باب الشروط والعيوب في النكاح.
إذا شرطت طلاق ضرتها أو أن لا يتسرى أو أن لا يتزوج عليها، أو لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو شرطت نقدًا معينًا، أو زيادة في مهرها صح، فإن خالفه فلها الفسخ، وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ففعلا ولا مهر بطل النكاحان، فإن سمي لهما مهر صح.
وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها، أو نواه بلا شرط، أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها، أو وإذا جاء غد فطلقها، أو وقته بمدةٍ بطل الكل ] .
تقدم لنا القسم الثاني من أقسام المحرمات: وهن المحرمات على سبيل التأقيت، وذكرنا أن هؤلاء المحرمات ينقسمن إلى نوعين:
النوع الأول: محرمات بسبب الجمع، والنوع الثاني: محرمات لعارضٍ، وتقدم لنا ما يتعلق بهذا العارض وأنه أنواع، فهناك العارض بالعدة، فالمعتدة من الغير لا يجوز نكاحها؛ لقول الله عز وجل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، وعارض بالإحرام، فإذا أحرمت المرأة بحجٍ أو عمرة فإنه لا يجوز نكاحها، وكذلك عارض بالكفر، فالكافرة لا يجوز للمسلم أن يتزوجها إلا الكتابية بشروطها، وهناك عارض بالرق إلى آخره.
وبقي لنا من هذه المسائل ما يتعلق بالخنثى المشكل، وكنا قد توقفنا عند حكم وطء ملك اليمين إذا كانت غير كتابية.
أما الكتابية فهذه يجوز وطؤها بملك باليمين بالإجماع، لكن إذا كانت غير كتابية، كما لو كانت وثنية ونحو ذلك أو كانت مجوسية، فللعلماء رحمهم الله في وطئها رأيان:
الرأي الأول وهو المشهور من المذهب، وقال به جمهور العلماء: أنه ليس له أن يطأها، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] ، وأيضاً أن الإباحة إنما وردت للكتابية كما قال سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، فيبقى ما عداها على التحريم.
والرأي الثاني ذهب إليه سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس : أنه لا بأس أن توطأ الأمة بملك اليمين إذا كانت غير كتابية، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] قالوا: هذه الآية نزلت في سبي أوطاس، فاستثنى ملك اليمين، وأيضاً عموم قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6]، وهذا يشمل ملك اليمين، سواء كانت كتابيةً أو كانت غير كتابية، ويدل لذلك حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس من مشركي العرب: ( لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة )، وهذا الحديث في أبي داود، وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن وطء ملك اليمين إذا كانت غير كتابية جائز ولا بأس به، لما ذكرنا من الدليل.
يعني: إذا عقد لشخصٍ بين امرأةٍ تحل له، وبين امرأةٍ لا تحل له، صح فيمن تحل له وأما التي لا تحل له فإن العقد عليها لا يصح، فمثلًا: لو أنه تزوج امرأتين إحداهما تكون أختًا له من الرضاعة، والثانية تكون أجنبيةً عنه فيصح العقد في الأجنبية التي يباح له أن يتزوجها، وأما التي يحرم عليه أن يتزوجها لوجود الرضاع فإن العقد عليها لا يصح.
الخنثى: هو الذي له آلة ذكر وله آلة أنثى، ويكون مشكلًا إذا بلغ ولم يتبين أمره، وقد لا يكون مشكلًا فيتبين أمره أنه ذكر، أو يتبين أمره أنه أنثى، وهناك علامات يتبين بها، فمثلًا: إذا بان من آلة الذكر فهذه علامة الذكورة، وإذا بان من آلة الأنثى فهذه علامة الأنوثة، وإذا خرج المني من آلة الذكر فهذه علامة الذكورة، وإذا خرج من آلة الأنثى فهذه علامة الأنوثة، وتفلك الثديين علامة للأنوثة، وميله إلى الرجال علامة أنوثة، وميله إلى النساء علامة ذكورة.
إذاً: لم يتضح أمر هذا الخنثى فلا يجوز نكاحه؛ لأنه يحتمل أن يكون رجلًا، ويحتمل أن يكون أنثى، فلا يجوز أن يزوج في هذه الحال، ويهدئ الغلمة التي تكون عنده بالصوم أو نحو ذلك.
أما بالنسبة للرقيق فأكثر أهل العلم على أنه ليس له أن يتزوج أكثر من زوجتين، فتحرم عليه الثالثة حتى يفارق إحدى الزوجتين إلى آخره كما سلف، هذا ما عليه أكثر أهل العلم؛ لأن القاعدة عندهم أن الرقيق على النصف من الحر وقالوا بأن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
الرأي الثاني: أن الرقيق له أن يتزوج أربعًا، وهذا رأي الظاهرية، والأصل في ذلك هو التساوي بين الأحرار والأرقاء في الأحكام البدنية المحضة، وهذه قاعدة سبق أن أشرنا إليها.
ومما يلحق بالمحرمات من المسائل: أنه يصح أن يملك الرجل أختين وثلاث أخوات إلى آخره بملك اليمين، وهذا جائز، وله أن يطأ أي واحدة منهن، لكن إذا وطئ إحدى الأختين فإن الأخت الأخرى تحرم عليه، فلا يجوز له أن يطأها حتى يخرج الموطوءة عن ملكه، إما ببيع أو بعتق أو بهبة ونحو ذلك.
تقدم تعريف الشرط في العقد وذكرنا الفرق بين شرط العقد والشرط في العقد، وقلنا: أن شرط العقد: هو ما يشترطه أحد المتعاقدين مما له به منفعة ومصلحة.
والمناسبة في أن المؤلف رحمه الله جعل الشروط والعيوب في ترجمة واحدة هي: أن وجود العيب كتخلف الشرط؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، فإذا وجد في المرأة عيب فكأنه تخلف شرط سلامة، فناسب أن يقول المؤلف رحمه الله: (باب الشروط والعيوب في النكاح).
وتقدم لنا أن الأصل في الشروط في العقود هو الحل والصحة؛ لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، وحديث عقبة : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج )، و(المسلمون على شروطهم).
ويكون الشرط قبل العقد، وفي صلب العقد، وفي زمن الخيار إذا كان هناك خيار، وليس في عقد النكاح خيار مجلس، لكن الصحيح أن فيه خيار شرطٍ كما سيأتينا.
الشروط في العقود تنقسم إلى قسمين: شروط صحيحة، وشروط فاسدة، وقد بدأ المؤلف رحمه الله بالشروط الصحيحة، وهذا هو الأصل.
فلو قالت: أقبل الزواج لكن بشرط أن تطلق زوجتك الأولى، ولنفرض أن هذا الرجل له زوجة وأراد أن يتزوج أخرى، فقبلت الأخرى واشترطت أن يطلق زوجته الأولى، فهذا شرط صحيح على كلام المؤلف رحمه الله؛ لأن خلو المرأة من الضرة من أكبر أغراضها.
والرأي الثاني وهو قول أكثر أهل العلم: أن هذا شرط فاسد؛ لأنه مخالف للشرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة يقول: ( لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها ) رواه البخاري ومسلم، والصواب: أن هذا شرط فاسد، وأنه لا يصح أن يجعل مع الشروط الصحيحة؛ لأنه مخالف للشرع.
قال رحمه الله: (أو أن لا يتسرى أو أن لا يتزوج عليها).
أي: إذا اشترطت المرأة ألا يتزوج عليها، فقالت: أنا أقبلك زوجًا، لكن بشرط ألا تتزوج علي أخرى، أو لا تتسرى، يعني: لا تشتري أمةً للوطء، فعند المؤلف رحمه الله هذا من الشروط الصحيحة؛ لما تقدم أن خلو المرأة من الضرة من أكبر أغراضها؛ ولأن الأصل في الشروط الحل والصحة.
والرأي الثاني رأي الشافعية: أن هذا شرط فاسد؛ لأن هذا يخالف الشرع؛ لأنه يخالف مقتضى العقد.
والرأي الثالث رأي المالكية: أن هذا مكروه.
