عباد الله! شهر رمضان شهر الخيرات والبركات، شهر مواسم الطاعات، لقد تميز شهر رمضان بخيرات كثيرات، ومواسم وشعائر معظمة، فحري بالمسلم وجدير به أن يستفيد منها وأن يستغلها، وأن تتحقق فيه حكمة الصيام، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
وكذلك ليحرص على الاستغفار بالأسحار، قال الله عز وجل: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].
وليتخلق بآداب الدعاء: من حضور القلب، والإلحاح في الدعاء، والبدء بحمد الله والثناء عليه، والختم بالصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالوسائل المشروعة في الدعاء: كالتوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى.
وهل غاب عن ذهنك أيها المقصر أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً مع التوبة وصدق التوجه، فتذكر ذلك جيداً، وادع الله بالتوبة النصوح، واسأله من خيري الدنيا والآخرة، وارجُ رحمة ربك، وأن تكون من عتقائه من النار.
وإنه لفرق بين من يتصور هذه المعاني عند لحظات الإفطار، وبين من هو غائب شارد لا يقطع حديثه المعتاد إلا سماع الأذان، وربما كان في كلام محرم، فكانت الخسارة أعظم.
فاستفيدوا من الصيام يا معاشر الصوام، وانتبهوا للحظات قبول الدعاء فهي حرية بالاهتمام.
وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة، غفر له ما تقدم من ذنبه).
و(الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)، كما روى ذلك معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وإذا كانت الصدقة مستحبة في كل زمان، فلها في شهر الصيام مزية على سائر العام، وقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان؛ اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم؛ ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى في شهر رمضان: إنما هو إطعام للطعام، وقراءة للقرآن.
وتبقى القلوب التي لا تلين أو تتأثر بالقرآن كالحجارة أو أشد قسوة وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
لكن للقرآن في رمضان مزية خاصة، ففيه أنزل، وبه كان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة من رمضان يدارسه، به تزدان المساجد في رمضان تلاوة وصلاة وخشوعاً، وفيه يتهيأ لكثير من الناس القراءة أكثر من غيره، وإن كان حرياً بالمسلم أن يداوم على قراءة القرآن في رمضان أو غير رمضان، لكن فضل الزمان يدعو إلى كثرة التلاوة والتدبر للقرآن.
وفي رمضان يجتمع الصيام مع تلاوة القرآن، فيكون أسمى للروح، وأخف للجوارح، لعدم امتلاء البطن بالطعام.
قارئ القرآن بتدبر وتمعن يقوده إلى التوبة، فلابد أن يعود إلى ربه ويستغفره من ذنوبه لعدة دواعٍ منها:
أنه يقرأ ما أعده الله للمتقين من النعيم والحبور الدائم، مما تطرب له النفوس، وتتعلق به القلوب، ويزداد شوقه إذا قرأ أن في ذلك النعيم ما لا يستوعبه الخيال، أو تحيط به العيون والأسماع، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] يقوده ذلك إلى التوبة حين يقرأ أخبار المعذبين من المعرضين والكافرين.
قارئ القرآن يستشعر التوبة؛ لأنه يقرأ أخبار وقصص التائبين، وفي مقدمتهم آدم عليه السلام، فلم تقعد به الخطيئة عن التوبة والاستغفار، ولم يتجبر أو يتكبر كحال إبليس الذي كان مصيره إلى النار وبئس القرار، ويستشعر من هذا أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون، فيتأمل في نفسه، ويعقد العزم على التوبة، ويكون هذا الشهر الكريم بداية عتقه من النار، ويكون القرآن دليله إلى النجاة، وقاربه إلى بر الأمان.
فحري بالأزواج اللذين بينهما شيء من التنافر والتناحر والتقاطع، أو الأقارب أو الجيران، أو الأصدقاء والزملاء، أن يغتنموا بركات هذا الشهر، وأن يعودوا إلى الله عز وجل بالعفو والصفح أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22].
اللهم اجعلنا ممن يصوم هذا الشهر إيماناً واحتساباً، وممن يقومه إيماناً واحتساباً، وممن يستفيد من خيراته وبركاته ودروسه، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
ومن المفطرات: إنزال المني إذا كان ذلك باختيار من الصائم، سواء كان ذلك بمباشرة الزوجة، أو بالاستمناء، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري يقول الله عز وجل: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
وإذا علم المباشر الذي يباشر أهله أنه إذا باشر أنه سينزل، فإنه يحرم عليه أن يباشر، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه)، خرجاه في الصحيحين؛ ولأن المباشرة حينئذ تكون طريقاً إلى إفساد الصوم، وما كان طريقاً إلى محرم فإنه محرم.
أما إنزال المني بالاحتلام أو بالتفكر فإنه لا يفسد الصوم؛ لأن ( الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )؛ ولأن النائم مرفوع عنه التكليف.
فلو أن المرأة رأت دم الحيض أو النفاس قبل الغروب ولو بلحظة واحدة، فسد عليها صومها، ولو أحست بانتقال الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد الغروب فإن صيامها صحيح.
ولو رأت الدم بعد غروب الشمس ولم تدر هل خرج قبل الغروب أو بعده فإن صيامها صحيح؛ لأن الأصل صحة العبادة.
وإذا استيقظت من نومها فوجدت أنها طاهرة ولم تدر هل طهرت قبل طلوع الفجر أو بعده، فإن صيامها غير صحيح؛ لأن الأصل بقاء دم الحيض.
ومن ذلك: ما يوجد في أزمنتنا هذه من الإبر المغذية التي يكتفى بها عن الطعام والشراب، أما بقية الإبر والحقن التي لا تغدي فإنها لا تفطر، ومن ذلك ما يستعمله أصحاب مرضى السكري.
وأما قطرة العين والأذن فإنها لا تفطر، والحديث الوارد في الكحل: (ليتقه الصائم) حديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن هذه القطرة ليس لها منفذ إلى المعدة.
وأما قطرة الأنف فلا تستخدم في نهار رمضان، لحديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
ويلحق بالحجامة التبرع بالدم الكثير، وعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يتبرع بالدم إلا عند ضرورة المريض إليه، وأما سحب الدم للتحليل ونحوه فلا يفسد الصوم؛ لأنه لا يقوم مقام الحجامة في إضعاف البدن.
وكذلك أيضاً: التحاميل التي تؤخذ عن طريق الدبر، أو عن طريق الفرج، فإنها لا تؤثر على الصوم.
ولا يستخدم الصائم المعجون ولا السواك المعطر؛ لأن هذه الأشياء لها طعم قوي ينفذ إلى المعدة، هذا هو الأولى بالمسلم، وليقتصر على السواك.
ومما يفسد الصوم: القيء وهو إخراج ما في المعدة عمداً، أما إذا ذرعه القيء دون أن يتعمد ذلك فإنه لا يؤثر على الصوم.
ولا يستنشق الصائم دخان البخور؛ لأن له أجزاء تصل إلى المعدة.
أما ما يتعلق بالغسيل الكلوي فإنه مفطر للصيام.
وأما ما يتعلق بحفر السن أو قلعه أو معالجته ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر على الصيام ولو خرج منه شيء من الدم، لكن لو تيقن أن شيئاً من أجزاء الدواء ذهب إلى المعدة فإنه يعيد صومه.
والشرط الثاني: أن يكون ذاكراً، وعلى هذا إذا كان ناسياً فإنما أطعمه الله وسقاه.
والشرط الثالث: أن يكون مختاراً، وعلى هذا إذا كان مكرهاً على هذه المفطرات فإن صيامه صحيح.
أسأل الله سبحانه وتعالى الفقه في دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسرى المسلمين، اللهم ردهم إلى بلادهم وأهليهم سالمين غانمين، يا أرحم الراحمين.
اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر