إسلام ويب

شرح منظومة الزمزمي [1]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • منظومة الزمزمي من المنظومات الخاصة بعلوم القرآن، اهتم بها العلماء في القديم والحديث حتى كثرت شروحها. وفي بدايتها ذكر الزمزمي تعريف القرآن وحد علم التفسير وحد السورة والآية.

    1.   

    نبذة مختصرة عن منظومة الزمزمي

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    هذه المنظومة منظومة متواضعة في علوم القرآن، وليست منظومة شاملة، والسبب في ذلك: أن عبد العزيز الزمزمي رحمه الله تعالى اعتمد على كتاب مختصر، فهي لا تفي بجميع موضوعات علوم القرآن، ومادة علوم القرآن لا تزال بحاجة إلى متن جامع يجمع أطراف مسائل علوم القرآن، ويكون متناً صالحاً للتدريس في الدورات وفي المجالس العلمية.

    صاحب هذه المنظومة هو: الشيخ الأديب عبد العزيز عز الدين بن علي بن عبد العزيز بن عبد السلام الزمزمي ، وهو شافعي ولد بمكة سنة (900ه)، وتوفي بها سنة (976ه).

    شروح منظومة الزمزمي

    وهذه المنظومة لها مجموعة من الشروح، منها: شرح للشيخ علوي المالكي ، وكذلك شرح للشيخ: محسن بن علي الحضرمي ، وكذلك: محمد بن يحيى أمان المدرس بمدرسة الفلاح، وهناك أيضاً شرح لكنه غير مطبوع قدمه أخي الدكتور: عبد الرحمن الشهري في جامعة الملك سعود، وشرح المنظومة كاملة، وله تصحيحات على بعض أبياتها، والتصحيحات موجودة في ملتقى أهل التفسير، يمكن الرجوع إلى المنظومة فقد شكلها وضبطها، وصحح بعض ما فيها من الإشكالات، وأتى بمقترح في التعديل.

    وهناك أيضاً شروح أخرى، ولكن أغلبها شروح مخطوطة، وهذه الرسالة لقيت عناية من بعض العلماء، ومن أواخر شروحها: شرح الشيخ عبد الكريم الخضير ، وهو شرح ماتع وموجود في مواقع كثيرة جداً يمكن الاستفادة من شرحه، وإضافته إلى ما سأذكره من بعض المسائل التي لم يذكرها الشيخ حفظه الله.

    رسالة أصول التفسير للسيوطي

    هذه المنظومة هي منظومة لرسالة أصول التفسير للإمام السيوطي المتوفى سنة (911ه)، وهذه الرسالة موجودة في كتاب: إتمام الدراية لقراء النُقاية، وهذا الكتاب جمع فيه السيوطي مجموعة من العلوم، ثم شرح هذه العلوم، وكان من العلوم التي جعل لها متناً: علم التفسير، ولم يسمه أصول التفسير، إنما سماه علم التفسير هكذا، ثم بدأ يذكر في علم التفسير المتن الذي هو في النُقاية، ثم الشرح الذي هو في إتمام الدراية، وقد استخرج القاسمي رحمه الله تعالى هذه الرسالة، وأخرجها مفردةً، وله عليها تعليقات يسيرة.

    السيوطي رحمه الله تعالى كعادته يستفيد ممن جاء قبله، ورسالته مختصرة من كتاب مهم من كتب علوم القرآن كان قبل فترة يعد من المفقودات، ولكن وجد له نسخة وطبع، وهو مواقع العلوم من مواقع النجوم أو في مواقع النجوم، على خلاف موجود عند السيوطي ، وكتاب مواقع العلوم كتبه: البلقيني رحمه الله تعالى، المتوفى سنة (824ه) جلال الدين عبد الرحمن بن عمر بن رسلان ، وهذا الكتاب اطلع عليه السيوطي متأخراً، ولكنه استفاد منه في كتابه هذا الذي هو النُقاية، بحيث إنه اختصر ما كتبه البلقيني ، ولهذا لم يزد عليه، بل لخص كتاب البلقيني فقط.

    ثم بعد ذلك كتب كتابه: التحبير في علم التفسير، فأخذ ما عند البلقيني في كتاب مواقع العلوم وأضاف عليه، و البلقيني رحمه الله تعالى جعل كتابه هذا على ستة أبواب، وكل باب يندرج تحته مجموعة من أنواع علوم القرآن، قرابة خمسين نوعاً، ثم بعدها مكملات عند البلقيني ، فجاء السيوطي وألغى الأبواب وأخذ الأنواع وقسمها حتى صارت أكثر من مائة نوع من أنواع علوم التفسير في كتاب: التحبير في علم التفسير، وبعد ذلك كتب كتابه المشهور الإتقان فرجع إلى الضم والجمع حتى خرجت عنده ثمانية وأربعون نوعاً.

    ولكن نفقد في كتابات السيوطي رحمه الله تعالى في التحبير وكذلك في الإتقان نفقد طريقة البلقيني في جمع المتناظرات في باب واحد، والمتناظرات في باب واحد هي التي عمد إليها الزمزمي ، وجعلها في معاقد كما سيأتي إن شاء الله في شرح هذه المنظومة. ومن باب الفائدة نذكر ما ذكره البلقيني رحمه الله تعالى في كتابه، فإن هذا الكتاب الذي هو كتاب البلقيني جعله مقدمة لتفسيره؛ لأنه كان يلقي التفسير، فجمع هذه الأنواع وجعلها مقدمة لتفسيره الذي كان يلقيه في المدرسة على طلابه. قال وهو يتكلم عن أنواع علوم القرآن:

    وتنحصر الأنواع في الكلام على أمور: الأمر الأول: مواطن النزول، والأمر الثاني: السند، والأمر الثالث: الأداء، والأمر الرابع: الألفاظ، والأمر الخامس: المعاني المتعلقة بالأحكام، والأمر السادس: المعاني المتعلقة بالألفاظ، ثم قال: وبذلك تكتمل الأنواع خمسين. يعني: الستة أمور فيها خمسين نوعاً، ثم قال بعد ذلك: ومن الأنواع ما لا يدخل تحت الحصر: كالأسماء، والكنى، والألقاب، والمبهمات إلى آخره. وهذا التقسيم الذي هو تقسيم البلقيني عندي: أنه من أفضل التقسيمات لأنواع علوم القرآن، ونحن بحاجة في العلم إلى جمع المتناظرات لكي تكون تحت باب واحد، فما فعله السيوطي رحمه الله تعالى من نثر هذه الأنواع من دون أن يكون لها نظام، هو تكثير محمود في جانب، لكن كان يحبذ لو أنه جمعها تحت معاقد، يعني: معدودة، بحيث أنه يمكن نخلص إلى أن الأنواع العامة في علوم القرآن يمكن أن تكون مثل ما ذهب إليه البلقيني : أنها ستة أنواع عامة، ويندرج تحتها أنواع متعددة.

    فعلى سبيل المثال: لو أخذنا الأمر الأول الذي ذكره البلقيني ، نلاحظ الوحدة الموضوعية فيه، يقول البلقيني : مواطن النزول وأوقاته ووقائعه، ثم ذكر اثني عشر نوعاً: المكي، والمدني، والسفري، والحضري، والليلي، والنهاري، والصيفي، والشتاء، والفراش، وأسباب النزول، وأول ما نزل، وآخر ما نزل. فلو تأملنا سنجد أن هذه الأنواع المذكورة كلها مرتبطة بنزول القرآن. لكن ماذا فعل السيوطي لما كتب الإتقان؟

    السيوطي فرش هذه الأنواع وجعل كل واحد منها نوعاً مستقلاً، فصار عندنا قرابة اثنا عشر نوعاً مستقلاً، لا نستطيع أن نعرف ما هو الرابط بينها في ما عمله السيوطي في الإتقان، أما في عمل البلقيني فواضح: أنه جعل ما يتعلق بالنزول وحدة واحدة، يعني: عمل موضوعي، ونحن بحاجة إلى العمل الموضوعي الذي يقرب العلم، ثم نذكر في هذا الموضوع العام التفاصيل الموجودة كما ذكر البلقيني .

    ويمكن أن يضاف لما ذكره البلقيني هنا في ما يتعلق بالنزول مثلاً: نزول القرآن على سبعة أحرف؛ لأنه مرتبط بالنزول، نزول القرآن على لسان بعض الصحابة، وهذا ذكره السيوطي كنوع من أنواع علوم القرآن، نزول القرآن بلغة قريش المعرب، يعني: الألفاظ التي نزلت بغير لغة العرب ويسمى المعرب. وكل هذه لو تأملنا يمكن أن تدخل ضمن علم النزول، فكل ما يتعلق بالنزول يمكن أن نجمعه تحت مادة واحدة وهي: علم نزول القرآن، فيشتمل على أنواع متعددة.

    فهذا النظر الموضوعي نحن بحاجة إليه ونحن ندرس علوم القرآن، فنحتاج إلى أن نرجع هذه الأنواع المتعددة إلى أنواع عامة بحيث يعرف طالب العلم ما هي الأنواع العامة، وما الذي يندرج تحتها من الأنواع، فلا تكثر عليه بحيث أنه يضيع فيها، أو لا يستطيع أن يضبط هذه الأنواع، هذا باختصار ما يتعلق بهذه المنظومة وأصلها وبعض الشروح التي شرحتها.

    1.   

    مقدمة منظومة الزمزمي

    قال الناظم رحمه الله تعالى:

    [ تبارك المنزل للفرقان على النبي عطر الأردان

    محمد عليه صلى الله مع سلام دائماً يغشاه

    وآله وصحبه وبعد فهذه مثل الجمان عقد

    ضمنتها علماً هو التفسير بداية لمن به يحير

    أفردتها نظماً من النقاية مهذباً نظامها في غاية

    والله أستهدي وأستعين لأنه الهادي ومن يعين ].

    الناظم رحمه الله تعالى يقول: (ضمنتها علماً هو التفسير)؛ لأن السيوطي رحمه الله تعالى سمى المتن: علم التفسير، ولم يسمَ أصول التفسير، وإنما سماها رسالة في أصول التفسير، و القاسمي رحمه الله تعالى لما أخرجها مفردةً من النقاية أخرج هذه القطعة للسيوطي وسماها: رسالة في أصول التفسير.

    وهنا مسألة مهمة: هل العلوم التي سيذكرها الناظم في نظمه والتي أصلها في النُقاية، هل هي بالفعل مما يحتاج إليه المفسر، أو هي مما يوجد في كتب التفسير؟ يعني: يجب أن يكون عندنا نظران؛ النظر الأول: أن نقول: علم التفسير هو كذا وكذا، أو أن نقول: إن علم التفسير هو ما يستبطن في كتب التفسير من معلومات.

    وهنا نلاحظ أن الناظم، وكذلك الأصل النقاية، وكذلك الأصل مواقع العلوم للبلقيني ذهبوا إلى ما يوجد في كتب التفسير من معلومات لها علاقة بالآية فجعلوها من علوم التفسير، ولكن إذا تأملنا في حد التفسير سنجد أن مجموعة من هذه العلوم هي من علوم القرآن وليست من علوم التفسير.

    1.   

    حد علم التفسير

    قال رحمه الله تعالى:

    [ حد علم التفسير:

    علم به يبحث عن أحوال كتابنا من جهة الإنزال

    ونحوه بالخمس والخمسينا قد حصرت أنواعه يقينا

    وقد حوته ستة عقود وبعدها خاتمة تعود

    وقبلها لا بد من مقدمة ببعض ما خصص فيه معلمة ].

    طبعاً النظم يحكم الناظم، ولو تأملناه نجده اختصر في التمثيل بالإنزال، ثم ذكر: (ونحوه بالخمس والخمسين)، يعني: كأنه يقول: إن العلوم التي ذكرها السيوطي رحمه الله تعالى، هي من علم التفسير، فكأن التفسير بهذا المصطلح: علم يبحث فيه عن أحوال كتاب الله سبحانه وتعالى.

    لكن هل هذا التعريف يمكن أن يطلق عليه أنه من التعريفات الجامعة المانعة؟

    الجواب: لا؛ لأن هذا التعريف فيه توسع، فهو في الحقيقة تعريف لعلوم القرآن وليس لعلوم التفسير، ولهذا لا بد من الفصل بين ما هو من علوم التفسير، وما هو من علوم القرآن.

    الفرق بين علوم التفسير وعلوم القرآن

    قد يقول قائل: هل هناك فرق بين علوم التفسير وعلوم القرآن؟ الجواب: مبني على الإضافة، فالأول: أضفنا العلم إلى التفسير، والثاني: أضفنا العلم إلى القرآن، والقرآن شيء والتفسير شيء آخر، فالإضافة دلت على اختلاف العلمين، فلاحظوا لما نقول: (علوم التفسير) ليس كل علم من علوم القرآن سيدخل في علوم التفسير، لكن لا نستطيع أن نميز بين علوم التفسير وعلوم القرآن إلا بعد أن نعرف: ما هو علم التفسير؟

    وعلم التفسير اختلف العلماء أيضاً في حده، لكن التعريف المختار، هو تعريف الشيخ: مناع القطان رحمه الله تعالى، والشيخ: محمد بن العثيمين رحمه الله تعالى، فتعريفهما هو أفضل التعريفات وأدلها على المقصود، والتعريف الجامع بين تعريفهما: أنه بيان معاني القرآن، وهذا التعريف تعريف مختصر، وهو موضح لعلم التفسير، فإذا جعلنا علم التفسير بيان معاني القرآن، فإذاً أي معلومة لا يكون فيها بيان للمعنى، فإنها لن تكون من علم التفسير، وإنما تكون من علوم القرآن.

    إذاً الضابط لكي نفهم الفرق بين علوم التفسير وعلوم القرآن، أن أي معلومة لا يكون فيها بيان معنى، فهي ليست من علوم التفسير، وأي معلومة فيها بيان معنى فهي من علوم التفسير.

    وهذا الضابط استحضره وأنت تقرأ في كتب التفسير، ولا تحتاج إلى من يقول لك: هل المكي والمدني من علوم التفسير، أو من علوم القرآن؟ هل الناسخ والمنسوخ من علوم التفسير، أو من علوم القرآن؟ هل أسباب النزول من علوم التفسير، أو من علوم القرآن؟ لأنك تنظر في المعلومة، هل لها أثر في فهم المعنى أو ليس لها أثر؟ فإن كان لها أثر في فهم المعنى فنقول: هي من علوم التفسير، وإذا لم يكن لها أثر في المعنى، فهي من علوم القرآن، وليست من علوم التفسير. وأيضاً كل ما يطلق عليه أنه من علوم التفسير، فهو أيضاً من علوم القرآن، يعني: إذا صار علوم القرآن هو المصطلح العام الكبير، وعلوم التفسير أخف منه، فكل نوع يدخل في علم التفسير فهو من علوم القرآن، وليس كل نوع من علوم القرآن يدخل في علم التفسير.

    ونحن نحتاج إلى المثال ليتبين به المقال، مثلاً سورة الفاتحة سبع آيات بالاتفاق، وفي قول: أنها ست آيات، لكنه قول فيه شذوذ، فلما نأت لهذه المعلومة في عد الآي، يعني: كون سورة الفاتحة سبع آيات أو ست آيات، هذه المعلومة هل لها آثر في فهم المعنى؟ يعني: هل يختلف المعنى إذا قلنا: سورة الفاتحة ست آيات أو سبع آيات؟ ما يختلف، فإذاً علم عد الآي ليس من علوم التفسير.

    لكن إذا وجدناه في كتب التفسير، هل يعني ذلك أنه يكون من علم التفسير؟ نقول: لا؛ لأن كتب التفسير تذكر كل الأحول المتعلقة بالآية من التفسير وغيره.

    وهل هذه المعلومة من علوم القرآن؟ الجواب: نعم. لكن كوني أتكلم عن عد الآي في كتب التفسير؛ لأنها من علوم القرآن، هذا يتطلب أريد أن أفهم ما هي مادة كتب التفسير؟ فأقول: كتب التفسير فيها التفسير وزيادة، والدليل على ذلك: أنه ليس كل ما في كتب التفسير يعد من التفسير، وإنما يدخل كثير من علوم القرآن، وعند الموازنة بين تفسير مختصر وتفسير مطول، مثلاً التفسير الميسر الذي صدر عن مجمع الملك فهد رحمه الله تعالى، هل نطلق عليه أنه تفسير أو ليس بتفسير؟ تفسير، وتفسير البحر المحيط لـأبي حيان الأندلسي ، هل هو تفسير أو ليس بتفسير؟ تفسير.

    إذاً لو أردنا الموازنة وبيان الفروق بين تفسير مختصر، وتفسير من عدة مجلدات، إذا تأملناها سنجد أن جملة كبيرة جداً منها إما أن تكون في علوم القرآن، يعني: من علوم الآية وعلوم السورة، وإما أن تكون في مسائل إضافية أيضاً خارج علوم القرآن.

    فإذاً ليس كل ما في هذه الكتب هو من علم التفسير، وأيضاً نجد أن العلماء ومنهم أبو حيان يعترضون أحياناً على بعض المفسرين حينما يذكرون بعض المعلومات في كتب التفسير، فـأبو حيان رحمه الله تعالى كان مولعاً بنقل الزمخشري ، وكان يقف معه وقفات كثيرة جداً، فلما جاء عند كلام الزمخشري في ما يتعلق بحكمة جعل القرآن سوراً، اعترض عليه أبو حيان وقال: وهذا ليس من علم التفسير، يعني: كأنه اعترض عليه أنه أدخل مثل هذه الفوائد في كتاب هو من سبل التفسير، ولو أردنا أن نعامل أبا حيان رحمه الله تعالى بمثل ما عامل به الزمخشري في هذا الموطن، لوجدنا معلومات كثيرة يذكرها أيضاً أبو حيان وهي ليست من علم التفسير.

    فإذاً نرجع مرة أخرى ونقول: إن علم التفسير هو بيان معاني القرآن، فإذا تبين المعنى انتهى الآن التفسير هنا، ثم تأتي بعد ذلك المعلومات المرتبطة بالآية من جهة كونها علوم قرآن، أو المسائل المرتبطة بالآية، وإن لم تكن من علوم القرآن، فإذاً هذا باختصار ما يتعلق بعلم التفسير.

    وهذا المعنى مهم جداً ونحن نناقش أنواع العلوم، هل هو من علوم التفسير الخاص والمحضة، أو هو من علوم القرآن التي لا علاقة لعلم التفسير بها، أو هو من العلوم التي يشترك فيها علوم القرآن وعلم التفسير؟ فجهة منه مرتبطة بعلوم التفسير، وجهة منه مرتبطة بعلوم القرآن، وبالتالي ستنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    قسم من علوم التفسير أصالةً، وقسم من علوم القرآن لا علاقة له بعلم التفسير، وقسم له علاقة بعلوم القرآن من جهة، وله علاقة بعلوم التفسير من جهة أخرى، يعني: سيكون فيه نوع من التداخل، لا يمكن أن نفك هذا إلا إذا قلنا: بأن الضابط عندنا: هو بيان المعنى، فإذا كان فيها بيان معنى فنقول: هي من علوم التفسير، وإذا لم يكن فيها بيان معنى سنقول: أنها من علوم القرآن.

    1.   

    تعريف القرآن

    قال الناظم رحمه الله تعالى:

    [ مقدمة:

    فذاك ما على محمد نزل ومنه الاعجاز بسورة حصل

    والسورة الطائفة المترجمة ثلاث: آي لأقلها سمة

    والآية الطائفة المفصولة من كلمات منه والمفضولة ].

    هذه المقدمة مأخوذة من كلام السيوطي التي أضافها.

    قوله:

    فذاك ما على محمد نزل ومنه الإعجاز بسورة حصل

    يعني: هذا تعريف للقرآن، والعلماء يحرصون على ما يسمى بالتعريف الجامع المانع، وإن كان هذا التعريف الجامع المانع لا يحصل دائماً، لكن على الأقل قريباً إلى أن يكون جامعاً مانعاً، فالقرآن عند المؤلف هو: ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكان معجزاً، أي: أن عنده الآن ضابطين في التعريف: الأول: نزوله على محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإعجاز.

    ولماذا ذكر الإعجاز مع النزول؟ لأن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليس القرآن فقط، فاحتاج إلى أن يضبطه بقيد آخر وهو الإعجاز، فلو قلنا: ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فقط، فكما نعلم أن السنة أيضاً مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً الأحاديث القدسية، فهي أيضاً مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذاً لا يتميز القرآن إلا بهذا.

    وبعضهم يقيده بقيد آخر: وهو التعبد، يعني: ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكان متعبداً بتلاوته، أيضاً ليميزون بينه وبين الأحاديث القدسية، وأيضاً أقوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يجعل أجراً على شيء من كلام الله سبحانه وتعالى إلا على القرآن، أما الحديث القدسي فلم يرتب عليه أجراً كما رتب على القرآن كما في الحديث المشهور: (لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف). فإذاً هم يذكرون هذا القيد الذي هو قيد الإعجاز، أو قيد التعبد؛ ليتميز به القرآن.

    وهذا التعريف الذي ذكر عند العلماء هو تعريف يكاد يكون متفقاً عليه، ويكثر في تعريفات العلماء.

    ذكر بعض القيود في تعريف القرآن

    وبعض العلماء بسبب قول بعض الفرق اضطر إلى أن يدخل قيوداً في التعريف غير هذا القيد الذي ذكره الناظم، مثل قول بعضهم: غير مخلوق، أو قول بعضهم: منه بدأ وإليه يعود، وهذه الإضافة في التعريف لها سبب تاريخي وهو قول المعتزلة: بأن القرآن مخلوق، فأهل السنة أضافوا هذا القيد للرد على المعتزلة.

    وهنا سؤال منهجي: هل إدخال هذه القيود يؤثر على تعريف القرآن سلباً؟

    الجواب: لا، يعني: هذه القيود إدخالها لا يؤثر على تعريف القرآن سلباً، خصوصاً إذا عرف سبب إدخال هذه القيود، وهو الرد على المخالف، فإذاً من جاء واعترض على تعريفات العلماء: بأنها تعريفات تاريخية، وأنها مبنية على آراء معينة صادرة بسبب خلافات بين الطوائف، نقول: إن هذا لا يؤثر على تعريف القرآن.

    أيضاً يعترض بعضهم على تعريف القرآن: بقول بعض المعرفين: المبدوء بالفاتحة والمختوم بالناس، ويقول: إن قولهم: المبدوء بالفاتحة والمختوم بالناس هو بالنظر إلى ما جمع في عهد عثمان وهو لا يقول حكاية قوله: (أنه ما جمع في عهد عثمان ) وإلا فإن هذا التعريف لا ينطبق على القرآن إبان نزوله منجماً شيئاً فشيئاً، وهذا أيضاً ليس بصحيح، ولا يؤثر على التعريف؛ لأن التعريف عن الكل بالجزء في لغة العرب صحيح، والشيء الثاني: أننا نعلم أن القرآن كان يتكامل نزوله حتى كمل هذا المصحف، فعرف بهذا التعريف، فهو ينطبق على الجزء وينطبق على الكل فلا يؤثر عليه أيضاً مثل هذا الاعتراض الذي ذكره بعض المعاصرين.

    تعريف القرآن بالقرآن

    يبقى عندنا في موضوع التعريف، وهو النظر إلى تعريف القرآن بالقرآن، بمعنى: أننا لو أردنا أن نعرف القرآن من خلال القرآن نفسه، ما هي الأوصاف المذكورة للقرآن في القرآن بحيث أننا نستطيع أن نخرج بعض الأوصاف التي هي دلالة وتعريف للقرآن؟ هذا بحث يمكن أن يقوم به طالب علم، وينظر إلى أوصاف القرآن من خلال القرآن، لكن هناك أوصاف مطلقة وعامة، مثل: هدى، وبشرى، لكن لا نريد مثل هذه، إنما مثل قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ [التوبة:6]، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:192-193]، وأمثالها التي يمكن أن تعطينا تحديداً دقيقاً لتعريف القرآن من خلال القرآن.

    حاجة المسلم إلى التعريف بالقرآن

    المسلم ليس بحاجة أن يعرف القرآن، ولو سألت مسلماً: ما هو القرآن؟ الإجابة تكون عنده بعض الأحيان صعبة، كيف أعرف القرآن؟! ويمكن أن يشير إلى المصحف ويقول لك: هذا القرآن، يعني: التعريف بالإشارة إليه، وهذه كافية أصلاً في التعريف بالقرآن، لكن العلماء لهم طريقة في التعريف الجامع المانع، فنحن لا نحتاج إلى هذا التدقيق الزائد بتعريف القرآن؛ لأن القرآن بالنسبة لنا نحن معروف.

    لكن هناك فائدة ذكرها الدكتور يوسف الحوشان وهي: أن أحد الألمان سأله سؤالاً قال له: ما هو القرآن؟ قال: أنا تحيرت كيف أجيبه بإجابة يستطيع أن يفهم ما هو القرآن!

    إذاً إذا أردنا أن نعرف القرآن لغير العرب، ولمن نريد هدايتهم من الكفار الذي لا يتكلمون بلغة العرب، نحتاج إلى أن نعرف القرآن، والتعريف بالقرآن هنا يتجه إليه إلى الأوصاف، وليس إلى الحد الجامع المانع؛ لأن الحد الجامع المانع العقلي الذهني هذا لا يحتاجه كثير من الناس، قد يحتاجه من يريد أن يعرف ما هو القرآن بالنسبة لكم أيها المسلمون، وهذا أيضاً ملحظ أيضاً يحسن أن ينتبه له، فمن استطاع أن يوجد تعريفاً من القرآن عن القرآن، ويكون واضحاً ودالاً على المقصود، فهذا جيد، يعني: أن نستخلص المراد بالقرآن من خلال القرآن نفسه في الآيات التي وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى.

    ومن باب الفائدة: أحد طلاب الدراسات العليا استشارني مرة عن حديث القرآن عن القرآن، يعني: تفسير موضوعي عن حديث القرآن عن القرآن، فلما عرض لي الموضوع أول ما عرضه كنت أتوقع أن الآيات فيه قليلة، فقلت له: هل فيه مادة علمية؟ قال: كثيرة جداً، فذهب وجمع الآيات واجتمعت عنده قرابة مائتي آية في حديث القرآن عن القرآن، فلما أخبرني بالعدد ذهلت؛ لأني ما كنت أتوقع هذا العدد الذي ذكره.

    وبالفعل وجدت أن حديث القرآن عن القرآن كان كثيراً جداً، ولكن نحن نغفل ونحن نقرأ القرآن عن الموضوعات التي يطرحها القرآن، ولو أن كل واحد منا وهو يقرأ ختمته يجعل في ذهنه موضوعاً أو عدة موضوعات سيعجب من كثرة طرق الآيات لهذه الموضوعات، فمثلاً: سور الحواميم كلها حديث عن القرآن بأي جهة من جهاته الثلاث: المنزل الذي هو المتكلم به سبحانه وتعالى، أو الذي نزل به: وهو جبريل عليه السلام، أو الذي نزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن هو الرابط بين هذه الجهات الثلاث، فالحديث عن القرآن في القرآن كثير جداً، وهذه مجرد دعوة لتدبر هذا الموضوع في القرآن.

    حصول إعجاز القرآن

    يقول: (ومنه الإعجاز بسورة حصل)، موضوع الإعجاز طويل، لكن ما ذكره المؤلف في أن الإعجاز حصل بسورة، هذا هو منطوق القرآن، واتفق العلماء على ذلك، وإن كان بعض العلماء خالف في هذا، فذكر أن الإعجاز قد يحصل بآية، ولكن القول بأن الإعجاز يحصل بآية فيه شبهة دليل، لكن دليله ضعيف، في قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34]، فنقول: إن هذه الآية مجملة، ويبينها قول الله سبحانه وتعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، فهذا الإجمال في هذه الآية يبينه التقييد الذي في الآية الأخرى، والصواب: أن أقل قدر وقف عليه الإعجاز هو سورة واحدة من مبدئها إلى خاتمتها، سواء كانت السورة طويلة، أو قصيرة.

    فإذاً هذا مناط الإعجاز ومحط الإعجاز، وليس بصواب ما ذكره بعض العلماء: أنه ممكن يكون بآية اعتماداً على الآية السابقة، فنقول: هذه الآية فيها إجمال أو إطلاق، وتقيده أو تبينه الآية الأخرى.

    1.   

    حد السورة وضابطها

    ثم قال:

    والسورة الطائفة المترجمة ثلاث آي لأقلها سمة

    يعني: السورة التي لها مبتدأ ومنتهى، ويعرف مبتدأها بالبسملة كما يعرف منتهاها بالبسملة أيضاً، بمعنى: أن آية البسملة وهي آية مستقلة على الصحيح نزلت في الفصل بين السور، وإذا أردنا أن نعرف التمايز بين السور، فإن البدء بالبسملة ثم قراءة السورة ثم البدء بالبسملة بعدها، يشير أن ما بين البسملتين هذا يكون سورة، هذا الذي كان يعرف به الصحابة الفصل بين السور.

    وفائدة هذا الموضوع: أنه وقع خلاف في موضعين لأربع سور هل متصلة أم منفصلة؟

    الموضع الأولى: سورة الأنفال مع براءة، ولذلك علة معروفة، ولذا وقع الإشكال عند ابن عباس لما سئل: عن سبب عدم وجود البسملة، وأنها لم لم تجعل سورة واحدة؟ الموضع الثاني: سورة لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، مع سورة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، بعض العلماء ذكر أن هما سورة واحدة، ولكن الدليل على أنهما ليستا سورة واحدة وجود البسملة بينهما، يعني: وجود سطر بسم الله بينهما، والصحابة كتبوا سطر بسم الله بينهما، فدل على أن هذه سورة وهذه سورة، ولكن وقع عند بعضهم أنها سورة واحدة.

    فإذاً معرفة الصحابة لكون هذه سورة أو ليست بسورة: هو بسم الله الرحمن الرحيم وجود هذه الآية المستقلة التي تفصل بين السور.

    إذاً السورة لها مبدأ ولها منتهى، يعرف مبتدأها بالبسملة ومنتهاها أيضاً بالبسملة للسورة التي تليها، والسورة التي تليها يعرف مبتدأها بالبسملة ومنتهاها كذلك بالبسملة، ولو لم يكن هناك بسملة فإنه لن يكون هناك معرفة للمنتهى إن عرف المبتدأ، مثلاً لو قلنا: سورة عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1]، ما الذي يدل على أن آخرها: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]؟ البسملة ثم بداية سورة مستقلة، ولو لم يكن هناك بسملة، فإنه لا يمكن أن تتمايز نهاية السورة مع بداية السورة التي تليها.

    قال: (ثلاث آي لأقلها سمة)، يعني: أقل سورة في عدد آياتها هو ثلاث آيات، يعني: ليس عندنا سورة من آية واحدة ولا سورة من آيتين، وإنما أقل العدد في الآيات هو ثلاث آيات، مثل: سورة الكوثر ثلاث آيات: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، وكذلك سورة العصر، مع أن فيها خلافاً عند علماء العد، لكن أيما كان المقصود أنه لا يوجد أقل من ثلاث آيات كما ذكر المؤلف.

    1.   

    حد الآية وضابطها

    ثم قال:

    والآية الطائفة المفصولة من كلمات منه والمفصولة

    كيف نعرف الآية، يعني: الآية طائفة مفصولها، يعني: جزء من السورة.

    تمييز الصحابة بين الآيات

    إذاً عندنا الآن السورة تتكون من آيات، لكن كيف كان الصحابة يميزون بين الآيات؟

    يعني: هل علم عد الآية من قبيل الاجتهاد أو قبيل النقل؟

    علم العد الأصل فيه: أنه متلقن بالنقل، وهناك سور وقع الإجماع على عدها معنى ومبنى، وهناك سور وقع الإجماع في عدها واختلف في مواضع العد منها، مثلاً سورة الفاتحة ست أو سبع آيات على حسب الخلاف الوارد، وقع عندهم الخلاف في الآية السابعة، فمن عد بسم الله الرحمن الرحيم آية لم يعد صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، آية، ومن لم يعد البسملة آية يعد: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] آية.

    فإذاً هم اتفقوا على أنها سبع، لكنهم اختلفوا في الآية السابعة هل هي هذه أو تلك؟ هذا نوع من أنواع الاختلاف في عد الآي.

    النوع الثالث: الاختلاف في العدد والمواطن، على سبيل المثال: سورة الملك ثلاثون آية، وفي بعض العد أنها واحد وثلاثين، فإذاً مثل وقع الخلاف فيه من الجهتين، من جهة العدد، ومن جهة الموضع، هذا تقريباً باختصار ما يتعلق بالخلاف في عد الآي.

    هذا الخلاف الوارد في عد الآي لا يمكن الانفكاك منه إلا بأن نقول: إن كل هذا الخلاف ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: تلقي من النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يقال: إن الأصل أن العد متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن وقع الاجتهاد في بعض المواطن، بعض علماء القراءة يشددون على القول الأول: أنه متلقىً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم رحمهم الله إذا جاءوا يعللون سبب الاختلاف وقع في كلامهم شيء من الاضطراب؛ لعدم التوائم بين هذا الخلاف الواضح جداً، وكونه منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لو قلنا: بأن عد الآي الأصل فيه النقل، وأنه قد وقع فيه الاجتهاد، فإنه لا يؤثر على علم العد وأصالته من جهة، وأيضاً لا يؤثر على نقل القرآن من جهة أخرى، بمعنى: أن الخلاف إنما هو في موطن رأس الآية.

    والدليل على وقوع الخلاف الشديد هذا، وأنه بالفعل بعضه دخله الاجتهاد، لو قلت لواحد: اقرأ آية الكرسي، فقال: اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، ثم سكت، قلت له: أكمل، قال: انتهت آية الكرسي، لماذا؟ لأن في بعض العد أن لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] رأس آية.

    لكن رأس الآية يخالف الأحاديث الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في آية الكرسي؟ فأنا عندي أن هذا الموطن قطعاً باجتهاد، وأن الذي اجتهد استخدم ما يسمى أيضاً في علم العد بالنظائر، المشاكلة، حيث إن عندنا آية: اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] في آل عمران، فجعل جزءاً من آية الكرسي نظيره ما في سورة آل عمران، فجعلها رأس آية اجتهاداً منه، كونه اجتهد في عد الآي، ليس هناك مشكلة لا علمية ولا عملية، بل نقول: هذا والله أراد منه اجتهاد، يعني: لما نأت نحرر الخلاف في عد آية الكرسي، وقع خلاف بين العلماء في عد آية الكرسي، العد المكي كذا، والعد المدني كذا، والعد الكوفي كذا، والصواب مع كذا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ويظهر أن من عد: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] آية، أنه اجتهد، وجعلها نظيراً لقوله سبحانه وتعالى: الم [آل عمران:1]، اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، في سورة آل عمران، وانتهت المشكلة، لا يقع إشكال.

    لكن بعض علماء القراءة يشدد في هذه المسألة، ولو لم نقل بهذا الأسلوب العلمي فإنه يقع اضطراب في التعامل مع عد الآي، ومثله سورة تبارك، فنحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث: ( أن سورة ثلاثين آية شفعت لصاحبها )، وهي سورة تبارك، وقد ورد في بعض العد: أنها واحد وثلاثون آية، فنجزم قطعاً أنه وقع هنا اجتهاد من بعض العلماء في عد آية من الآيات؛ لأن علم العد يعود إلى علماء، وهؤلاء العلماء اعتمدوا على من قبلهم، فقد يكون لم يكن عندهم نص في هذه أو أشكل عليهم، فجعلوها رأس آية.

    وبعضهم يقول: إن هذا على أسلوب العرب في جبر الكسر، يعني: ثلاثين، وواحد ثلاثين متقاربة، فلما قال: (ثلاثين آية)، فكأنها أيضاً واحد وثلاثون، وهذا يصح لو ثبت العد في جميع العد أنها واحد وثلاثون، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سورة ثلاثين آية شفعت لصاحبها)، لحملناها على هذا المذهب من مذاهب العرب، لكن لما ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثين آية)، فدل على أن من قال: (واحد وثلاثين) أنه وقع عنده اجتهاد، فخالف العد النبوي المعروف.

    ونحن هنا لو قلنا بهذا، فإنه لا يقع إشكال في أن نقول: إن بعض العد وقع فيه الاجتهاد، ولكن الأصل في العد أنه متلقىً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما الاختلاف في العد كما نعلم يقيناً لا يؤثر لا من قريب ولا من بعيد، لا على نقل القرآن من جهة، ولا على تفسير القرآن من جهة، ولا على أي شيء يتعلق بالقرآن، فقط آثاره العلمية في مواطن يمكن تعطينا فوائد علمية كثيرة، لعلي أذكر منها مثلاً لما نقول: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] رأس آية يكون الوقف عنده سنة وليس بسنة؟ لكن من لا يجعلها رأس آية، يكون الوقف عنده الآن وقف على رأس آية سنة أو ليس بسنة؟ ليس بسنة، يعني: هذا وجه من أوجه الخلاف التي ستقع بين العادين، وهناك طبعاً فوائد أخرى في علم العد ليست موضوعنا، ولكن أحببت أن أشير إلى هذه القضية.

    وما ذكرته من كون وقوع الاجتهاد في عد الآي، ستجدون من يعترض على هذا اعتراضاً شديداً، ويدعي أن هذا كله متلقىً من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القول بكونه دخل الاجتهاد أنه يؤثر، وفي الحقيقة ليس هناك أي أثر علمي، وهذا يرجع إلى النظر العقلي، ويمكن لكل واحد منا أن يرجع إلى هذا وينظر، هل القول بالاجتهاد يؤثر على علم القرآن، أو يؤثر على كون هذه الآيات الأصل فيها: أنها متلقاة من الرسول صلى الله عليه وسلم ووقع بها الاجتهاد؟ ولن يكون هناك في نظري أي إشكال علمي مرتبط بهذه الآيات، وما ذكره العلماء فهو متلقى بالقبول عموماً، ويؤخذ ويعالج ويناقش بالطرق العلمية، وهناك فوائد مترتبة عليه كثيرة يمكن أن نستفيدها، وهذا كله ثابت، وليس فيه إشكال، يعني: من جهة الفوائد المترتبة، فلا يكون عندنا أي إشكال في كوننا نقول بوقوع الاجتهاد.

    نقف عند هذا، وإن شاء الله نكمل ما بقي من هذه المقدمة لاحقاً. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756005746