا أيضاً كون التفسير النبوي مصدر من مصادرهم.

    ومثال السنة ما ذكرته عن ابن عباس لما قال: ما رأيت أشبه باللمم مما حدثني به أبو هريرة . وكذلك: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ [ق:30]، أيضاً هذه من الآيات التي فسرها ابن عباس بقوله: فوضع قدمه فقالت حين وضع قدمه فيها: قط قط .. إلى آخره. فـابن عباس فسر بهذا الحديث النبوي وإن لم يشر إليه.

    مصدر اللغة العربية

    المصدر الثالث: اللغة العربية، وكما قلت: إن هذا كثير في تفسير الصحابة، بل يكاد يكون التفسير باللغة العربية هو أوسع مصادر التفسير؛ لأنه ما من آية تخلو من لفظة تحتاج إلى بيان عربيتها، لكن ليس كل آية فيها حكم شرعي يحتاج إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس كل آية فيها ناسخ ومنسوخ، وليس كل آية فيها مطلق ومقيد، وليس كل آية فيها سبب نزول، بخلاف الألفاظ، فما من آية إلا وفيها لفظ يحتاج إلى بيان؛ ولهذا صارت اللغة العربية هي أوسع المصادر بهذا السبب، لكن كونها أوسع المصادر لا يعني ذلك أنها تستقل بتفسير القرآن، إنما هي مصدر مهم لكن لا تستقل اللغة بتفسير القرآن.

    والأمثلة كثيرة جداً وما نحتاج إلى الرجوع إليها.

    مصدر مرويات أهل الكتاب

    وننتقل إلى مرويات أهل الكتاب.

    هل رجع الصحابة إلى روايات أهل الكتاب؟ فهذا ليس فيه إشكال أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا إلى مرويات أهل الكتاب، وأيضاً ذكروها في تفسيراتهم، وهناك أمثلة كثيرة كسؤالات ابن عباس لـأبي الجلد وهو: جيلان بن أبي فروة صاحب كتب التوراة ونحوها، وثقه أحمد و ابن سعد ، وفيه أسئلة وجهها ابن عباس له عن بعض القضايا وأجاب فيها أبو الجلد ، منها: السؤال الذي كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد: الريح.

    أيضاً نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:11] و(حمئة) قراءتان، وهناك أمثلة كثيرة جداً، والذي نحتاجه في هذا الباب الذي هو باب الإسرائيليات وهو موضوع مستقل لن ندخل فيه؛ لكن الذي نحتاج إليه أن أهل هذا العصر في التعامل مع الإسرائيليات فيهم من تشدد أكثر من اللازم، ولا توجد أسباب معينة لذلك، لكن عدم فهم منهج السلف، وعدم فهم الحديث النبوي سبب من الأسباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، وقال أيضاً: ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم )، فإذاً: أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم المنهج، فالذي أجازه لنا النبي صلى الله عليه وسلم يحرمه قوم، وهذا لا يصلح، فعندنا إذاً مستند من النبي صلى الله عليه وسلم في جواز التحديث، ولم نقل: التصديق، بل جواز التحديث، وكون هذا التحديث يوجد في شرح من شروح الأحاديث، أو يوجد في تفسير من التفاسير، أو يوجد في كتاب خاص فهذه قضية أخرى، لكن لا يلزم من وجوده أو من التحديث به التصديق به، وأقصد من هذا أن ننتبه إلى أنه قد كثر عن السلف وصح عنهم أنهم فسروا بالإسرائيليات، لكن تفسيرهم لا يلزم منه التصديق بجزئيات الأخبار الواردة في هذه الأخبار، ومقام الإسرائيليات مع هذه القصص القرآنية مقام الشرح والتوضيح، يعني مقام الثاني، وأضرب مثال الآن وهي من الأمثلة الشائكة: قصة سليمان عليه السلام مع الجسد المذكور في قوله تعالى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، فلو أردنا أن نفسر الآية من جهة الإجمال والعموم، فهل أحد يخفى عليه المعنى الإجمالي للآية؟ أن الله ابتلى سليمان بجسد ألقي على كرسيه، ثم إن سليمان عليه السلام تاب من شيء عنده، ما هو هذا الشيء؟ الله أعلم به، لكن الواضح أن هناك ذنباً، تاب منه سليمان عليه السلام، هذا المعنى الجملي الذي ذكرته الآية واضح، فلما تأتي الإسرائيلية وتناقش قضية الشيطان الذي أخذ خاتم سليمان، وما حصل من هذه التفاصيل الطويلة العريضة، فنحن لما نقرأ هذه التفاصيل نعرف شيئاً من الفتنة التي وقعت لـسليمان، لكن لا يلزم أن تكون هذه هي المقصودة، إذ لا يصح أن تكون كذلك إلا بخبر عن معصوم، والخبر عن المعصوم هنا غير موجود، لكنها توضح شيئاً مما في الآية؟ فهي توضح أن فتنةً وقعت على سليمان ، وهذه صورة من صورة الفتنة، لكن لما نذكرها لا يلزم أني أومن بما في هذه القصة من الأخبار وأنه حصل كذا، وأن له خاتماً، أضرب مثالاً في هذه القضية، لو جئنا الآن وواحد قال: أثبت أن سليمان له خاتم؟ وأن هذا الخاتم يملك من الجن، فإن لا أستطيع.

