إسلام ويب

مقدمة في أصول التفسير [3]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلفت آراء العلماء في تحرير مصطلح التفسير، والصواب فيه أنه البيان والكشف والإيضاح لمعنى الآية، ويشترط في المفسر العلم بكل ما يتعلق بالبيان ويؤثر فيه من البلاغة وعلوم القرآن كأسباب النزول والمكي والمدني ونحو ذلك مما يتعلق بتوضيح المعنى وتقويته مع الاهتمام بمعرفة عبارات السلف ودلالاتها في بيان الألفاظ.

    1.   

    تحرير مصطلح التفسير

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:

    قال أيضاً شارحاً لعبارة أخرى: (وقولنا: وأحكامها الإفرادية والتركيبية هذا يشمل علم التصريف, وعلم الإعراب, وعلم البيان, وعلم البديع)، فهذه أربعة علوم ذكرها, وإن كان علم البيان وعلم البديع في النهاية هو علم البلاغة.

    أيضاً نلاحظ أن المفسر يحتاج إلى علم التصريف، ويحتاج إلى علم الإعراب, هو قد يحتاج إلى هذه لكن في جزء يسير, ولو تأملتها بدقة لوجدت أنها ليست من صلب العلوم التي يلزم المفسر معرفتها.

    اشتراط علم المفسر بالبلاغة

    ثم نأتي إلى علم البيان وعلم البديع, اللذين هما عبارة عن علم البلاغة, وأشهر مفسر اشتهر بهذا المنهج الذي هو التفسير البلاغي أو الاتجاه البلاغي هو الزمخشري.

    وسأذكر نصاً له في هذا المجال, ويمكن الرجوع إليه في مقدمة التفسير, يقول رحمه الله: (ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق في سلكها علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم, كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن, فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام, والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام, وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ, والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ, والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه , واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق, ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعاني, وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونةً, وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مضانهما همة في معرفة لطائف حجة الله, وحرص على استيضاح معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ جامعاً بين أمرين: تحقيق, وحفظ..) إلى آخر كلامه رحمه الله، ونلاحظ أنها مقدمةً أدبية قوية؛ ولهذا بعض العلماء اقتصر على شرح مقدمة الكشاف فقط، فنفهم من هذا الكلام الذي قدم به الزمخشري تفسيره أن علم البيان وعلم البديع يحتاجهما المفسر، وأن المفسر يحتاج لعلم البلاغة.

    توجيه كلام الزمخشري في اشتراط علم المفسر بالبلاغة

    فهل بالفعل المفسر يحتاج لعلم البلاغة وهل هذا شرط للمفسر؟

    قد يقول قائل: إنه ما دام عندنا حد واضح لتعريف التفسير وهو البيان، فننظر في هذا العلم فإن كان معرفته أو معرفة شيء منه تؤثر في البيان فإنها تعتبر من علم التفسير, وإن كانت لا تؤثر في البيان فليست من علم التفسير.

    نضرب للشرط الذي ذكره الزمخشري مثالاً وهو: تفسير الشيخ السعدي وهو تفسير معتبر ولا يختلف في ذلك اثنان، ومع ذلك لا نجد علم البلاغة ظاهراً في هذا الكتاب فعلى هذا الشرط لا يكون عند الزمخشري تفسيراً.

    فالشرط الذي ذكره الزمخشري ليس شرطاً للمفسر في حقيقته؛ ولهذا هو في كلامه يشير إلى قضية أخرى, والإشكالية الواردة هنا أن مفهوم التفسير يحتاج إلى تحديد, لكي نعرف ما هي العلوم التي يحتاجها المفسر.

    فالمفسر في الأصل لا يحتاج إلى علم البلاغة، وكذلك الفقيه من أبعد الناس عن البلاغة فلا يحتاجها.

    فهو أشار إلى أن الذي يريد أن يبين إعجاز القرآن هو الذي يحتاج إلى علم البلاغة، فقال: (وحرص على اتضاح معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلو دققنا وتأملنا فسنجد أن الذي يحتاج علم البلاغة ويتأكد عليه أكثر من غيره هو من يريد أن يبين الإعجاز الذي في القرآن.

    وليس معنى هذا أن تفسير القرآن يخلو من علم البلاغة ولكننا في سياق تحرير مصطلح التفسير.

    تعريف الكافيجي للتفسير

    ونأتي إلى تعريف آخر لـلكافيجي، فله كتاب اسمه التيسير في قواعد التفسير، وهو مطبوع يقول فيه: (وأما التفسير في العرف فهو كشف معاني القرآن وبيان المراد) ثم قال: (والمراد من معاني القرآن أعم سواءً كانت معان لغوية أو شرعية, وسواءً كان كل بوضع، أو بمعونة المقام وسوق الكلام وبقرائن الأحوال, نحو السماء والأرض، والجنة, والنار.. وغير ذلك, ونحو الأحكام الخمسة, ونحو خواص التركيب اللازمة له بوجه من الوجوه).

    ومقصوده بالأحكام الخمسة أي التكليفية التي هي: الواجب, والمندوب, والمباح, والحرام, وهذه معروفة والسؤال الذي يرد هنا: هل يحتاج المفسر إلى معرفة هذه الأشياء؟ أي هل من مهمته أن يعرف هذه القضية التي هي علم أصول الفقه, أو لا؟ في الحقيقة ليست من مهمة المفسر, بل هذه من مهمة الفقيه أو الأصولي, فالأصولي أو الفقيه هو الذي يحتاج إلى معرفة هذه الأشياء.

    فإذاً نلاحظ أن هذه ثلاثة أمثلة من تعريفات التفسير: مثال أبي حيان ، و الزمخشري لما أشار بالذات إلى علم البلاغة, وكذلك تعريف الكافيجي وغيرهم.

