فصل: والخلع بلفظ صريح الطلاق أو كنايته وقصده طلاق بائن، وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقًا، كان فسخًا لا ينقص عدد الطلاق، ولا يقع بمعتدةٍ من خلعٍ طلاق ولو واجهها به، ولا يصح شرط الرجعة فيه، وإن خالعها بغير عوضٍ أو بمحرم لم يصح، ويقع الطلاق رجعيًا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته وما صح مهراً صح الخلع به، ويكره بأكثر مما أعطاها وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح ويصح بالمجهول فإن خالعته على حمل شجرتها أو أمتها أو ما في يدها من دراهم أو متاع أو على عبد صح، وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه، ومع عدم الدراهم ثلاثة].
فقد تقدم لنا ما يتعلق بنشوز الزوجة، وكيفية علاجه، وكذلك أيضًا ما يتعلق بنشوز الزوج، وأن نشوز الزوجة يعالج بمراتبٍ أربع: مرتبة الوعظ، ثم مرتبة الهجر، ثم مرتبة الضرب، وذكرنا شروط ضرب التأديب، ثم مرتبة بعث الحكمين والمشهور من المذهب: أن هناك مرتبة قبل بعث الحكمين، وهي: نصب المشرف، وذكرنا أن نصب المشرف لا دليل عليه، والصواب أنه يصار إلى بعث الحكمين.
وأما بالنسبة لنشوز الزوج فقد بينه الله عز وجل بقوله: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] ، ثم شرعنا في باب الخلع، وذكرنا أنه يصح من الزوجة بالاتفاق، وأما بالنسبة للأجنبي فهو موضع خلاف، وذكرنا أيضًا أن الصواب أن بذل العوض في الخلع من الأجنبي صحيح، وأنه إذا بذل العوض فإن هذا لا يخلو من أحوال، وتكلمنا على هذه الأحوال.
ثم قال رحمه الله: (فإن عضلها ظلمًا للافتداء ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضًا ففعلت) إلى أن قال: (لم يصح).
العضل في اللغة: المنع، وأما في الاصطلاح: فهو منع الزوجة من حقوقها والتضييق عليها في ذلك، وحكم هذا العضل إن كان ظلمًا فإنه محرم ولا يجوز؛ لقول الله عز وجل: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] فالله سبحانه وتعالى نهى عن العضل، فدل ذلك على أنه محرم، ولما في ذلك من منع الواجب وهو حق الزوجة، فإذا كان ظلمًا فإن هذا العضل محرم ولا يجوز.
فإذا عضل الزوج زوجته ومنعها حقها لأجل أن تختلع وترد إليه ما دفعه من مهر، فإن هذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون ذلك ظلمًا بغير حق؛ وإنما لكي ترد عليه ما دفع إليها من مهر، فهذا -كما سلف- محرم ولا يجوز وذكرنا دليل التحريم، والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أن الخلع لا يصح، وهذا أيضًا مذهب الشافعية؛ لما تقدم من قول الله عز وجل: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19] فالعضل محرم، وإذا كان محرمًا فإن النهي يقتضي الفساد، فالخلع لا يصح، ويجب عليه أن يرد المال الذي أخذ منها.
والرأي الثاني وهو رأي الحنفية والمالكية: أن الخلع صحيح، لكن لا يجوز له أن يأخذ المال، وإنما قالوا بصحة الخلع لقول الله عز وجل: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231].
والذي يظهر -والله أعلم- أن الخلع لا يصح، ويجب عليه أن يرد المال الذي أخذ من المرأة، ولا يجوز له أن يضيق عليها، بل يجب عليه أن يعاشرها بالمعروف، فإن كرهها لا يعضلها لكي تفتدي منه، وقد جعل الله عز وجل له مخرجًا وهو الطلاق.
ولو قيل بصحة الخلع ما دام أن هناك مضارة من قبل الزوج، كما قال الحنفية، فهذا أيضًا له وجه، يعني: أن يعامل بالأضيق، فيقال: الخلع صحيح وقد بانت منك الزوجة بينونة صغرى، ويحرم عليك أن تأخذ هذا المال؛ لأنك أخذته بغير حق. وهذا القسم الأول: وهو أن يكون العضل ظلماً بغير حق.
الأمر الثاني: أن يكون العضل بحق، كما لو نشزت المرأة، أو تركت عفةً، أو فرضًا من فرائض الإسلام فعضلها لكي تفتدي، فهذا العضل بحق، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو قول الحنفية، ودليل ذلك الاستثناء قول الله عز وجل: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19].
والرأي الثاني: أن الخلع لا يصح ولا يحل له ما أخذ، وهذا رأي الشافعية.
والصواب في هذه المسألة: هو ما ذهب إليه الحنابلة والحنفية، وأن العضل صحيح، ويحل له ما أخذ من المال.
فقول المؤلف رحمه الله: فإن عضلها ظلمًا للافتداء ولم يكن لزناها أو نشوزها، أي أنه إذا كان العضل بحق، كما لو تركت العفة، أو نشزت أو تركت واجبًا من فرائض الإسلام فهذا عضل بحق، والخلع صحيح، ويحل له ما أخذ.
يشترط فيمن بذل العوض في الخلع أن يكون ممن يصح بذله، والصغيرة لا يصح بذلها للعوض، وعلى هذا؛ إذا خالعت الصغيرة فخلعها لا يصح، وكذلك أيضًا المجنونة؛ لأن المجنونة لا يصح أن تبذل العوض، وكذلك أيضًا السفيهة غير الرشيدة التي لا تحسن التصرف في مالها، لا يصح بذلها للعوض.
قال رحمه الله: (والأمة بغير إذن سيدها لم يصح).
كذلك أيضًا الأمة؛ لأن الأمة لا يصح أن تبذل العوض إلا بإذن السيد، فمن ذكر المؤلف رحمه الله من صغيرةٍ ومجنونةٍ وسفيهةٍ وأمة إلى آخره، لا يصح بذلهن للعوض؛ لكونهن محجورًا عليهن، وعلى هذا نقول: الخلع لا يصح.
قال رحمه الله: (ووقع الطلاق رجعيًا إن كان بلفظه أو نيته).
يعني أن الخلع من الأمة ونحوها لا يصح لكن إذا كان بلفظ الطلاق يقع طلاقاً، فمثلًا: لو أن الأمة خالعت زوجها وأعطته دراهم، وقال الزوج: طلقتك بهذه الدراهم، فالخلع لا يصح؛ لخلوه ممن بذل العوض، لكن يقع الطلاق لوجود لفظ الطلاق، ولهذا قال: (ووقع الطلاق رجعيًا إن كان بلفظه) أي: إن كان بلفظ الطلاق، (أو نيته) يعني: إذا لم يكن بلفظ الطلاق، فليس بلفظ صريح الطلاق، لكن بلفظ كناية من كنايات الطلاق، أو بلفظ الخلع أو الفسخ، وهذه كلها من كنايات الطلاق وقد نوى الطلاق، كما لو قال للأمة: خلعتك بهذه الألف وهو ينوي الطلاق، أو فسختك بهذه الألف وهو ينوي الطلاق فالخلع لا يصح؛ لما تقدم من التعليل، ويقع الطلاق، لوجود إما صريح الطلاق، أو الكناية مع النية، والطلاق يقع بالصريح أو بالكناية مع النية، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
والصواب في هذه المسألة: أن الطلاق لا يقع؛ لأن الزوج إنما تلفظ بالطلاق على أنه خلع، وليس طلاقًا، فهو لم يقصد لفظ الطلاق لذاته، وإنما قصد لفظ الطلاق على أنه خلع وليس طلاقًا، وسيأتينا إن شاء الله: أن الخلع: ما كان فيه المال بأي لفظٍ كان، سواء كان بلفظ الطلاق أو بغيره من الألفاظ، فما دام أن هناك مالًا، قالخلع واقع سواء كان بلفظ الطلاق أو بأي لفظ، فكل فرقةٍ فيها مال فهي خلع بأي لفظٍ كان.
هذه مسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله كثيرًا، وهي: هل الخلع ينقص عدد الطلقات أو لا؟
للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة آراء:
الرأي الأول، وهو المشهور من المذهب: التفصيل في هذه المسألة، وأن الأمر لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الخلع بلفظ صريح الطلاق، أو بلفظ كنايةٍ من كنايات الطلاق وينوي الطلاق، فهنا ينقص عدد الطلقات.
الحالة الثانية: أن يكون بلفظ كناية من كنايات الطلاق كخلعتك، وفسختك، وكذلك أيضًا بلفظ الفداء، ولم ينو الطلاق فهذا لا ينقص به عدد الطلقات.
الرأي الثاني: أن الخلع ينقص به عدد الطلقات مطلقًا، سواء كان بلفظ صريح الطلاق أو بلفظ كنايات الطلاق، نوى الطلاق أو لم ينو الطلاق، وهذا قول الأئمة الثلاثة.
الرأي الثالث مقابل هذا القول وهو أن الخلع لا ينقص به عدد الطلقات مطلقًا، حتى ولو كان بلفظ صريح الطلاق، أو كنايته ولو نوى الطلاق، فما دام أن هناك مالًا فهو خلع بأي لفظٍ كان، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم رحمه الله تعالى، ولكل منهم دليل.
أما الحنابلة فقالوا: في الحالة الأولى يقع الطلاق لوجود الصريح أو الكناية مع النية فيقع، أما إذا وجدت الكناية ولم توجد النية كما لو كان بلفظ الفسخ أو الفداء أو الخلع ونحو ذلك، فيقولون: لا ينقص به عدد الطلقات، لأن الله سبحانه وتعالى قال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] ، ثم قال بعد ذلك فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به [البقرة:229] ، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] ، قالوا: فهذا دليل على أن الخلع إذا لم يكن بلفظ الطلاق، ولا بالكناية مع النية فإنه لا ينقص به الطلقات، ولو كان الخلع طلقةً ما قال الله عز وجل بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
الرأي الثاني: الذين قالوا بأنه طلاق مطلقًا، استدلوا على ذلك بحديث ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثابت بن قيس كما في حديث ابن عباس : ( اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ) فسماه طلاقًا، وهذا رواه البخاري ، وقالوا بأن الفرقة التي يملك الزوج إيقاعها إنما هي الطلاق دون الفسخ.
أما الذين قالوا: لا ينقص عدد الطلاق مطلقًا، وأنه فسخ أو خلع بأي لفظ كان، حتى ولو كان بلفظ الطلاق أو بالكناية مع النية، فقالوا: هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، قال: وهذا هو الوارد عن ابن عباس وعثمان وابن عمر ، والربيع ، وذكر ابن القيم : أنه لا يصح عن صحابيٍ خلافه، مع أن ظاهر القرآن يدل له، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر طلقتين ثم ذكر الخلع، ثم ذكر الطلقة الثالثة، مما يدل على أن الخلع ليس طلاقًا، وهذا يشمل ما إذا كان الخلع بلفظ الطلاق، أو بلفظ كناية الطلاق مع النية، أو بلفظ الفسخ والفداء والخلع مع عدم النية.
وعلى هذا نقول: الخلاصة في هذه المسألة أن الخلع لا ينقص به عدد الطلقات حتى ولو كان بلفظ الطلاق، فمثلًا لو قال: طلقتك بألف، فهذا خلع ولا ينقص به عدد الطلقات، فلو عقد عليها مرةً أخرى يبقى له ثلاث طلقات، وكذا لو قال: خلعتك، أو فسختك، ونوى الطلاق، فما دام أن هناك عوضًا، فإنه خلع بأي لفظٍ كان، ولا ينقص به عدد الطلقات.
ودليلهم على ذلك، أن الله سبحانه وتعالى قال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] فعبر الله عز وجل بالفداء، مما يدل على أن الزوجة كالأسير الذي يحتاج إلى الفداء، فهي الآن تفتدي لكي تملك نفسها، لو قلنا: هناك رجعة، فإنها ما ملكت نفسها، ولهذا عبر الله عز وجل بقوله: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] مما يدل على أنها عند الزوج كالأسير، فهي تدفع هذا العوض لكي تملك نفسها.
والرأي الثاني رأي ابن حزم رحمه الله وبه قال سعيد بن المسيب والزهري ، قالوا: إن الزوج بالخيار فإذا أراد المراجعة فله أن يرد العوض ويرجع إليها، وإلا فيمسك العوض ولا يرجع إليها.
والذي يظهر -والله أعلم- هو ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، لأن الله سبحانه وتعالى: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] مما يدل على أنها ملكت نفسها، ولأن هذا أيضًا الغالب أن الخلع لا يصار إليه إلا مع حاجة المرأة إلى الخلع والفداء، لكونها متضررة ببقائها مع هذا الزوج، فكوننا نرخص للزوج أن يرجع إليها مرةً أخرى، تزول الحكمة التي من أجلها شرع الخلع، وحينئذٍ نقول: بانت منه بينونة صغرى، فإذا أراد أن يرجع إليها فلا بد من عقدٍ جديد.
هذا تفريع على ما تقدم، ويؤخذ منه أن المختلعة عليها عدة وليس عليها استبراء، والصواب في هذه المسألة أن المختلعة عليها استبراء، يعني: أنها تستبرئ بحيضة واحدة إذا كانت تحيض، ولسنا بحاجة إلى أن تعتد بثلاث حيضات، فإن لم تكن تحيض فإنها تعتد بشهر، وهذا سيأتينا إن شاء الله في باب العدد، وهو الوارد عن عثمان رضي الله تعالى عنه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومعنى قول المؤلف رحمه الله أنه لما خالعها بانت منه بينونة صغرى، فلو قال لها: أنتِ طالق، لم يقع الطلاق؛ لأنها بانت منه بينونة صغرى، فما دام أنها بانت منه، فلا يلحقها طلاقه ولا يملكها، يعني: لا يملك أن يرجع إليها وليست كالرجعية التي يلحقها الطلاق، وإن كان سيأتينا -إن شاء الله- أن طلاق الرجعية طلاق بدعي، لكن الفقهاء يقولون: الرجعية يلحقها الطلاق، بخلاف المخلوعة وعلى هذا؛ لو أنه طلقها فطلاقه لا يلحقها؛ لأنها خرجت منه، ولا يملكها إلا بعقدٍ جديد، فهي كالأجنبية.
قال رحمه الله: (ولو واجهها به).
وهذا هو المشهور من المذهب ومذهب الشافعية، وهو الصواب -كما ذكرنا- لا يلحق المستبرأة من الخلع طلاق، خلافًا للحنفية الذين يقولون: ما دامت في العدة فيلحقها صريح الطلاق، ولا يحلقها مرسل الطلاق، فأما صريح الطلاق فنحو قوله: أنتِ طالق، وأما مرسل الطلاق فنحو قوله: كل امرأةٍ لي طالق.
يعني: لو قال: خلعتك بألف ولي الخيار في أن أرجع فلا يصح؛ لما تقدم من قول الله عز وجل: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] وهي بذلت العوض لكي تفتدي نفسها، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: لو شرط الرجعة في الخلع فقياس المذهب صحة هذا الشرط، وتقدم لنا أن عندنا قاعدة، وهي أن المسلمين على شروطهم، لكن الذي يظهر -والله أعلم- القول بصحة الشرط وتكون الرجعة صحيحة إذا لم يكن على المرأة ضرر، أما إن كان على المرأة ضرر فإن شرط الرجعة أو الخيار، غير صحيح؛ لأن المرأة إنما بذلت العوض لكي تفتدي نفسها كما تقدم.
والرأي الثاني: أنه يصح الخلع بغير عوض، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله دليلان:
الدليل الأول: أن العوض حق للزوجين، فإذا تراضيا على إسقاطه سقط.
والدليل الثاني: أن في الخلع -في الحقيقة- عوضاً؛ لأن الزوج إما أن يطلق وإما أن يخلع، فإذا طلق رجعياً فيلزمه في مدة العدة: النفقة والسكن، بينما إذا خلع لا تجب لها النفقة والسكنى، فكأنه خالعها بعوض، وهذا القول هو الصواب.
قال رحمه الله: (وإن خالعها بعوض أو بمحرم) أي: إذا خالعها بمحرم فلا يخلو ذلك من أمرين:
الأمر الأول: أن يعلما التحريم، فمثلًا: أعطته مالاً مسروقًا وهما يعلمان أنه مسروق، أو أعطته دخانًا وهما يعلمان أنه دخان، فالمؤلف رحمه الله تعالى يقول: لا يصح الخلع.
والرأي الثاني: أنه يصح الخلع ولها مهر المثل، وهذا قول الشافعية، تقدم لنا قاعدة في الصداق: إذا بطل المسمى وجب مهر المثل.
والرأي الثالث: أن الخلع يصح ولا شيء للزوج.
والصواب في هذه المسألة: إنهما إذا كانا يعلمان التحريم، فحكم هذه المسألة حكم ما لو خالعها بغير عوض؛ لأن المحرم في الشرع وجوده كعدمه.
الأمر الثاني: أن يجهلا التحريم، يعني: أصدقها مالًا مسروقًا وهما يجهلان أنه مسروق، فالمرأة تجهل أن هذا هو المال الذي سرقته، وهو يجهل أنه مسروق، فالخلع صحيح ويجب بدله.
قال رحمه الله: (ويقع الطلاق رجعيًا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته).
تقدم أن المؤلف رحمه الله يقول: إذا كان الخلع بغير عوض أو بمحرم، فالمذهب أنه لا يصح، لكن هل يقع عليها طلاق أو لا؟ فيه تفصيل: فإن كان بلفظ الطلاق أو بالكناية مع النية وقع الطلاق رجعياً، وإن كان بلفظ الفسخ أو الفداء أو الخلع ولم ينو الطلاق، فإنه لا يقع به طلاق.
والصواب -كما أسلفنا- في هذه المسألة: أنه لا يقع الطلاق، حتى وإن لم نصحح الخلع؛ لأنه لم يقصد الطلاق، وإنما قصد الخلع.
هذا ضابط وقد تقدم لنا أن الذي يصح أن يكون مهرًا على المذهب هو كل ما صح أن يكون ثمنًا أو أجرةً من الأعيان المالية والمنافع؛ وعلى هذا نقول: كل ما صح أن يكون ثمنًا أو أجرًة من الأعيان والمنافع يصح أن يكون عوض خلعٍ.
قال رحمه الله: (ويكره بأكثر مما أعطاها).
يعني: لو أنه أمهرها ألف ريال، ثم أخذ منها ألفًا ومائة، فهذه الزيادة مكروهة، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، فالجمهور يجوزون الزيادة لكنهم يختلفون في الكراهة، فالحنابلة يقولون: يكره، الشافعية يقولون: لا يكره، واستدلوا على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى قال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] وهذا يشمل القليل والكثير، واستدلوا أيضًا بأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو الوارد عن عثمان رضي الله تعالى عنه بسند حسن، وكذلك أيضًا وارد عن عمر وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
الرأي الثاني: أنه لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهذا قال به الحسن البصري والأوزاعي والزهري واستدلوا على ذلك بما جاء في قصة امرأة ثابت بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتردين عليه حديقته؟ قال: وزيادة، قال: أما الزيادة فلا ) أخرجها الدارقطني وصححها، وهي ليست ثابتة في الصحيح، ولهذا اختلف أهل الحديث فيها هل هي ثابتة أو ليست ثابتة؟ والذي يظهر -والله أعلم- أنها ليست ثابتة، وكذلك أيضًا قالوا: بأن هذا وارد عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
والذي يظهر -والله أعلم- هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وما ذهب إليه المؤلف وهو المذهب: يجوز أن يأخذ زيادة؛ لأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أعرف بالقرآن وأعلم به، وهو ظاهر القرآن، لكن يكره ذلك؛ لأن هذا خلاف المروءة، يعني: كونه يعطيها ألف ريال وقد يكون دخل بها، ثم بعد ذلك يطالبها بألف ومائة أو بألفين إلى آخره.
يعني: الحامل تجب لها النفقة؛ لأن النفقة للحمل وليس للمرأة، وسيأتينا في النفقات أن المطلقة إذا كانت رجعية تجب لها النفقة، والتي طلقها زوجها آخر الطلقات الثلاث لا تجب لها النفقة إلا أن تكون حاملًا، وكذلك المختلعة لا تجب لها النفقة؛ لأنها بانت من زوجها إلا أن تكون حاملًا، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها؛ لأن النفقة للحمل، فلو كان بقي عليها أربعة أشهر وتلد، ويحتاج أن يعطيها كل شهر ألف ريال، فقالت: لا تعطيني ألف ريال واخلعني، فيصح ذلك؛ لأنه -في الحقيقة- خالعها بعوض، وهي أيضًا ستنتفع، حتى وإن قلنا بأن النفقة للحمل، فهي ستنفع بهذه النفقة، وتقدم أن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يصح الخلع بغير عوض.
لعموم قول الله عز وجل: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] وقياسًا على الوصية، فكما أن الوصية تصح بالمجهول فكذلك الخلع، ولأن العوض في مثل هذه المسائل ليس مقصودًا؛ لأن المقصود هو افتكاك المرأة من هذا الأسر وتخليصها من هذا الزوج الذي ساءت العشرة بينهما، فيصح حتى ولو كان العوض مجهولًا.
قال رحمه الله: (فإنه خالعته على حمل شجرتها).
هذا مما رتبه المؤلف على المسألة السابقة، يعني: حمل الشجرة مجهول، لا ندري ما تحمل الشجرة، فقد تحمل صاعًا أو صاعين أو ثلاثة أو أربعة أو مائة.
قال رحمه الله: (أو أمتها) وقد تحمل أقل.
يعني: ما ندري ما تحمل الأمة، هل تحمل بذكر أو تحمل بأنثى أو بذكر وأنثى إلى آخره.
قال رحمه الله: (أو ما في يدها).
كما لو قالت: اخلعني بما في يدي، فقد يكون الذي في يدها يساوي ألفًا أو ألفين أو مائة أو مائتين إلى آخره.
قال رحمه الله: (من دراهم أو متاع أو على عبدٍ صح).
نحو: ما في بيتي من الثياب أو ما في بيتي من الدراهم فيصح.
قال رحمه الله: (أو عبد) يعني: تشتري له رقيقًا وتعطيه إياه، فهذا كما قال المؤلف رحمه الله: يصح.
قال رحمه الله: (وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه).
لأن هذه أعيان، وسبق لنا قاعدة -وسيأتينا إن شاء الله في الأيمان- أن الأعيان يرجع فيها إلى الحقائق اللغوية، فإذا خالعته على ما تحمل بقرتها ثم ماتت البقرة ولم تحمل، فنعطيها أقل ما يسمى حملًا، ولو خالعته على ما في بيتها من متاع أو ثياب، ثم لم نجد متاعًا في البيت لا أثاثًا ولا ثيابًا، فما يسمى ثوبًا أو متاعًا نعطيه إياه، ومثله أيضًا قال: العبد.
قال رحمه الله: (ومع عدم الدراهم ثلاثة).
لأن هذا هو أقل الجمع، إلا إذا كان هناك عرف.
والحاصل: أن في مثل هذه الأعيان نرجع إلى الحقائق اللغوية، إلا مع العرف فنرجع إلى العرف، فإذا خالعته على ما في جيبها من الدراهم، ثم تبين أن الجيب ما فيه شيء، فنقول: أعطيه ثلاثة؛ لأن هذا هو أقل الجمع، إلا إذا كان هناك عرف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر