إسلام ويب

كتاب الطهارة [4]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اهتم الإسلام بالطهارة أيما اهتمام، ومن مظاهر ذلك: أحكام الاستنجاء، والسواك والاختتان، والوضوء الذي يعتبر من شروط الصلاة، والذي تولى الله سبحانه بيانه في القرآن الكريم.

    1.   

    تابع الاستنجاء وما يتعلق به من أحكام

    كيفية الاستنجاء

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله: [ فإذا فرغ مسح بيده اليسرى من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثاً ].

    قوله: (فإذا فرغ) أي: من بوله، (مسح بيده اليسرى من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثاً)، وهذا الاستحباب ذكره الفقهاء رحمهم الله، واستدلوا له بما جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بال أحدكم فلينتر )، وهذا الحديث وإن كان متكلماً فيه، إلا أن طائفة من الفقهاء بنوا هذا الاستحباب عليه.

    وعلى القول الثاني: فإن هذا النتر لا يكون مشروعاً؛ لأنه قد يفضي إلى الوسوسة، وهذا يتجه بأن مقتضى العادة: أن الإنسان لا يحتاج إلى مثل هذا، فليس هو مما ثبت به سنة بينة.

    قال المصنف رحمه الله: [ ولا يمس فرجه بيمينه، ولا يستجمر بها، وإن فعل أجزأه ].

    قوله: (ولا يمس فرجه بيمينه) هذا على سبيل النهي أو على سبيل النفي، وهذا جاء في الصحيحين من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء )، فما ذكره المصنف هو معتبر بهذا، فينهى عن مسه باليمين.

    قوله: (ولا يستجمر بها) أي: ولا يستجمر كذلك باليمين؛ تكريماً لها لما جاء في نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقتضى الشريعة ابتداءً، فإن مقتضى الشريعة أن اليمين مكرمة، وتكون للأفعال المكرمة.

    قوله: (وإن فعل أجزأه)، أي: صح استجماره، فإن فعل فمس ذكره بيمينه، أو استجمر أو استنجى بيمينه، أجزأه ذلك، ولو كان مخالفاً للنهي الذي يدل على الكراهة، ولا يدل على التحريم.

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يتحول عن موضعه ].

    قوله: (ثم يتحول عن موضعه)، أيضاً استحب كثير من الفقهاء التحول عن الموضع الذي بال فيه؛ اتقاءً لأثر النجاسة، وهذا بقدر ما تجري به العادة، ويحصل به الاتقاء، وثبت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، لكنه لا يبالغ فيه.

    الجمع بين الاستجمار والاستنجاء

    قال المصنف رحمه الله: [ ثم يستجمر، ثم يستنجي بالماء ].

    ظاهره الجمع بينهما، وهذا جاء في رواية عن الإمام أحمد أنه استحب الجمع بينهما، أي: بين الاستجمار بالحجارة ونحوها والاستنجاء بالماء. وعلى هذه الطريقة يجعلون الأفضل من الدرجات هو الجمع بين الحجارة والماء، ثم يجعلون بعد ذلك الاستنجاء بالماء، ثم الاستجمار بالحجارة، وهذه هي الطريقة المشهورة عند كثير من متقدمي السلف، وكثير من متأخري الفقهاء من أصحابهم.

    وعلى الطريقة الثانية: ليس الجمع بينهما مشروعاً، وهاتان طريقتان محفوظتان عن المتقدمين، منهم من يستحب الجمع بينهما، ومنهم من لا يستحب ذلك، والإجزاء يحصل لواحد منهما في قول عامة أهل العلم، لكن هل يشرع هذا الجمع؟

    كما ترى أن هذا لا بد له من سنة، وأقوى ما في الباب ما جاء في حديث عائشة أنها قالت للنساء: ( مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة بالماء، فإني أستحييهم )، وهو حديث مروي في السنن، وصححه بعض أهل الحديث كـالترمذي ، وتكلم فيه آخرون، فليس من الأحاديث البينة في ثبوتها، وهو حديث متكلم فيه، ويحتمل فيه التصحيح عند طائفة كما صنع الترمذي في تصحيحه له، ولكن إذا نظرت ظاهر السنة من حيث ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال المعينة غير حديث عائشة، لم يحفظ في ذلك حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، وأقوى ما في الباب هو حديث عائشة ، وأما ظاهر الروايات الأخرى كحديث المغيرة ، وحديث أنس ونحوها، فظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك. وعن هذا التردد في الاستدلال اختلفت طريقة أهل العلم، فمنهم من استحب الجمع، وهذه طريقة محفوظة لكثير من المتقدمين، وليست خطأً في الشريعة كما يشير إليه البعض أحياناً، فهذا قول محفوظ لطائفة من السلف والخلف.

    والقول الثاني: أن هذا ليس مشروعاً؛ لعدم وجود السنة الثابتة فيه، والشريعة إنما ذكرت الاستجمار والاستنجاء على سبيل التنويع بينهما، لا على سبيل الجمع، فهذه طريقة وهذه طريقة. (وقد نص الإمام أحمد رحمه الله أنه يستحب ذلك، ولكن التحقيق في مذهب الإمام أحمد : أن هذا الاستحباب في محل الغائط فقط، بمعنى لو كان بولاً فإنه لا يستحب له الجمع على قول المحققين في المذهب، وإن كان أكثر المتأخرين لا يجزمون به، لكن ذكره بعض من تقدم من الأصحاب أن هذا معتبر لمحل الغائط، وأما في البول وحده فإنه لا يكون كذلك.

    وأيضاً: فإن المقصود من الجمع بينهما هو تقديم الاستجمار على الاستنجاء، أما لو استنجى بالماء فإنه لا يشرع على هذه الطريقة أن يستجمر بالحجارة بعد الماء.

    الاكتفاء بالاستجمار أو بالاستنجاء

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجزئه أحدهما ].

    قوله: (ويجزئه أحدهما) أي: في قول عامة أهل العلم، ونقل عن بعض الصحابة وبعض التابعين أنهم لا يرون الاستنجاء بالماء، لكن هذا على خلاف ما جاء عن عامة الصحابة والتابعين، وكأن الخلاف هنا خلاف ترك، واستقر الأمر والإجماع على أنه يجزئ الواحد منهما لظهور السنن فيه، فلو استنجى بالماء أجزأه، وهذا صريح في فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات، كحديث المغيرة .

    الحالة التي لا يجزئ فيها الاستجمار

    قال المصنف رحمه الله: [ إلا أن يعدو الخارج موضع العادة، فلا يجزئ إلا الماء ].

    هذا استثناء من قوله: (ويجزئه أحدهما)، فإذا تعدى الخارج من محل الغائط موضع العادة فلا بد من استعمال الماء، وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وبهذا قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وطائفة من الفقهاء، حيث قيدوا صحة الاكتفاء بالاستجمار مالم يعد الخارج موضع العادة.

    الأشياء التي يجوز الاستجمار بها

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز الاستجمار بكل طاهر ينقي كالحجر والخشب والخرق ].

    قوله: (ويجوز الاستجمار بكل طاهر)، أي: لا بد أن يكون طاهراً، وهذا مذهب الجماهير من الفقهاء، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، و مالك و الشافعي أنه لا بد أن يكون طاهراً.

    وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط أن يكون طاهراً، بل كونه يابساً لا يتعدى به النجاسة، وإنه إنما يراد به تخفيف النجاسة، فإذا حصل به ذلك صح وأجزأ.

    والراجح ما عليه الجمهور؛ لما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة، فألقى الروث وقال: إنها رجس )، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنها رجس) دليل على أنه لا يصح أن يستعمل في الاستجمار ما يكون نجساً.

    وقوله: (كالحجر والخشب والخرق)، أما الحجر فالاستجمار به صحيح بإجماع الفقهاء، وأما غير ذلك من الطاهرات كالخشب والخرق والقرطاس ونحو ذلك، فهذا فيه بعض الخلاف اليسير، والجماهير على جواز الاستجمار به، وهو المذهب عند الحنابلة، وأنه مثل الحجارة، والنصوص جاءت بذكر الحجارة؛ لأنها المعتادة غالباً، فإذا وقع بنحوها بما يقع به فدفع النجاسة وتحقق الاستجمار أجزأ ذلك، فيجوز بكل طاهر، خلافاً لمن قصره على الحجارة، فإن هذا القصر ليس عليه دليل، وليس على مقتضى القياس.

    قال المصنف رحمه الله: [ إلا الروث والعظام والطعام، وما له حرمة، وما يتصل بحيوان ].

    قوله: (إلا الروث)، الروث مطلقاً على الصحيح، سواء كان من مأكول اللحم، أو غير مأكول اللحم، وإن كان مأكول اللحم يعني: بهيمة الأنعام - الإبل والبقر والغنم - روثها طاهر على مذهب الإمام أحمد وقول طائفة من الفقهاء، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالصلاة في مرابض الغنم، ومرابض الغنم عادة هي محل لروثها، فلما أذن بالصلاة في مرابض الغنم دل ذلك على أنها طاهرة، وعلى أن روثها طاهر، فالروث لا يستجمر به، سواء كان من طاهر أو غيره، فأما إن كان من طاهرٍ فللنهي عن ذلك، وأما إن كان من غير طاهر، كالسباع ونحوها؛ فلأنه لا بد في ما يستجمر به أن يكون طاهراً كما سبق، خلافاً لـأبي حنيفة .

    قوله: (والعظام والطعام)، العظام: هي طعام إخواننا من الجن، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: ( إنه طعام إخوانكم من الجن )، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنهما لا يطهران ). وكذلكم الطعام، فإن هذا ابتذال وكفر بالنعم، فالطعام المحترم، وهو ما يأكله الآدمي، لا يصح الاستجمار به؛ لأن هذا ينافي مقام الشكر، وحرمة النعم التي جعلها الله حلالاً لبني آدم.

    قوله: (وما له حرمة) أي: كل ماله حرمة عادةً، أو به سرف بالغ مما لا يتخذ عادة للاستجمار، فإنه ينهى عن الاستجمار به، (وما يتصل بحيوان) كذلك.

    عدد الأحجار المستعملة في الاستجمار

    قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات، إما بحجر ذي شعب، أو بثلاثة ].

    قوله: (ولا يجزئ بأقل من ثلاث مسحات)، إذا حصل الإنقاء بثلاثة أحجار أجزأ ذلك إجماعاً، ولا يكون بأقل من ثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، كما في حديث سلمان الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه أنه قال: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط، أو بول، وأن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع وبعظم )، فهذا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الثلاثة هي التي يحصل به الإنقاء عادة، فهذا تقدير من الشارع.

    وهذا الذي عليه كثير من الفقهاء وهو مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي : أنه لا يصح بأدنى من ثلاثة أحجار، فلو ظهر أنه أنقى باثنين لم يصح، بل لا بد من ثلاثة في أظهر قولي الفقهاء؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما جاء في حديث سلمان رضي الله تعالى عنه وظاهر فعله كما في حديث عبد الله بن مسعود ، فإن ابن مسعود جاءه بثلاثة أحجار، فدل على أن هذا هو المستقر في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وعلى الطريقة الثانية للفقهاء يصح إذا حصل الإنقاء، ولكنه قول مرجوح.

    إذا كان ثلاثة أحجار فهذا لا خلاف في جوزه، وإذا كان الحجر الواحد له شعب، وهو ما أشار إليه المصنف بقوله: (إما بحجر ذي شعب، أو بثلاثة)، فهل يجزئ ذلك أو لا يجزئ؟ على روايتين عن الإمام أحمد ، والراجح في المذهب أن الحجر الواحد الذي له شعب يجزئ عن الثلاثة، إذا كان له ثلاث شعب أو تزيد، كما لو كان حجراً مثلثاً، ولا يصل منه هذا إلى هذا عادةً، فإنه يكون مجزئاً، لأنه بمثابة الثلاثة في الإنقاء، وهذا هوا الراجح في المذهب.

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن لم ينق بها زاد حتى ينقي ].

    يعني: فإن لم يحصل الإنقاء زاد؛ لأن المقصود إزالة أثر النجاسة، وكثير من الفقهاء يحدون القدر الذي يحصل به الإجزاء، أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء عادةً، وهذا فيما يظهر وجيه لكن يقيد معه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء عادة، إذا كان حال الإنسان معتادة. أما إذا كانت به علة وطغى غائطه فإن هذا لا يقال فيه مثل هذا التقدير؛ ولهذا استثنى الفقهاء رحمهم الله على الصحيح من أقوالهم إذا تعدى الخارج موضع العادة، فلا بد من استعمال الماء؛ لأن هذا زائد عما رخصت به الشريعة، وهذا باعتبار أن الأصل في الشريعة إزالة النجاسة، فلما أذنت الشريعة بهذا الاستجمار -الذي هو ليس برتبة الماء في الإنقاء- قصر على ما ورد في الشريعة، وهذا هو الصحيح من آراء الفقهاء، ولهذا قيدوه بثلاثة أحجار؛ لأن الشريعة جاءت بتسميتها، وكذلك باعتبار الحالة المعتادة للناس، أما من به علة فطغى غائطه، فخرج عن موضع العادة فهذا لا بد له من إزالة؛ لأنها نجاسة، والأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء، وهذا جاء فيه حديث من قول علي رضي الله تعالى عنه، وهو مقتضى الأصل والقياس، أن النجاسة تجب إزالتها، فما أسقطت الشريعة وعفت عنه بموجب الاستجمار يقدر بالقدر الذي أذنت به الشريعة، وهو الحال المعتادة، فالشريعة إنما أذنت في الحال المعتادة، أما إذا كان عن علة فيزيد.

    فالراجح من قوله الفقهاء: أنه لا يجزئ، بل لا بد من الماء.

    الإيتار في استعمال الأحجار للاستجمار

    قال المصنف رحمه الله: [ ويقطع على وتر ].

    إذا قطع على ثلاثة أحجار فهي وتر، فإن زاد لحاجته إليه فإنه يقطع على خمس ونحو ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من استجمر فليوتر )، وهو حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة .

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجب الاستنجاء من كل خارج إلا الريح ].

    أي: كل خارج يجب الاستنجاء منه، سواء كان الخارج من مخرج البول أو الغائط معتاداً، وهو البول والغائط، أو ليس معتاداً، إلا الريح، فإنه لا يجوز الاستنجاء منها، فإن الشريعة عفت عن ذلك.

    الوضوء قبل الاستنجاء

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن توضأ قبله، فهل يصح وضوءه؟ على روايتين ].

    قوله: (فإن توضأ قبله)، أي: قبل الاستنجاء، (فهل يصح وضوءه على روايتين)، يرجح المصنف رحمه الله الصحة، وهي مذهب الإمام الشافعي رحمه الله؛ ولهذا قال: (فإن توضأ قبله، فهل يصح وضوءه؟ على روايتين)، لأن ذلك من إزالة النجاسة، وإزالتها ليست شرطاً لصحة الطهارة، والرواية الثانية في مذهب الإمام أحمد : عدم الصحة، وهذا هو الأظهر أنه لا يصح الوضوء قبل إزالة النجاسة؛ لأن الشريعة إنما رتبت لرفع الحدث، هذا على هذا، فجاء متعاقباً في الشريعة.

    التيمم قبل الاستنجاء

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن تيمم قبله خرج على الروايتين، وقيل: لا يصح وجهاً واحداً ].

    قوله: (وإن تيمم قبله، خرج على الروايتين)، التخريج: معروف، وهو أنهم يخرجون على رأي الإمام ما ليس من نصه، مما يكون مشاكلاً له، مما يكون على قياس رأيه، فيسمونه تخريجاً، فإذا كان في الشريعة سمي قياساً، وإذا كان في قول الأئمة سمي تخريجاً.

    قوله: (وقيل: لا يصح وجهاً واحداً)، وجهه عند الأصحاب، وهذا فيه تخريج عندهم، وفيه وجه وهو: إطلاق عدم الصحة.

    1.   

    السواك وما يتعلق به من أحكام

    قال المصنف رحمه الله: [ باب السواك وسنة الوضوء ].

    أي: ما يسن في الوضوء ويشرع، وبدأ المصنف بذكر السواك، وهو من سنن المرسلين، ومن سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون بالأراك ونحوه، ولا يختص بعود الأراك.

    حكم السواك

    قال المصنف رحمه الله: [ والسواك مسنون في جميع الأوقات ].

    لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )، كما في السنن والمسند، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استعماله.

    وحديث السواك جاء من وجوه في الصحيحين وغيرهما، وهو من السنن النبوية الثابتة التي لا يشك في ثبوتها وفي مشروعيتها، حتى نقل عن إسحاق وبعض المتقدمين القول بوجوبه، وهو قول بعيد، فإن السنة صريحة بعدم وجوبه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المواضع التي يتأكد فيها السواك قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وفي رواية: ( عند كل وضوء )، والحديث فيه وجهان: أحدهما في الصحيح، والآخر في المسند.

    فإذا كان الشارع قال: ( لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم )، أي: أمر وجوب، فالأمر من حيث الأصل هو أمر تشريع، لكن الاستحباب ثابت، فإذا رفع الشارع وجوبه في محل تأكده، ففي غيره من باب أولى، إذا رفع الشارع وجوبه، بقوله: (لأمرتهم)، فدل على أنه لم يأمرهم، أي: أمر الوجوب، وإلا فأمر الاستحباب متحقق، فدل على أن ما دون محل التأكد -وهو المحل المطلق- من باب أولى، ولكن يأتي ذلك على سبيل التأكيد، كما جاء في غسل الجمعة في حديث أبي سعيد الذي رواه أهل الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه )، هكذا جاء في رواية الصحيح، بذكر السواك معه، مع أن السواك ليس بواجب، وغسل الجمعة ليس بواجب على معنى الوجوب الاصطلاحي الذي يسميه الفقهاء، وإن كان واجباً باسم الوجوب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (واجب)، فهذا على ظاهره، لكن الوجوب في كلمة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حرف النبي صلى الله عليه وسلم ليس مطابقاً للوجوب الاصطلاحي الذي يحده أهل الأصول، فيخرج عنه المندوب والمستحب.

    السواك للصائم بعد الزوال

    قال المصنف رحمه الله: [ إلا للصائم بعد الزوال فلا يستحب ].

    قوله: (إلا للصائم بعد الزوال)، المذهب مستقر عند الحنابلة أنه لا يشرع للصائم بعد الزوال.

    والقول الثاني للفقهاء: أنه يشرع للصائم بعد الزوال؛ لحديث عامر بن ربيعة أنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم ).

    قالوا: ولأنه الأصل، فإن الأصل مشروعية السواك، ولم يثبت النهي عنه في حق الصائم، ومن قال: إنه لا يشرع في حقه، قالوا: لأنه يزيل ما كان من الخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك، وهذا تعليل بعيد، فإن هذا الخلوف لا يقصد إظهاره لبني آدم ، لما ثبت في حديث أبي هريرة في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، وقيد في إحدى الروايات في صحيح مسلم وغيره بـ (يوم القيامة)، قال: ( لخلوف فم الصائم يوم القيامة أطيب عند الله من ريح المسك ).

    فسواء قدرنا هذا على هذه الرواية المقيدة بـ(يوم القيامة)، أو لم نقدر، فإنما هو عند الله وليس هذا مما يشرع إظهاره لبني آدم، فالأصل أنه رائحة مستكرهة، لم تدع الشريعة إلى تحبيبها إذا انبعثت عن أثر السواك، بمعنى: لم تدع الشريعة إلى استحسان عدم اتقائه بين الناس، وهذا قدر من بشريتهم ومن طبيعتهم إذا خلوا عن الطعام، فالشريعة وإن أثنت على هذا الأثر باعتبار ما في حكم الله سبحانه وتعالى فإنها لم تدع إلى إظهاره لبني آدم ، ولا إلى عدم اتقائه.

    فإذا قيل: إن السواك يزيله فهو لا يزيل هذا المعنى، وما في حكم الله سبحانه وتعالى لا يرد عليه هذا التقدير، فهذا الحديث: ( لخلوف فم الصائم )، فيه بعض التردد من جهة كونه مناسباً في الاستدلال لعدم مشروعية السواك بعد الزوال.

    إذاً: للفقهاء طريقتان: منهم من لا يستحب السواك بعد الزوال للصائم.

    ومنهم من يستحب السواك مطلقاً للصائم، ومن لا يستحبه، هل هذا على سبيل الكراهة أو ليس على سبيل الكراهة؟

    فيه روايتان عن الإمام أحمد : الكراهة وهو مذهب الإمام الشافعي ، والرواية الثانية وهو المشهور: عدم الكراهة، والأصحاب مختلفون في المحقق من هاتين الروايتين.

    المواضع التي يتأكد استحباب السواك فيها

    قال المصنف رحمه الله: [ ويتأكد استحبابه في ثلاثة مواضع عند الصلاة ].

    قوله: (ويتأكد استحبابه في ثلاثة مواضع عند الصلاة)، لما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ).

    قال المصنف رحمه الله: [ والانتباه من النوم وتغير رائحة الفم ].

    قوله: (والانتباه من النوم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم،: ( كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك )، وهذا متفق عليه من حديث حذيفة ، وجاء ذلك أيضاً في حديث ميمونة ، وفي حديث عبد الله بن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام من الليل شاص فاه بالسواك )، فإذا انتبه القائم فإنه يشوص فاه بالسواك؛ لأن هذا مظنة تغير الفم.

    قوله: (وتغير رائحة الفم)؛ لأنه يناسبه، واستحب بعض الفقهاء السواك عند قراءة القرآن، وهذا موضع رابع في استحبابهم، وإن كان لم يثبت فيه حديث، ولا يصح في استحبابه عند قراءة القرآن حديث، وأقوى منه في الأثر والسنة استحبابه عند الوضوء، لما جاء في المسند وغيره: ( لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ).

    صفة السواك

    قال المصنف رحمه الله: [ ويستاك بعود لين ينقي الفم ولا يجرحه ولا يضره ولا يتفتت فيه ].

    والسواك يكون بأي عود لين مناسب له عادةً، وأشرفه في الجملة الأراك، وهو أكثرهم مناسبة، لكنه يصح بغيره مما يكون عادة صالحاً لذلك.

    وهل يكون السواك بغير ذلك من الأصبع ونحوه؟

    بعض الفقهاء يجعل ذلك داخلاً في اسم السواك المشروع، وبعضهم لا يجعله، وهذه مسألة محتملة على كل تقدير، وإن كان ظاهر كلام أكثر الفقهاء أن هذا ليس من السواك، ولكن سواء قدر أنه يدخل باسم السواك المشروع أو لا يدخل؟ فإنه من وجه آخر، وهو قدر من النظافة واتقاء الرائحة إذا لم يتيسر بيده سواك، وهذا مشروع، فإن النظافة مستحسنة في الشريعة، ومما يثنى عليها.

    قال المصنف رحمه الله: [ فإن استاك بأصبعه، أو خرقة فهل يصيب السنة؟ على وجهين ].

    فيه وجهان للأصحاب، وهما قولان للفقهاء.

    صفة الاستياك

    قال المصنف رحمه الله: [ ويستاك عرضاً، ويدهن غباً، ويكتحل وتراً ].

    لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه فعل ذلك، ويستدل به الفقهاء وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً )، لكن هذا الحديث بهذا اللفظ لا يثبت، لكن هذا هو ظاهر الأصل أن السواك يكون عرضاً، وكيفما استاك صح.

    لكن مما ينبه إليه في أمر السواك أنه ينبغي أن يكون استياك المسلم لا يخرجه عن مروءته، لا من حيث المحل، ولا من حيث الصفة.

    من حيث المحل: إذا كان المحل له صفة معينة، وقد انكف الناس عن ذلك، فلا يكون شاذاً في تقليب سواكه في طول المجلس، ولا سيما إذا أقبل عليه بحديث أو نحو ذلك، وهذا لا يستوعب عادةً إذا زاد كونه يعرض له السواك في المجلس، فهذا لا شك أنه صحيح، لكن إذا اتخذه في جملة المجلس الذي لم يعتد، أو له صفة هذا المجلس، فقد يوحي بعدم مبالاته بأمر صاحبه، وأمر المتحدث ونحو ذلك، فإذا جاء هذا المعنى وجب تقديره.

    المعنى الثاني: من حيث الصفة، بأن يستاك على قدر من حفظ المروءة، لا يجلس يقلب فاه أمام الناس، هذا يقع فيه البعض أحياناً، أنه يجلس يقلب فاه أمام الناس طولاً وعرضاً، وهذا ليس مناسباً، ولا سيما إذا كان في اختصاص من المجالس، كمجالس العلم ونحوها، وإن كان السواك مشروعاً، لكنه لا يكون بما يذهب المروءة بهذه الصفة، بل يكون على قدر من الوقار الذي يحفظ خلق المسلم.

    1.   

    حكم الاختتان

    قال المصنف رحمه الله: [ ويجب الختان ما لم يخفه على نفسه، ويكره القزع ].

    قوله: (ويجب الختان مالم يخفه على نفسه)، الختان من سنن المرسلين، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الفطرة خمس -وذكر منها- الختان )، وكذلك ما جاء في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( عشر من الفطرة ) وذكر منها الختان.

    فالختان من سنن المرسلين وهديهم، وهو من سنن الفطرة، وثبت في صحيح البخاري وغيره: ( أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام اختتن بالقدوم ).

    قال الإمام أحمد : هو مكرمة للنساء، أي: ليس واجباً على النساء، وأوجبوه على الرجال في قول الإمام أحمد وطائفة من الفقهاء، وهو ظاهر مذهب الجمهور من المتقدمين: أنه يجب ما لم يخف على نفسه، فإن خاف على نفسه لم يجب عليه.

    وهل يكون متعدياً في طهارته ووضوئه ونحو ذلك إذا لم يختتن؟

    بعض الفقهاء من الأصحاب وغيرهم عللوا وجه الوجوب، بأن هذا يحصل به تحقيق الطهارة، وهذا -والله أعلم- فيه نظر؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح البخاري وغيره: ( اختتن وهو ابن ثمانين سنة )، وهو عليه الصلاة والسلام قد شرعت له الصلاة، فإن الصلاة مشروعة في دين إبراهيم وفي دين موسى؛ كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، فالصلاة مشروعة، وفي قصة معراج النبي صلى الله عليه وسلم، لما فرضت عليه خمسون صلاة، فلقي موسى، وقال له ما قال حتى جعلها الله جل وعلا خمس صلوات، فالمقصود أن الصلاة مشروعة في دين الأنبياء، و إبراهيم ممن أمر بالطهارة، وهذه الأصول من الطهارة والصلاة مستقرة في دين الأنبياء.

    كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يصلي ولم يؤمر بالختان إلا وهو ابن ثمانين سنة، فهذا يظهر به: أن هذا ليس موجباً للقطع بأن الطهارة لا تتحصل إلا به، ولو كانت الطهارة لا تصح إلا به لما حصل في المسألة خلاف بين الفقهاء، وهذا من حيث العادة متصور، فإنه من حيث العادة يمكن تحصيل الطهارة في الاستنجاء بالماء، ولو لم يقع الختان.

    ومما ينبه إليه: أن الختان وإن كان واجباً في أظهر قولي الفقهاء، وهو مذهب الإمام أحمد إلا أنه ليس من أصول الواجبات، ومعنى هذا أن حديث العهد بالإسلام فيما يظهر لا ينبغي أن يبادر أو يفجأ به، بأن يكون ذلك من أوائل ما يبدأ به، وربما يسمع ذلك قبل أن ينطق بإسلامه، أن إسلامه يبتدئ بالشهادة وأن يختتن، فهذا حديث العهد الذي جاء من ديانة وضعية وثنية كبوذية ونحوها، أو جاء من دين محرف، لا يكون مستوعباً لهذا، فهذا ليس من الفقه الصحيح في الدعوة، وإنما أول ما يؤمر به هو الأصول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث معاذ إلى اليمن في الصحيحين: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة )، واليمن فيها يهود، وفيها أهل كتاب كما في الحديث: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب )، وفيها عبدة أوثان، ولم يذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الختان، بل ولا ذكره لرسول أرسله يدعو قوماً إلى الإسلام، ولا ذكره لوفد وفدوا عليه وأسلموا بين يديه، وأقوى ما جاء فيه: ( ألق عنك شعر الكفر واختتن )، وهو حديث مختص بواقعة معينة، لكن أن يكون هذا من مبتدأ الإسلام وكأنه من الضروري، فيقع الإشكال من جهة أن بعض حدثاء العهد بالإسلام قد لا يستجيب للإسلام، وقد لا يسلم، وقد يرتد، اتقاءً لهذا الأمر الذي يخاف منه، ثم إن الفقهاء الذين قالوا بوجوبه، قالوا: ما لم يخف على نفسه.

    فالمقصود: أن هذا ينبغي جعله في موضعه من الشريعة، لا يبتدأ به الدين، بل يبتدأ الدين بما هو معلوم، وطهارته ووضوءه تصح ولو لم يختتن، فقد أسلم الناس من العرب وأسلم العجم بعد ذلك، ولم يشتهر هذا الإلزام، فهذا مما يجب أن يكون فقهاً للدعاة إلى الله.

    ومثله ليس الختان فقط، بل كل فرع في الشريعة، فإنه إذا دعي حديث العهد أو من يريد الإسلام، إذا سأل عن الإسلام ما هو؟ وما الذي يجب عليه عند دخوله الإسلام؟ فلا يظهر لي أنه ينبغي أن تسمى له الفروع في الابتداء؛ لأن هذا قد يقطعه عن الدخول في الإسلام، وتبين له الفروع من باب بيان محاسن الدين، لكن أن يستثنى بعض الفروع بالتسمية وتقرن بالشهادتين، فإن هذا يوهم أن هذا الفرع قدره على قدر الشهادة، لا سيما إذا جاء من أديان لا أصل لها، كالأديان الوضعية المحضة الملأى بالخرافة، فكل فرع لا ينبغي تخصيصه في ابتداء الدين؛ ولهذا إذا قام موجب هذا الفرع ذكر له، لكن في الابتداء يؤمر بالأصول، فأولها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يؤمر بالصلاة ويؤمر بالصيام إن أدركه رمضان، وهكذا عملاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأنبياء كما في القرآن، فإنهم ما ذكروا فرعاً إلا أن يكون هذا الفرع حاضراً من حيث الواقع المعين، فمثلاً لما فشا في قوم شعيب التطفيف في المكيال والميزان، فتجد أنه قرن بدعوته إلى توحيد الله مسألة العدل، وترك التطفيف في المكيال والميزان؛ لأن هذا شاع فيهم.

    فإذاً: مسائل الأصول يجب أن تقدم، فإذا استقر وآمن بينت له فروع الشريعة على مقتضى رتبها.

    قال المصنف رحمه الله: [ ويتيامن في سواكه، وطهوره، وانتعاله، ودخوله المسجد ].

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يعجبه التيمن، في تنعله وتطهره، وترجله، وفي شأنه كله ).

    قوله: (ويكره القزع)، وهو حلق بعض الرأس وترك البعض.

    1.   

    سنن الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ قال: وسنن الوضوء عشر: السواك، والتسمية، وعنه أنها واجبة مع الذكر ].

    قوله: (وسنن الوضوء عشر: السواك).

    سبق أنه من سنن الوضوء.

    التسمية عند الوضوء

    قول المصنف رحمه الله: (والتسمية)، وفي التسمية خلاف، هل هي واجبة أم أنها سنة؟

    وأقوى ما فيها حديث أبي سعيد : ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، قال الإمام أحمد : إنه أصح حديث في الباب، لكن التحقيق أنه حديث لا يصح وليس ثابتاً، وإن كان ليس من المتروك، لكن ضعفه بين.

    وقول الإمام أحمد : أحسن حديث في الباب. لا يدل على التصحيح كما هو معروف، وعلى هذا فإن التسمية الراجح فيها -وهو قول الجماهير من العلماء- أنها سنة، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وعليها طائفة من محققي أصحابه، وهو مذهب مالك و أبي حنيفة و الشافعي ، أن التسمية مستحبة وليست واجبة، والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أن التسمية واجبة.

    لكن ذكر الخلال ، وهو من محققي الأصحاب ومتقدميهم، أن الروايات استقرت عن الإمام أحمد أنه لا يرى بترك التسمية بأساً، نص على ذلك أبو بكر الخلال ، وهو عمدة متقدمي الحنابلة.

    غسل الكفين عند الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ وغسل الكفين إلا أن يكون قائماً من نوم الليل، ففي وجوبه روايتان ].

    قوله: (وغسل الكفين) وهو مستحب إجماعاً، ( إلا أن يكون قائماً من نوم الليل) خاصة، (ففي وجوبه روايتان)، لحديث: ( إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده؟ )، ولما قال: (أين باتت) دل على أن هذا في نوم الليل؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين إلى أنه إذا قام من نوم الليل وجب عليه غسل الكفين، وذلك في نوم الليل خاصة.

    والرواية الثانية: وهي مذهب المالكية والحنفية وأكثر الفقهاء: أن ذلك لا يجب، وإنما هو مستحب، وهذا هو الأظهر من باب التأكيد.

    فإن قيل: إذا كان غسل الكفين يشرع ابتداءً لغير القائم من نوم الليل ألا يكون هذا الحديث دليلاً على نقل الحكم من الاستحباب إلى الوجوب؟ فإذا علم أن غسل الكفين يشرع مطلقاً سواء قام من نوم الليل أو لم يقم ألا يكون هذا الحديث ناقلاً عن هذا الأصل؟ وإلا لا يلزم أن يكون ناقلاً إلى الوجوب، بل يكون ناقلاً إلى تأكيد الاستحباب، أي: إلى تأكيد مشروعية ذلك، وهذا موجود في الشريعة، كالرواتب مثلاً، فإنها منقولة عن أصل الاستحباب في فعل الصلاة ومشروعيتها مطلقاً إلى وجه من التأكيد.

    المضمضة والاستنشاق عند الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ والبداءة بالمضمضة والاستنشاق، والمبالغة فيهما إلا أن يكون صائماً ].

    قوله: (والبداءة بالمضمضة والاستنشاق)، وهذا سنة، وسيأتينا ما يجب من ذلك وما لا يجب، إنما المصنف هنا يبين ما يستحب.

    قوله: (والمبالغة فيهما إلا أن يكون صائماً) لحديث لقيط بن صبرة ، فالصائم يتقي المبالغة في المضمضة والاستنشاق، حتى لا يصل الماء إلى جوفه.

    التخليل والتيامن عند الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ وتخليل اللحية وتخليل الأصابع والتيامن].

    قوله: (وتخليل اللحية) أي: الكثة، وهذا أيضاً مستحب ولا يجب.

    قوله رحمه الله: (وتخليل الأصابع) كذلك.

    قوله: (والتيامن).

    لا خلاف بين أهل العلم أنه يشرع البداية باليمين؛ لأن حديث عائشة صريح في هذا؛ ولأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم صريح في هذا، لكن هل يجب أو لا؟

    لا يجب بين العضو الواحد، فلو قدم يده اليمنى على اليسرى أو قدم اليسرى على اليمنى صح ذلك.

    أخذ ماء جديد للأذنين

    قال المصنف رحمه الله: [ وأخذ ماء جديد للأذنين ].

    وهذا مستحب، وهو مذهب الجمهور، وإن كان لم يحفظ به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن فعله ابن عمر ، واستحبه الإمام أحمد ، وهو مذهب مالك و الشافعي ، خلافاً للإمام أبي حنيفة ، وهي مسألة يسيرة، لكن الراجح الذي عليه جمهور الفقهاء أنه يستحب أن يأخذ ماءً لها، والسنة ليست صريحةً بأحد الوجهين.

    الغسل مرتين وثلاثاً في الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ والغسلة الثانية والثالثة ].

    كذلك الغسلة الثانية والثالثة بالإجماع أنها لا تجب، وإنما الواجب واحدة، وقد ( توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرةً مرة، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً )، أخرجه البخاري في صحيحه، وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتوضأ ثلاثاً في غالب حاله، لكنه قد توضأ دون ذلك.

    1.   

    فرض الوضوء وصفته

    قال المصنف رحمه الله: [ باب فرض الوضوء وصفته وفروضه ستة: غسل الوجه، والفم، والأنف منه، وغسل اليدين، ومسح الرأس وغسل الرجلين ].

    قوله: (غسل الوجه)، أما غسل الوجه فهو فرض بالنص والإجماع، والأصل فيه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]. قوله: (والفم والأنف منه) هذا على الصحيح، وهو قول أكثر الفقهاء، خلافاً لبعض أهل الرأي، فتجب المضمضة والاستنشاق، وليست المضمضة من المستحبات، بل هي من الواجبات على الصحيح.

    قوله: (وغسل اليدين)، أي: إلى المرفقين، هذا فرض بالإجماع أيضاً، وهذا صريح في الآية، وفي فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

    قوله: (ومسح الرأس) كذلك هو فرض بالإجماع.

    قوله: (وغسل الرجلين)، كذلك أيضاً هو فرض بالإجماع.

    ترتيب أعضاء الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ وترتيبه على ما ذكر الله تعالى ].

    الترتيب: فيه خلاف بين الفقهاء، هل هو مما يجب أو لا يجب؟

    إذاً: هذه هي الفروض: غسل الوجه والفم والأنف منه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وسيأتي القدر اللازم منه على الخلاف فيه، وغسل الرجلين إلى الكعبين، ولا يجزئ في القدمين إلا الغسل، ونقل عن بعض المتقدمين ما يدل على الجمع بين لبس النعل ومسح القدم، وجاء هذا منقولاً عن علي رضي الله تعالى عنه، وليس محفوظاً عنه، وهذا القول الذي ذكره بعض الفقهاء ليس من الأقوال المحفوظة، بل هو من الأقوال الشاذة، والذي عليه عامة السلف والخلف وهو ظاهر مذهب الصحابة، وحكي إجماعاً لهم: وجوب غسل القدمين، فلا يجزئ مسحهما، وجاء في كتاب الله بين في هذا، فإن الله سبحانه وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فجعلها على هذه القراءة منصوبةً، أي: أنه يجب غسلها.

    وعلى القراءة الثانية: وَأَرْجُلِكُمْ )) ، فإنها لا تفيد أنها تمسح، وإنما يكون ذلك من باب اللغة، فإنها خفضت وجرت من باب المجاورة، وهذا معروف في كلام العرب: أن المجاورة تعتبر في الخفض وهو موجود في شعرهم.

    ومنه قول امرؤ القيس في معلقته:

    فظل طهاة اللحم ما بين منضج صفيف شواء أو قديد معجل

    لو أخذه على الأصل لقال: أو قديداً معجلاً، وإنما قال: (أو قديد معجل) بمقتضى المجاورة.

    فالحاصل أن الترتيب على ما ذكر الله فرض، وهو مذهب الإمام أحمد ، وقد استقر عنده، وهو مذهب الإمام الشافعي خلافاً لـ مالك وأصحاب الرأي.

    والدليل على الترتيب أن الله سبحانه وتعالى ذكر الممسوح بين المغسولات، فدل على أن الترتيب معتبر.

    والوجه الثاني في الاستدلال: أن هذا هو الذي تواتر في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، فلم يحفظ في حديث واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الترتيب، والوضوء عبادة يقدرها الشارع، وهي موقوفة على تقديره وتوصيفه، فلا يتعدى بها ذلك.

    الموالاة في الوضوء

    قال المصنف رحمه الله: [ والموالاة على إحدى الروايتين ].

    استقرار مذهب الإمام أحمد في الترتيب ليس كاستقراره في مسألة الموالاة، فالمذهب مستقر في الترتيب، والموالاة دون ذلك؛ ولهذا ذكر المصنف اختلاف الروايتين في الموالاة على سبيل الإطلاق، وأما في الترتيب فإن المذهب مستقر فيه وهو أنه لا بد منه، والدليل في الترتيب أظهر لما سبق أن الله جل وعلا ذكر هذا، فأدخل الممسوح بين المغسولات، ثم إن هذا هو الذي تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأنت تعلم أن الوضوء عبادة موقوفة على توصيف الشارع، فلما وقفت على توصيف الشارع صار إيقاعها على خلاف ذلك ينافي هذا الاعتبار فلا تصح، وعليه لا تسقط بالنسيان، وهذا هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد أنه لو نسي الترتيب لم يصح وضوءه، كما لو نسي فغسل القدمين قبل أن يمسح الرأس فلا يسقط ذلك بالنسيان، بل يرجع إلى الرأس، ثم يغسل القدمين، ولا يعتد بغسلها قبل مسح الرأس.

    قوله: (والموالاة على إحدى الروايتين)، فيها روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد ، فالصحيح من المذهب عنده أن الموالاة واجبة، ولا تسقط بالنسيان أيضاً، على الصحيح من المذهب.

    والقول الثاني وهو مذهب أصحاب الرأي، وأحد قولي الإمام الشافعي أن الموالاة لا تجب.

    ومما يدل على وجوبها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً وفي ظهر قدميه لمعة أمره، وقال: ارجع فأحسن وضوءك )، رواه مسلم ، وفي حديث عمر في سنن أبي داود وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد الوضوء)، واعتبار ذلك بالأصل وجيه، وهو أن الأصل أن الطهارة عبادة مشروعة على صفة، بحيث إذا انقطعت لم تقع على الصفة التي جاءت بها الشريعة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الوضوء متوالياً، ولكن الدليل في الموالاة ليس بظهوره، كما في الترتيب؛ ولهذا كان استقرار مذهب الإمام أحمد في الترتيب أقوى من استقراه في مسألة الموالاة.

    فالدليل في الموالاة دون الدليل من حيث الظهور؛ ولهذا استحسن الشيخ تقي الدين رحمه الله أن الأشبه بقواعد الإمام أحمد أن الموالاة تسقط بالعذر، كما لو أخذ ماءً يتوضأ به، وأبعد بعض الشيء فانتهى الماء قبل أن يغسل القدمين، فعلى المذهب إذا وصل إلى رحله وقد فاتته الموالاة، ونشف العضو، فيلزمه إعادة الوضوء، لانقطاع الموالاة لمدة من الفصل الظاهر عادةً، وسيأتينا حد ذلك عندهم.

    وعلى مذهب أصحاب الرأي والرواية الثانية عن الإمام أحمد ، ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وأحد قولي الإمام الشافعي أنه يغسل قدمه ويكفيه؛ لأن الموالاة عندهم ليست لازمة، وعلى ما استحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مذهب أحمد ، وقال: إنه الأشبه بقواعد أحمد ، يقول: إن الموالاة تسقط بالعذر، فيجعل هذا معذوراً، وليس كمن تعمد.

    والأظهر هو الأول، وأن العذر لا يرفع تصحيحاً، فالعذر لا يحصل به تصحيح الأحكام بمثل هذا، والأظهر أنه لا بد له أن يعيد الوضوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بإعادة الوضوء مع أن هذا لا يقع إلا وهو معذور، فإنه لا يتعمد أن يترك شيئاً قد دخل في الصلاة.

    قال المصنف رحمه الله: [ وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله ].

    قوله: (وهي): أي: الموالاة، ما حدها؟ قال: (ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله)، فهذا تقديرها عند الفقهاء، نص عليه أصحاب الإمام أحمد وأصحاب الإمام الشافعي وغير هؤلاء، وهذا متجه لكنه يحتاج إلى أن يبين لا أن يقيد، وهذا ليس من باب الاستدراك على كلام الفقهاء رحمهم الله، وإن كان كل يؤخذ من قوله ويترك، كما قال الإمام مالك رحمه الله، لكن المراد عندهم عادةً، وهو ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله عادةً؛ ولهذا بعضهم ينص على هذه الكلمة: عادةً؛ لتخرج بعض حالات الهواء، إذا كان الهواء جافاً وشديداً والماء يسيراً، فإن العضو يجف بزمن يسير، فهل تنقطع به الموالاة؟ لا، مع أنه حصل أنه نشف العضو قبل أن يغسل الذي بعده، لكن إنما نشف ليس على أصل العادة؛ لكون الهواء جافاً وشديداً، والماء يسيراً، فهذا لا يقطع الموالاة، إنما يقطعها إذا كان الأمر معتاداً، في إسالة الماء على قدره المعتاد، وفي اعتدال الجو على قدره المعتاد.

    وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718711

    عدد مرات الحفظ

    765110155