    فلو تأملنا التعاريف المذكورة في التفسير فسنجد أن هذه التعاريف أغلبها إن لم يكن كلها نص على البيان أو الكشف أو الإيضاح أو الشرح.

    ثم بعد ذلك نجد أن بعضهم يذكر بعض العلوم الموجودة في كتب التفسير, وليس هذا مجال استعراض للتعريفات الأخرى، وإلا لو مررنا على التعريفات فسنجد أمثلة كثيرة جداً, كتعريف بعضهم: أن التفسير هو معرفة مكي الآيات ومدنيها, ومحكمها ومتشابها, وناسخها ومنسوخها.. إلى آخره, ويذكر أمثلة لبعض علوم القرآن.

    ولهذا نلاحظ مثلاً أن أبا حيان قال في النهاية: (وتتمات ذلك) إشارة إلى دخول أشياء كثيرة جداً مما لم يذكر, مما هو موجود في كتب التفسير.

    كل الكلام هذا؛ لكي يتبين في النهاية لنا أنه بالفعل نتفق جميعاً على أن المراد بالتفسير هو بيان القرآن, وأن الحد والضابط الذي نجعله لمعلومات الكتب التفسيرية هو حد البيان.

    1.   

    معلومات التفسير

    ونأخذ الآن فكرة عن معلومات التفسير، وعندنا في هذا الموضوع قسمان:

    القسم الأول: معلومات التفسير بين السلف والمتأخرين.

    والقسم الثاني: المعلومات الموجودة في كتب وتفاسير المتأخرين. ‏

    سمات تفسير السلف

    ولو رجعنا إلى كتب التفسير عند السلف, والروايات الواردة عند السلف، ونظرنا إليها نظرة سريعة جداً؛ وذكرنا بعض الأشياء الموجودة عندهم, فعندهم ما يسمى بغريب القرآن لبيان ألفاظ القرآن، فهذا في تفسيرهم, لو كان للفظة أكثر من معنى في لغتهم قد يرد عندهم الاختلاف في بيانه وذلك مثل (القرء) أو مثل (عسعس) أو غيرها من المعاني اللغوية, القصد أنه: ورد أكثر من معنى عنهم, والمرجع في هذا اللغة.

    وكذا بيان المعنى العام المحتمل؛ لأنه أحياناً يكون المعنى مرتبطاً باللفظة وأحياناً يكون أعم من ذلك أي بيان المعنى العام المحتمل للآية, وهذا وارد عند السلف ومثاله في قوله سبحانه وتعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19] فعلى قراءة فتح الباء: (لتركبَن), قيل: (لتركَبن يا محمد) وقيل: (لتركُبن السماء)، فالمعنى يختلف، فهذا معنى وهذا معنى, لكن نلاحظ أن البيان لمعنى الآية ليس مرتبطاً بدلالة لفظية؛ لأنه مرتبط بمن هو المخاطب, فاختلافهم فيمن هو المخاطب، أورث الاختلاف في المعنى.

    إذاً أحياناً يتبين المعنى بالدلالة اللفظية مثل أن نعرف أن (عسعس) بمعنى: (أقبل) عندهم, و(الليل إذا أقبل) وآخرون قالوا: (عسعس): بمعنى: أدبر, و(والليل إذا أدبر) فيتبين المعنى ببيان اللفظة, لكن عندنا في مثل: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19] ليست مرتبطة بقضية اللغة, بل مرتبطة بمن هو المخاطب؛ فهذه قضية أخرى ليست من جهة اللغة, وهي كما ذكرت من جهة المعنى العام فاختلف في معناها, فيرد عندهم مثل هذا أيضاً الذي هو ذكر الاحتمالات أو الوجوه في التفسير.

    وعندنا أيضاً بيان سبب النزول الصريح, وهذا يرد عندهم, وكذلك يرد عندهم غيره، وسيأتي ذكر شيء منه إن شاء الله.

    كذلك بيان من نزل فيه الخطاب, فهذا وارد عندهم, وكذلك بيان قصص الآي, مثلما أخذنا في قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ[التوبة:37], وهذا وارد عن ابن عباس كما في القصة التي سبق ذكرها, وكذا بيان المكي والمدني فيقول: هذه مكية وهذه مدنية، وأيضاً بيان الناسخ والمنسوخ بإطلاقه العام عند السلف, وسيأتي ذكر شيء منه؛ لأن النسخ عند السلف أعم من النسخ عند الأصوليين, فالنسخ عند السلف يشمل أي رفع في معنى الآية أو حكمها, سواء كان في المعنى أو في الحكم, فما دام فيه رفع لجزء من المعنى أو لشيء من الحكم فيعتبر عندهم نسخ, فيدخل فيه العام المخصص, والمطلق المقيد, والمجمل المبين, وغيرها مما يعتريه النسخ في الألفاظ.

    وأيضاً تفسير القراءات الواردة، ويلاحظ هنا ما يرتبط بالمعنى منها, يعني: لا تجد عند السلف كيف تقرأ كذا, لكن تجد عندهم معنى القراءة, كما ذكرت المثال الذي سبق، وهو قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ[الكهف:42], (وأحيط بثُمُره) فيفسرها مجاهد على قراءة أهل مكة, وأن المراد بها المال والذهب والفضة، هذه تقريباً جملة المعلومات الواردة في تفاسير السلف.

    بعض العلوم التي زادها المتأخرون على تفسير السلف

    وعندما تقرأ في تفسيرهم وتتأمل؛ سيظهر لك أن أغلب التفاسير والكثرة الكاثرة من تفسيراتهم مرتبطة بالحد الذي ذكرته سابقاً، وهو بيان المعنى, وهذا يعزز أن المراد بالتفسير: بيان المعنى، وستجد أيضاً أن هناك زيادة زادها المتأخرون ليست موجودة في تفسير السلف, مثل إعراب القرآن, حيث لا تجد هذا في تفاسير السلف، وكذا التوسع في مسائل لغوية لا علاقة لها ببيان القرآن, كالاشتقاق والتصريف وغيره, هذا أيضاً ليس وارداً عند السلف.

    وكذلك التفصيل في وجوه الأداء في القراءات ليس وارداً في تفسير السلف, والتفصيل في الاختلاف في أحكام القرآن, والاستطراد في استنباطات أخرى، أو في الموضوع الذي تحدث عنه القرآن -يعني: الحكم الشرعي الذي تحدث عنه القرآن- هذا لم يكن وارداً عند السلف وهو موجود في كتب بعض المتأخرين.

    أيضاً البيان وبلاغة القرآن وإعجازه والتنبيه على اختيار الألفاظ وأن هذه اللفظة اختيرت في هذا المكان لقصد كذا, فهذا غير موجود أيضاً في تفسير السلف.

    ومنه بيان وجوه الاستدلال على مسائل الاعتقاد أو الفقه أيضاً لم يكن موجوداً في تفسير السلف, وهو موجود عند المتأخرين.

    وكذلك كثرة الاستنباط في الآداب والمعاملات وغيرها أيضاً موجود في تفسير المتأخرين.

    ثم إدخال كثير من العلوم التي حدثت بعد جيل السلف ودبغت مسائلها ستجدها أيضاً في كتب التفسير التي جاءت بعد جيل أتباع التابعين, وقد عرفنا أن السلف المراد بهم: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين.

    فمن نظر نظرة سريعة استطاع أن يميز بين المسائل التي هي موجودة عند السلف, وكل ما هو موجود عن السلف في النهاية هو موجود عند المتأخرين, لكن أيضاً ماذا زاد المتأخرون عليهم بعد ذلك؟ هذه الأشياء التي ذكرت سابقاً, وقد يظهر له غيرها أكثر من هذا؛ لأن المقصود ذكر أمثلة وأن هناك زيادات زيدت في التفسير.

    اختلاف مناهج المفسرين

    ولهذا عندما نأتي إلى كتب التفسير سنجد كتاب فلان ابن فلان عشرين مجلداً, وكتاب بعضهم كـمجاهد مثلاً تجده ما يتعدى مجلدين, ومع هذا نسميه تفسيراً وذاك نسميه تفسيراً.

    ومعنى ذلك أن هناك فرقاً بين مناهج هؤلاء المفسرين, فتستطيع بعد ذلك أن تميز وتعرف ما الشيء الذي جعل هذا يزيد عن ذاك, ولو جمعت كل مرويات السلف في كتاب مستقل لوجدتها أقل بكثير من كتاب فلان أو فلان ممن يكون كتابه في مجلدات ضخمة.

    علاقة المعلومات الزائدة على بيان المعنى بالتفسير

    وننظر الآن نظراً آخر يرتبط بقضية: البيان وعدمه, في المعلومات الموجودة في كتب المتأخرين, ونضع حد البيان في أذهاننا لننظر:

    أول قضية سنجدها لا شك أنها تفسر القرآن المباشر, التي فيها حد البيان, فمثلاً: عند قوله تعالى: وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ[التكوير:2], يقال: انكدرت بمعنى: انصبت؛ فإذاً الانكدار بمعنى: الانصباب, وهو أحد معاني اللفظة في اللغة, وهو أحد وجوه التفسير.

    فلفظة انكدرت بمعنى: انصبت بيان مباشر فيكون المعنى: وإذا النجوم انصبت وتساقطت وتناثرت, فهذا معنى الآية على هذا الوجه اللغوي, نعتبره بياناً مباشراً.

    ثم بعد البيان تأتي معلومات أخرى -وهي النوع الثاني- تفيد في تقوية بيان المعنى, فعندما أقول لك مثلاً: الوجه الثاني في قوله: وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ[التكوير:2], من الكدرة بمعنى: تغيرت وذهب نورها, هذا الوجه الثاني مثل ما قال سبحانه وتعالى في آية أخرى في نفس المعنى فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ[المرسلات:8], فهو نفس هذا الوجه, وفي الآية الأخرى قال: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ[الانفطار:2], فهذه تشهد لذاك المعنى, وهذه تشهد لهذا المعنى, فكل واحد من هذين المعنيين له ما يشهد له من القرآن.

    أما الكدرة بمعنى: التغير, ومنه قولهم: تكدر الماء إذا تغير.. إلى آخره، وهذه التحليلات حول لفظ الكدرة، نلاحظ أنها مقوية للمعنى؛ لأنه عندما أقول لك: وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ[التكوير:2] أي: تغيرت, فيتبين المعنى, فإذا أردت أن أقوي لك هذا المعنى فأبين لك من أين جاء التغير، وهو دلالات اللفظة على هذا الأسلوب؛ فيكون هذا من باب تقوية المعنى.

    مثلاً: في قوله سبحانه وتعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر:99], تجد إجماعاً من السلف: أن اليقين بمعنى: الموت, فلا يوجد إشكال في هذا, ويورد الطبري رحمه الله تعالى روايات السلف في هذا, ثم يأتي بعد ما يورد روايات السلف فيذكر لنا حديثاً نبوياً في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه, فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان فأتاه اليقين من ربه), فإيراد هذا الحديث تقوية للمعنى مع أن المعنى قد بان.

    مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ[عبس:15-16], فالكرام البررة والسفرة قيل: هم القراء، فيكون المراد بهم القراء البشر, وقيل: هم الملائكة, والراجح أنهم الملائكة بدلالة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة), فهذا الحديث قوى المعنى؛ فنلاحظ أن تقوية المعنى أحياناً فيه شبه بالبيان لكنه في حقيقته مقوياً للمعنى، وتقوية المعنى نحتاجها أحياناً في الترجيح,, وهذه معلومات قريبة من علم التفسير, وهي أيضاً مفيدة للمفسر, لكنها تأتي بعد البيان, والضابط فيها أن يكون المعنى قد بان واتضح لكن هذه المعلومات تزيد هذا المعنى الذي قيل وضوحاً وقوةً.

    علاقة الاستنباطات العامة من الآية بالتفسير

    ثالثاً: الاستنباطات العامة، سواء كانت استنباطات في الأدب أو الفقه أو غيره, فهذه لا تدخل في علم التفسير؛ لأن الاستنباط خارج عن حد البيان, فأي استنباط إذا تأملته فهو نوعان: إما أن يكون ظاهراً من النص لا يحتاج إلى تفسير, أو أن يكون بعد تفسير, وسيأتي إن شاء الله تفصيله وأمثلته.

    ونأخذ مثالاً سريعاً في قضية الاستنباط: في قوله سبحانه وتعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[المسد:4], فـالشافعي يستدل بهذه الآية على صحة أنكحة الكفار وأن عقود الكفار في الأنكحة صحيحة؛ بدلالة أن الله سبحانه وتعالى نسب المرأة إلى زوجها, فلو لم يكن زواجها زواجاً صحيحاً؛ لما صحت النسبة, فما دام نسبها إليه صارت امرأته والنكاح صحيح.

    فهذا الاستنباط ليس له علاقة بعلم التفسير، وإذا تأملنا نجد أنه خارج عن حد التفسير, وكما ذكرت فكلامنا عن تحرير المصطلح, فالاستنباطات في حقيقتها خارجة عن حد البيان, وسيأتي إن شاء الله تفصيلها لاحقاً.

    اللطائف والملح التفسيرية

    رابعاً: عندنا أيضاً اللطائف والملح التفسيرية, وهي نكت من جملة من العلوم, وخاصة ما يتعلق بالألفاظ, وهذه كثيراً ما تطرب إليها النفوس وتعجب بها, مثل قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ[الجمعة:2], يأتي المفسر ويحلل لفظة (بعث) في قوله: (بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ) ويقول: البعث يدل على موت قبله, وقد كانوا موتى بجهالاتهم وضلالهم وجاهليتهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعثه بالحياة لهم, فهذا التحليل وهذه النكت واللطائف كلها خارجة عند حد التفسير؛ لأن المعنى بعث في الأميين أي: أرسل إلى الأميين، الذين هم قريش أو العرب رسولاً من أنفسهم يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى فهذا هو المعنى, وما بعد ذلك من هذه التحليلات فهو في حقيقته خارج عن حد التفسير.

    خامساً: كذلك نجد معلومات علمية تتعلق بعلوم القرآن, وهذه أيضاً تشكل بسبب اشتراك التفسير مع هذه العلوم بأن الموضوع الذي تدرسه واحد, فالتفسير تفسير القرآن وهذه علوم القرآن, وسنأتي إلى أن علم التفسير جزء من علوم القرآن؛ لكن لأنها تشترك في هذا الشيء وهو كلام الله سبحانه وتعالى قد يلتبس أحياناً علينا هل هي من البيان أو ليست من البيان, وأذكر في هذا نصاً نلاحظ فيه أن أغلب هذه المعلومات لا تدخل في البيان.

    يقول ابن عطية رحمه الله تعالى, وهو يفسر سورة البقرة, فبدأ الكلام عن سورة البقرة وقال: (هذه السورة مدنية..) هذه معلومة الآن، (نزلت في مدد شتى, وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[البقرة:281], ويقال في سورة البقرة (فسطاط القرآن) لعظمها وبهائها, وما تضمنته من الأحكام والمواعظ, وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام, وفيها خمسمائة حكم وخمسة عشر مثلاً)، فهذه جملة من المعلومات المتوالية عن سورة البقرة, وليس في هذه المعلومات معلومة واحدة تفيد البيان, بمعنى: أنه لو جهلها المفسر لأخطأ المعنى، فإن عدم معرفتي أن ابن عمر حفظها في ثمان سنوات لا يؤثر هذا في المعنى، وكذا إذا لم أعرف أنها تسمى (فسطاط القرآن) أو حتى ما أعرف عدد الآي فهذا لا يؤثر في التفسير، فنلاحظ أن هناك جملة من علوم القرآن يذكرها المفسرون وليست داخلة في البيان.

    المعلومات العامة وارتباطها بالتفسير

    سادساً: معلومات علمية عامة من شتى المعارف الإسلامية أو غير الإسلامية؛ لأنه وجد أن بعض المفسرين مع الأسف! خاصة المتأخرين، أدخلوا قضايا كثيرة في علم التفسير مثل: بعض قضايا علم المنطق أو بعض قضايا الفلسفة أو بعض قضايا الكلام, التي لا علاقة لها أصلاً بالعلوم الإسلامية.

    طبعاً العلوم الإسلامية مثل علم النحو أو علم البلاغة أو غيرها مثل الذي ذكرنا أمثلته, فهذه الأصل فيها أنه ليس لها علاقة بعلم التفسير بناءً على الضابط الذي ذكرته.

    1.   

    أنواع التفسير

    وبعد أن تبين ذلك نبدأ بمسألة مهمة تتعلق بالتفسير وهي:

    أنواع التفسير: عندما نأتي إلى تقسيم التفسير طبعاً سنجد كتب علوم القرآن المعاصرة تذكر لنا: أن التفسير ينقسم إلى: تفسير بالرواية, وتفسير بالدراية, أو التفسير بالمأثور, والتفسير بالرأي.. إلى آخره من هذه المصطلحات الموجودة.

    ونحن نحتاج هنا إلى تأمل؛ لكي نذكر تقسيماً لا يدخله إشكال, ولكي نتبين ما يقوم به المفسر من السلف.

    وكيفية التعامل مع الخلاف, وهذا من باب الاجتهاد، وأصول التفسير هي: الأصول والقواعد الأساسية التي لا بد من معرفتها لبيان معاني القرآن.

    لكن عندما أقول: أصول التفسير هي: الأصول الأساسية، هم يتحاشون ذكر اللفظ المعرف في التعريف, وهذه قضايا ما ندخل فيها في التعريفات, لكن كما ذكرت أن التعريف بالمثال أوضح بكثير من قضية الحد المطابق؛ ولهذا عندما تعرف علوم القرآن ما تستطيع أن تعرف علوم القرآن بالماهية نفسها, وانظر إلى أي تعريف لعلوم القرآن فإنه لا يمكن أن يخلو من التمثيل.

    فمسألة التعريف سهلة؛ لأنه إذا عرف المعرف ما احتاج أصلاً إلى تعريف، وإنما يعرف من باب زيادة الفائدة.

    الفرق بين أصول التفسير وعلوم القرآن

    فهناك فرق بين مادة أصول التفسير ومادة علوم القرآن، فعندما نلاحظ الأصول المنسوبة إلى التفسير، فأصول التفسير هي: المبادئ الأولية التي يتعلمها من يريد أن يدرس التفسير, فقبل الدخول في التفسير لا بد أن يدرس في الأصول, أما التفسير نفسه فهو جزء من علوم القرآن؛ لأن علوم القرآن عندنا مثل علم القراءة، وعلم عد الآي، وعلم الناسخ والمنسوخ إلى آخره, وعندنا علم اسمه علم التفسير.

    فنجد أن التفسير كعلم هو جزء من علوم القرآن, فقطعاً أصول التفسير ستكون جزءاً من علوم القرآن.

    إذاً هناك فرق بين أصول التفسير وعلوم القرآن؛ فعلوم القرآن أعم من أصول التفسير, فتكون أصول التفسير جزءاً من علوم القرآن.

    الملاحظ: أنه صار لدينا لبس في قضية المصطلح، والمصطلحات فيها نوع من التسامح؛ لكن نحن نحاول أن نحرر المصطلحات.

    كيفية التفريق بين كون المعلومة من علوم القرآن أو من التفسير

    فإذا قيل: كيف استطيع أن أفرق في المعلومة التي تأتيني, هل هي من علوم القرآن أو من علوم التفسير؟

    فالجواب أن التفريق بالبيان, بناءً على ما سبق في البيان، فالمعلومة التي لها أثر في بيان القرآن تكون من أصول التفسير, والمقصود بكلمة أصول أنك تقعد قاعدة, ليست قضية مثال, فلا تقول مثلاً: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[المسد:1], قال ابن عباس : كذا, فهذه ما نعدها من أصول التفسير, هذا مثال داخل علم التفسير, لكن الأصول, كأن تقول: إن قول ابن عباس هو القول الأولى، إذا وقع الخلاف مثلاً, هذه قضية تأصيلية هذا المراد.

    وعندما نقول: إنها تزيد في البيان ليس المراد الأمثلة الجزئية, إنما المراد الأصول نفسها, التي تكون أشبه ما تكون بقاعدة لها فروع كثيرة.

    فبعض الكتب معنونة باسم أصول التفسير, وعندما تكشف عن فهرسها وغيره، تجد أن بعضها علوم قرآن بحتة, ليس فيها شيء من علم أصول التفسير, وبعضها فيها أصول في التفسير وكذلك علوم القرآن, وسنأتي إن شاء الله لذكر بعض هذه الكتب.

    الآن صرنا مرتبطين بقضية إفادة المعلومة للمفسر, لاحظ علوم القرآن من حيث إفادتها, نناقش علوم القرآن لكي نخرج منها ما يتعلق بأصول التفسير من حيث إفادة المفسر على قسمين: بعض العلوم من علوم القرآن لا تفيد المفسر ألبتة, أي: ليس لها أثر في البيان, مثل: عد الآي كما سبق أن ذكرت ذلك، وفي هذا كتاب كبير لـأبي عمر الداني اسمه (عد الآي) لو جهله المفسر فلا يؤثر هذا في تفسيره في البيان، ومعرفته ليست داخلة في أصول التفسير.

    تفاوت حاجة المفسر لعلوم القرآن

    وعندنا علوم لها علاقة بالتفسير, ويمكن أن يستفاد منها في أصول التفسير, لكن تختلف قضية الاستفادة من هذه العلوم من علم إلى علم؛ فقد يكون علم يستفاد منه أكثر من علم آخر، ونأخذ مثالاً في ذلك:

    لو جئنا إلى علم القراءات ما الذي يحتاجه المفسر من علم القراءات؟ يحتاج ما يرتبط بالتفسير وهو علم توجيه المعنى, وهنا قاعدة وهي أنه لا بد للمفسر من معرفة معاني القراءات التي تختلف بسبب المعنى.

    فمثلاً: علم المكي والمدني, هل معرفة المكي والمدني والتفاصيل والتفاريع التي فيها كلها تلزم المفسر، أو أنه يكتفي بشيء واحد؟ فمثلاً: عندما تريد أن تقعد قاعدة أصولية في علم المكي والمدني مرتبطة بأصول التفسير, هل تأتي تشرح المكي والمدني كاملاً أو هناك فائدة أو جزئية معينة في علم المكي والمدني أضعها في أصول التفسير؟

    وهناك قضية يمكن أن نذكرها وهي تاريخ النزول, بمعنى: أنه لا يلزم أني أناقش المكي والمدني بعمومه؛ لكن أقول: إن تاريخ النزول له أثر في معرفة توجيه بعض الأقوال, أو بيان ضعف بعض الأقوال وقوة غيرها عليها.

    وهذا مثال تطبيقي لذلك: يقول ابن عطية في نفس الموضوع هذا: قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33], يقول: (هو ابتداء توصية لمحمد صلى الله عليه وسلم) الجملة هذه ابتدائية, ثم قال: (وهو لفظ يعم كل من دعا قديماً وحديثاً إلى الله تبارك وتعالى, وإلى طاعته من الأنبياء عليهم السلام ومن المؤمنين، والمعنى: لا أحد أحسن ممن هذه حاله, وإلى العموم ذهب الحسن و مقاتل وجماعة, وبين أن حالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت كذلك مبرزة) يعني: في جانب الدعوة إلى الله, ثم قال: (وإلى تخصيصه في الآية ذهب السدي و ابن زيد و ابن سيرين , وقال قيس بن أبي حازم و عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها و عكرمة : نزلت هذه الآية في المؤذنين, قال قيس : وَعَمِلَ صَالِحاً[فصلت:33], هو: الصلاة بين الأذان والإقامة, وذكر النقاش ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما) و النقاش طبعاً ذكره في تفسيره، وتفسيره معروف حاله يسمونه (شفاء الصدور)، وبعض العلماء يسميه (شقاء الصدور) لما فيه من النقولات المكذوبة الكثيرة.

    قال القاضي أبو محمد بن عطية : (ومعنى القول بأنها في المؤذنين أنهم داخلون فيها, وأما نزولها فمكية بلا خلاف, ولم يكن بمكة أذان وإنما ترتب بالمدينة, وإن الأذان لمن الدعاء إلى الله تعالى؛ لكنه جزء منه, والدعاء إلى الله تعالى بقوة كجهاد الكفار وردع الطغاة وكف الظلمة وغيره أعظم عناءً من تولي الأذان إذ لا مشقة فيه، والأصوب أن يعتقد أن الآية نزلت عامة) انتهى كلامه.

    فهذا التحرير تحرير قوي، وهو مرتبط بمعرفة قضية تاريخ النزول مثل قضية المكي والمدني, ويمكن أن نصوغ من الكلام قاعدة ترجيحية معينة، فنقول مثلاً: تاريخ النزول يعين في معرفة القول الصحيح، ولسنا هنا بحاجة إلى المناقشات الأخرى في قضية المكي والمدني.

    إذاً فعلم المكي والمدني يعتبر من علوم القرآن, لكن هذه الفائدة الجزئية تعتبر من أصول التفسير, وهي أيضاً لا شك أنها جزء من هذا العلم الذي هو من علوم القرآن.

    مثال آخر لـابن عطية , و تفسير ابن عطية من يقرأ فيه يلاحظ فيه جانب الاهتمام بعبارات السلف وتحرير هذه العبارات, مثل هذا النقل الذي ذكرته, وهذا نقل آخر أيضاً نلاحظ فيه التحرير؛ لأنه سماه المحرر الوجيز، وهو اسم منطبق على تفسيره فكان فيه بالفعل تحرير في التفسير.

    ففي قوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ[إبراهيم:28], يقول ابن عطية : (وقال ابن عباس : هذه الآية في جبلة بن الأيهم ) قال القاضي أبو محمد: (ولم يرد ابن عباس أنها فيه نزلت لأن نزول الآية قبل قصته, وإنما أراد أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة) فنلاحظ أن الآية هذه في سورة إبراهيم وسورة إبراهيم مكية, وقصة جبلة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد عمر بن الخطاب ، ولاحظ عبارة ابن عباس قال: هذه الآية في جبلة بن الأيهم , يعني: كأنه يقول: أنها نزلت في جبلة بن الأيهم , و ابن عطية نبهنا أن مراد ابن عباس أن جبلة يدخل في حكم هذه الآية, ثم ابن عطية يزيد فائدة: أنه من فعل فعل جبلة يدخل أيضاً في حكم هذه الآية إلى يوم القيامة؛ ولهذا لك أن تضرب هذه الآية مثلاً في فلان أو فلان أو فلان ممن كانوا سبباً في خراب ديار أهليهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ[إبراهيم:28], فهذا إذاً المثل يتعلق بعلم أسباب النزول، وكذلك يتعلق بعلم المكي والمدني، وبينهما أحياناً ترابط بين قضية أسباب النزول وعلم المكي والمدني.

    وهذا تنبيه في كيفية معرفة طريقة السلف في عباراتهم في التفسير، والإفادة من هذه الطريقة في أصول التفسير, بناءً على هذا التحرير الذي ذكره ابن عطية, ولو مر التفسير على أحد منا دون أن يرى مثل هذا التحرير، فسيقول: كيف نزلت في جبلة بن الأيهم ؟! هذا غلط! جبلة بن الأيهم جاء بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يمكن ذلك.

    والصواب أن كلام ابن عباس صواب لكن كيف نفهم تفسير ابن عباس وكيف نحمله؟ هذا جزء من أصول التفسير.

    وهنا يرد سؤال وهو: أليس الأولى أن ننظر إلى ثبوت القول قبل أن يوجه, ثم بعد ذلك يوجه؟ هذا كمنهج لأهل التفسير لا يوجد، وكيف لنا أن نبتدئ بمنهج سكتت عنه هذه القرون كلها.

    وهذه القضية تحتاج إلى نظر في عمل المفسرين وحتى عمل المحدثين الذين هم أيضاً مرجع في هذه القضايا، وكيف يتعاملون مع روايات التفسير, قضية طويلة تحتاج طبعاً إلى بحث آخر, لكن أردت أن أنبه: أن هناك قضية معينة, في بعض القضايا العلمية سار عليها العلماء ومضى عليها الزمن بهذا الشكل, وفجأة ينظر الواحد منا ويقول: هذا كله الذي مضى غير صحيح, فهذا يحتاج إلى تأمل ولا أريد أن أضرب أمثلة هنا؛ لأن أي مثال هو في الحقيقة حساس, فلو أقول: الكتاب الفلاني فعل كذا؛ فهذه قضية حساسة, لكن نريد أن نبين منهجاً ما هو منهج هؤلاء؟ وكيف تعاملوا مع هذه الروايات؟ هذا أولى, فمثلاً: ابن كثير وهو محدث ويعرف الروايات كيف تعامل مع هذه الروايات؟ هذا كمثال فقط, انظر كيف يتعامل معها، الثعلبي ما الذي وقع فيه؟

    فإذاً في بعض الروايات التي فيها كلام كبير جداً, قد يكون فيها كذاب أو وضاع.. إلى آخره, فهذه مشكلة، ومثله النقاش , فهم عابوا عليه مثل هذا, لكن مثل رواية علي بن أبي طلحة أليست متكلماً فيها؟ مع أنه النهاية فيها إلى التوثيق, عطية العوفي عن ابن عباس أليست سلسلة العوفيين يعدونها من سلسلة الضعفاء, وغيرها.. وغيرها؛ لكنها موجودة في تفسير الطبري , وأحياناً يعتمد المعنى الذي جاءت به هذه الرواية, وتحتاج كما قلت إلى نظر آخر.

    الفرق بين أصول التفسير وأصول الفقه

    هل أصول التفسير هي أصول الفقه؟ لماذا هذه القضية نذكرها هنا؟ الحقيقة أنك عندما تقرأ في بعض الكتب الجيدة بالفعل التي كتبت حول أصول التفسير أو بعض الكتب التي حاولت أن تذكر بعض القواعد التفسيرية تلاحظ أنها نحت منحىً أصولياً في أمثلتها أو في طريقتها في التعامل مع الفكرة التي تناقشها.

    فعندنا مثلاً كتاب للدكتور محسن عبد الحميد وهو كتاب جيد, لكن عنوانه يقول: دراسات في أصول تفسير القرآن، فعندما تسمع دراسات في أصول تفسير القرآن تعتبرها دراسات في أصول التفسير، لكن عندما تقرأ في الكتاب تجد أن جل المباحث التي يناقشها هي مباحث أصولية يعني: نجا بكتابه منحىً أصولياً, لا يختلف أبداً عما طرقته كتب الأصول في الأبواب التي ذكرها, حتى في القضايا العقلية الموجودة فيها؛ فهذا ليس من أصول التفسير, ولا يعتبر من أصول التفسير, هذه تحريرات في أصول الفقه لكنه ربطها بالقرآن, وإن كان كما ذكرت بعضها مباحث عقلية, ليس عليها أيضاً أمثلة قرآنية.

    فقواعد التفسير المفروض أن ترتبط بالتفسير, فعندما تأتي إلى الأمثلة التي تساق في هذه القضايا تجد أنها أمثلة أصولية مرتبطة بعلم الفقه فقط؛ لهذا أضرب مثالاً: عندما نريد أن ندرس العام أو العموم في التفسير, فعندما نرجع إلى الكتب نجد أغلب الكتب التي ناقشت العموم ناقشته نقاشاً فقهياً, ولا توجد فيها أمثلة تفسيرية بحتة, أعني: ليست مرتبطة بعلم الأحكام.

    فـابن عطية يقول: فلان نحا بها منحى العموم, وفلان نحا بها منحى الخصوص, هذا يدخل في العموم والخصوص.

    فهذه المسألة نأخذها من المثال مباشرة: ابن عطية رحمه الله تعالى لما جاء يناقش هذه القضية في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ[فصلت:33], يقول رحمه الله: (وإلى تخصيصه في الآية ذهب السدي و ابن زيد و ابن سيرين ..) إلى آخره, هؤلاء قالوا: إنها خاصة، وفي التحرير هل يعتبر هذا تخصيص أو تمثيل؟ فإذا حكمت بأنه مثال فلا يكون فيه تعارض بين من قال: إنها عامة وبين من قال بالمثال, وهذه من الأشياء التي لا تجدها في مبحث العام والخاص, عندما تناقش قضايا فقهية فهنا ممكن أن نضع ملحوظة على طريقة ابن عطية رحمه الله تعالى نقول: إن ابن عطية لو حمل قول السلف على التمثيل وهو خبير به, فلا يجهله؛ لما صار فيه أي إشكال، ولا فيه تعارض، فلا تعارض بين تعميم وتخصيص.

    لكن الذين قالوا بهذا المثال قالوا هذا يعتبر عندهم من الأمثلة المعروفة أو المشهورة أو الرفيعة، وأنهم يرون فيها أجراً خاصاً إلى آخره, أي أن: لهم سبباً في ذكر هذا المثال؛ فلا يكون هناك تعارض بين من عمم وبين من ذكر عبارة فيها نوع من التخصيص, لكن قل أن تجد من كتب في قضية العام والخاص ويناقش مثل هذا أو يذكر هذه الأمثلة.

    والمقصود من ذلك: أننا نتنبه إلى تطبيق قضايا أصول الفقه وإدخالها في أصول التفسير.

    وأستطرد فأقول: إنك عندما تقرأ في مناهج العلوم ستلاحظ أن كل علم له منهجه, وله طريقته في سلك المسائل، وأيضاً ستجد أن له مباحث تختص به, وإن اتفق المبحثان في علم، مثال ذلك:

    النسخ نجده في كتب أصول الفقه، وكذلك نجده في علوم القرآن، والذين كتبوا في علوم القرآن نقلوا عن الذين كتبوا في أصول الفقه، والمنهجية تختلف، فجاء الترتيب في علوم القرآن على نفس الترتيب المذكور في كتب أصول الفقه, يعني: نفس المسائل؛ فمن الأمثلة على ذلك:

    مسألة نسخ الأخبار وأنه لا يصح نسخها لكن عندما تدرسها من ناحية علوم القرآن ومن ناحية التفسير تجد أمثلة نص السلف فيها على بعض الأخبار وأنها منسوخة وأضرب في هذا مثالاً، في قوله سبحانه وتعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ[الشعراء:224], هذا خبر ومع ذلك يقول ابن عباس : نسخها قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[الشعراء:227], فالأخبار لا تنسخ، وهذا ابن عباس حبر الأمة يقول: نسخها كذا, فما هو الإشكال؟

    فإما أن يكون تقعيد المتأخرين غير صحيح, وإما أنه اختلف مفهوم النسخ، وتقعيد المتأخرين لا شك أنه صحيح, والأخبار لا تنسخ على المعنى الاصطلاحي عندهم, الذي هو رفع الحكم.. إلى آخره, لكن ليس مراد ابن عباس هنا النسخ الاصطلاحي الذي هو: رفع حكم شرعي بحكم شرعي متراخ عنه، بل مراد ابن عباس هنا: أنه رفع شيئاً من معنى الآية، الذي هو العموم في قوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ[الشعراء:224], فهذا العموم رفع بأن خصص منهم: الَّذِينَ آمَنُوا[الشعراء:227].

    إذاً صار النسخ اصطلاحياً, لكن عندما تقرأ علم الناسخ والمنسوخ في كتب علوم القرآن لا تجد هذه المعلومة مع أنها مهمة؛ لأنك دائماً تجدها في التفسير.

    فإذا طبقت مناهج بعض العلوم على بعض العلوم فيقع الخلل في مثل هذه الأمثلة, وقد ذكرت في تاريخ التفسير لما أشرت إشارة سريعة بعض الخلل -في الأمثلة- الذي وقع بسبب تطبيق منهج علم على علم.

    وبقي نقطة هنا نأخذها ونقف عليها:

    بعض كتب أصول التفسير

    الكتب التي كتبت في أصول التفسير أحياناً تنص على هذا المصطلح، الذي هو مصطلح أصول التفسير, وأحياناً تنص على مصطلح آخر غيرها, لكنها تعود إليه, مثل قواعد التفسير أو مبادئ التفسير, فالنظر الآن هنا إلى الكتب التي لها مساس بقواعد التفسير أو أصول التفسير, بعنوانها كذا أو كذا.

    فعندنا أول كتاب يذكر -والترتيب هذا حسب الوفيات- كتاب (الإكسير في قواعد علم التفسير) وهو مطبوع، والمحقق عفا الله عنه تصرف في العنوان, فجعله (الإكسير في علم التفسير) ما أدري! إن كان سقط سهواً أم ماذا؟ لأن المؤلف نفسه نص عليه, كما سنقرأ كلامه بعد قليل, وهو لـ سليمان بن عبد القوي الحنبلي المعروف بـالطوفي , وصاحب الكتاب في قضية المصلحة والولاء التي في الأصول.

    يقول عن سبب تأليفه لهذا الكتاب: (فإنه لم يزل تلجلج في صدري إشكال علم التفسير, وما أطبق عليه أصحاب التفاسير، ولم أر أحداً منهم كشفه فيما ألفه, ولا نحاه فيما نحاه فتقاضتني النفس الطالبة للتحقيق، الناكبة عن جنب الطريق لوضع قانون يعول عليه, ويصار في هذا الفن إليه, فوضعت لذلك صدر هذا الكتاب..) لاحظ الآن القانون الذي يعول عليه في صدر الكتاب فقط، (مردفاً له بقواعد نافعة في علم الكتاب, وسميته (الإكسير في قواعد علم التفسير)، فمن ألف على هذا الوضع تفسيراً صار في هذا العلم أولاً وإن كان أخيراً, ولم أضع هذا القانون لمن يجمد عند الأقوال، ويصمد لكل من أطلق لسانه وقال, بل وضعته لمن لا يغتر بالمحال، وعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال, وجعلته بحسب هذا على مقدمة وأقسام)، ثم ذكر المقدمة في بيان التفسير والتأويل في صفحتين.

    والقصد أني أنقل لكي تعرفوا أن أغلب ما في الكتاب ليس من أصول التفسير.

    ثم القسم الأول: سبب احتياج بعض قراء القرآن للتفسير والتأويل, هذا من صفحة ثلاث إلى صفحة ثلاث عشرة.

    والقسم الثاني: في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها وينبغي للمفسر النظر فيها من صفحة سبع عشرة إلى ثمان وعشرين.

    ثم القسم الثالث: في علم المعاني والبيان؛ لكونهما من أنفس علوم القرآن من صفحة تسع وعشرين إلى مائتين وثلاث وثلاثين, يعني: جل الكتاب صار في علم البلاغة.

    ولا أدري لماذا لم يعرج على الزمخشري! لكنه وضع كما يبدو أكثر من فنون الزمخشري التي وضعها.

    المقصود: أنه صار في النهاية علم بلاغة, مع أنه سماه (الإكسير في قواعد علم التفسير) وقال: إنه من ألف على أسلوبه هذا يكون قد سبق الناس وإن كان آخرهم.

    وعندنا الكتاب الثاني -الترتيب حسب الوفيات- رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية المعنونة بـ (مقدمة في أصول التفسير)، وهذا العنوان من باب الفائدة ليس من صنع شيخ الإسلام، بل هي من صنع قاضي الحنابلة بدمشق محمد بن جميل الشطي , وطبع الكتاب عام ألف وثلاثمائة وخمسة وخمسين, ووضع عليها العنوان ومن جاء بعده اتبعه في هذا.

    شيخ الإسلام يقول في هذه المقدمة: (فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن, ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقوله ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل, والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل..) إلى آخر كلامه، وطبعاً هذه الرسالة جلها في أصول التفسير, وكل من جاء بعد ابن تيمية رحمه الله تعالى وكتب في هذا العلم فهو عالة عليه في هذه المسألة.

    وأول موضوع ناقش فيها قضية بيان الرسول صلى الله عليه وسلم معاني القرآن وألفاظه للصحابة، ثم ذكر اختلاف التنوع والتضاد -الذي هو أنواع الاختلاف- ثم سببي الاختلاف من جهة المنقول ومن جهة الاستدلال، يعني: أسباب وقوع الخطأ في التفسير من جهة المنقول أو الاستدلال.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756187198