    وقال: أثبت أن سليمان عليه السلام حصل له كذا، فما نستطيع، فإذاً: نحن نتفق على أننا لا نستطيع أن نصدق ولا نكذب، لكنها توضح شيئاً غامضاً في الآية، لكن لا يلزم منه التصديق بجزئيات هذه القصة، وقس على ذلك قصة أيوب عليه السلام، وقصة آدم ، وقصة داود عليه السلام.. إلى آخره، مع أن عندنا يقيناً وقناعة أن بعض الأمور المذكورة يردها ديننا فنردها أصلاً، وكثير من الأخبار فيها غرائب، والعقل لا يتحكم في الغرائب؛ لأن ما كان غريباً عندك قد لا يكون غريباً عند آخرين، فإذاً: العقل لا يحكم في الغرائب، فربط الإسرائيليات بالعقل ليست منضبطة، وأنا أريد أن أوضح هذه بإيجاز فأقول: إن هذا الأسلوب سلكه الصحابة، فالنعي على هذا الأسلوب، والتشديد عليه، والمبالغة في ذمه، كأنه ذم لهذا المنهج الذي عليه الصحابة، لكن لو جاء شخص واعتمد هذه الإسرائيليات وصححها وعمل بها هنا نتكلم معه في قضية أخرى، في قضية الثبوت وعدم الثبوت، لكن روايته والتحديث بها، والإفادة منها في شرح شيء من الآيات لا أرى فيه إشكالاً كما كان يشرح المفسرون بأشياء أخرى من البيت الشاذ وغيره، والمسألة فيها نقاش، وأعرف أن هذا الكلام قد لا يقبله كثيرون لكن نقول: إننا نحن بحاجة إلى النظر العلمي، وليس إلى النظر العاطفي، ولا إلى النظر السابق، أنه والله عندنا الإسرائيليات باطلة، فهذا غير صحيح، ومن أراد أن يتبين هذا المنهج ففي رسالة شيخ الإسلام مقدمة في أصول التفسير، ذكر كلاماً عن الإسرائيليات في موطن، وفي أحد المواطن استدل بآية الكهف على جواز التحديث بمرويات بني إسرائيل وأنه منهج قرآني، لما ذكر الله الطوائف في أهل الكهف كم ذكر من طائفة قال: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، قال بعدها: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف:22]، ثم قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، ولم ينقد هذا.

    فأولاً قال: إن الله حدث بخبرهم، فهذا تحديث بالمرويات، وأبطل ما كان خطأً، ثم أبقى ما كان صواباً.

    لكن هل عندنا قدرة أن نبطل ما كان خطأً؟ نقول: نعم؛ لأن عندنا الشريعة وفهم شرائع الأنبياء هذا يجعلنا نبطل ما كان خطأً، لكن في بعض القضايا لا يمكن أن نثبتها من جهة الشرع، فتبقى أخبار، والأخبار لا تؤثر على النبوة أو على الشريعة، فيوقف فيها، يعني فحكاية أن دخل على سليمان شيطان وانتفخ حتى ملأ الغرفة ما تؤثر، صح الخبر أو ما صح ما يؤثر، لكن ما يزعم في بعض الروايات أن الشيطان تسلط على نساء سليمان وزنى بهن فهذا نعلم أنه باطل، وأن هذا لا يمكن أن يؤتاه الشيطان.

    ولما سحر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعد الشيطان في تسلطه عليه أن يتوهم فقط، ولم يؤثر في جانب النبوة ولا أثر في الجوانب الأخلاقية عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح جداً، لكن القضايا الأخرى هذه كما قلت: لا تتحكم بها العقول؛ لأن الأزمان تختلف، وما كان في زمن اعتيادياً قد يكون في زمن آخر غريباً، فمثلاً كيف بنوا هذه الأهرامات؟ إلى الآن لا يعلمون كيف بنوها، كيف هذا اللوح الكبير من الحجر الكبير وضعوه في هذا؟ وما هي الآلات التي كانت عندهم؟ فإلى الآن لا يعرف ذلك أحد، وكيف صنعوا هذه التماثيل؟ تجد الآن بعض التماثيل في مصر، لو وقف عندها الرجل يصل إلى كعب التمثال وهو جالس، فكيف لو كان واقفاً فكيف صنعوه؟ ما هي آلاتهم؟ فقصدي من هذا أن الغرائب أو هذه الأخبار لا تحكم بالعقل؛ لأن العقول تختلف من زمن إلى زمن، بل في الزمن الواحد تختلف، بل أحياناً في القرية الواحدة، بل في البيت الواحد تختلف هذه العقول، لكن العقل المسترشد بالنبوة شيء آخر؛ ولهذا نحن نحتكم إلى العقل المسترشد بالنبوة في قضايا مرتبة بالتشريعات، وبما عرف من حال الأنبياء، فمعروف من حال الأنبياء أن الأنبياء لا يعلم عنهم أن أحداً منهم زنى، فما يذكر في بعض أسفار بني إسرائيل -أعوذ بالله- نرده ونعرف أنه باطل، أيضاً كذلك تسلط الشيطان هذا على نساء سليمان نعرف أنه باطل، أما الأخبار الأخرى فهذه كما قلت: إنها تحتاج إلى تحليل آخر في قضية قبولها، وإن كنا كما قلت لا نقبل التفصيلات.

    مصدر الفهم والاجتهاد

    ننتقل إلى الفهم والاجتهاد، كما قلنا: هذا الفهم والاجتهاد خرج عن أن يكون مصدراً، فنكتفي به أنه أداة، فالآن ابن عباس في هذا المثال الذي بين أيدينا يحل إشكال الرجل فيما يسمى بموهم التعارض، فتعارض عليه آيات فحلها له ابن عباس ، وحل له هذا الإشكال، فما هو مصدره في حل هذا الإشكال؟

    الاجتهاد الرأي، والاجتهاد شيء، لكنه له مصدر في هذا، وأحياناً قد يكون المصدر لغة، وقد يكون المصدر سنة نبوية، وقد يكون المصدر.. إلى آخره، لكن الرأي نفسه يكون أداة للتفسير.

    حكم تفسير الصحابي

    حكم تفسير الصحابي هل يقبل على إطلاقه أو لا؟ نختصر هذا، فنقول: أولاً إذا نظرنا إلى ما يرويه الصحابي، فإذا روى الصحابي سبب نزول مباشر فنقبله؛ لأن الصحابي لما يروي سبب النزول هذا ليس له فيه تدخل بل هو مجرد ناقل، لكنه قيدنا بأن معنى هذه الآية هو بمعنى السبب، فنبهنا إلى أن هذا السبب هو الذي يفسر الآية، بحيث أننا لا نفسر الآية بمعان أخرى، فلو لم يكن عندنا هذا السبب، فقد نفهم الآية على وجوه متعددة، لكن هذا السبب الوارد جعلنا نفهم الآية على وجه واحد، وأن هذا الوجه هو المراد دون غيره في الصحابي، فالصحابي هنا ناقل لكنه بين لنا معنى الآية وأن المراد بها هذا السبب، فله شيء من البيان وإن كان ناقلاً في مثل هذا الحال.

    وأما إذا روى أمراً غيبياً فالأمر الغيبي أقسام: إما أن يكون وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا علم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ظن أنه وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حكمه القبول.

    وإما أن يكون من أخبار بني إسرائيل، وإما أن يكون من أخبار غيرهم، مثل أخبار العرب، فهذه هي الغيبيات فالأصل فيها إذا رواها الصحابي أنها تقبل، إلا إذا ظهرت عليها أمارات تجعلنا نتوقف فيها، وهذا يتعلق بالذات بأخبار بني إسرائيل، بمعنى إذا قرأنا في التفسير وجاءنا خبر فيه ريحة الخبر الإسرائيلي فنتوقف، لكن نحن نتوقف في الخبر هذا ليس لأن الصحابي رواه؛ وإنما لأن فيه شبهة الخبر الإسرائيلي.

    ولاحظ هنا ماذا قال؟ قال: [ وقد وضع بعض العلماء قيداً في الغيبيات، وهو ألا يكون المفسر مشهوراً بالأخذ عن بني إسرائيل إذا كان في القول المذكور شبهة الخبر الإسرائيلي ]، ما نقول: توقفنا في هذا الخبر؛ لأن ابن عباس يروي عن بني إسرائيل، لا، بل نقول: توقفنا في هذا الخبر؛ لأن فيه شبهة الخبر الإسرائيلي، وهذا أكثر أدباً مع الصحابة في شبهة الخبر الإسرائيلي.

    ونحن نقول: في الإسرائيليات عندنا مسارين:

    المسار الأول: الرواية، قلنا: إن هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    المسار الثاني: القبول، أن نقبل هذه الرواية، وقلنا: روايتها لا يلزم منها القبول.

    فإذاً المقصد من هذا: أنه حينما يأتينا رواية عن ابن عباس ، أو رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أو رواية عن أبي هريرة ممن يقال: إنهم أخذوا عن بني إسرائيل فلا نتوقف في الخبر؛ لأنها من رواية أبي هريرة ، لا، نقول: نتوقف في الخبر؛ لأن فيه شبهة الخبر الإسرائيلي، فهذا أدق وأولى.

    وما أريد أن أدخل في هذا، لكن من باب الإشارة والإلماح إلى بعض الفوائد أن هذه المسألة التي هي قضية الخبر الغيبي، هذه الحقيقة تحتاج إلى بحث في مسالك العلماء في تلقي الأخبار الغيبية عن الصحابة، أضرب لذلك مثالاً: ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في بعض المواطن قبل بعض الأخبار؛ لأنها وردت عن هؤلاء، وفي بعض المواطن أعرض عنها ولم يقبلها، فما هو الميزان؟ وهل هذه القاعدة قاعدة ثابتة معمول بها عند جميع العلماء أو لا؟ أقول: هذه القاعدة تحتاج إلى تتبع واستقراء لقبول الخبر الغيبي، يعني هل فقط مجرد كونها وردت عن الصحابي كافية، أم إن وروده عن الصحابي قرينة القبول؟ فجعلها من القرائن هذه مسألة مما يحتاج إلى بحث.

    وأمثلة أسباب النزول واضحة ما نطيل فيها.

    ما رجع فيه الصحابة إلى لغتهم

    نأتي إلى النوع الثاني: وهو الذي رجعوا فيه إلى لغتهم، في لفظ من الألفاظ وفسروه بلغتهم، طبعاً لما نقول: فسروها بلغتهم لا يكون كل الصحابة فسروها لكن من ورد عنه من الصحابة، مثل تفسير البعل الذي ورد عن ابن عباس أن المراد به الرب أو السيد، فهذا نقبله؛ لأنه فسر بلغة العرب، ونقبل تفسيرهم من جهة اللغة؛ لأنهم هم أهل اللغة، فلو جاء إنسان إلى منطقة من المناطق وسمعهم يتكلمون بكلمة فما يفهمهم فقال: ما معنى هذه الكلمة عندكم؟ قالوا: معناها كذا؟ وجاء واحد آخر من بلدة أخرى وقال له: إني سمعت ناس المنطقة الفلانية يقولون كذا، قال: هذه اللفظة معناها كذا معنى مغاير، أيها تقبل قول القوم أم قول الآخر؟

    مخالفة أصحاب اللغة لقول الصحابي

    وهنا مسألة نذكرها الآن لأنها مهمة، وهي إذا خالف لغوي قول الصحابي فرد قول الصحابي من جهة اللغة، فهل نقبل القول اللغوي المتخصص باللغة أو قول الصحابي؟ الجواب: قول الصحابي؛ لأنه هو صاحب اللغة، وارجعوا إلى قوله: أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد:31]، فسروا اليأس هنا بمعنى العلم، ألم يعلم، واعترض على هذا الكسائي و الفراء تلميذه، وردوا ما ورد عن السلف مع أنهم رووه عن ابن عباس وغيره، ومع ذلك لم يقبلوه لغةً، والصواب أن يقبل لغةً؛ لأن هؤلاء أعلم بلغتهم ممن جاء بعدهم، فلا يحكم السلف بما جاء بعدهم من العلوم والفنون أو المصطلحات أو التقييدات وإنما تؤخذ عنهم هذه الأمور.

    الذي رجعوا فيه إلى أهل الكتاب هذا قلنا: له حكم الإسرائيليات نتوقف فيه فلا يقبل ولا يرد إلا بضوابطه المعروفة في الأحاديث.

    إذا اجتهدوا في بيان المعنى ففي اجتهادهم احتمالات: أن يتفق اجتهادهم على معنى، ومعروف قضية الإجماع والكلام الذي فيه، لكن نذكره من باب التنظير أنه لا يرد عنهم إلا هذا المعنى، أو أن يختلف اجتهادهم، فإذا اختلف الاجتهاد فننظر في هذا المختلف فيه فإذا أردنا أن نرجح فهنا يعمل بالمرجحات وبقواعد ترجيح وتأتي إن شاء الله لاحقاً.

    أن يرد عن أحدهم، وغالباً ما يكون وارداً عن ابن عباس ، فهذا أدعى للقبول، وإن كانت أيضاً هذه القضية تحتاج إلى بحث؛ لأنه نلاحظ مثلاً الطبري رحمه الله تعالى يورد أحياناً رواية عن ابن عباس ولكنه يأخذ بقول من جاء بعده؛ لأن القرائن تدل على صحة قول من جاء بعده عنده فيعمل بها، لكننا نجعل تنظيراً أن كون قول الصحابي أولى بالقبول والأخذ من قول من جاء بعده، لكن بعض الأمثلة قد يكون فيها نظر آخر.

    فهذا تقريباً ما يتعلق بتفسير الصحابي، والمنقولات عن الصحابة تحتاج إلى بيان حكم فإما أن يرووا غيبيات أو قصص وأسباب نزول، أو أن يرووا شيئاً مرتبط باللغة، أو أن يجتهدوا في بيان معنى من المعاني، فهذا تقريباً ما يكون في تفسيرهم.

    1.   

    تفسير القرآن بأقوال التابعين

    نأخذ ما يتعلق بالتابعين سريعاً.

    نلاحظ أن التابعين سيزيد عندهم مصدر، نحن قلنا مصادر الصحابة: القرآن والسنة واللغة وأهل الكتاب، وزاد عند التابعين الصحابة؛ لأنهم صاروا مصدراً؛ ولهذا مثلاً مجاهد يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية وأسأله عنها، فمعنى ذلك أنهم رجعوا إلى تفسير الصحابة، فصار الصحابة مصدراً، ومثلما ذكرنا في تفسير القرآن بالقرآن، والسنة، واللغة، وأهل الكتاب هو نفسه ما كان عند الصحابة، لم يتغير شيء، فهي نفس الطريقة ونفس المنهج، والرجوع إلى الصحابة مثل ما ذكرت في هذا، أنهم أخذوا عن الصحابة، فما يحتاج نطيل، ويمكن واحد يرجع إلى أسئلة التابعين للصحابة وسيجد أمثلة كثيرة جداً في هذا الباب.

    حكم تفسير التابعي

    نأتي إلى قضية حكم تفسير التابعي، وتأتي عندنا إشكالية فيما يرفعه التابعي، أو ما له حكم الرفع، فالتابعي ينسبه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أسباب النزول، أو يدخل فيه أيضاً قضية المغيبات، فالذي يرفعه التابعي في أسباب النزول أو المغيبات الأصل فيها أنها لا تقبل؛ لأنها مراسيل، والمرسل عند جمهور العلماء حكمه عدم القبول لوجود الانقطاع، هذا هو الأصل، لكن لاحظ أنت في أسباب النزول أحياناً قد تقبل جمع من المراسيل اتفقت على معنى واحد، فإذا ورد عندنا عن عكرمة ، وعن مجاهد ، وعن سعيد بن جبير ، وعن مسروق ، وعن عطاء ، عن مجموعة من التابعين حكوا سبب نزول معين، فهذا يقبل؛ لتوافر هؤلاء التابعين على روايته، وعدم تواطئهم على ذلك؛ ولذا ذكر شيخ الإسلام في مقدمته ذلك فالمقصد: أنه إذا انفرد فالأصل عدم القبول، وإن كان تفسيراً قد نقبله لو انفرد أيضاً لمسألة أخرى وهو موافقة المعنى، لكن ما أحب أن ندخل في هذا، لكن نذكر الموجود الآن أنه ما دام انفرد فالأصل عدم القبول، وإذا قبلناه فلسبب معين، أو لقرينة معينة جعلتنا نقبله، وليس لأنه من أسباب النزول، وأنه عن هذا التابعي، إنما قبلناه لسبب آخر.

    أما الغيبيات فهذه شأنها أقوى وأشد؛ لأن الأصل فيها أيضاً عدم القبول، فلا يقبل إذا أورد التابعي خبراً غيبياً، خصوصاً إذا كانت مرتبطة بذات الله سبحانه وتعالى، أو بأخبار عن جنة أو عن نار أو غيره، فالأصل أنها لا تقبل؛ لأن فيها انقطاعاً، وهذه أخبار لا تؤخذ إلا عن المعصوم، فلا بد فيها من الصحة، ومن المشهور كلام العلماء عن إقعاد الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش في تفسير مجاهد لقوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79]، وخلاف الوارد عند العلماء فيه لا ندخل فيه، لكن المقصد أنه مثل هذا الأصل عدم قبوله، فلا يقبل إلا بحجة، لكن قد يقول قائل: أنا قرأت في كتاب مثلاً السنة للخلال أنه حصل إشكال في هذه الآثار، وصار فيه كلام طويل لعلماء الحنابلة في إثبات هذه القضية إلى آخره، فهذه كانت تأخذ منحاً معين فصارت فيها أشبه بما يقال بعقيدة الولاء والبراء في هذه القضية، وكان كلام له تاريخه المعين لو أخذ في إطاره فإنه يعلم لماذا كان يتشدد في قبول مثل هذا الخبر؟ والمسألة ما دامت علمية وهناك علماء قالوا بها فلو جاء إنسان وقال: المقام المحمود هو العرش بدلالة قول مجاهد فالمسألة فيها سعة، لكن المقصد أنه مثل هذا الخبر الأصل فيه عدم القبول؛ لأنه مرسل.

    الأمور الأخرى نفس ما ورد عن الصحابة، ما ورد عنهم، قلنا: إذا كان الرجوع إلى أهل الكتاب له حكم الإسرائيليات، فإذا أجمعوا يكون حجة، وإذا اختلفوا يرجع إلى المرجحات، وأيضاً إذا رجعوا إلى اللغة فهم مثل الصحابة، خصوصاً أن أغلبهم كان في عصر اللغة، وما حصل عندهم إشكال في عجمة اللسان، فإذا ورد عن أحدهم فلا شك أنه أقل رتبة من الصحابي، لكنه أولى في القبول من المتأخرين، فهذه التنظيرات كلها التي أخذناها في الصحابة وفي التابعين، وهذه التنظيرات قد تخالفها بعض الأمثلة، فلا يعني أن هذه التنظيرات لا يستفاد منها، كما لا يعني أن هذه الأمثلة خالفت التنظيرات فما من قاعدة إلا ولها شواهد، وأنا في رأيي أن التفسير يعتمد على المثال المدروس، بمعنى أنك قد ترجح في مثال ما بأسلوب معين، وترجح في مثال آخر بأسلوب آخر، فلا يحتج عليك بذلك الأسلوب الأول؛ لأن المسألة مسألة مثال، وليس من باب الاختلاف في الترجيح؛ لأن مسار البحث هنا غير مسار البحث هناك، وهي تحتاج إلى تمثيل لكن لعلي أكتفي بهذا التنظير لضيق الوقت.

    فنقول لكي يفهم الكلام: إنه أحياناً تعترضك بعض الأمثلة تخالف فيها أنت ما نظرته هنا وقلت: إن الأصل قبول قول الصحابي، وأنت ما قبلت وقدمت قول فلان، فمعناه أنك خالفت هذه القاعدة، نقول: هذا المعنى بالذات فيه إشكاليات معينة، فيه كذا وكذا وكذا؛ ولهذا اختير هذا القول.

    الاعتناء بصحة السند المنقول عن الصحابة والتابعين

    التنبيهات الواردة الأول: قال: [ لا بد من الاعتناء بصحة السند وإلا اعتبر القول قولاً مجرداً في التفسير ].

    هذا الكلام فيه نظر، ويطول الحديث عنه لكن اختصر، فعلماء الحديث المتقدمون لم يكونوا يشترطون الصحة في آثار التفسير، وإنما سبيلهم روايتها وقبولها، خصوصاً إذا كانت مخارج هذه التفسيرات معروفة؛ ولهذا قبلوا حتى تفسير عطية العوفي ، عن ابن عباس ، وهو ضعيف، ومع ذلك قبلها الطبري ، وقبلها ابن كثير ، وقبلها غيرهم من العلماء، لكن يتوقف في مثل هذه الروايات فيما لو جاءت بمعنىً فيه غرابةً، أو معنىً فيه شذوذ، أو معنىً فيه نكارة هنا يتوقف فيها، لكن إذا ما كان فيها مثل هذه الأمور فإنها تروى ويستفاد منها، وهذا هو أسلوبهم؛ ولهذا كانوا يتشددون في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما في أحاديث الترغيب والترهيب، وأحاديث المغازي والفتن والملاحم والتفسير فكانوا لا يتشددون فيها، فإذاً: هذا القيد ليس صحيحاً أنه لا بد من الاعتناء، لكن لو اعتني بصحة السند فنعم لكن بشرط ألا يذهب بعلم التفسير.

    فلو أن باحثاً أراد أن يطبق أسلوب المحدثين في دراسة الأسانيد للأحاديث على مرويات التفسير فسيسقط شطر التفسير؛ لأنه أصلاً متفق عند العلماء أن مرويات التفسير هذه كثير منها فيها ضعف، ولا يسلم منها إلا روايات قليلة، فهذا واحد.

    والنظر الآخر: هل طبق أحد من العلماء المتقدمين هذا المنهج الذي يسلك في بعض الأحيان الآن ما طبقه، فـابن جرير الطبري مر على كتابه مرويات كثيرة، وانتقد بعض الأسانيد، ونقده يعتبر نادراً، ويمكن أن يعد بالأصابع، وقبل هذه وعمل بها وأخذ بما فيها، ومن جاء بعده مثل البغوي ، وكل علماء الحديث أو من له عناية بالحديث قبلوا هذه الروايات، ومنهم أيضاً ابن كثير ، وهو مشهور، ويعتبر مثالاً واضحاً جداً، فقبلوا هذه الروايات، وعملوا بها، لكن إذا جاء فيها إشكال فإنهم يحررون في الإسناد وينبهون على أن هذا الإسناد ضعيف، وهذا ليس من التناقض، فما يقال: لماذا ابن كثير لما جاء عند آية وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55] حرر في أسانيد الآثار وقال: هذه ضعيفة، وهذه فيها كذا، وهذه فيها كذا، وفي غيرها لم يحرر؟ لأن في هذه الآية نكارة، ويبنى عليها معلومة خطأ، التي هي معلومة أن علياً رضي الله عنه تصدق بخاتمه وهو راكع، فحرر فيها، لكن غيرها من الآثار ما فيها إشكال من جهة المعنى فقبلت، وهذا موضوع يطول، لكن نقول: إن هذه الفائدة عليها ملحظ.

    جمع طرق التفسير عن الصحابي أو التابعي

    الثاني: جمع الطرق هذا لا شك أنه جيد، جمع طرق التفسير سواء عن الصحابي أو عن مجموعة السلف؛ لأنه يفيد في ترجيح الروايات، مثل ما هو مذكور في المثال الوارد عن ابن عباس في تفسير الكرسي: هل تفسيره بالعلم أو تفسيره بأنه موضع قدمي الرحمن؟

    كما أنه يفيد أيضاً في معرفة المعنى الجملي للآية، فاجتماع هذه الأقوال على معنىً معين يفيد ويقوي هذا المعنى.

    [ إذا صح عن الصحابي والتابعي قولان مختلفان في التفسير، ولا يمكن الجمع بينهما ] يعني صار من باب اختلاف التضاد، فهما كالقولين المطلقين عن غير معنى، كأن ابن عباس صار ابن عباس واحد، و ابن عباس اثنين، فإذاً لا بد من الترجيح بين هذين القولين، ومثال ذلك ما ورد عنه أنه قال: الذبيح إسحاق. وفي روايات أخرى أنه قال: الذبيح: إسماعيل . فهذان قولان متناقضان، فلابد من الترجيح بينهما، لكن قد يرد عنه اختلاف فيكون من باب اختلاف التنوع، فهو يقول بقول، ويقول بقول آخر يكون على سبيل التنوع، واختلاف التنوع قد يرد عن الواحد، وقد يرد عن أكثر من واحد، فهذا سبيله إذا كان يمكن قبول كل الأقوال والآية تحتملها يقبل، وإذا كان لا بد من ترجيح رجح بين الأقوال.

    وأما إذا تعارضت الروايات عن الصحابي أو التابعي وفيها تضاد فتحرر الأسانيد. فمثل الصحابي قد ذكرنا مثال لـابن عباس ، و مجاهد رحمه الله ورد عنه نفي الرؤية في وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، وهذا مشهور عنه إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، وورد عنه إثبات الرؤية في كتاب اللالكائي في نفس الآية ممن أثبت الرؤية في نفس الآية أورد رواية عن مجاهد فيها إثبات الرؤية، فورد عنه نفي الرؤية، وورد عنه إثبات الرؤية، وهذا مما تحرر فيه الأسانيد.

    وأما إذا تعارض بين صحابي وتابعي فإنه يقدم الصحابي.

    الرابع: جمع المرويات، قلنا: إنه يفيد في ذلك.

    الخامس: [ ليس كل اختلاف وارد عنهم يعد اختلافاً ] وهذا المراد أنه ليس اختلاف محقق، يعني ليس اختلاف تضاد.

    المسألة السادسة والأخيرة: [ هل يجوز إحداث قول بعد إجماع معنى قول في الآية أم لا؟ ] فهذه نتركها لدرس قادم من أجل أن تنشط النفوس أحسن، وكان من المفترض ومن النواقص على هذا الكتاب أن يذكر أيضاً تفسير أتباع التابعين، ولم يذكر، لكن لو أعيدت صياغته على تفسير السلف فيدخل فيهم الصحابة والتابعين وأتباع التابعين؛ لكي تكتمل حلقات التفسير المأثور عن السلف، وهذه المسألة ندعها لدرس قادم لكي تنشط النفوس إليها، ونأخذ الأسئلة الواردة سريعاً.

    1.   

    الأسئلة

    حكم أسباب النزول التي يذكرها الصحابي

    السؤال: هل أسباب النزول التي يذكرها الصحابي لها حكم الرفع؟

    الجواب: نعم، قلنا: إن لها حكم الرفع.

    الجمع بين سؤال ابن عباس أهل الكتاب ونهيه عن الأخذ منهم

    السؤال: كيف يجمع بين سؤال ابن عباس رضي الله عنه أهل الكتاب، ونهيه عن الأخذ منهم؟

    الجواب: إما أن يكون رأى كثرة السائلين لهم فيما ينفع وما لا ينفع فأراد أن يسد الباب، وإما أن يكون السائلون أرادوا الاهتداء بما عندهم، من العلم فنهاهم عن هذا، وأنه كيف تأخذون منهم الاهتداء؟! وإنما الاهتداء يكون بالكتاب والسنة، وأنا يظهر لي أن هذا أقرب، وهو أنه رأى أن هؤلاء يسألونهم عن شيء يهتدون به في الدين.

    اختلاف الصحابي مع اللغوي

    السؤال: في اختلاف الصحابي مع اللغوي لماذا لا نقول: إن الصحابي قد تشكل عليه كلمة فلا يعلمها، مثل ابن عباس لما أشكل عليه كلمة (فاطر)؟

    الجواب: لكنه علمها، فلا يوجد كلمة مات ابن عباس وهو يقول: لم أعلمها، فهو علمها في حياته.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755996844