والذي يظهر -والله أعلم- هو الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وأن هذا شرط صحيح، فإذا شرطت المرأة ألا يتزوج عليها، أو ألا يتسرى عليها، فهذا شرط صحيح؛ لأن خلو المرأة من الضرة من أكبر أغراضها، ولأن الأصل الحل، ولأن الحق للزوج وقد أسقطه، ونظير ذلك ما لو قال: أنا لي خيار المجلس وأنت ليس لك خيار المجلس، أو قال في البيع: أنا لي خيار الشرط وأنت ليس لك خيار شرط، فهذا شرط صحيح.
قال رحمه الله: (أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها).
أي: لو شرطت فقالت: بشرط ألا تخرجني من داري، أو من أبوي، أو من بلدي، فهذه كلها شروط صحيحة؛ لما تقدم من أن الأصل في مثل هذه الشروط الحل والصحة.
قال رحمه الله: (أو شرطت نقدًا معينًا) أي: قالت: أريد المهر من النقد المعين، مثلًا: من الفضة أو من الذهب أو نحو ذلك، أو قالت: أريدها من الجنيهات أو من الريالات أو من الدراهم ونحو ذلك، فنقول: هذا جائز ولا بأس به، والأصل في مثل هذه الأشياء الصحة.
قال رحمه الله: (أو زيادةً في مهرها صح).
فلو كان مهرها يساوي ألفًا، وقالت: أنا أريد ألفين، أو كان مهرها يساوي خمسة، فقالت: أنا أريد عشرة فهذا شرط صحيح.
قال رحمه الله: (فإن خالفه فلها الفسخ).
لو قالت: بشرط ألا تخرجني من بلدي وخالف، فلها حق الفسخ كحكم وضعي وأما كحكم تكليفي فالمذهب: أنه لا يأثم، والغريب أنهم يفرقون في هذا بين باب البيع وباب النكاح، ففي البيع يقولون: يأثم ويجب عليه أن يوفي، لكنهم يقولون هنا: يستحب أن يوفي، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج )، ومع ذلك يقولون: الوفاء به مستحب، وهذا فيه نظر.
والصواب في هذه المسألة: أن الوفاء بالشروط في العقود واجب، سواء كان ذلك في باب البيع أو كان ذلك في باب النكاح، وأنه لا يجوز له أن يخالف، لكن لو خالف فلمن له الشرط الحق في الفسخ.
الآن شرع المؤلف رحمه الله في الشروط الفاسدة، والشروط الفاسدة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون فاسدة مفسدة للعقد.
والقسم الثاني: أن تكون فاسدة غير مفسدة.
والمؤلف رحمه الله شرع في الشروط الفاسدة المفسدة للعقد، وهي أنواع:
قال رحمه الله: (وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا، ولا مهر بطل النكاحان).
النوع الأول: نكاح الشغار، وبدأ به المؤلف رحمه الله، والشغار في اللغة: الخلو، من قولهم: شغر المكان إذا خلا، وقيل بأن الشغار في اللغة: مأخوذ من شغر الكلب رجله إذا رفعها لكي يبول، فشبه قبح هذا النكاح بفعل الكلب.
وأما في الاصطلاح، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أنه لا بد من أمرين لكي يكون شغارًا:
الأمر الأول: وجود الشرط كقوله: أزوجك أختي على أن تزوجني أختك أو بنتك أو نحو ذلك.
والشرط الثاني: ألا يكون هناك مهر، فإذا توفر الشرطان فإن هذا نكاح الشغار، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق ).
الرأي الثاني وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله: أن الشغار يكون بوجود الشرط فقط، وهذا رأي الظاهرية، ودليلهم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار في الإسلام ) ولم يذكر في الحديث: ولا مهر بينهما، واستدلوا على ذلك أيضاً بأن العباس بن عبد الله بن العباس زوج ابنته عبد الرحمن بن الحكم على أن يزوجه ابنته، فكتب معاوية إلى مروان يأمره أن يفرق بينهما، وقال معاوية : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الصواب، وأنه متى وجد الشرط فإنه يكون شغارًا؛ لأنا لو قلنا بجواز الشغار فإن الولي سينظر إلى مصلحته، فالذي يزوجه سيزوجه، والذي لا يزوجه لا يزوجه؛ لما سبق أن ذكرناه من أن الولاية في عقد النكاح إنما شرعت لمصلحة المرأة.
وقال بعض العلماء: إذا توفرت ثلاثة شروط فلا بأس، حتى لو كان هناك شرط: أن يكون كل من الزوجين كفئاً، وأن يوجد المهر لكل من المرأتين، ورضا المرأتين؛ لأنه إذا كان كفئاً فهذا فيه مصلحة للمرأة، مع وجود الرضا والمهر، فحقوقها تامة، لم ينقصها شيء، ومع ذلك نقول: الأقرب في هذه المسألة والأحوط ما ذهب إليه المالكية رحمهم الله، وأنه متى وجد الشرط فإنه شغار لا يجوز.
قال رحمه الله: (فإن سمي لهما مهر صح).
هذا هو المشهور من المذهب كما تقدم: أنه لا يكون شغارًا إلا إذا توفر شرطان:
الشرط الأول: وجود الشرط، والشرط الثاني: عدم المهر، وأما الجواب عن حديث ابن عمر الذي فيه: ( والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ولا مهر بينهما )، فهذا الكلام مدرج في الحديث وليس منه.
وأما حكم العقد في نكاح الشغار فأكثر أهل العلم على أنه فاسد، وعند الحنفية: إذا أعطيت المرأة المهر فإنه يكون صحيحًا، والصحيح أنه فاسد.
هذا هو النوع الثاني من الشروط الفاسدة المفسدة، وهو: نكاح التحليل، وهو محرم ولا يجوز، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: لعن الله المحلل والمحلل له )، وهذا حديث عقبة بن عامر أخرجه ابن ماجه والحاكم والطبراني وحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وصححه الحاكم .
وعلى كل حال، عندنا باب كبير وهو أن الشارع جاء بسد الحيل التي تفضي إلى إسقاط الواجب أو فعل المحرم، الشارع جاء بسد الحيل التي تسقط الواجبات أو تبيح المحرمات، ونكاح التحليل من هذا.
قال رحمه الله: (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها).
هذه الصورة الأولى من صور نكاح التحليل وهي: أن يوجد شرط واتفاق، فيشترط على الزوج الثاني أنه متى حللها لزوجها الأول طلقها، سواء شرط الولي أو شرطت المرأة، أو شرط الزوج الأول إلى آخره، المهم: أن يكون هناك شرط في صلب العقد على الزوج الثاني أنه متى حللها للزوج الأول فإنه يطلقها أو فإنها تطلق عليه أو نحو ذلك، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وعند أبي حنيفة الصحة مع الكراهة، لكن الصواب في ذلك ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله، وأن هذا شرط فاسد يقتضي الفساد؛ لأن النهي يعود إلى ذات المنهي عنه.
قال رحمه الله: (أو نواه).
هذه الصورة الثانية وهي أن ينوي ذلك بقلبه، فليس هناك شرط لكن الزوج الثاني تزوج هذه المرأة بقصد أن يحللها لزوجها الأول، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك : أن هذا من نكاح التحليل؛ لحديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى )، ولأنه قصد التحليل.
والرأي الثاني: رأي الحنفية والشافعية: أنه إذا كان مجرد نية، وليس هناك شرط فهذا جائز ولا بأس به لعدم الشرط، والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه الحنابلة والمالكية، وأنه وإن لم يكن هناك شرط فما دام أن الزوج نوى أن يحلها لزوجها الأول فهذا من نكاح التحليل.
الصورة الثالثة من صور التحليل: لو أن الزوج شرط عليه أنه متى حللها لزوجها فإنه يطلقها، فقال: قبلت، أو نوى ذلك ثم قال: قبلت ثم رجع وتاب إلى الله عز وجل ونوى نكاح رغبة ودوام، وتاب من نية التحليل وشرط التحليل قبل العقد ثم ما وفق معها وطلقها، فالمشهور من المذهب: أنه ليس من نكاح التحليل، وهذا القول هو الصواب، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، يعني: أن الأئمة يتفقون على أنه ليس من نكاح التحليل؛ لانتفاء المحذور.
الصورة الرابعة: أن تكون النية من الزوجة أو من وليها، يعني: ليس هناك شرط، وليس هناك نية من قبل الزوج الثاني، ولكن حصلت النية من الولي أو من الزوجة أو حتى من الزوج الأول، يعني: نوت المرأة أن تتزوج هذا الرجل وأنه متى حللها ستطلب منه الطلاق وتعود إلى زوجها السابق، أو الولي نوى أن يزوج موليته من هذا الرجل، وأنه إذا حللها سيطالبه بالطلاق ويرجعها إلى زوجها الأول، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أن هذا ليس من نكاح التحليل، وهذا قول جمهور العلماء، يعني: قول الأئمة الثلاثة أيضاً، يعتبرون أن النية إذا كانت من الزوج فليس من نكاح التحليل، ويذكرون ضابطًا فيقولون: من لا فرقة بيده لا أثر لنيته، الزوجة ليس لها فرقة بيدها فلا أثر لنيتها، والولي مثله والزوج الأول مثله.
وذهب الحسن البصري رحمه الله وإبراهيم النخعي إلى أن هذا من التحليل.
والصواب ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله، وأن هذا ليس داخلًا في التحليل.
هذا هو النوع الثالث من الشروط الفاسدة المفسدة وهو: تعليق عقد النكاح، وقد سبق أن تكلمنا على هذه المسألة، وأن العلماء يرون أن التعليق يفسد العقود؛ لأن الأصل في العقود التنجيز والفورية، والتعليق يفسدها، وهذا رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله، وذكرنا الرأي الثاني وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وأن التعليق لا بأس به وقد يكون فيه مصلحة، فالصحيح أن هذا النوع من الشروط الصحيحة وليس من الشروط الفاسدة.
فقوله: (أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها) يعني: سواء علقه على شرطٍ محض، لا يظهر فيه معنى كقوله: إذا جاء رأس الشهر، إذا دخل رمضان، أو على شرطٍ غير محض يظهر فيه المعنى، كما لو قال: إن رضيت أمها.
هذا النوع الرابع من أنواع الشروط الفاسدة المفسدة: وهو نكاح المتعة، وهو أن يتزوج المرأة ليستمتع بها مدةً معينة، وهو محرم هذا مذهب أهل السنة والجماعة، والرافضة يخالفون في نكاح المتعة، ولهذا يذكره أهل السنة في عقائدهم ردًا على أهل البدعة.
ويدل لحرمته قول سبرة رضي الله تعالى عنه: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها ) رواه مسلم في صحيحه.
ونكاح المتعة له صور:
الصورة الأولى هي قوله: إذا جاء غد فطلقها، أو يقول: هي زوجتك وإذا مضى أسبوع تطلقها، أو مضى شهر تطلقها، وهذا نوع من التوقيت فهو داخل في نكاح المتعة.
قال رحمه الله: (أو وقته بمدةٍ) هذه هي الصورة الثانية.
لو قال: زوجتك لمدة يومين، أو لمدة أسبوع، أو لمدة شهر، فهذا من نكاح المتعة.
الصورة الثالثة: النكاح بنية الطلاق، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه من نكاح المتعة، كأن يتزوج الرجل بنية أن يطلق إذا مضى أسبوع أو أسبوعان، أو شهر أو شهران، أو إذا أراد أن يرجع إلى أهله طلقها، فالمشهور من المذهب أنه من نكاح المتعة.
والرأي الثاني في المسألة: أن النكاح بنية الطلاق جائز وليس من المتعة، وهذا رأي الأئمة الثلاثة، ومنهم من ينص على الكراهة.
والرأي الثالث: أنه محرم لكن ليس من المتعة، ولكل منهم دليل.
أما من قال بأنه من المتعة فدليله حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات )، فكما قلنا بأنه إذا نوى التحليل أصبح محللًا وإن لم يشترط، فكذلك أيضاً إذا نوى الطلاق أصبح متعة وإن لم يشترط.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر