إسلام ويب

الروض المربع - كتاب الصلاة [49]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للأهمية الكبرى للصلاة في الإسلام حذر الشارع من بعض الأمور التي تكره فيها، والتي يمكن ضبطها بأنها كل ما يخل بالصلاة أو يؤدي إلى الانشغال عنها بدل الانشغال بها، وعلى هذا يتوجب على المسلم أن يحذر من هذه المكروهات ليبقى له ثواب صلاته كاملاً.

    1.   

    مكروهات الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

    فقد قال المؤلف رحمه الله: [ فصل: ويكره في الصلاة التفاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) رواه البخاري ، وإن كان لخوف ونحوه لم يكره، وإن استدار بجملته أو استدبر القبلة في غير شدة خوف بطلت صلاته ].

    المؤلف في هذا الفصل ذكر ما يكره في الصلاة، وقد تحدث في الفصل الذي قبله في موضوع صفة الصلاة، وصفة الصلاة التي ذكرها المؤلف شاملة الأركان والواجبات والمستحبات والمكروهات، لكنه لم يفصلها تفصيلاً.

    والآن شرع المؤلف في بيان المكروهات، فقال: (ويكره) والكراهة عند الأصوليين: هي خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الطلب لا على سبيل الجزم، أو بفعل أمر لا على سبيل الجزم، هذا يسمى الكراهة، وأما إذا كان على سبيل الجزم فيسمى المحرم، فإذا كان طلب الترك صار شاملاً للمحرم والمكروه، وإذا كان بطلب الفعل كان شاملاً للمستحب والمحرم، ويفرق بين كل واحد بقول: لا على سبيل الجزم، أو على سبيل الجزم، فهو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الترك لا على سبيل الإلزام.

    وأما الكراهة عند الفقهاء: فهي كل عمل يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. هذا على سبيل الأصل، وإلا فقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات أن الملازمة على فعل المكروه يوقع في المحرم، والملازمة على سبيل ترك المستحب يوقع في ترك الواجب.

    التفات المصلي في الصلاة وأقسامه

    قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة التفاته).

    المقصود هنا التفات الرأس، والتفات البصر ذات اليمين وذات الشمال، وعلى هذا فالالتفات ينقسم إلى أقسام كما ذكره الفقهاء:

    القسم الأول: التفات القلب: وهو ما يسمى عند العلماء بعدم خشوع القلب، فأجمع أهل العلم على أنه ليس بحرام، إلا أن السنة عدم الالتفات، وكم هو الأجر الحاصل لمن فعل ذلك، أعني: عدم الالتفات، وقد جاء في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أنه قال: ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين مقبلاً بوجهه إلى الله، غفر الله له ذنبه )، فهذا فضل عظيم لمن صلى ركعتين لم يلتفت فيهما قلبه.

    القسم الثاني: الالتفات بالرأس ذات اليمين أو ذات الشمال، فذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية إلى أن التفات الرأس من غير حاجة مكروه، قالوا: لأن الأمر جاء بعدم الالتفات كما رواه أبو داود من حديث الحارث الأشعري الذي يرويه يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وآمركم بالصلاة، فإن الله عز وجل ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا )، فهذا أمر نهي وحملناه على الكراهة؛ لأن أبا داود روى لنا حديث سهل : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوماً فجعل يلتفت إلى الشعب ينتظر عيناً ) قد أرسله صلى الله عليه وسلم لينظر ماذا صنعت قريش، ولما جاء في الصحيحين من حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال: ( يا رسول الله! إن الشيطان يلبس عليّ قراءتي، فقال له: ذلك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته فانفث عن يسارك ثلاثاً، وتعوذ بالله من شره )، فأمره صلى الله عليه وسلم بأن ينفث على يساره.

    إذاً يوجد في الحديث التفات، فصار هذا الالتفات للحاجة، والقاعدة عند الفقهاء: أن النهي إذا جاء ما يجوز مخالفته دل على أن النهي للكراهة، وأن الأمر إذا جاء ما يخفف في تركه دل على أن الأمر للاستحباب، وإذا فعل من غير حاجة كان مكروهاً، وإذا ترك من غير حاجة كان تركاً للسنة.

    فحديث سهل الحنظلية وحديث عثمان بن أبي العاص يؤيد هذا، زد على ذلك ما جاء في الصحيحين في قصة أبي بكر حين أم الناس، ( فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يسبحون، وكان أبو بكر إذا صلى لا يلتفت، فلما أكثروا التسبيح التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه، ثم رجع القهقرى )، فالتفات أبي بكر رضي الله عنه لحاجة، ولو كان محرماً لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بيانه، كيف والصحابة حينما أرادوا أن يبينوا لـأبي بكر جعلوا يصفقون! فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما منعك يا أبا بكر أن تبقى مكانك؟ قال: ما كان لـابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، فقال للصحابة: ما بالكم تصفقون؟ إنما التصفيق للنساء، فإذا صلى أحدكم فحدث له شيء فليسبح الرجال ولتصفق النساء )، فلو كان الالتفات محرماً لبينه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

    القسم الثالث: أشار إليه المؤلف هو التفات الجسد بأن يلتفت بمنكبيه عن القبلة، وأشار إليه المؤلف بقوله: (وإن استدار بجملته أو استدبر القبلة في غير شدة خوف) فيلتفت بجميع بدنه، فهنا تبطل صلاته؛ لتركه استقبال القبلة، لكن إذا كان في شدة الخوف فقد قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، فلا تبطل، ونحن نقول: يلتفت بجسده، فإن التفت الشيء المركوب عن القبلة لضرورة ولم يلتفت جسده مثل ركوب الطائرة، فإنه لم يلتفت هنا، ولكن الذي التفت هو المركوب، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا مضطر إليه، ولو لم يكن من خوف، والله أعلم.

    القسم الرابع: التفات البصر يميناً وشمالاً فهذا من المكروه، إلا أن رفع البصر إلى السماء في الصلاة محرم، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس : ( ما يأمن الذي يرفع رأسه إلى السماء عند الدعاء في الصلاة أن تخطف أبصارهم )، وأما في الدعاء في غير الصلاة فالذي يظهر وهو مذهب مالك و الشافعي ورواية عند الإمام أحمد أن ذلك جائز ولكنه خلاف السنة، ولكن ليس بمحرم ولا مكروه.

    إذا ثبت هذا فقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن الالتفات محرم في الصلاة، وأن رفع البصر في الدعاء سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة محرم، ولا شك في عدم وجود دليل في تحريم رفع البصر إلى السماء من غير الصلاة في الدعاء؛ لأن الوارد هو في الصلاة والله أعلم.

    وعلى هذا فالراجح أن التفات البصر إلى السماء محرم خلافاً للحنابلة كما سوف يأتي.

    المؤلف يقول: إذا كان استدار بجسده من غير خوف ولا عذر بطلت صلاته وقلنا: هذا هو الراجح.

    رفع المصلي بصره إلى السماء في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره رفع بصره إلى السماء إلا إذا تجشأ فيرفع وجهه؛ لئلا يؤذي من حوله؛ لحديث أنس رضي الله عنه: ( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهين أو لتخطفن أبصارهم )، رواه البخاري ].

    المؤلف هنا حكم بكراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء وهذا مذهب الحنابلة، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك على سبيل التحريم، وهي رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية وهو مذهب ابن حزم وهو الراجح؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على من صنع ذلك دليل على التحريم، فقوله: ( أو لتخطفن أبصارهم ) دليل على التحريم والله أعلم، فلا يحل للمصلي أن يرفع بصره إلى السماء في الصلاة.

    أما خارج الصلاة فالذي يظهر والله أعلم هو مذهب مالك و الشافعي أن ذلك جائز لأمور:

    أولاً: لأن الأحاديث الواردة في النهي إنما هي في الصلاة: ( لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة ).

    ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب بصره إلى السماء لانتظار فرج، ولا شك أن رفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره كان تأملاً ودعاء لله، قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى قبل الفجر يخرج فينظر النجوم، ويقرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:190-191] الآية، رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس ، وزاد ابن حبان : ( ويل لمن قرأها ولم يتدبرها ).

    تغميض المصلي لعينيه في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره أيضاً تغميض عينيه؛ لأنه فعل اليهود ].

    المؤلف هنا حكم على أن تغميض العينين مكروه، ولا شك أن الكراهة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي، ومن المعلوم أن تغميض العينين وقوله: أن ذلك من فعل اليهود يحتاج إلى دليل مرفوع، فقد جاء عن عائشة أنها نهت عن ذلك، ولكن ينبغي أن نفصل، فنقول: الأصل ألا يغمض الإنسان عينيه في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فهذا يدل على أنهم لم يكونوا يغمضون أعينهم، قال البراء في الصحيحين: ( فإذا رفع رأسه من الركوع لم نزل قياماً ننتظره حتى نراه قد وضع جبهته على الأرض )، ورواية وإن كان فيها كلام: (لم يجاوز بصره إشارته) فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر لم يكن يغمض عينيه.

    ولكن إذا طرأ عليه شيء في الصلاة مثل أن يكون بين يديه ما يلهي فالذي يظهر والله أعلم أن إغماض العينين هنا لا بأس وهو جائز، واجتهادنا بالجواز؛ لأنه لم يرد عندنا دليل يمنع التغميض، ولو كان ثمة دليل لقلنا: يجتهد في الخشوع ولا يغمض عينيه، أما ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء فلا بأس أن يغمض عينيه إذا كان بين يديه ما يلهي.

    وقد قال بعض مشايخنا: لا ينبغي له أن يغمض عينيه بل يجتهد، وهذا في حق ما إذا ثبت لنا دليل بمنع تغميض العينين، أما ولم يثبت فالذي يظهر والله أعلم أنه لا بأس بذلك كما هو قول ابن القيم .

    لكن إذا كان ذلك أدعى لخشوعه فهل يغمض عينيه؟

    ذكر ابن القيم أنه لا بأس بذلك، قال: والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، هذا إذا كان في حال طلب الخشوع.

    والذي يظهر والله أعلم أنه إذا طرأ عليه هذا الأمر فهو جائز لا يقال بالكراهة ولا بالاستحباب، فأحياناً الإنسان يأتيه خشوع وهو بين يدي الله، فتجده يغمض عينيه لا قصد الخشوع، ولكنها حالة طرأت فلا بأس بها، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتقصد إغماض العينين كي يخشع، والله أعلم.

    إقعاء المصلي عند جلوسه في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره أيضاً إقعاؤه في الجلوس، وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، هكذا فسره الإمام، وهو قول أهل الحديث، واقتصر عليه في المغني والمقنع والفروع وغيرها، وعند العرب الإقعاء جلوس الرجل على إليتيه ناصباً قدميه مثل إقعاء الكلب، قال في شرح المنتهى: وكل من الجلستين مكروه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب )، رواه ابن ماجه ، ويكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس؛ لقول ابن عمر : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده )، رواه أحمد وغيره، وأن يستند إلى جدار ونحوه؛ لأنه يزيل مشقة القيام، إلا من حاجة، فإن كان يسقط لو أزيل لم تصح ].

    المؤلف هنا ذكر كراهة الإقعاء، وقد اختلف العلماء في تفسير الإقعاء، والمؤلف ذكر تفسيرين:

    التفسير الأول: قال: (أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه)، مثلما يفعله العامة بأن يضع ظهر اليمنى على الأرض، وظهر اليسرى فوق اليمنى على الأرض، أو العكس يضع اليسرى، ثم يضع ظهر اليمنى على الأرض، ثم يجلس على عقبيه، وتكون الرجلان كأنهما على شكل علامة الضرب، هذا الذي يظهر في تفسير: (ثم يجلس على عقبيه).

    والتفسير الآخر: هو (جلوس الرجل على إليتيه ناصباً قدميه) مثل الكلب، بأن يجلس على إليتيه ويجعل بطن رجليه على الأرض وينصبهما مثل جلسة القرفصاء مثلاً، فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الجلوس على هذه الحالة، وقال أبو داود : (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقعاء كإقعاء الكلب)، هذا هو الإقعاء المنهي عنه، وهذا بلا شك منهي عنه. بقيت حالتات وهما:

    التفسير الثالث: أن يجعل أصابع قدميه في الأرض، وتكون عقباه قائمتين، وإليتاه بين عقبيه، يعني: ينصب اليمنى وينصب اليسرى، ويجلس بينهما، فيمكن أن يتكئ على الأرض ويمكن ألا يتكئ، فهذا جاء في تفسيره.

    والرابع من الإقعاء أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه، فلا ينصب قدميه ويجلس عليها، هذه أربع حالات.

    وأنت ترى رعاك ربي أن الشارع إذا نهى عن صفة فإن الأصل أن تفسيرها يكون إلى الشارع، وحينئذٍ فتفسير الفقهاء الإقعاء بناءً على لغة العرب نقول فيه: القاعدة أن كل ما أتى في الشرع من غير تحديد، فبالعرف يحدد، أما الإقعاء هنا فقد جاء تفسيره في الشرع، وهو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقعاء كإقعاء الكلب ).

    وحينئذٍ فالنهي عن الإقعاء إنما هو الإقعاء الذي نص الشارع على تفسيره، وأما ما يحتمله اللفظ من حيث اللغة وقد جاء عن الشارع ما يجوزه فلا يحمل على الكراهة، مثل أن ينصب قدميه ويجلس على إليتيه، فإن مسلماً رحمه الله روى من طريق طاوس أنه قال: ( سألنا ابن عباس عن إقعاء القدمين -بأن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه- فقال: هي سنة الصلاة، قلنا: إنا لنراه جفاءً بالرجل، قال: سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ).

    وهذا يدل على أن تفسير الإقعاء باللغة بهذا المعنى غير وارد شرعاً؛ لأنه جاء في الشرع ما يثبت مخالفة اللغة، فالحكم حينئذٍ عند الشرع.

    وعلى هذا فقد ذهب الحنابلة والمالكية إلى كراهة الإقعاء بأن ينصب قدميه ويجلس على إليتيه، ولم يفرقوا بين الافتراش أو الإقعاء فيما يظهر، واستدل مالك رحمه الله بأن ابن عمر كان يكره ذلك، وقال: إن سنة الصلاة أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى، والذي يظهر والله أعلم أن ابن عمر خفيت عليه السنة، وأنه ذكر الحالة الغالبة لحال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يجلس على اليسرى وينصب اليمنى، فخفيت عليه السنة، هذا الاحتمال الأول، أو يقال: إن ابن عمر رضي الله عنه إنما أراد صفة جلوس التشهد، وهو سنة الصلاة أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى ففي الحديث: ( وكان إذا جلس بين الثنتين جلس على اليسرى ونصب اليمنى )، ولم يشر ابن عمر إلى الجلوس أحياناً بين السجدتين، وحديث ابن عباس محمول على أنه بين السجدتين، وهذا التأويل الثاني لعله أولى من تخطئة الصحابي، وعلى هذا فمذهب مالك رحمه الله الكراهة؛ بناءً على تفسير ابن عمر محمول على أن ذلك في التشهد الأول، والله أعلم.

    فالمؤلف ذكر تفسيرين هو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك ليس بمكروه، ولا شك أن ذلك ترك للسنة؛ لأنه لم يجلس الإقعاء الذي بين السجدتين، فالسنة أن ينصب قدميه، ولم يفعل السنة بأن يجلس لليسرى وينصب اليمنى، ولكنه فعل حالة معينة، ولكن نقول: إن هذا ترك السنة، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك مكروهاً؛ لأن ترك السنة ليس بمكروه، فهذا الذي يظهر، والمسألة مسألة أصولية معروفة.

    قال المؤلف رحمه الله: ( لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب )، الحديث أولاً في سنده ضعف، فإن العلاء بن زيد الثقفي ضعيف، وعليه مدار الحديث، ولكننا نقول: وإن كان الحديث ضعيفاً فإن الشارع نهى عن مشابهة البهائم أثناء الصلاة، فنهى أن يبرك الرجل كما يبرك البعير، ونهى أن يفترش ذراعيه كافتراش الكلب، وكذلك ينهى أن ينصب قدميه كحالة الكلب، ولا يلزم من ترك السنة فعل المكروه مثل أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه.

    اعتماد المصلي على يده أو غيرها وهو جالس

    قال المؤلف رحمه الله: (ويكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس).

    هل يكره الاعتماد على اليد وهو جالس مطلقاً، أو وهو في الصلاة؟ المعروف الذي رواه معمر بن راشد عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يده وهو يصلي )، وعلى هذا فجلوس بعض الناس حينما يضع يده اليمنى أو اليسرى، وجاء في بعض الروايات أنها اليسرى، فهذه إنما هي في الصلاة، وجاء في بعض الروايات أنها جلسة المغضوب عليهم وهم يعذبون والعياذ بالله، ولا شك أن الأولى ترك ذلك، أما في الصلاة فهذا ثابت أنه مكروه لأنه مخالف للسنة، والحديث صححه ابن خزيمة ، وإن كان في سنده بعض الكلام، لكن الذي يظهر أن ذلك في الصلاة، أما خارج الصلاة فالأحاديث الواردة فيها كلام، فلو ترك فهو أفضل.

    وقد ألف بعض العلماء في ذلك كتاباً ذكر أن اعتماد الرجل على يديه أو على إحدى يديه وهو جالس أن ذلك من مشابهته لليهود، والذي يظهر أن ذلك منهي عنه في الصلاة، أما خارج الصلاة فالأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، والله أعلى وأعلم.

    استناد المصلي إلى جدار ونحوه

    قال المؤلف رحمه الله: (وأن يستند إلى جدار ونحوه).

    يعني: يكره للإنسان أن يستند إلى جدار، والمؤلف ذكر ذلك، وهذا مبني على حالتين:

    الحالة الأولى: أن يستند إلى جدار بحيث لو أزيل الجدار لسقط، بحيث يكون اعتماده كله على الجدار، فهذا لا تصح صلاته؛ لأنه لم يكن فاعلاً للركنية، وهو القيام، وأما إذا كان الاعتماد على الجدار خفيفاً بحيث لو أزيل لم يسقط فإن العلماء قالوا: أن ذلك مكروه؛ لأنه مخالف لسنة القيام إلا للحاجة، فالحاجة تقدر بقدرها، وأما حديث أم قيس بنت محصن : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسن وحمل اللحم اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه )، فهذا في سنده رجل يقال له: عبد السلام الوابصي ، وهو مجهول، وكذلك أبو عبد الرحمن مجهول والله أعلم.

    افتراش المصلي ذراعيه في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره افتراش ذراعيه ساجداً بأن يمدهما على الأرض ملصقاً لهما بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) متفق عليه من حديث أنس ].

    الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، والحنابلة حملوا هذا النهي على الكراهة قالوا: لأنه لو فعل لم تبطل صلاته؛ لأن الوجوب قد فعل، ولكن الذي يظهر والله أعلم أن ذلك محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب )، وهذا قول ابن حزم ، ورواية عند الإمام أحمد ، لكن إذا كان مستعيناً بمرفقيه على الركب، فهذا لا بأس به، صورتها: وقت السجود الطويل بأن يعتمد على مرفقيه في الركب، بأن يضعهما على الركب وهو ساجد، فهذا لم يحصل افتراش مثل افتراش الكلب، فلا بأس حينئذٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حينما شكى أصحابه طول السجود، قال: ( استعينوا بالركب )، وهذا الحديث ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وهذا إشارة إلى الضعف، فرواه أبو داود وحسنه كثير من المتأخرين، والحديث ولو ضعف يدل على أنه بأس بالاعتماد على الركب حال الحاجة.

    عبث المصلي في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره عبثه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث في صلاته، فقال: ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ) ].

    هذا الحديث أخرجه الحكيم الترمذي من حديث أبي هريرة ، وفي سنده سليمان بن عمرو أبو داود النخعي أجمع العلماء على تضعيفه، ولكن ينبغي على الإنسان ألا يكثر من العبث، ولا شك أن تحريكه رأسه أو يديه مخالف لطلب الشارع القنوت، والقنوت كما قال الله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] هو ترك الحركة، وترك الضحك والتبسم، فهذا بلا شك مكروه، ومن ذلك عبث الإنسان بأنفه، أو بغترته.

    والعجب أن إخواننا المسلمين من العجم أحسن صلاة من كثير من المسلمين العرب، أليس كذلك؟ بل إنني ذهبت إلى بعض البلاد قريباً من جزر القمر وهي مرشز، وعدد المسلمين يشكلون تقريباً إلى خمسة وأربعين بالمائة، فرأيت أن الصبيان لهم صف كما قال بعض الفقهاء، فإذا أقيمت الصلاة يترك الصف الأول للكبار، وفي حالة إتيان الكبار وقت صلاة الإمام يترك الصبيان الصف الثاني والثالث ويصفون في الصف الرابع، وصلاتهم أفضل من صلاة كثير من طلاب العلم في هذا الزمان، وتعجبت حينما يأتي الصبيان وهم صغار لهم صف، وتخيل معي ما هو حال الإمام وقت صلاة التراويح، وحال الجماعة وقت صلاة التراويح، فإن جميع الإنذارات والإطفاء والدفاع، ومع ذلك تبوء كل هذه الجهود بالخسارة الذريعة، وهذا واقع مع الأسف الشديد، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف التربية من قبل الوالد ومن قبل الأسرة، ومن قبل المدرسة.

    ولا شك أيها الإخوة! أن تأثير القدوة أعظم من تأثير المحاضرة، فأبناؤنا حينما رأونا كيف نصلي تربوا على ذلك كما قال القائل:

    وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

    وهذا مع الأسف الشديد بحاجة إلى عناية كبيرة جداً، فإذا كان الطالب وهو صغير يحضر الصلاة في المدرسة، ويرى معلمه يعبث بعقاله وبغترته مرة يضعها على ذات اليمين، ومرة يضع أطراف الغترة على اليسار، ومرة يرفعها فوق الرأس، ومرة ينزلها، ومرة يضعها على الكتف، بلا شك سوف يصنع الصبي مثل ذلك والله أعلم.

    والكلام في هذا يطول، لكن الذي يظهر والله أعلم أن ذلك عبث، ولا شك أن كثرة المداومة على ذلك مبطلة للصلاة، لما روى البخاري من حديث حذيفة أنه قال: ( منذ متى وأنت تصلي؟ قال: منذ كذا وكذا، قال: مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم ).

    تخصر المصلي في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره تخصره، أي: وضع يديه على خاصرته؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً، متفق عليه من حديث أبي هريرة ].

    ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخصر الرجل )، قال العلماء: النهي هنا للكراهة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وذهب ابن حزم إلى أن النهي للتحريم، على قاعدته رحمه الله، والذي يظهر أن ذلك مكروه كراهة شديدة، وقولنا بالكراهة هنا؛ لأن ذلك مخالف للسنة الواردة، وهو أن يقبض باليمنى اليسرى، يعني: أن يضع يده اليمنى على اليسرى، فإذا تخصر فقد خالف في ذلك، ولم يكن في ذلك تشبه بالحيوانات وغيرها، وما جاء أن ذلك راحة أهل النار، أو كما جاء عن ابن عباس أنه تشبه بالشيطان، وعن عائشة تشبه باليهود، والأقرب والله أعلم أن ذلك مكروه كراهة شديدة، ولو قيل بالتحريم على قول ابن حزم لم يكن ببعيد؛ لأن ذلك مشابهة لليهود كما قالت عائشة .

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره تروحه بمروحة ونحوها؛ لأنه من العبث إلا لحاجة كغم شديد، ومراوحته بين رجليه مستحبة وتكره كثرته؛ لأنه فعل اليهود ].

    المراوحة غير التروح، التروح هو أن يأخذ شيئاً يروح به وجهه، وهذا المراد بقول المؤلف: (تروحه بمروحه) ومن ذلك ما يصنعه كثير من الإخوة في الصلاة حينما يكون قد اشتد حره يأخذ بأطراف غترته ثم يهزها هكذا فهذا من العبث، ومن الاشتغال عن الصلاة.

    وأما المراوحة فقد ذكر المؤلف أن المراوحة بين رجليه مستحبة، وهو أن ينصب إحدى قدميه ويقدم الأخرى، بأن يعتمد على إحدى رجليه ويقدم الأخرى، وهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنهم كان يصنعون ذلك، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك جائز للحاجة، وأما من غير حاجة فالسنة هو عدم المراوحة. ولعلنا نقف عند هذا والله أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755958697