يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح، ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة، وتباح لبائن من حي، ولا تجب على رجعية، وموطوءة بشبهة أو زناً، أو في نكاح فاسد، أو باطل، أو ملك يمين، والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر إليها من الزينة والطيب والتحسين والحناء، وما صبغ للزينة وحلي وكحل أسود لا توتياً ونحوه، ولا نقاب وأبيض ولو كان حسناً.
فصل: في بيان سكن المتوفى عنها.
وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت، فإن تحولت خوفاً، أو قهراً، أو لحق انتقلت حيث شاءت ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً، وإن تركت الإحداد أثمت، وتمت عدتها بمضي زمانها.
باب: الاستبراء.
من ملك أمة يوطأ مثلها من صغير وذكر، وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها].
فتقدم لنا ما يتعلق بتداخل العدد، وتكلمنا على هذه المسألة، ومن ذلك: إذا وطئت المعتدة بشبهة، أو بنكاح فاسد ونحو ذلك، فهل تتداخل العدد؟ أو أن العدد لا تتداخل بل تكمل عدة الأول، ثم تشرع بعدة للآخر... إلى آخره.
وتقدم لنا أيضاً: هل الزانية تجب عليها عدة، أو أن الواجب عليها الاستبراء؟
وكذلك أيضاً ما يتعلق بالموطؤة بشبهة؛ وبالنكاح الفاسد؛ وما يتعلق بالمخلوعة والمبسوقة، ومن طلقها زوجها آخر الطلقات الثلاث، هل الواجب عليها عدة، أو استبراء.. إلى آخره؟ وكذلك أيضاً المسبية، والمهاجرة، والتي أسلمت.. إلى آخره.
الإحداد في اللغة: المنع.
وفي الاصطلاح: هو اجتناب المرأة المتوفى عنها زوجها مدة العدة كل ما يرغب في جماعها، والنظر إليها.
وحكم الإحداد: واجب باتفاق الأئمة، وإنما خالف في ذلك الحسن البصري رحمه الله تعالى: فإنه لا يرى الإحداد، والسنة مستغنى بها عن كل أحد، كما قال: ابن المنذر رحمه الله تعالى، ويدل لوجوب الإحداد حديث أم حبيبة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثٍ ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ).
فقوله هذا يدل على أن الإحداد على غير الزوج فوق الثلاث محرم، واستثني الزوج من هذا التحريم فدل على أنه واجب، وسيأتينا أيضاً من الأدلة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تكتحل الحادة، وأن تلبس الحلي، وأن تلبس الثياب الممشقة.. إلى آخره، مما يدل على أن الإحداد واجب.
والحكمة من الإحداد: هي تعظيم مصيبة الموت، ولاشك أن الشارع عظم مصيبة الموت، وبيان عظم حق الزوج وأثر فقده، ففيه تعظيم حق الزوج، وبيان المصيبة في فقده وعظم أثره، ولاشك أن الزوج له أثر كبير على المرأة، كذلك أيضاً: بيان شيء من محاسن هذه الشريعة الإسلامية، وأن هذه الشريعة خالفت ما كان عليه أهل الجاهلية، إذ إن أهل الجاهلية كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها سارت إلى أقبح بيت وأوحشه، وامتنعت من الاغتسال والطيب والادهان ونحو ذلك، مدة سنة كاملة حتى تخرج في هيئة يرثى لها، فهذا العمل والصنيع الذي كان عليه أهل الجاهلية أبدله الإسلام بما هو خير منه، مما لا تترتب عليه هذه المضار، بل تترتب عليه مصالح عظيمة؛ من تعظيم مصيبة الموت، وتعظيم حق الزوج، وبيان أثر فقده ونحو ذلك.
النوع الأول: الإحداد على غير الزوج، وهذا مدته ثلاثة أيام، وهو جائز ولا بأس به، فإذا توفي قريب فلا بأس أن تحد عليه مدة ثلاثة أيام، ومعنى ذلك: أن يترك المصاب ما كان مألوفاً له ومعتاداً له؛ من الخروج للتجارة والتنزه وملاقاة الناس، وكذلك يقلل من الملذات، فهذا إحداد جائز، والشريعة جاءت به، وفيه مراعاة للنفس البشرية، ويدل له حديث أم حبيبة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، مما يدل على أن الإحداد لمدة ثلاثة أيام جائز.
النوع الثاني: الإحداد على الزوج، وهذا هو الذي سيتكلم عليه المؤلف رحمه الله، ومدته أربعة أشهر وعشراً، قال المؤلف رحمه الله: (ويلزم الإحداد). يؤخذ من هذه الجملة أن الإحداد حكمه واجب، قال: (مدة العدة)، أيضاً يؤخذ من هذه الجملة أن الإحداد إنما يكون في زمن العدة، وعلى هذا لو أن المرأة لم تعلم بالوفاة إلا بعد أن انتهت عدتها فنقول: بأن الإحداد لا يجب عليها، ولنفرض أن رجلاً كان غائباً، وتوفي ولم تعلم زوجته بوفاته إلا بعد خمسة أشهر، فنقول: بأنه لا عدة عليها ولا إحداد.
وتقدم لنا متى تبدأ العدة، وهل تبدأ العدة من حين الوفاة والطلاق، أو من حين بلوغ الخبر للمرأة؟
ذكرنا رأيين في هذه المسألة، وأن جمهور أهل العلم أن العدة تبدأ من حين الفرقة، سواء كان ذلك بطلاق، أو وفاة، أو غير ذلك.
الإحداد اشترطوا لوجوبه شروطاً:
الشرط الأول: بينه المؤلف رحمه الله بقوله: (متوفى عنها زوجها)، وسيأتينا -إن شاء الله- هل الرجعية التي لم يتوف عنها زوجها، وإنما طلقها زوجها دون ما يملك، وكذلك المبانة التي طلقها زوجها هل تحد أو لا تحد؟
الشرط الثاني: قال المؤلف رحمه الله تعالى: (في نكاح صحيح).
يشترط أن يكون النكاح صحيحاً، وعلى هذا إذا كان النكاح فاسداً كما لو كان بلا ولي، ثم توفي الزوج هل يجب الإحداد، أو لا يجب الإحداد؟
نقول: لا يجب الإحداد؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تترتب على العقود الصحيحة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر... )، نقول المراد بذلك: النكاح الصحيح.
الشرط الثالث: قال المؤلف رحمه الله: (ولو ذمية).
يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله: أنه لا يشترط الإسلام.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون متوفىً عنها زوجها.
والشرط الثاني: أن يكون النكاح صحيحاً.
والشرط الثالث: لا يشترط الإسلام.
للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: رأي الحنفية: أن الإسلام شرط، فيشترط أن تكون مسلمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر )، وهذا صفة المسلمة.
والرأي الثاني: وعليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى أنه لا يشترط الإسلام ولو توفي زوج النصرانية أو اليهودية المسلم، فإنه يجب على زوجته الذمية أن تحد في عموم أدلة الإحداد، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر )، إنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الحث والترغيب، والتأكيد على الأخذ بهذا الحكم الشرعي، وأن من آمنت بالله واليوم الآخر، فإنها لا تترك هذا الإحداد.
قال المؤلف رحمه الله: (أو غير مكلفة).
هذا الشرط الرابع: هل يشترط أن تكون بالغة عاقلة؟
الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة، فجمهور العلماء يقولون: لا يشترط أن تكون بالغة عاقلة، فلو كانت الزوجة صغيرة وتوفي زوجها فإنه يجب الإحداد، وكذلك أيضاً لو كانت مجنونة وتوفي زوجها فالإحداد واجب؛ لعموم أدلة الإحداد.
أما الحنفية، فيقولون: لا يجب الإحداد على الصغيرة ولا على المجنونة؛ لأن القلم مرفوع عنها.
ويجاب عن هذا بأن قلم التكليف مرفوع عنها فيما يتعلق بالأوامر، أما ما يتعلق بالنواهي، فإن وليها يمنعها، كما أن وليها يمنعها -المجنونة أو الصغيرة- من المحرمات، مثلاً: من شرب الخمر، من سائل الخنزير، أو شرب الدخان، وغير ذلك من المحرمات؛ فأيضاً تمنع مما تمنع منه الحادة من الزينة، والحلي، وغير ذلك مما سيأتينا إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله: (ولو ذمية أو أمة).
تقدم لنا أنه يشترط أن تكون الحادة متوفى عنها زوجها، ولو غير مكلفة، وهل يشترط في الحادة أن تكون حرة؟
باتفاق الأئمة هذا ليس شرطاً، يعني: من كانت زوجة فإنه يجب عليها أن تحد، سواء أن كانت حرة، أو كانت أمة، وأما الأمة ملك اليمين فلا يجب عليها الإحداد.
الشرط الخامس: أن تكون زوجة، سواءً كانت هذه الزوجة أمة أو حرة، أما الأمة التي ليست زوجة وإنما هي ملك يمين يطأها سيدها بملك اليمين، فهذه لا يجب عليها الإحداد.
قال المؤلف رحمه الله: (ويباح للبائن من حي).
يعني: الزوجة التي لم يتوف عنها زوجها، وإنما طلقها زوجها طلاقاً بائناً كما لو طلقها آخر الطلقات الثلاث، فهذه يقول المؤلف رحمه الله: لا يجب عليها الإحداد؛ لأن الإحداد إنما جاء في المتوفى عنها زوجها:( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، وعلى هذا ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يجب الإحداد على المطلقة البائن خلافاً للحنفية الذين يرون أن الإحداد يجب على المطلقة البائن، ويستدلون على هذا بحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى المعتدة أن تختضب )؛ لكنه حديث ضعيف، والصواب في ذلك ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.
قال: (ولا يجب على رجعية).
الرجعية: هي التي طلقها زوجها دون ما يملك من العدد ،طلقها طلقة أو طلقتين بلا عوض، فهذه لا يجب عليها الإحداد، باتفاق الأئمة، بل قال العلماء: لا يسن لها الإحداد، وتقدم لنا أن الرجعية حكمها حكم سائر الزوجات لقول الله عز وجل: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228].
والعلماء رحمهم الله يقولون: بل المشروع لها هو خلاف الإحداد، وهو أن تتجمل بالزينة ولبس أحسن الثياب والطيب ونحو ذلك؛ لأن هذا أدعى إلى حصول المراجعة بين الزوجين.
قال: (وموطوءة بشبهة، أو زناً).
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لا يجب الإحداد على من وطئت بشبهة، يعني: لو أن رجلا وطئ امرأة بشبهة كأن وجدها في فراشه، ثم وطأها يظنها زوجة له، ثم مات، فباتفاق الأئمة لا يجب عليها أن تحد، وكذلك أيضاً المزني بها، لو أن الزاني مات، فباتفاق الأئمة لا يجب الإحداد ولا يشرع.
قال: (أو في نكاح فاسد).
أيضاً هذا تقدم لنا أنه يشترط بشروط وجوب الإحداد أن يكون النكاح صحيحاً، وعلى هذا إذا كان هذا النكاح فاسداً، فإنه لا يجب الإحداد، فلو تزوج رجل امرأة بلا ولي، فهذا النكاح فاسد عند جمهور العلماء، ثم مات عنها، هل يجب عليها أن تحد، أو لا يجب عليها أن تحد؟
نقول: لا يجب عليها أن تحد في النكاح الفاسد باتفاق الأئمة.
قال: (أو باطل).
إذا كان النكاح باطلاً لا يجب عليها الإحداد، مثل: نكاح المتعة، ونكاح الشغار، والنكاح في العدة فهذه أنكحة باطلة لا يجب فيه الإحداد، وتقدم لنا أن الفاسد: ما اختلف العلماء في فساده، والباطل: ما أجمع العلماء على بطلانه.
قال: (أو بملك يمينه).
يقول المؤلف رحمه الله: الأمة ملك اليمين لا يجب عليها الإحداد إذا مات سيدها باتفاق الأئمة.
ما هي الأشياء التي تجتنبها الحادة فترة الإحداد؟
المؤلف رحمه الله ذكر ضابطاً هذا الضابط: كل ما يدعو إلى جماع المرأة، ويرغب في النظر إليها، فإن الحادة تجتنبه، وهذ يشمل أشياء:
قال: (الطيب).
هذا الأمر الأول، فالحادة ممنوعة من الطيب بالإجماع، ويدل لهذا حديث: أم عطية في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تمس طيباً )، ويستثنى من ذلك: إذا طهرت من حيضتها تستعمل نبذة من قسط أو أضفار تطيب به محل الحيض؛ لكي تزول عنه الرائحة الكريهة.
وإلا فهي تجتنبه سواء كان الطيب في ثوبها، أو في بدنها، أو في طعامها كاستعمال الزعفران ونحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (والتحسين والحناء).
الأمر الثاني مما تمنع منه الحادة: ما يتعلق بتجميل البدن من صبغ الشعر، وما يوجد اليوم من تحمير وتصفير للوجه، أو لسائر البدن سواء كان للشعر، أو للوجه، أو للأظافر، أو خضاب اليدين، أو خضاب الرجلين، أو نحو ذلك، فنقول: بأن الحادة ممنوعة من ذلك، ويدل لذلك: حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتوفى عنها زوجها لاتلبس المعصفرة من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل )، وهذا رواه أبو داود والترمذي ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما سيأتينا في الصحيحين في حديث أم سلمة: (نهى الحادة عن الإكتحال).
وفي حديث أم عطية في الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تكتحل )، فهذا يدل على أن كل ما يتعلق بتجميل البدن من كحل، أو خضاب للشعر، أو لليدين، أو للرجلين، أو تحمير وتصفير للوجه، فالحادة ممنوعة منه.
الثالث: (الإدهان).
الدهون تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: دهون مطيبة، وهذه تمنع منها؛ لأنها ممنوعة من الطيب.
القسم الثاني: أدهان غير مطيبة؛ كما لو دهنت وجهها أو يديها أو رجليها ونحو ذلك، فجمهور العلماء يقولون: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الأصل في ذلك الحل.
وعند الحنفية لا تجوز؛ لأن فيها زينة.
والصواب في ذلك: ما ذهب إليه جمهور العلماء؛ لأن الأصل في ذلك الحل، وأما القول: بأن فيها زينة، فهذه الزينة غير ظاهرة، ونظير ذلك الاغتسال فيجوز للحادة أن تغتسل، وإن كان الاغتسال فيه شيء من الزينة؛ لكن هذه زينة ليست ظاهرة.
قال المؤلف رحمه الله: (وما صبغ للزينة).
الأمر الرابع مما تمنع منه الحادة: ثياب الزينة، وهذا يرجع إلى العرف، فكل ما تعارف الناس أنه ثوب زينة، فإن الحادة تكون ممنوعة منه، أما إذا كان الثوب ليس ثوب زينة، وتعارف الناس أنه ليس ثوب زينة، وإنما هو من الثياب العادية التي تبتذل ولا تلبس للزينة، فإن الحادة لا تمنع منها، ويدل لذلك: ما تقدم من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفرة من الثياب، ولا الممشقة )، فكل ثوب زينة، نقول: بأنها ممنوعة منه.
ومثل ذلك أيضاً: الأحذية، إذا كانت أحذية زينة فإنه تمنع منها، أما إذا كانت أحذية عادية، فإن هذا لا بأس به بالقياس، أيضاً الخمار إذا كان خمار زينة فإنها تمنع منه، أما إذا كان خمارا عادياً فإنها لا تمنع منه.
قال: (وحلي).
الخامس مما تمنع منه الحادة: سائر الحلي سواء كان من ذهب أو فضة، أو من الماس، أو من حديد، أو من صفر، أو من غير ذلك، وسواء أن كان هذا الحلي في بدنها قبل الموت، أو كان بعد الموت، وعلى هذا إذا توفي عنها زوجها، فإنه يجب عليها أن تخلع سائر الحلي، ويدل لذلك: ما تقدم من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفرة من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي ).
الرأي الثاني: رأي الظاهرية، قالوا: لا تمنع من الحلي، وحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا الحلي ) ضعفه ابن حزم ، وقد رد عليه ابن القيم رحمه الله في كتابه الهدي، ولو فرض أنه ضعيف فعندنا حديث أم سلمة وأم عطية في الصحيحين، والشارع لا يفرق بين المتماثلات، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تكتحل ) فهذا فيه زينة والحلي أيضاً فيه زينة، وقال أيضاً: ( ولا تلبس المعصفر من الثياب )؛ لأن هذا فيه زينة؛ فكذلك الحلي أيضاً بجامع الزينة، فهذه الأحاديث تدل على أن الحادة ممنوعة من الزينة، والحلي فيه زينة.
والرأي الثالث في المسألة: رأي عطاء أنه تباح لها الفضة ويحرم عليها الذهب.
ورأي عطاء ضعيف .
والخلاصة: أن الصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الحادة ممنوعة من الحلي، وعندنا حديث أم سلمة وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ولا الحلي )، وعندنا أيضاً حديث أم عطية في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ولا تلبس ثوبا مصبوغا )، وحديث أم سلمة في الصحيحين في نهي الحادة عن الكحل كل هذا يدل على أن الحادة ممنوعة من الزينة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وكحل).
الأمر السادس مما تمنع منه الحادة: الكحل، ويدل لذلك: حديث أم عطية في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تكتحل )؛ وأيضاً حديث أم سلمة رضي الله عنها، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولا تكتحل )، وهذا باتفاق الأئمة؛ لكن اختلف العلماء رحمهم الله تعالى إذا احتاجت الكحل للضرورة هل يجوز لها أن تكتحل أو لا يجوز؟
جمهور العلماء قالوا: إذا احتاجت إليه للضرورة فإنها تضعه في الليل وتمسحه في النهار، وعند ابن حزم : لا يجوز الكحل مطلقاً حتى ولو اضطرت إليه، ويدل لذلك حديث أم سلمة في الصحيحين: ( أن امرأة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم لكي تكحل ابنتها وقد توفي عنها زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، مرتين أو ثلاثة )، وأجاب العلماء رحمهم الله عن هذا بجوابين:
الجواب الأول: النبي صلى الله عليه وسلم علم من حالتها أنها لم تضطر للكحل، ورد بأنه جاء في الحديث: أنهم خشوا على عينها، وهذا يدل على أنها مضطرة.
والجواب الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذه الضرورة تزول بغير الكحل.
قال المؤلف رحمه الله: (لا توتيا ونحوه).
التوتيا: نوع من أنواع الكحل؛ لكنه ليس أسود وكذلك العنزورات، فيجوز أن تكحل به العين، ولا بأس بها؛ لأن هذا لا يزين، فإذا كان الكحل ليس بأسود ولا يكون فيه زينة وجمال للمرأة؛ فإنه لا بأس به للحادة.
قال: (ولا نقاب).
لا بأس أن تلبس النقاب؛ لأنها ليست محرمة، والنقاب إنما منعت منه المحرمة.
يقول المؤلف رحمه الله: (وأبيض ولو كان حسناً).
لا بأس أن تلبس الثوب الأبيض ولو كان حسناً، وهذا فيه نظر.
والصواب في ذلك: أن الحادة ممنوعة من كل ثوب زينة، فإذا كان هذا الثوب الأبيض ثوب زينة فإن الحادة ممنوعة منه لما تقدم من حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلبس ثوباً مصبوغاً )، وفي حديث أم سلمة : ( لا تلبس المعصفر من الثياب ).
وكذلك أيضاً: لا تمنع الحادة من الاغتسال، فإن هذا لا بأس به؛ وأيضاً لا تمنع من أخذ سنن الفطرة كتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقطع الروائح الكريهة، ونحو ذلك، وهذا مما امتازت به الشريعة عما كان عليه أهل الجاهلية؛ لأن الحادة في الجاهلية -كما سلف- كانت تمكث على حالتها لا تغتسل، ولا تقلم ظفراً، ولا تمتشط... إلى آخره، وأما ما يذكره العامة من أن الحادة ممنوعة من كلام الرجال، فحكمها حكم غيرها فيما يتعلق بكلام الرجال، فإذا احتاجت أن تكلم رجلاً أجنبياً، فإن هذا لا بأس به، وكذلك خروجها للسطح، ونحو ذلك، وكلام العوام ليس عليه دليل، وإذا انتهت فترة الإحداد فليس هناك عمل يشرع، فحكمها كسائر النساء.
الحكم السابع مما يلزم الحادة: أنه يجب عليها أن تقر في البيت الذي أتاها نعي زوجها وهي ساكنة فيه؛ لحديث فريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( امكثي في بيتك الذي أتاكِ فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله )، فالبيت الذي كانت ساكنةً فيه إذا أتاها نعي زوجها يجب عليها أن تمكث فيه إلى أن تنتهي فترة الإحداد، كما سيأتينا أن شاء الله.
وهذا هو الوارد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كـــعمر وعثمان وابن عمر وابن مسعود وأم سلمة ، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم وعند الظاهرية: لا يجب عليها أن تلزم المسكن لقول الله عز وجل: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240].
وأجاب عنه العلماء رحمهم الله بأن قوله: فَإِنْ خَرَجْنَ [البقرة:240]، المقصود من ذلك الخروج من العدة، يعني: إذا خرجت من العدة وانتهت العدة، وقالوا: هذا هو الذي ورد عن جمع من الصحابة منهم: علي وابن عباس وجابر وعائشة ، وخالفهم غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
قال المؤلف: (تجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت، فإن تحولت خوفاً).
الأصل أنها تمكث في المنزل الذي أتاها نعي زوجها وهي ساكنة فيه حتى يبلغ الكتاب أجله، ويستثنى من ذلك مسائل:
المسألة الأولى: إذا كانت تخاف على نفسها، كما لو كانت هذه المرأة حديثة عهد بزواج، وليس في المنزل إلا هي وزوجها، أو عندها صغير تخاف عليه... إلى آخره، فهنا لا بأس أن تتحول وتنتقل.
المسألة الثانية: (أو قهراً).
يعني: أخرجت من المنزل ظلماً، ولنفرض أن الورثة أخرجوها من المنزل.
هل يجب على الورثة أن يمكنوها من أن تسكن فيه أو لا يجب؟
هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمنهم من قال: يجب أن يمكنوها، وحق السكنى مستثنى، ومن العلماء من قال: لا يجب، المهم إذا حولت قهراً وظلماً، فإنها تتحول.
المسألة الثالثة: (أو بحق).
كما لو كانت بذيئة، وأخرجها الورثة من البيت لبذاءتها، هذه ثلاث مسائل.
وإذا أخرجها الورثة لما سبق قال المؤلف رحمه الله: (انتقلت حيث شاءت).
وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى: أنها تنتقل إلى أي بيت، وتتربص فيه، ولا يتعين بيت من بيت آخر؛ لأن الأصل أنه يجب عليها أن تتربص بالبيت الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، وقد خرجت منه فتنتقل حيث شاءت.
والرأي الثاني: أنه يجب عليها أن تنتقل إلى أقرب المساكن، من هذا المسكن الذي يجب أن تتربص فيه ، وهذا ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله، وقالوا: بأن هذا أقرب إلى الواجب؛ لأن الواجب هو البيت الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، والصواب ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.
ولو أن البيت مستأجر، فهل يجب عليها أن تستأجره أو لا يجب؟
لو أن الزوج استأجر هذا البيت أو هذه الشقة، ثم توفي، وانتهت مدة الإجارة، فهل يجب عليها أن تستأجره لكي تمكث فيه أو نقول: بأنه لا يجب عليها أن تستأجره؟
هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، والمشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه لا يجب عليها أن تستأجر، وإذا استأجر لها الورثة وجب عليها، أما إذا كانت لا تجد إلا من مالها، فإنه لا يجب عليها أن تستأجر، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
كذلك أيضاً: لو أن المالك طالب بأكثر من أجرة المثل، فإنه لا يجب عليها.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب عليها أن تستأجر من مالها إذا لم يمكنها الورثة ولم يستأجر لها الورثة، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً).
يقول المؤلف: يجوز لها أن تخرج في الليل لضرورة، وأما في النهار فأمره أوسع فلها أن تخرج للضرورة وللحاجة، أما الليل لا تخرج إلا لضرورة؛ لأن الليل مظنة الفساد، ويدل على ذلك خروج فريعة ، فإن فريعة خرجت للنبي صلى الله عليه وسلم لكي تسأله، وهذه حاجة مما يدل على أن خروج الحادة للحاجة جائز ولا بأس به، فإذا احتاجت المرأة في النهار أن تخرج لتشتري طعاماً وليس هناك أحد يأتي إليها بطعام، أو احتاجت -مثلاً- أن تخرج لعمل كأن كانت موظفة وكونها لا تستطيع أن تأخذ إجازة، أو هذا قد يؤدي إلى فصلها من عملها، ونحو ذلك، فهذا لا بأس به، وكأن تكون طالبة وكونها تتأخر يفوتها شيء من التعليم الذي لا يمكن أن تستدركه، فهذا لا بأس، أما في حال الليل فإنها لا تخرج إلا لضرورة، كما لو احتاجت إلى علاج، أو خوف، أو حريق ونحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن تركت الإحداد أثمت وتمت عدتها بمضي الزمان).
يقول المؤلف رحمه الله: إذا تركت الإحداد فإنها تأثم وتنتهي العدة بمضي الزمان، وسبق أن ذكرنا أن الإحداد ليس شرطاً في العدة.
وهل يلحق بالحادة غيرها من الزوجات أو لا؟
المشهور من المذهب: أنه يلحق بالحادة الرجعية فيما يتعلق بلزوم البيت، فمثلاً عندنا ثلاث نساء توفى عنها زوجها، رجعية، مطلقة بائنة.
القسم الأول: المتوفى عنها زوجها حكمها أنه يجب أن تلزم البيت.
القسم الثاني: الرجعية والمشهور من المذهب أن حكمها حكم الحادة يجب أن تلزم البيت، ما تخرج من البيت في الليل إلا لضرورة، وفي النهار إلا لحاجة، والصحيح أن الرجعية حكمها كحكم سائر الزوجات، هذا الصواب؛ لأن هذا اللزوم إنما جاء في الحادة، وهذا خلاف ما عليه الناس اليوم، اليوم الناس على الرجعية تخرج من البيت مع أن الفقهاء يقولون: الرجعية حكمها حكم المتوفى عنها زوجها، يجب أن تمكث، ولا تخرج يعني: تلزم البيت لا تخرج في الليل إلا لضرورة، وفي النهار لا تخرج إلا لحاجة.
القسم الثالث: المطلقة البائن، هذه لا يجب عليها أن تلزم بيتا، يعني: حيث شاءت من البيوت، تعتد حيث شاءت من البيوت؛ لكن الفقهاء رحمهم الله تعالى يقولون: لا تبيت إلا به إلا إذا كان الزوج يريد أن يسكنها؛ لأنه ما تجب السكنى على الزوج، إذا كان الزوج يريد أن يسكنها في بيت لكي يحفظ ماءه تحصينا لفراشه؛ لأن لا تأتي بولد وتدعي أنه منه فيقولون: يجب عليها يلزمها.
الاستبراء في اللغة: مأخوذ من البراءة وهو الخلو؛ وكذلك أيضاً يطلق على التمييز.
وأما في الاصطلاح: فتربص يقصد منه معرفة براءة رحم ملك يمين، وتقدم لنا أن الفقهاء يرون: أن الاستبراء خاص بملك اليمين، وهذا التعريف على ما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله، وسبق أن الصواب في ذلك: أن الاستبراء ليس خاصاً بملك اليمين.
والأصل في الاستبراء ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد : ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة )، والإجماع أيضاً قائم على ذلك.
والحكمة منه: عدم اختلاط المياه، واشتباه الأنساب، ونحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (من ملك أمة يوطأ مثلها).
الاستبراء حكمه واجب كالعدة؛ لأنه طريق إلى الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لأنه لا يتم واجب حفظ المياه وعدم اختلاطها إلا بالاستبراء، وأيضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ).
قال المؤلف: (من ملك أمة يوطأ مثلها من صغير وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها).
الاستبراء يجب في مواضع: الموضع الأول الذي يجب فيه الاستبراء: إذا ملك أمة من الإماء بأن اشتراها، أو وهبت له، أو ملكها بسبي، أو غير ذلك، فإنه يجب عليه أن يستبرئها، والاستبراء ولو كان صغيراً أو امرأة فيجب الاستبراء، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأنه ملك حل هذه الأمة بملك رقبتها.
والرأي الثاني: لا يجب عليه أن يستبرئ إذا تيقن براءة الرحم، وهذا مذهب المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعلى هذا لو ملكها من صغير فلا يجب عليه أن يستبرئ وكذلك لو ملكها من امرأة فما يجب عليه أن يستبرئ؛ لأنه متيقن من البراءة، فالصغير لا يطأ، والمرأة لا تطأ... إلى آخره، وهذا هو الوارد عن ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري، وهو الصواب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر